.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست
 

التعصب الباطل

عوامل الانحسار في تأثير التعاليم الدينية

خطر التحريف في النصوص الدينية

أثر الذنب ومعاشرة الأشرار في استوداد القلب

المجاملات الكاذب

 

 

التعصب الباطل

ينقل القرآن الكريم عن بعض الناس الذين اعتبروا نزول القرآن كارثة بالنسبة لهم، بل انهم طلبوا من الله أن يرميهم بحجارة من السماء إذا كان ذلك حقاً. قال تعالى: (وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم). [الأنفال: 32]

إنه لأمر عجيب حقاً أن تصل الحالة بالإنسان أن لا يتحمل الحقيقة بل يشعر بالمرارة تجاهها ويعتبر نفسه نقيضاً لها وإن في وجودها هلاكاً وفناءً له، في حين ينبغي أن يكون العكس، وأن يكون الحق والحقيقة هدف الإنسان المنشود، ولكننا نرى الإنسان يتمنى الموت على أن لا يواجه الحقيقة.

إننا نسمع في بعض الأحيان من يقول: إن فلاناً قد واجه الحقيقة المرة، وهنا نتساءل هل يمكن أن تكون الحقيقة مرة؟ اليس الإنسان مجبولاً على حب الحقيقة فلماذا تكون مرة في رأيه؟

الجواب: إن الأشياء لا تحمل في ذاتها الحلاوة أو المرارة، الجمال أو القبح، العطر أو النتن. إنها مجرد أشياء توجد في أذهاننا فقط ولقد فطرنا الله عليها بحساب وقدر. إن حلاوة الأشياء ومرارتها، قبحها وجمالها، عطرها ونتنها إنما ترتبط ببناء أجسامنا، فالبعض يتذوق العسل وحلاوته في حين يتذوق البعض الآخر في العسل طعم المرارة، وهذا ما نراه لدى بعض المرضى، فمن يعتبر الحقيقة حلوة لذيذة هم الأشخاص السليمون روحياً، الذين ينشدون الحقيقة ويبحثون عنها، بينما يتمنى البعض الموت على أن لا يواجه الحقيقة التي يستشعر فيها المرارة.

سئل الإمام علي (ع) عن معنى الإسلام فأجاب: الإسلام هو التسليم. وهي عبارة زاخرة بالمعاني فالإسلام يعني التسليم للحقيقة، تلاشي العناد والتعصب وهزيمة اللجاجة أمام الحق.

يقول الإمام علي (ع): الحكمة ضالة المؤمن؛ وهذا تصوير دقيق لحالة الإنسان المؤمن فمن أضاع خاتمه تراه دائم البحث عنه فإذا عثر عليه سارع إلى التقاطه، وإذا كان هناك من يمنع ذلك طالب به.

المؤمن لا يهمه مكان الحقيقة؛ الذي يهمه فقط هو الحقيقة ذاتها. لا يهمه أن يكون الكنز لدى القريب أو البعيد وأن صاحب الكنز أسود أم أبيض. الذي يهمه هو الكنز هل هو حقيقي أم لا؟

في صدر الإسلام، وعندما كان المسلمون يتبعون تعاليم الدين الحنيف كانت الحقيقة هي همهم الوحيد، ولذا نجد حلقات الدرس في ذلك الوقت تتألف من العربي والإيراني والهندي والقبطي والبربري. وكثيراً ما نجد أن العرب كانوا يتتلمذون على أيدي أساتذة إيرانيين، وبالعكس. بل إننا نجد ما هو أسمى من ذلك حيث نجد الأساتذة من دين آخر، فالطب ـ مثلاً ـ كان يدرسه أساتذة غير مسلمين وكان المسلمون يقبلون على تعلم هذا العلم بشغف وشوق ولا يهمهم انتماء الأستاذ.

ولو كان التعصب مستشرياً في ذلك الوقت لما تقدم المسلمون في مجالات الفلسفة والطب وغير ذلك من العلوم.

ولقد هاجم الإمام علي الروح العصبية في خطبة مشهورة وذمها قائلاً:

"فإن كان لابد من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال ومحامد الأفعال ومحاسن الأمور، التي تفاضلت فيها المجداء والنجداء من بيوتات العرب ويعاسيب القبائل... فتعصبوا لخلال الحمد من الحفظ للجوار والوفاء بالذمام والطاعة للبر، والمعصية للكبر، والأخذ بالفضل، والكف عن البغي[1]".

 

عوامل الانحسار في تأثير التعاليم الدينية

(1)

قال تعالى: (وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون). [الأنبياء: 34]

تصادف الليلة ذكرى رحيل الرسول الأكرم إلى الرفيق الأعلى وكذلك ذكرى استشهاد سبطه الحسن بن علي (ع). وفي هذه المناسبة أتقدم للحضور بأحر التعازي.

حديثنا هذه الليلة حول انحسار تأثير التعاليم الدينية في النفوس والعوامل التي تقف وراء ذلك.

إن معرفة مثل هذه الأمور في غاية الضرورة، فلا يمكن اكتشاف الدواء دون معرفة الداء، وما لم نعرف الأسباب التي تؤدي إلى تراجع تأثير الدين في النفوس لا يمكننا الاستفادة من بركة الإسلام والتزود من نبعه الصافي.

كلنا يعرف أن من أهم الظواهر التي لفتت أنظار الباحثين والمؤرخين وأثارت إعجابهم هو انتشار الإسلام بتلك السرعة المذهلة في العصر الأول من ظهوره.

فلقد أحدث الدين الجديد ثورة في النفوس وغطى مساحة واسعة من الأرض في مدة زمنية وجيزة، وبلغ من عمق تأثيره حداً جعله ثابتاً رغم كل الحوادث والتقلبات التي أعقبت رحيل النبي الأكرم (ص). ولقد سجل القرآن الكريم هذه الظاهرة في سورة النصر: (إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا).

ولكن شيئاً فشيئاً تراجع تأثير الدين في النفوس وبدأ يتقهقر يوماً بعد آخر، ولو قارنا ذلك مع الوضع في الوقت الحاضر لكان الفرق ما بين الثرى والثريا، وهذه الظاهرة تثير التساؤل: ترى ما هو السبب في ذلك؟

قد يظن البعض متوهماً بأن عصر الدين قد ولى وأن روح ذلك العصر كانت توجب على الناس الانقياد والانصياع لتعليمات الدين، أما العصر الحاضر فله روحه التي توجب التحرر من الدين والإيمان بشيء آخر.

إن هذا الكلام يقنع أولئك الذين ينظرون إلى الدين كوسيلة حياتية يمكن استبدالها بوسيلة أخرى أكثر تطوراً؛ غير أن الدين هو جوهر الحياة نفسها لا وسيلة من وسائلها يمكن استبدالها بأخرى.

لقد أثبت كبار العلماء الذين تعمقوا في دراسة الطبيعة البشرية والروح الاجتماعية بأن الدين جزءً لا يتجزأ من طبيعة الإنسان.

هناك بعض (المتدينين) يعتقدون بأن السبب في انحسار التأثير الديني يعود إلى أن الدين يقف حائلاً دون استمتاع الناس بالملذات، وفي هذا العصر المليء بالشهوات، من الطبيعي أن يعرض الناس عن الدين، أما في عهد الرسول (ص) حيث الشهوات والملذات معدومة أو غير متوفرة فمن البديهي أن يندفع الناس نحو الدين ويدخلون في دين الله أفواجاً، أما في الوقت الحاضر فالعكس هو الحاصل حيث نرى الناس يخرجون من دين الله أفواجاً!

إن مثل هذا التفكير لا يحتاج إلى إثبات مجانبته للصواب، ونحن لا ننكر دور الشهوة في استغفال الإنسان عن الله وبث روح اللامبالاة في نفسه تجاه الواجب الذي عينه الله سبحانه. ولكن الاعتقاد بأن الدين يقف في مواجهة الشهوات والملذات أمر غير صحيح.

إن الدين يعارض بعض الميول والرغبات وينسجم مع بعض الميول الأخرى، فهو يقيد هنا ويسمح هناك.

لقد تحدثت في مناسبات سابقة واقتربت من هذا الموضوع، وقلت بأن الدين ليس ملجأ المحرومين الذين رفضتهم الحياة، فلجأوا إلى الدين كمسكن لآلامهم، وذكرت أن السبب يعود إلى عوامل أخرى؛ وقبل الخوض في هذا البحث أود أن أمهد له بمقدمة، وهي أن القرآن كثيراً ما يردد مسألة الحجب التي تغلف القلوب والأرواح، قال تعالى: (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً). [الإسراء: 45]

(ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا). [الأنعام: 35]

(ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه. إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا). [الكهف: 57]

إن القلب، وبسبب بعض الجرائم التي يرتكبها المرء، يفقد رقته وخشوعه تجاه الحق، وعندها لا تنفع معه المواعظ والنصائح، فإذا استمر الإنسان في ارتكاب الآثام والذنوب والمعاصي فإن حالة القسوة تسود القلب، وقد يحول التعصب دون قبول الإنسان الحقيقة والتسليم لها، وبذا يحول حجاب العصبية دون نفوذ الحقيقة إلى داخل القلب.

وهكذا تتراكم مثل هذه الحالات على القلب فتزداد الحجب ويعيش الإنسان في ظلمة حالكة محروماً من نور الحقيقة.

لقد أثارت قريش بعض الإشكالات في وجه النبي (ص) إحداها: كيف يكون نبياً وهو يأكل الطعام كسائر الناس؟ أو يمشي في الأسواق؟ بل كيف يكون نبياً وهو بشر مثلنا. لقد كانوا يثيرون هذه المسائل وهم يعتبرون أنفسهم أبناء إبراهيم وأتباع إبراهيم.. إبراهيم النبي الذي بشر بالحقيقة، لقد تحول إبراهيم في أوهامهم إلى مخلوق أسمى من البشر يعيش في عالم السماء وخلف الغيوم. وكانوا يتوقعون أن يكون محمد (ص) يشبه إبراهيم في أوهامهم، غافلين عن حقيقة إبراهيم (ع) الذي هو أسمى بكثير مما نسجته خيالاتهم.

لقد كانت تصوراتهم الباطلة حجباً منعتهم من رؤية الحقيقة. ان الإنسان الجاهل محروم من إدراك الحقيقة، حيث يبقى بعيداً عنها يعيش في عالم من الوهم والخيال.

بعبارة أخرى إن بعض الناس يحب الرؤية ومشاهدة الأمور عن قرب، والبعض الآخر على العكس يحب أن يرى من بعيد، فالفريق الأول يتفحص في عمله ويبحث عن القرائن والأدلة، فيما ينسج الفريق الآخر أوهامه وخيالاته ويمنحها جزافاً لكي تبدو الصورة في أذهانهم عظيمة مبهمة تستعصي على الإدراك.

فقد نجد أن البعض من الناس يحبون القرآن ولكنهم لا يودون التأمل في معجزاته والتدبر في آياته. يعتبرون عظمته في بقائه خلف الغيوم قائلين: إن القرآن غير قابل للفهم وإنه لا يحق لأحد التأمل في القرآن ما عدا الأئمة الأطهار (ع). إن مثل هذه الأفكار هي في الواقع (حركة في عمق الظلام) أو طبيعة (خفاشية) إذا صح التعبير.

قال تعالى: (أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها). [الأنعام: 122]

إن نور العلم والبصيرة والعقل سراج يضيء الطريق أمام السائرين في دروب الحقيقة، في حين أن الجهل ليس إلا ظلمة حالكة تمنع الإنسان من رؤية الحقيقة، فتبدو الأشباح في نظره هي الحقائق.

إن الأئمة الأطهار (ع) هم أنفسهم يدعون إلى التأمل والتدبر في آيات القرآن قائلين: اعرضوا أحاديثنا على القرآن فما وافق القرآن فخذوه وما تعارض مع القرآن فارفضوه. القرآن هو المقياس وهو أساس المقارنة في صحة وبطلان الأشياء، وهو المنظار الذي نفهم من خلاله الحقيقة. ولقد كان القرآن وما يزال جنة تحمي المتدبر فيه من الانحراف. قال تعالى: (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستورا) [الإسراء: 45]

فكيف يحق لمن عاش في صدر الإسلام حق التدبر ولا يحق لنا إلا التلاوة؟!

وإذا كانت نظرتنا إلى الرسول كنظرة أهل الجاهلية إلى إبراهيم (ع) الذي جعلته الأوهام يعيش في عالم من الخيال فإننا سنحرم من الاقتداء برسول الله (ص) في حين يطلب منا القرآن الاقتداء به والسير على خطاه: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر). [الأحزاب: 21]

فإذا وضعنا بيننا وبين نبينا جداراً كجدار الصين فإننا سوف نعجز عن تمثل سيرته وأن نكون من أتباعه والسائرين في دربه.

لقد كانت بشرية الرسول هي التي وهبته مقام النبوة وهي التي جعلته يسمو على الملائكة.

يتساءل القرآن: إذا كان من المفروض أن نرسل الملائكة أنبياء فإن الضرورة تقتضي إرسالهم على هيئة بشر لكي يكونوا مقياساً للناس ونموذجاً لهم.

أما أن يجعل المرء نفسه مقياساً للآخرين فهذا هو الخطأ، فهناك من بين البشر أناس قطعوا شوطاً بعيداً في عالم الفكر والسمو الروحي، وعلى المرء ألا يكون كتلك الببغاء التي وردت قصتها في حكايات مولوي الشعرية: [شاعر إيراني]

حكوا أن عطاراً كان لديه ببغاء يستأنس بصوتها وحديثها، وكانت الببغاء تنوب عن العطار في عمله إذا غاب. وذات يوم، وبعد أن ذهب العطار، ظهر جرذ في الدكان؛ وفي الحال قفزت القطة للإمساك به فذعرت الببغاء وراحت تقفز هنا وهناك فأسقطت جرار الزيت؛ فلما جاء العطار وشاهد ما حل بالزيت ضرب رأس الببغاء ونتف ريشها فاستاءت الببغاء وأعرضت عن الحديث والكلام غماً وحزناً، ولم تنفع أساليب العطار على حمل الببغاء على الكلام، فندم على فعله وراح يمعن الفكر في طريقة تجعل الببغاء تعود إلى سابق عهدها من الحديث. وذات يوم مر أحد الدراويش فلما وقعت عين الببغاء عليه، وشاهدت رأسه الخالي من الشعر انطلقت تقول: ماذا حل بك أيها الدرويش لعلك أوقعت جرار الزيت مثلي.

لقد ظنت الببغاء أن الدرويش لابد وأن أراق الزيت، فكان جزاؤه ذلك. وعندما سمع العطار ذلك ضحك من قياسها ونظرها إلى الأمور.

فرق كبير بين أن نقيس الأمور بهذا المقياس الأحمق، وبين أن نتخذ من الأنبياء قدوة ونجعلهم أسوة. قال تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً).

يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع): "ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه... ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد".

إذن فإن انحسار التأثير الديني في النفوس هو أن الناس يجعلون بينهم وبين القرآن والرسول حجباً وجدراناً من الجهل والوهم تمنع من نفوذ الحقيقة إلى أرواحهم. وسنكمل البحث في الليلة القادمة.

 

عوامل الانحسار في تأثير التعاليم الدينية

(2)

  كان موضوعنا في ليلة أمس عن العوامل التي تقف وراء انحسار التأثير الديني، والتي عبر عنها القرآن بالحجب التي تحول دون نفوذ الدين إلى أعماق الروح، وقد ذكرنا أن الروح تتعرض إلى حالات معينة تمنعها من قبول الحقائق والتسليم لها، ومع مرور الزمن وتجذر الجهل وسيطرة الوهم تعم هذه الظاهرة لتشمل المجتمع برمته.

ومن أعراض هذه الحالة هو ابتعاد الناس عن تأمل الحقائق عن كثب، ورغبتهم في رؤية الأشياء من بعد حيث ينسج خيالهم صورة مغايرة عن الحقيقة ويعود السبب في ذلك إلى نفوذ الهوى وتمكنه من النفوس ورغبة الإنسان في رؤية الأشياء وفق ما تشتهيه النفس ولذا فإنه يجد الحقيقة مرة إذا تعارضت مع أهوائه.

قال الشاعر:

ما كل ما يتمنى المرء يدركه               تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

وقال آخر:

أماني أن تحصل تكن غاية المنى         وإلا فقد عشنا بها زمناً رغدا

قد تكون الحقيقة مرة ولكن الخيال حلو دائماً. إن الإنسان الذي ينقاد إلى هواء لابد وأن ينفر من الحقيقة ويعتبر منظرها كريهاً. غير أن العقل لا يمكنه السير وفق ما يراه الهوى فله منطقه الخاص به تماماً مثل المسألة الرياضية، إذ لا يمكن حلها وفق أهوائنا، فالمعادلة الرياضية تحل وفق منطق دقيق في الحساب.

لعل قائل يقول: إذا كان العقل والعلم والدين يوصل الإنسان إلى السعادة فعلى أساس هذه القاعدة: (خذ الغايات واترك المبادئ) وإن السعادة هي الهدف النهائي الذي قد توفره الأوهام والخيالات، فما جدوى مهاجمة الجهل والخيال إذا أوصل ذلك الإنسان إلى السعادة.

لنفترض أن أحدهم أراد السفر إلى مكان ما ولم يسلك الطريق العادي فسلك طريقاً آخر أوصله إلى ذلك المكان، فلماذا نعترض ونأخذ عليه عدم سلوكه الطريق العادي، بل لعل الطريق الذي سلكه هو الطريق الذي ينغي سلوكه.

ولذا فمن الخطأ تماماً الاعتراض ـ كما يعتقد بذلك البعض ـ ومواجهة الجهل على أساس عدم مطابقته للواقع لأنه سوف يحطم الاستقرار النفسي لدى الناس، فما دام هؤلاء يتسلون بنوع من الأوهام والخيالات فما ضرورة استهداف ذلك والقضاء على استقرارهم النفسي، وما هو جدوى إيقاظهم من نومهم وحرمانهم من الاستمتاع بالحياة الجميلة!

وفي جواب هذه التساؤلات نقول: إن مقارنة الجهل مع العقل ووضعهما على حد سواء أمر مجانب للمنطق، فالسعادة التي تقوم على الوهم والخيال والبلادة لا يمكن قياسها بالسعادة التي تنهض على أساس من العقل والمنطق والإحساس المرهف، وإن الإنسان القويم لابد وأن يفضل الحياة التي تقوم على الحس المرهف والمشاعر على حياة تنطلق من البلادة حتى لو كلفه ذلك الآلام والعذاب، فقد يجد الإنسان راحته النفسية حتى في الألم ويرفض حياة الدعة إذا اقترنت مع انطفاء العاطفة وغياب الإحسان، إن الإنسان لا يبحث عن الطمأنينة إذا كانت ناجمة عن الجهل.

وهل يفضل الإنسان حياة بعض الأفراد الخالية من كل إحساس وكرامة إذا كان ذلك يوفر له الاستقرار، على حياة تنبض مشاعر وهموماً وإحساساً بآلام الآخرين.

الإنسان الكامل من يشعر بعذاب الآخرين ويعتبر نفسه شريكاً في معاناتهم (فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً).

أليس هذا الخطاب موجهاً إلى نبينا الأكرم (ص) الذي كان قلبه يتقطع حسرات حتى على مصير أعدائه!:

(لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم). [التوبة: 128]

بلغت الأنباء علياً (ع) بأن غارة شنت على الأنبار من قبل أصحاب معاوية قتل على أثرها الكثير من الأبرياء، فتأثر الإمام بشدة وقال في خطبة له أثر ذلك: "فلو إن امرَأً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً بل كان عندي جديراً[2]".

إن الألم يصنع الإنسان ويصقل شخصيته ويجعله مرهف الحس والضمير. صحيح أن الأحمق لا يدرك واقعه المخزي، ولكن هذا لا يطمس حقيقته التافهة. إن الإنسان في النوم أكثر راحة منه في اليقظة، فهل هناك من يفضل الحياة يقضيها نوماً؟!

لقد كان نبينا يتأوه ويقول: "ما أوذي نبي مثل ما أوذيت" ومع ذلك فقد كان يدعو لأولئك الذين عذبوه قائلاً: "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون" وإذن فإن الرأي يذهب إلى عدم إيقاظ الناس من غفلتهم وتركهم في جهالتهم لكي ينعموا بالراحة رأي خاطئ.

لقد تصدى الرسول إلى مثل هذه الغفلة عندما توفي ولده إبراهيم، فقد صادف ذلك كسوف الشمس فقال الناس: لقد كسفت من أجل رسول الله، فانبرى النبي (ص) لنسف مثل هذه الاعتقادات قائلاً: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله وإن كسوف الشمس وخسوف القمر لا علاقة لهما بموت الناس.

ومما يدعو إلى الأسف أن نجد في بعض الأشعار مثل هذا النفس حيث يعتبر البعض أن العقل والعاطفة هما سبب العذاب والألم، ويتمنى أنه كان عديم السمع والبصر.

لا يمكننا أن نعتبر العقل عدواً، بل هو أصدق أصدقاء الإنسان. قال رسول الله (ص): "صديق كل امرئ عقله وعدوه جهله" وقال أمير المؤمنين (ع): "ليست الرؤية كالمعاينة مع الابصار فقد تكذب العيون أهلها ولا يغش العقل من استنصحه" ويقول في مناسبة أخرى عن القرآن: "واعلموا أن هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش والهادي الذي لا يضل والمحدث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان، زيادة في هدى ونقصان في عمى" إلى أن يقول: "فكونوا من حرسته وأتباعه واستدلوه على ربكم واستنصحوه على أنفسكم".

 

خطر التحريف في النصوص الدينية

ينتقد القرآن الكريم أولئك الذين يحرفون الكلم عن موضعه، ويشمل التحريف قسمين: الأول التلاعب في الحديث أو التأليف حذفاً أو إضافة، الأمر الذي يؤدي إلى اختلاف في المعنى، حيث لم تسلم الكتب القديمة من أيادي بعض الخونة دساً وتحريفاً، ولقد طال ذلك حتى دواوين الشعر مما يؤدي إلى إثارة المتاعب أمام الباحثين ويمكن إطلاق (التحريف اللفظي) على هذا النوع.

أما القسم الآخر من التحريف فهو (التحريف المعنوي) أي بقاء الألفاظ في أماكنها والعبارات في سبكها، ولكن التحريف هنا ينطلق من التأويل وممارسة نوع من التعسف في التفسير.

فالمنطق كصنعة يتضمن ما يسمى بالمغالطة، وهناك ثلاثة عشر نوعاً من المغالطة يتمكن المرء من خلالها خداع الآخرين، فمن يتقن هذه الصنعة لابد وأن يكون في مأمن من آثارها، مثلما يلم الطبيب بمختلف الأمراض فيكون في حيطة منها.

لقد كان عمار بن ياسر من كبار الصحابة الأجلاء. شهد في مكة بأم عينيه تعذيب والديه حتى الموت، وقد تعرض رضوان الله عليه للتعذيب حتى كاد أن يموت هو الآخر. وعندما هاجر إلى المدينة اشترك في بناء المسجد المعروف اليوم بمسجد النبي، وكان يعمل بهمة ونشاط والعرق يتصبب من جسده. وفي تلك الظروف قال النبي أمام جمع من أصحابه: عمار تقتله الفئة الباغية. وحديث الرسول هذا أشار إلى الآية الكريمة في قوله تعالى:

(وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله). [آل عمران: 9]

ولقد كان هذا الحديث في الحقيقة رسالة موجهة للمسلمين كي يكونوا على يقظة تامة. وأصبح عمار مقياساً وأساساً ينظر إليه المسلمون في تقييم الأمور، وتمر الأعوام وتندلع حرب صفين، وإذا بالإمام علي (ع) ومعه كبار الصحابة ومعهم عمار بن ياسر في جبهة، ومعاوية ومعه الغوغاء من أهل الشام في جبهة أخرى. وإذا بمعاوية يمارس نوعاً من التحريف المعنوي ويخدع أهل الشام بعد استشهاد عمار قائلاً: إن قاتل عمار هو علي وأصحابه الذين جاءوا به إلى الحرب فعلق أحد الحضور قائلاً: وإذن فقاتل حمزة هو النبي الذي جاء بحمزة إلى حرب أحد. وبالرغم من تفاهة هذا الاستدلال فقد خُدِعَ به الشاميون.

ينبغي أن يكون المسلمون يقظين تجاه النصوص الدينية وحمايتها من التحريف في اللفظ والمعنى. إن القرآن الكريم لا يمكن تحريفه على صعيد اللفظ أبداً ـ حذفاً أو إضافة ـ ولكن الخطر هو في التأويل والتفسير. وعلى المسلمين المحافظة عليه إذا أرادوا أن يحافظوا على أنفسهم.

 

أثر الذنب ومعاشرة الأشرار في أسوداد القلب

ورد في الحديث: "ما من شيء أفسد للقلب من خطيئة. إن القلب ليواقع الخطيئة به حتى تقلب عليه فيصير أعلاه أسفله" كما ورد في أحاديث اخرى أن النفس كالصفحة البيضاء فإذا أذنب الإنسان ذنباً ظهرت نقطة سوداء فإن ندم واستغفر اختفت وإن استمر في ارتكاب الذنوب توسعت تلك النقطة السوداء؛ فإن لم يتدارك نفسه تغلب المساحة السوداء، وحينها لا يبقى هناك من أمل في عودته إلى جادة الصواب.

ويشير الحديث إلى الآية الكريمة (بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون). [المطففين: 14]

ليس العمل السيئ وحده الذي يؤثر في اسوداد القلب، بل هناك عوامل أخرى تؤثر على القلب سلباً وإيجاباً من بينها المحيط والبيئة والمعاشرة، فتأثير المعاشرة واضح جداً سواء على صعيد الخير أم الشر. إن من يعتقد بانتفاء أثر المعاشرة يغالط نفسه، ذلك أن الروح الآدمية شفافة سريعة التأثير حيث تجري التحولات داخل النفس دون شعور أو وعي لعدم ظهور الآثار المباشرة على الإنسان كما هو الحال في البدن، وللأسف لا توجد وسيلة لمعرفة ذلك لكي يمكن مثلاً أن يزن نفسه، وهل أصبحت روحه مثقلة مثلاً أم خفيفة.

يقول أمير المؤمنين علي (ع): "واعلموا أن يسير الرياء شرك ومجالسة أهل الهوى منساة للإيمان" وهذه العبارة تكشف مدى تأثير المعاشرة على روح الإنسان وعلى شعلة الإيمان في القلب حيث تخبو شيئاً فشيئاً.

وإضافة إلى ذلك توجد عوامل أخرى تؤثر في اسوداد القلب سنبحثها في المستقبل بإذن الله.

وخلاصة الموضوع أن الإنسان لا يمكنه الوصول إلى الكمال دون إرادة منه، فتهذيب النفس للوصول بها إلى مدارج الكمال له أرضيته في روح الإنسان. قال تعالى: (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها). [الشمس: 9 ـ 10]

فالروح الإنسانية التي تنطوي على هذا الاستعداد في التكامل هي روح حية يمكنها النمو إذا ما توفرت لها الظروف المناسبة، ولهذا عبر القرآن عن الكافرين بأنهم موتى لفقدانهم ذلك الاستعداد في إشارة رائعة. قال تعالى: (لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين). [يس: آية 70]

والقرآن ليس شعراً، ليس خيالاً لكي يمكن تجاوزه. القرآن كتاب حقائق يسلط الأضواء ويكشف ما خفي عن بصيرة الإنسان. الإنسان في نظر القرآن كائن حي متى وجد في أعماقه الاستعداد للرقي والتكامل في طريق الصلاح، فإذا انتفى هذا الجانب انتفت صفة الحياة في داخله كالبذرة التي لا يمكن لها أن تنمو، ولذا فإن الخطاب موجه لمن في أعماقه بذور الخير والتكامل، وهو دعوة إلى النمو في طريق الكمال.  

 

المجاملات الكاذبة

عندما تقع بين الطفل على شيء كأن يكون لعبة أو طعاماً فإنه سرعان ما يظهر رغبة في ذلك، وإذا ما شعر بالحزن لسبب ما فإنه ينخرط في البكاء فوراً. غير أن الكبار ومراعاة للعادات والأعراف، وعلى أساس حفظ ما يسمى بالشأنية، فإنهم ينطوون على عواطفهم وأحاسيسهم بالكبت، فقد يصر المضيف مثلاً على ضيوفه في تناول الطعام ولكن الضيوف ومع رغبتهم يمتنعون عن ذلك.

لقد ورد في التاريخ أن رسول الله، وفي ليلة عرسه بعائشة تناول قدراً من الحليب الذي أحضرته عائشة ثم قدم الإناء إلى أم سلمة التي امتنعت مظهرة عدم رغبتها فقال الرسول ما معناه: أتجمعين الكذب بالجوع، وتساءلت أم سلمى وهل يسمى ذلك كذباً لو أعرض الإنسان عن تناول شيء من الطعام مجاملة أو حياءً؟ فأجاب الرسول: نعم!

العاطفة والحب والأحاسيس كلها أمور ضرورية، وإذا أصبحت الحياة عارية من العواطف كانت جافة وميتة وخالية من كل روح، ومن ضرورات العاطفة إبرازها لكي تقوم بدورها، فقد كان رسول الله (ص) يوصي بأن يبرز المرء حبه لأخيه وصديقه لكي تمتن العلاقة بينهما، وإذا كانت المجاملة تنهض على هذا الأساس من إظهار الحب والعاطفة والإحساس فما أحلاهما! غير أن الأمم التي لا تتمتع برقي أخلاقي واجتماعي تعاني من المجاملات الكاذبة، فمثلاً لو أراد شخصان دخول غرفة أو مغادرتها فإنهما ينفقان وقتاً طويلاً في من يدخل منهما أولاً في حين أن رغبة كل منهم تقديم نفسه على الآخر. أو ما يقوم به البعض حين يدعو أصدقاءه إلى وليمة من تصنع وتكلف، وهو في الواقع شكل من أشكال النفاق. والنفاق من مختصات البشر، وإذا وجد لدى الحيوانات فهو على درجات خفيفة، أمام الإنسان في هذا المضمار.

الإنسان المخادع والماكر هو في الواقع استغلال سيئ للطاقات البشرية في الرق والتكامل. إن إظهار الإنسان غير ما يبطن يجد له من المبررات المعقولة في بعض الأحيان، فقد يجد المرء نفسه مضطراً لإخفاء عقيدته في ظروف قاهرة، كما ينبغي للإنسان أن يخفي مشاعره الخاصة بالفرح أمام المنكوبين والمحزونين، وفي مقابل ذلك يستحب للإنسان أن يكون هشاً بشاً حتى وإن كان محزوناً لأمر من الأمور، عليه أن لا يعكس ذلك على وجهه، وهذا من حسن المعاشرة. إن ما ذكرنا هو من خصال الإنسان الحميدة التي تنشأ عن إحساس فطري يمكن أن ينقلب إلى صور من النفاق والخديعة حسب إرادة الإنسان.

إننا نلاحظ، ومع الأسف، الكثير من الناس ممن يعتبرون النفاق والمكر والخديعة "شطارة" في حين يعتبرون الصدق والصراحة، ومع الأسف أيضاً، غلظة! كل ذلك انطلاقاً من اعتقادهم الخاطئ بأن الحياة إنما تسير بالنفاق والمكر والخديعة، غافلين عن الله وأن الله هو خير الماكرين وأن المكر مع الله هو الخسران المبين.

إن القرآن الكريم يذم المكر ويستنكر النفاق والمداهنة، وإن النجاحات التي يحققها الإنسان إثر ذلك سرعان ما تبور، وغن مصير ذلك هو الخسران، بينما تكون العاقبة للمتقين، أولئك الذين تنهض حياتهم على الصدق والحق والاستقامة، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.

 

[1]   نهج البلاغة، القاصعة

[2]   نهج البلاغة، خطبة: 27

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست