.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست
 

الموت في نظر رجال الله

ثروة الخلق الحسن

القلب السليم

دور العمل في الأخلاق

ضرورة إرفاق العلم بالعمل

 

   

الموت في نظر رجال الله

الخوف من الموت غريزة طبيعية موجودة لدى جميع الكائنات الحية، من أصغر موجود كالحشرات بل الكائنات أحادية الخلية إلى أكبر حيوان كالفيل والأُسود؛ كلها تفر من الموت ما وسعها ذلك.

إن تصور فكرة الموت هو من أكثر التصورات رهبة ورعباً، ذلك أن الإنسان لا يهاب شيئاً هيبته للموت، بل إن خوفه من بعض الأشياء إنما منشؤه هو الخوف من الموت، ولولا الموت لما هاب الإنسان شيئاً.

إن أقوى الرجال في التاريخ قد أظهروا عجزهم في حضرة الموت، وأبدوا صغاراً وانقلبت عقائد وأفكار بعضهم رأساً على عقب.

عندما شعر المأمون خليفة العباسيين القوي بدنو أجله وأفول شمسه، أمر بضرب الخيام في الصحراء، وكان الوقت ليلاً وكانت النيران التي أشعلها الجند هنا وهناك تضفي على المشهد روعة وجلالاً. ورأى المأمون أن كل أمنياته قد ذهبت مع الريح وأن ملكه لن ينفعه في شيء؛ وفي هذه اللحظات راح ينظر إلى السماء ويصيح: يا من ملكه في بقاء ودوام ارحم من مال ملكه وانطوى عزه.

كان السلطان سنجر السلجوقي في لحظات حياته الأخيرة يتمتم بأبيات شعرية تظهر عجزه أمام الموت وهو السلطان الذي حارب أعداءه وقهرهم وفتح قلاعهم الحصينة، وظهر له فيما بعد أن ملكه لم يكن سوى مجموعة من الأوهام وأن الملك الحقيقي هو لله سبحانه.

إن جميع قصور الأمال والأماني التي يبنيها الإنسان إنما تقوم على أساس منخور، وأن الإنسان يقضي وقته ينسج من خيوط الأمل ولحمة الأوهام حياته، وإذا كل ذلك يذهب في لحظة واحدة وإثر حادثة صغيرة، وحينها يدرك أن كل ما رسمه من خطط لم يكن إلا على صفحة من الماء، وعندها تنقلب أفكاره، وتتبخر أمانيه.

لنفترض أن إنساناً كان يمضي في طريقه وهو يحلم بالمستقبل وبالأماني العراض ويخطط لذلك، ثم أخبره الأطباء فجأة بأنه مبتلىً بمرض سرطاني لا يمكن علاجه فماذا سيحدث حينها في أعماق ذلك الإنسان؟ لسوف يدوي انهيار أمانيه وآماله وتنهار جميع خططه كمدينة تجتاحها السيول المدمرة التي تجرف أمامها كل شيء، بل كمدينة تستيقظ على دوي انفجار ذري يحول كل شيء فيها إلى مجرد حطام وركام.

قد يتعرض إنسان إلى حادث رهيب يرى فيه الموت منتصباً أمام عينيه، كسقوط الطائرة التي يستقلها أو غرق السفينة التي يركبها ثم تدفعه الأمواج إلى شاطئ النجاة، فستبقى هذه الحوادث المروعة حية في ذهنه وتغير وتقلب الكثير الكثير من أفكاره، حيث يظهر بجلاء زيف الأماني وخواء الآمال التي بنى عليها قصوره الخيالية وإذا كلها تنهار في لحظة واحدة عندما دوت قنبلة الموت وتحول كل شيء إلى ركام.

ولكن القصور التي تنهض على أساس من الإيمان والعلم والعقيدة لا يؤثر فيها الموت أبداً. إنها تقوم على أسس صلبة متينة.

يقول أفلاطون: "لم يتوقف سقراط الحكيم في لحظات عمره الأخيرة عن تعليم تلاميذه، كان يفيض عليهم من حكمته وهو على أعتاب الموت، أما نحن التلاميذ فقد خنقتنا العبرة ولم نكن لنجرؤ على البكاء أمامه إلى أن أنهى درسه الأخير، ومن ثم تناول كأس السم فتجرعه حتى النهاية".

نعم، إن الموت رهيب إذا ما ارتبط بالفناء والعدم والانتهاء، فالزوال والفناء والعدم أمور تبعث الوحشة في القلب، ولكن الأمر سيتغير إذا ارتدى الموت حلة أخرى فكان قنطرة تنقل الإنسان من عالم إلى آخر، وعندها يصبح أمراً محبباً خاصة لدى رجال الله الذين يهرعون إلى الموت كظامئين يرون من بعيد نبع ماء الأزل.

فهذا علي بن أبي طالب عندما هوى السيف على هامته هتف من أعماق قلبه: فزت ورب الكعبة.

لقد انتهت رحلة العذاب لديه وبدأ زمن الوصال مع ربه ومعبوده، وإذا الموت لديه أمر كان ينتظره. يقول (ع): "والله ما فجأني من الموت وارد كرهته ولا طالع أنكرته، وما كنت إلا كقارب ورد وطالب وجد، وما عند الله خير للأبرار".

لم يهز الموت علياً بل بقي ثابتاً، بل كانت روحه تتألق كلما دنت ساعة الرحيل، وكان جل همه أن يوصي الأجيال بالأهداف التي جاهد من أجلها وضحى في سبيلها. يقول (ع):

"وصيتي لكم أن لا تشركوا بالله شيئاً، ومحمد (ص) فلا تضيعوا سنته. أقيموا هذين العمودين وأوقدوا هذين المصباحين" ثم يتوجه إلى الحسن والحسين فيوصيهما قائلاً:

"أوصيكما بتقوى الله وألا تبغيا الدنيا وإن بغتكما، ولا تأسفا على شيء منها زوي عنكما، وقولا بالحق واعملا للأجر وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً. أوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومن بلغه كتابي بتقوى الله ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم، فإني سمعت جدكما (ص) يقول: "صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام". الله الله في الأيتام فلا تغبوا افواههم ولا يضيعوا بحضرتكم. والله الله في جيرانكم فإنهم وصية نبيكم مازال يوصي بهم حتى ظننا أنه سيورثهم، والله الله في القرآن لا يسبقنكم بالعمل به غيركم، والله الله في الصلاة فإنها عمود دينكم. والله الله في بيت ربكم لا تخلوه ما بقيتم فإنه إن ترك لم تناظروا، والله الله في الجهاد بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم في سبيل الله، وعليكم بالتواصل والتباذل، وإياكم والتدابر والتقاطع، لا تتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيولى عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم".

وهكذا رحل الإمام إلى الرفيق الأعلى وهو يردد كلمة لا إله إلا الله التي قضى حياته في الدفاع عنها والدعوة إليها.

 

ثروة الخلق الحسن

قال رسول الله (ص): "إنكم لا تقدرون على أن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم".

إن ثروة الأخلاق لا تعادلها ثروة في الوجود، ذلك أن ثروة المال مهما كانت فإنها محدودة يمكن أن تطال فائدتها شخصاً في حين يبقى آخرون محرومون منها بل إنها قد تؤدي إلى البغض والحقد لدى البعض.

إن الفضيلة والطهر وطاعة الله وعمل الخير وما إلى ذلك من الصفات والخصال الإنسانية الرفيعة تزين الإنسان وتجعله محبوباً لدى الجميع دون أن يكون هناك مصلحة في هذا الحب؛ فالحقيقة عندما تلج قلب الإنسان تجعله عظيماً سامياً، فهل يمكن لأحد أن يحصر منظر النجوم وهو تتلألأ في السماء، أو الشمس وهي تسطع في النهار في طبقة معينة من الناس؟

لماذا أصبح الرجال العظماء ومعلمو البشرية ملكاً للجميع؟ كيف تمكنوا من كسر قيود اللون واللغة والعرق؟ لأنهم كانوا في مقام إنساني جعلهم محبوبين لدى جميع الشعوب في جميع قارات الأرض.

ولذا فإن رسول الله (ص) عندما يقول إذا أردتم أن يكون وجودكم عاماً يشمل الجميع كالسحاب والمطر والشمس والقمر، فينبغي أن تكونوا عظماء، ولكن من أين يتأتى ذلك؟ إن العظمة والسمو من الصفات الإنسانية العالية وهي لا علاقة لها بالمال والثروة المعرضة لأخطار الغرق والحرق والسرقة، كما لا تنشأ عن منصب اجتماعي تقرره الجهات العليا، فإذا هو عدم في لحظة ما، إن السمو والعظمة معجونتان بروح الإنسان.

إن الصراع إنما ينشأ عن محدودية في الأشياء، فعندما يزداد الطلب ويقل العرض، وعندما يكون الجوع أكثر من الطعام تنشأ الحروب والنزاعات، ويبدأ نزيف الدماء؛ وقد تنشأ الصراعات حتى مع انعدام حالة الضيق في الأشياء ومحدوديتها. ولكن الضيق هنا يكون في روح الإنسان نفسها حيث الحرص وضيق النظر، وإذ ذاك تشتد الحالة السبعية والافتراس لدى الإنسان، فنراه يندفع للاستيلاء على كل شيء انطلاقاً من حرصه فيستتب في بؤس الآخرين غير آبه بمعاناتهم وهموهم؛ ولذا قال رسول الله (ص): "من بات ولم يفكر في أمور المسلمين فليس منهم" وقال أيضاً: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده".

إن الفرد ينبغي أن يكون منسجماً مع روح الجماعة فعلاً وقولاً، يفكر في شقائهم وسعادتهم ويهتم بشؤونهم ومصلحتهم ويرى سعادته في سعادتهم وشقاءه في شقائهم.

إن هذه الأحاديث الشريفة وغيرها تعتبر من أرقى الإرشادات الإسلامية في المجال الاجتماعي؛ لقد جسد أهل البيت النبوي ذلك في حياتهم ليكونوا قدوة وأسوة لغيرهم؛ فقد فكر الإمام الصادق (ع) وبعد أن كثر عياله في التجارة، فاستدعى مولى له يقال له (مصادف) فأعطاه ألف دينار ليتاجر بها، وقال له: تجهز حتى تخرج إلى مصر فإن عيالي كثروا. فتجهز مصادف بمتاع وخرج مع التجار إلى مصر، فاستقبلتهم قافلة من التجار خارجة من مصر فسألوهم عن المتاع الذي معهم ما حاله في المدينة وكان متاع العامة فأخبروهم أنه ليس في مصر منه شيء، فتحالفوا وتعاقدوا على أن لا ينقصوا متاعهم من ربح الدينار ديناراً فباعوا تجارتهم بهذا الربح ورجعوا إلى المدينة؛ فدخل مصادف على الإمام الصادق (ع) ومعه كيسان في كل واحد منهم ألف دينار وقال له: جعلت فداك، هذا رأس المال وهذا الآخر ربحه. فقال له الإمام: إن هذا الربح كثير كيف صنعت في المتاع الذي اشتريته حتى ربحت هذا الربح؟ فحدثه بحاجة البلاد إلى المتاع وكيف تحالف مع التجار وتعاهد معهم أن لا يبيعوا ما معهم إلا بربح الدينار ديناراً. فقال الإمام: سبحان الله تتحالفون على قوم مسلمين ألا تبيعوهم إلا بربح الدينار ديناراً. ثم أخذ رأس المال وقال: "هذا مالنا" ثم رد عليه الربح وقال: يا مصادف! مجادلة السيوف أهون من طلب الحلال.

 

القلب السليم

قال الله في محكم كتابه: (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم). [الشعراء: 88 ـ 89]

إن المال والأولاد زينة الحياة الدنيا، أما عالم الآخرة فإن السعادة تقوم فيه على أساس القلب السليم الذي لم يبتل بالأمراض النفسية من قبيل الحقد والحسد وسائر الصفات المذمومة.

القلب السليم هو القلب الذي أضاءت معرفة الله زواياه وانمحى الشك والشرك من طواياه، القلب الذي يؤمن بأن لهذا العالم صانع وهو الله، وإن كل شيء موجود على أساس من الحكمة. فلا وجود للعبث واللغو وإنه لا يضيع أجر المحسن كما لا تضيع عقوبة الظالم، القلب الذي يؤمن بأن الجزاء أو الانتقام قد يتأخر ولكنه قادم لا محالة.

الدنيا عالم محدود ولكن الآخرة عالم لا نهائي، الدنيا محاطة والآخرة محيطة، الدنيا عالم متغير والآخرة عالم ثابت، الدنيا عالم صغير والآخرة عالم كبير، الدنيا دار احتكاك ومواجهة وتصادم والآخرة عالم واسع مفتوح، الدنيا عالم مظلم والآخرة عالم مضيء.

وعلى هذا فإن الحياة الدنيا لا يمكنها أن تكون أساساً للحياة في الآخرة، ذلك أن المحدود لا يمكنه استيعاب اللانهائي، ولكن ما ينفع في عالم الآخرة يمكنه أن يكون مفيداً في الدنيا لأن الآخرة أوسع من الدنيا فهي محيطة بها.

فالإنسان الذي يفارق الدنيا لا يمكنه أن يحمل معه من وسائلها شيئاً إلا قلبه السليم وتلك الصفات السامية من الإيمان بالله والمحبة والإنصاف والعدالة والصدق والاستقامة وكل الخصال الإنسانية الطيبة التي هي أساس الحياة في عالم الآخرة، إضافة إلى كونها أساساً للسعادة حتى في عالم الدنيا.

فهل يمكن للإنسان أن يعيش راضياً مطمئناً دون أن يطهر قلبه من الشك والشرك، وأن يضيء الإيمان بالله أعماق روحه؟ وهل يمكنه أن يواجه مصاعب الحياة وتقلبات الزمن بشجاعة؟

يقول أحد العلماء: إن البعض يوظف عقله فيبتدع له أخلاقاً عالية تنطوي على ألوان من المشقة والمعاناة النفسية كما هو الحال في قوانين (اليوغا) التي تفتقد روح الأمل والإقبال على الحياة، أما الأخلاق التي تنبع من الإيمان بالله الواحد فإنها تصوغ إنساناً يواجه مصاعب الحياة بروح من الأمل بالرغم من المعاناة التي تنطوي عليها.

يقول أمير المؤمنين (ع) في عهده إلى محمد بن أبي بكر لما ولاه مصر: "فاخفض لهم جناحك، وألن لهم جانبك، وأبسط لهم وجهك، واس بينهم في اللحظة والنظرة، حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم، ولا ييأس الضعفاء من عدلك عليهم، فإن الله تعالى يسائلكم معشر عباده عن الصغيرة من أعمالكم والكبيرة والظاهرة والمستورة، فإن يعذب فأنتم أظلم، وإن يعف فهو أكرم".

ثم يضيف الإمام قائلاً: "واعلموا عباد الله أن المتقين ذهبوا بعاجل الدنيا وآجل الآخرة فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم ولم يشاركوا أهل الدنيا في آخرتهم، سكنوا بأفضل ما سكنت، وأكلوها بأفضل ما أكلت، فحظوا من الدنيا بما حظي به المترفون، وأخذوا منها ما أخذه الجبابرة المتكبرون، ثم انقلبوا عنها بالزاد المبلّغ والمتجر الرابح. أصابوا لذة زهد الدنيا في دنياهم وتيقنوا أنهم جيران الله غداً في آخرتهم، لا ترد لهم دعوة ولا ينقص لهم نصيب من لذة[1]".

إن القلب السليم والنية الطاهرة هي طريق السعادة في الدنيا والآخرة، حيث ينطلق الإنسان من العالم المحدود إلى عالم لا نهائي فيبني آخرته بدنياه، فالدنيا ـ كما قال رسول الله (ص) ـ مزرعة الآخرة.

 

دور العمل في الأخلاق

كان الإمام الصادق (ع) يعمل في حائط له وقد تصبب عرقاً إذ مرّ به أبو عمرو الشيباني فظن أن الإمام إنما يفعل ذلك مضطراً وأنه لا يجد من يساعده في ذلك، فعرض عليه أن يقوم بالعمل فأبى الإمام قائلاً: إني لأحب الرجل يحصل على رزقه بكد يده.

يحظى العمل باحترام الإسلام وتكريمه لا لأنه منجاة من الفقر والجوع فحسب، بل لأنه يضفي على الإنسان الشعور بالعزة والكرامة، وبالتالي احترام الآخرين له؛ ولهذا ينظر الإسلام إلى العمل كعامل مهم في صياغة شخصية الإنسان.

وفي مقابل ذلك فإن البطالة لها دور سلبي في سحق شخصية الإنسان أمام نفسه وأمام الآخرين، وبالتالي فإنها مصدر الكثير من المصائب والويلات؛ ناهيك عن دور العمل في تنشيط وتنظيم الجانب الفكري وحمايته من آثار الخيال الشيطاني، وبالتالي اكتساب الشخصية الإنسانية قدراً من الاستقامة والثبات؛ إضافة إلى أن للعمل دور كبير في تنظيم الاستهلاك للطاقة البدنية، الأمر الذي يؤدي إلى نوع من الصفاء الروحي والنفسي، أما البطالة فإنها تزيد في اضطراب النفس واشتداد ظلمة الروح وقساوة القلب.

ولذا فلا ينبغي الغفلة عن دور العمل في تهذيب الأخلاق، وأثر البطالة في تدمير هذا الجانب من شخصية الإنسان. فماذا يعمل الإنسان العاطل غير أن يتناول لحم الموتى على حد تعبير القرآن الكريم؟

إن الروح كالجسد تماماً تحتاج إلى الغذاء، فإذا لم يصلها الغذاء الكافي عمدت إلى أقرب الأشياء فسدت جوعها به حتى لو كان قذراً.

ولقد رأينا في أعوام القحط والجوع كيف أكل الناس بعضهم بعضاً، الروح هي الأخرى تعاني كما يعاني الجسد، فإذا لم تشعر بالشبع والرضا والطمأنينة فإنها تبقى جائعة، وعندها سوف تتغذى بلحم أخيها المؤمن الميت كما وصف القرآن الكريم ذلك في الغيبة.

إن ظاهرة الغيبة نجدها واضحة لدى النسوة اللاتي يجلسن في بيوتهن دونما عمل، فإنهن يبدأن بانتقاص الآخرين؛ وعلى أية حال فإن الإنسان العاطل يصاب بمختلف المفاسد الأخلاقية والأمراض النفسية والعصبية وبالتالي يتبدد عمره دونما فائدة.

لقد سادت المجتمع الإسلامي في القرن الثاني الهجري بعض الأفكار المنحرفة التي تعتبر العمل والكد يتنافى مع التقوى والعبادة، وقد كان البعض يعيبون على الأئمة الأطهار من آل البيت (ع) ذلك، عندما يرونهم يشتغلون في الزراعة أو التجارة أو حفر الآبار والعيون.

لنستمع إلى أحد أولئك الذين تركوا العمل وانصرفوا إلى العبادة وعاشوا كلاًّ على الناس، وهو محمد بن المكندر، وهو يقول: خرجت إلى بعض نواحي المدينة في ساعة حارة فلقيت محمد بن علي الباقر (ع) وكان رجلاً بديناً وهو متكئ على غلامين له، فقلت: شيخ من شيوخ قريش في هذه الساعة على هذه الحال في طلب الدنيا؟ والله لأعظنه، فدنوت منه وسلمت عليه فسلم عليّ وقد تصبب عرقاً، فقلت: أصلحك الله شيخ من أشياخ قريش في هذه الساعة على مثل هذه الحالة في طلب الدنيا؟ لو جاءك الموت وأنت على هذه الحالة.

فخلى يديه عن الغلامين ثم تساند وقال: لو جاءني والله الموت وأنا على هذه الحال جاءني وأنا في طاعة من طاعات الله أكف بها نفسي عنك وعن الناس، وإنما كنت أخاف الموت لو جاءني وأنا على معصية من معاصي الله. فقلت: يرحمك الله أردت أن أعظك فوعظتني.

 

ضرورة إرفاق العلم بالعمل

قال تعالى: (وقل رب زدني علماً). [طه: 114]

يمتاز القرآن الكريم بأسلوبه الخاص، فقد يخاطب الأمة جمعاء عن طريق الرسول الأكرم (ص) باعتباره محدثاً باسم الأمة ومستمعاً عنها؛ وهذه ليست قاعدة عامة، فهناك خطاب مباشر للأمة كما نرى ذلك في (يا أيها الناس) التي يزخر بها القرآن الكريم.

وعادة ما يكون الخطاب المباشر للرسول ينطوي على هدف معين، فقد يتوهم البعض في بعض الخطابات القرآنية أنها لا تشمله من قريب ولا من بعيد على أساس بعض الامتيازات العرقية أو القومية، ولهذا يخاطب القرآن الرسول حتى لا يكون هناك مجال لمثل هذه الأوهام.

فهنا خطاب ـ مثلاً ـ يتوعد الرسول ويتهدده فيما إذا ارتكب معصية ما، وهنا تتبخر جميع الأوهام والتصورات الخاطئة لدى الإنسان العاقل في أن هذا الخطاب لا يخصه، كما هو الحال في الآية التي تصدرت البحث (وقل ربّ زدني علماً)، فالخطاب موجه بالدرجة الأولى إلى الأمة الإسلامية، وهو لا يحمل روح الإرشاد فحسب بل ينطوي على أمر واضح في طلب العلم من الله، وإذن فإن طلب العلم واجب كسائر الواجبات الأخرى.

لقد قرن الإسلام العمل بالعلم وجعل له منزلة سامية وإن العمل المقرون بالعلم أعظم آلاف المرات من العمل الذي يقوم على أساس من الجهل، ذلك أن العلم يمنح العمل قيمته، ولذا فإن كل عمل يقترن بالعلم يحظى بأهمية بالغة.

وعلى هذا الأساس يحترم الإسلام أمرين هما: العلم والعمل، ويرفض أمرين هما: البطالة والجهل.

وهنا ينبغي الإشارة إلى نقطة مهمة وهي أن الإسلام لا ينظر إلى العلم والعمل كأمرين متمايزين منفصلين، بل إن احترام الإسلام لهما يكمن في ارتباطهما، فإذا انفصلا فقدا أهميتهما، فهما كالجناحين يطير بهما الإنسان فإذا انفصلا عن بعضهما عجز الإنسان عن الطيران. فكل منهما يكمل الآخر، فمثل العالم المنزوي والعامل الجاهل كمثل إنسان يمتلك فانوساً في ليلة مظلمة ولكنه لا يقدر على المشي، وآخر قادر على المشي ولكنه لا يمتلك فانوساً يضيء له الطريق، فكلاهما عاجز عن تلمس طريقه في الحياة.

إن التعاون أساس مقدس، ولكن لا شيء أسمى من تعاون العلم والعمل، أي أن يكون العامل عالماً ومطلعاً ويكون العالم عاملاً فعالاً.

لقد مرت الأمم وخلال مراحل التاريخ المتعاقبة بفترات من الخمول نتيجة فصل العلم عن العمل، وكان ذلك أحد أبرز العوامل في تأخر تلك الأمم واضمحلالها.

لقد قدم الإسلام للبشرية خدمات كبرى عندما جعل العمل واجباً على الجميع وجعل العلم حقاً للجميع. ولا أظن أن أحداً له معرفة ولو بشكل إجمالي بتعاليم الإسلام يمكنه أن يشكك في هذه المسألة. فليس هناك فريق يختص بالعلم وآخر يختص بالعمل، ناهيك عن دعوة الإسلام إلى ربط العلم بالعمل والعمل بالعلم، فالعلم توأم العمل، والعمل بلا عمل كالشجر بلا ثمر، وإن العمل مع العلم أعظم بمئات المرات من العمل وحده.

لقد تجلى العلم كأعظم قوة يملكها الإنسان وبواسطتها سخر قوى الطبيعة من جماد ونبات وحيوان، وبها اكتشف أعماق البحار وسبر أغوار الفضاء.

الإنسان ليس آلة يمكن حساب قوتها على أساس قدرة البخار أو الكهرباء، كما أنه ليس حيواناً لكي يمكن معرفة قدرته كما هو الحال لدى الفيل أو الحصان. إن قدرة الإنسان تكمن في فكره وعقله، وعلى أساس هذه القدرة أمكنه صنع هذه الحضارة والمدنية الكبرى، وبها استخدم وسخر قدرات الفيل والحصان وسائر القوى من أجله.

ولو انفصل العمل عن العلم لما أمكن للإنسانية أن تتقدم هذا التقدم، ولبقيت تراوح في مكانها ولما تجاوزت حدود الزراعة والرعي؛ ولكن ترافق العلم مع المعل مكن الإنسان من تحويل المواد الخام إلى مختلف السلع والآلات، وهذا معنى العلم الذي يرفع من قيمة العمل فيتحول إلى فن وصنعة.

يذكر سعدي الشيرازي هذه الحكاية في كتابه: روضة الورود:

كان أحد الحكماء يبذل لأبنائه النصيحة على الدوام فيقول لهم: يا روح أبيكم! تعلموا المعرفة، إذ لا يصح الاعتماد على ملك الدنيا واقبالها، فالجاه والذهب لا يخرجان مع من ذهب، الدرهم والدينار معرضان للأخطار، فأما أن يسلبهما جملة قاطع طريق أو يأكلهما لهما بالتفريق، أما المعرفة فعين دائمة الجريان ودولة موطدة الأركان، إذا زلت بصاحبها القدم لا يستولي عليه غم ولا ندم، إذ المعرفة في نفسها دولة، فحيثما حل يكون بها مرموق القدر، ولا يجلس إلا في الصدر، وأما عديم العرفان فحيثما حل ذليل مهان، لا ينال من الخبز كسرة ولا يعيش إلا بالحسرة[2].

 


[1]   نهج البلاغة، عهده (ع) إلى مالك الأشتر: 37

[2]   روضة الورود، سعيد الشيرازي، ب7، حكاية2

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست