|
||||||||
الأسلوب السياسي لدى الإمام علي عليه السلام
|
||||||||
الأسلوب
السياسي لدى
علي (ع) من كلام
لأمير
المؤمنين (ع)
يقول فيه: "إن
الوفاء توأم
الصدق ولا
أعلم جنة
أوقى منه،
ولا يغدر من
علم كيف
المرجع،
ولقد أصبحنا
في زمان قد
اتخذ أكثر
أهله الغدر
كيساً
ونسبهم أهل
الجهل فيه
إلى حسن
الحيلة. ما
لهم؟ قاتلهم
الله! قد يرى
الحوّلُ
القلبُ وجه
الحيلة
ودونه مانع
من أمر الله
ونهيه
فيدعها رأي
عين بعد
القدرة
عليها،
وينتهز
فرصتها من لا
حريجة له في
الدين[1]".
تحدثنا في
الليلة
الماضية
واستعرضنا
بعض ما يضمه
نهج البلاغة
من المعارف
والعلوم وما
يزخر به من
الكنوز
المختلفة؛
وقد ركز
الإمام فيما
ركز عليه من
المسائل على
منهجه في
الإدارة
والحكم
وسياسته في
ذلك، والتي
لم تجد
تفهماً من
قبل أهل
الرأي آنذاك
فضلاً عن
عامة الناس. ولقد
أشرنا فيما
مضى إلى
الظروف التي
أحاطت
بالإمام
قبيل وبعد
تصديه
للخلافة
ومعاناته من
مشاكل عديدة
وقضايا
معقدة كمصرع
عثمان
ومسألة
التحكيم،
وقد كانت
الأولى
ذريعة لأهل
الجمل وصفين
وكانت
الثانية
للخوارج. وفي هذا
البحث سنشير
إلى موضوعين
أو اقتراحين
تقدم بهما
بعض أصحابه
بنوايا
حسنة، ولكن
منطق علي (ع)
ومنهجه كانا
يرفضان ذلك. الموضوع
الأول يتعلق
بمسألة
العطاء،
فلقد اقدم
الإمام على
إلغاء جميع
الامتيازات
التي كانت
تفرق بين
العرب
والموالي؛
وبين السادة
والعبيد؛
وبين القرشي
وغير القرشي.
وعندما
اعترض البعض
من
المتضررين،
وعندما
اقترح البعض
العودة إلى
السياسة
القديمة في
العطاء عن
حسن نية رد
الإمام
مستنكراً: "أتأمروني
أن أطلب
النصر
بالجور فيمن
وليت عليه؟
والله لا
أطور به ما
سمر مسير" ثم يقول: "لو
كان المال لي
لسويت بينهم
فكيف وإنما
المال مال
الله". وبالرغم
من إدراك
الإمام إلى
أن ذلك سوف
يضعف مركزه
السياسي إلا
أنه كان يقول:
"ألا
وإن إعطاء
الماء في غير
حقه تبذير
وإسراف وهو
يرفع صاحبه
في الدنيا
ويضعه في
الآخرة
ويكرمه في
الناس
ويهينه عند
الله[2]".
ثم يستخلص
الإمام
نتائج ذلك
قائلاً: "ولم
يضع امرؤ
ماله في غير
حقه ولا عند
غير أهله إلا
حرمه الله
شكرهم وكان
لغيره ودهم،
فإن زلت به
النعل يوماً
فاحتاج إلى
معونتهم فشر
خليل وألأم
خدين". وقد ذكر
التاريخ أن
عقيلاً قدم
على أمير
المؤمنين (ع)
وكان قد كف
بصره، فرحب
به الإمام ثم
التفت إلى
ابنه الحسن
وقال: قم
فأنزل عملك
ثم أمره بأن
يشتري له
قميصاً
أداءً؛ فلما
حضر العشاء
فإذا خبز
وملح، فقال
عقيل: ليس
إلا ما أرى؟
فقال الإمام:
أوليس هذا من
نعمة الله
وله الحمد
كثيراً؟
فقال عقيل:
أعطني ما
اقضي به ديني
وعجل سراحي
حتى أرحل عنك
فقال: فكم
دينك يا أبا
يزيد؟ فقال:
مائة درهم،
قال: لا
والله ما هي
عندي ولا
أملكها،
ولكن اصبر
حتى يخرج
عطائي
فأواسيكه،
ولولا أنه
لابد للعيال
من شيء
لأعطيتك كله
فقال عقيل:
بيت المال في
يدك وأنت
تسوفني إلى
عطائك؟ وكم
عطاؤك؟ وما
عساه يكون
ولو
أعطيتنيه
كله؟ فقال:
ما أنا وأنت
إلا بمنزلة
رجل من
المسلمين
وكانا
يتكلمان فوق
قصر الامارة
مشرفين على
صناديق أهل
السوق، فقال
له علي: إن
أبيت يا أبا
يزيد ما أقول
فانزل إلى
بعض هذه
الصناديق
فاكسر
أقفاله وخذ
ما فيه قال:
وما في هذه
الصناديق؟،
قال: فيها
أموال
التجار، قال:
أتأمرني أن
أكسر صناديق
قوم قد
توكلوا على
الله وجعلوا
فيها
أموالهم؟
فقال أمير
المؤمنين:
أتأمرني أن
أفتح بيت مال
المسلمين
فأعطيك
أموالهم وقد
توكلوا على
الله
وأقفلوا
عليها؟ وإن
شئت أخذت
سيفك وأخذت
سيفي وخرجنا
معاً إلى
الحيرة فإن
بها تجاراً
مياسير،
فدخلنا على
بعضهم
فأخذنا
ماله، فقال:
أوسارقاً
جئت؟ قال:
تسرق من واحد
خير من أن
تسرق من
المسلمين
جميعاً[3]".
ويقول
الإمام في
كتابه إلى
أحد عماله: "وبؤساً
لمن خصمه عند
الله
الفقراء
والمساكين
والسائلون
والمدفوعون
والغارم
وابن السبيل...
وإن أعظم
الخيانة
خيانة الأمة
وأفظع الغش
غش الأئمة". وأما ما
يتعلق
بالموضوع
الآخر فهو
عدم اعتماد
المراوغة
والخداع
والدجل في
السياسة
بعيداً عن
روح الصدق
والصراحة
والوفاء،
كما يفعل
خصمه معاوية
الذي وظف
المكر
والخديعة
والكذب في
سبيل تحقيق
أهدافه، حيث
لم يتورع عن
استخدام
أقذر
الوسائل
للوصول إلى
مراميه. وهكذا
أصبح منهج
علي في
السياسية
والحكم
ومنهج
معاوية
أساساً
للمقارنة،
حيث تأسف
البعض آنذاك
وهم يرون
معاوية يحقق
بعض النجاح
في حين كان
الإمام يخسر
بعض
المواقع؛
ولذا فقد
كانوا
يتمنون لو أن
علياً (ع)
اعتمد نفس
الطرق
الملتوية
التي سلكها
معاوية بن
أبي سفيان. لقد كان
الإمام يدرك
تماماً ما
يدور من همس
بهذا الشأن،
ولذا فقد كان
يتحدث
باستمرار عن
منهجه
السياسي
والإداري
مدافعاً عن
القيم التي
ينطلق منها
في ترتيب
مواقفه
قائلاً: والله
ما معاوية
بأدهى مني
ولكنه يغدر
ويفجر،
ولولا
كراهية
الغدر لكنت
أدهى الناس،
ولكن كل غدرة
فجرة وكل
فجرة كفرة
ولكل غادر
لواء يعرف به
يوم القيامة[4]".
ثم يعلن
رأيه في ذلك
قائلاً: "والله
ما استغفل
بالمكيدة
ولا استغمز
بالشدة". وهكذا فإن
الاختلاف
بين الأهداف
يعكس أثره
على
الوسائل،
فالأهداف
السامية
تحققها
الوسائل
السامية،
والأهداف
الرخيصة
تستلزم
السبل
الرخيصة.
وهذا ما نجده
واضحاً في
الأوامر
العسكرية
التي صدرت
عنهما حيث
يظهر
التناقض بين
الشخصيتين
في كل
الجوانب.
فهذا علي بن
ابي طالب (ع)
يزود ويوصي
طلائع الجيش
المؤلفة من
ثلاثة آلاف
مقاتل قبل أن
تتحرك
بقيادة معقل
بن قيس
الرياحي
قائلاًُ: "اتق الله
الذي لابد لك
من لقائه ولا
منتهى لك
دونه[5]".
ثم يوصيهم
بضبط النفس
وتجنب
القتال ما
أمكن ذلك
قائلاً: "ولا
يحملنكم
شنآنهم على
قتالهم قبل
دعائهم
والإعذار
إليهم" فليست
هناك عداوة
شخصية،
وليست هناك
حرب من أجل
المصالح،
إنما هو الحق
فقط أساس
الصراع. أما
معاوية فإن
تعليماته
العسكرية
لتنضح دموية
وإرهاباً
وسفكاً
للدماء
وهتكاً
للأعراض من
أجل تحقيق
الأهداف بأي
ثمن كان، فها
هو يوصي بسر
بن ارطأة أحد
قادته
الدمويين
قائلاً: "سِر
حتى تمر
بالمدينة
فاطرد الناس
وأخف من مررت
به وانهب
أموال كل من
أصبت له ممن
لم يكن له
دخل في
طاعتنا". ثم يوصي
قائداً آخر
هو سفيان
الغامدي
بالإغارة
على العراق
قائلاً: "واقتل
كل من لقيته
ممن ليس هو
على مثل رأيك
واخرب كل ما
مررت به من
القرى واحرب
الأموال فإن
حرب الأموال
شبيه بالقتل
وهو أوجع
للقتل". هكذا كان
معاوية ينشر
الخراب
والدماء
ويحرق القرى
ويقتل ويسفك
الدم الحرام
في سبيل
أهدافه
الدنيئة.
ولقد وظف
جميع
الوسائل في
ذلك وأقدم
على اغتيال
العديد من
الشخصيات
أمثال مالك
الأشتر
النخعي وعبد
الرحمن بن
خالد
وغيرهما،
واشترى ذمم
العديد من
الزعماء
مبذراً
أموال
المسلمين في
حين كان
الإمام يعيش
في شظف من
العيش وكان
هدفه تحقيق
العدالة
وإرساء
قواعد الحكم
الإسلامي
حتى استشهد (ع)،
بل حاول أن
يستمر العدل
حتى بعد
رحيله عن هذه
الدنيا؛
ولكي يضع
النقاط على
الحروف جمع
بني عبد
المطلب وهو
على فراش
الموت، لكي
لا يتحول
مصرعه (ع) إلى
ذريعة لهم أو
لغيرهم
فيقتل
الأبرياء؛
قال (ع): "يا
بني عبد
المطلب لا
الفينكم
تخوضون دماء
المسلمين
خوضاً
تقولون قتل
أمير
المؤمنين.
ألا لا يقتلن
بي إلا قاتلي.
انظروا إذا
أنا مت من
ضربته هذه
فاضربوه
ضربة بضربة[6]".
وقبل أن
يودع الدنيا
خلف للأجيال
وصيته
المقدسة
التي عكست
روحه
الكبيرة
وسياسته
والأهداف
التي جاهد من
أجلها. يقول (ع):
"أوصيكما
(الحسن
والحسين)
وجميع ولدي
وأهلي ومن
بلغه كتابي
بتقوى الله
ونظم أمركم
وصلاح ذات
بينكم، فإني
سمعت جدكما (ص)
يقول: صلاح
ذات البيت
أفضل من عامة
الصلاة
والصيام.
الله الله في
الأيتام فلا
تغبوا
افواههم ولا
تضيعوا
بحضرتكم.
والله الله
في جيرانكم
فإنهم وصية
نبيكم مازال
يوصي بهم حتى
ظننا أنه
سيورثهم،
والله الله
في القرآن لا
يسبقنكم
بالعمل به
غيركم،
والله الله
في الصلاة
فإنها عمود
دينكم. والله
الله في بيت
ربكم لا
تخلوه ما
بقيتم فإنه
إن ترك لم
تناظروا،
والله الله
في الجهاد
بأموالكم
وأنفسكم
وألسنتكم في
سبيل الله،
وعليكم
بالتواصل
والتباذل،
وإياكم
والتدابر
والتقاطع،
لا تتركوا
الأمر
بالمعروف
والنهي عن
المنكر
فيولى عليكم
أشراركم ثم
تدعون فلا
يستجاب لكم[7]".
كثيراً ما
أشاهد خلال
تجاربي
اليومية أن
هناك أشياء
تمنع من
تأثير بعض
الأشياء
الأخرى
وتحاول
محوها؛ فقد
يملك دواء
معين
تأثيراً ما
ولكن هناك
دواء آخر
يمنع من حدوث
ذلك الأثر،
وقد يوجد في
بعض الأشياء
نوع من
السموم التي
يبطل
مفعولها
بوجود مواد
أخرى،
تماماً كما
هو الحال في
عالم اليوم
من حرب وحرب
مضادة، حيث
يبالغ بعض
المفكرين في
ذلك قائلاً
بأن الأساس
في العالم
قائم على
مبدأ الصراع
وأن كل موجود
يحاول محو
وجود الآخر. إننا لا
ننكر أهمية
هذا العامل
ولكننا
نستنكر هذه
المبالغة في
تصوير حجمه. من ناحية
أخرى فإن
الوجود
الإنساني هو
نسخة من
العالم
الأكبر، فكل
ما هو موجود
في هذا
العالم
الواسع يوجد
له نموذج في
وجود
الإنسان،
ولهذا نرى أن
القوى
المعنوية
للبشر تتأثر
فيما بينها،
فبعضها ينمو
تأثيره
ويشتد
وبعضها
ينتهي
ويتلاشى. يقول أمير
المؤمنين
علي (ع): "أكثر
مصارع
العقول تحت
بروق
المطامع" ويقول
(ع): "آفة
العقل
التكبر" ويقول
الإمام
الصادق (ع): "الهوى
عدو العقل"، هكذا
تزخر النصوص
الدينية
بالكثير من
الأحاديث
التي تتحدث
عن المخاطر
التي تتعرض
للعقول من
قبيل التكبر
والطمع
والتعصب
والعناد
واللجاجة
والغضب التي
تحاول بشكل
أو آخر الحد
من تأثير
العقل أو
إبطال دوره
تماماً، ومن
ثم إطفاء
نوره لكي
تعيش النفس
في ظلمة
دامسة. وهذا
نموذج من
الصراع الذي
نعيشه في
العالم
الأكبر حيث
نرى له
شبيهاً في
نفس الإنسان. يتحدث
القرآن
الكريم عن
بعض الذين
يملكون
آذاناً ولا
يسمعون بها
وعيوناً ولا
يبصرون بها،
ذلك أنها (لا تعمى
الأبصار
ولكن تعمى
القلوب التي
في الصدور). وخلاصة
القول أن
هناك بعض
الصفات تبطل
أثر العقل
ودوره في نفس
الإنسان،
فتقليد
الآباء
والتعصب
والحمية
والعناد
والمصالح
الدنيوية
كلها لا تسمح
بالتسليم
لمنطق
العقل، وإن
من أعداء
العقل هي
النفس
الأمارة
بالسوء،
وعلة ذلك أن
العدو يكون
قد وضع يده
على مركز
حساس. إن
الإنسان
ليحارب عدوه
بسلاح
العقل، ولو
أن عدواً
تمكن من
إحداث خلل في
طريقة
التفكير
وسيطر على
مركز العقل
فإن خطره
سيكون
مدمراً. يقول
الحكماء أن
الأنبياء
إنما بعثوا
لخدمة العقل
والفطرة،
تماماًَ مثل
الطبيب الذي
يخدم طبيعة
الجسد. إن
خدمة
الأنبياء
للعقول
تختلف عن
خدمة المعلم
للتلاميذ
حيث يقتصر
تعليمه على
علم معين أو
فن معين. إن
عمل
الأنبياء هو
المحافظة
على طهارة
النفس وسمو
الأخلاق
وصونها عن
تأثير الهوى
والحرص
والطمع
والشهوة،
وتحرير
العقل من أسر
القيود
المادية،
وقد أكد
القرآن
الكريم على
أن التقوى
تحرر
الإنسان
وتجعله
قادراً على
تمييز الحق
من الباطل: (يا أيها
الذين آمنوا
إن تتقوا
الله يجعل
لكم فرقاناً).
[الأنفال:
28] وقال أمير
المؤمنين
علي (ع): "واعلموا
أنه من يتق
الله يجعل له
مخرجاً من
الفتن
ونوراً من
الظلم[8]".
لقد جاء
الأنبياء
ليعلموا
الإنسان
التقوى
والطهر
والفضيلة،
وأن يهزم
الإنسان
أهواءه
النفسية من
أجل تحكيم
سلطة العقل. يقول أمير
المؤمنين (ع): "أصدقاؤك
ثلاثة،
وأعداؤك
ثلاثة،
فأصدقاؤك:
صديقك وصديق
صديقك وعدو
عدوك،
وأعداؤك:
عدوك، وعدو
صديقك وصديق
عدوك[9]".
قال تعالى
في محكم
كتابه
الكريم: (يا أيها
الذين آمنوا
إن تتقوى
الله يجعل
لكم فرقاناً).
[الأنفال:
29] كثيرة هي
الآيات التي
تشير إلى
علاقة
التقوى
بالبصيرة،
فكلما طهر
الإنسان
وتجذرت في
نفسه ملكة
التقوى،
كلما ازدادت
بصيرته
نفاذاً
وازداد
توقداً؛ وقد
قال رسول
الله (ص): "اتقوا
فراسة
المؤمن فإنه
ينظر بنور
الله". أي أن
الإيمان
يجلو الروح
ويزيد من
شفافيتها
ويحفظها من
غبار الحسد
والحقد
والأنانية
والعناد
والتعصب،
وبهذا يمنح
الفرصة
للعقل من أجل
الاستفادة
أكثر فأكثر
من أنوار
الله ورؤية
الحقائق. وهناك
ارتباط وثيق
بين القلب
الذي هو مركز
العواطف
والأحاسيس
وبين العقل
الذي هو مركز
الشعور
والإدراك.
فمن القلب
تنطلق
العواطف
والميول
والأحاسيس،
وفي العقل
يتألق الفكر
والمنطق
والدليل
والاستنباط. لو أردنا
للعقل أن
يعمل بحرية
فيفكر
ويستنتج
ويستدل،
فينبغي أن
نراقب
عواطفنا
وأحاسيسنا.
فإذا
استسلمنا
للحقد
والحسد فيجب
أن نعلم أن
وقود هذه
النار ليس
إلا وجودنا
وسلامتنا
وأعصابنا
وقلوبنا وكل
جوارحنا،
ومن ثم
تتصاعد سحب
الدخان
فتملأ سماء
أرواحنا
وبالتالي
يصاب العقل
بالعمى
ويفقد رؤيته.
يقول الإمام
علي (ع): "أكثر
مصارع
العقول تحت
بروق
المطامع" ويقول (ع)
أيضاً: "عجب
المرء بنفس
أحد حساد
عقله[10]".
قال تعالى: (أفلا
يتدبرون
القرآن أم
على قلوب
أقفالها). [محمد: 25] كما يزخر
القرآن
بالآيات
التي تتحدث
عن أولئك
الذين
يمتلكون
آذاناً ولكن
لا يسمعون
بها وعيوناً
ولكن لا
يبصرون بها،
وقد عبر عنهم
القرآن
بقوله تعالى:
(صم
بكم عمي فهم
لا يرجعون). [البقرة،
الآية: 18] وهذا في
الحقيقة نوع
من الأمراض
النفسية
والأخلاقية
يفقد أثرها
الإنسان
قدرته على
الإدراك،
فيمر غير
مكترث
بحوادث
الزمن غير
آبه بتجارب
الحياة
وعظاتها.
وبالرغم من
أن الدهر هو
أعظم معلم
وأكبر مدرسة
وأن التاريخ
الإنساني
وما حل
بالذين مضوا
من قبل
أفراداً
كانوا أم
شعوباً زاخر
بالعبر التي
تعلم
الإنسان. إن رمز
السعادة
يكمن في
استلهام
العبر
والدروس من
تجارب
الماضين؛
يوصي الإمام
علي (ع) ولده
الحسن
قائلاً: "أحي
قلبك
بالموعظة
وبصرّه
فجائع
الدنيا
وحذره صولة
الدهر وفحش
تقلب
الليالي
والأيام،
وأعرض عليه
أخبار
الماضين،
وذكره بما
اصاب من كان
قبلك من
الأولين،
وسر في
ديارهم
وآثارهم
فانظر فيما
فعلوا وعما
انتقلوا
وأين حلوا
ونزلوا فإنك
تجدهم قد
انتقلوا عن
الأحبة
وحلوا ديار
الغربة،
وكأنك عن
قليل قد صرت
كأحدهم،
فأصلح مثواك
ولا تبع
آخرتك
بدنياك[11]". قد تحدث
تجربة أمام
أعين المئات
من الناس فهل
يستفيد
هؤلاء من
ذلك؟ كلا
بالطبع، ذلك
أنها تتوقف
على أمرين.
الأول: مستوى
العقل
والعلم
والذكاء،
والثاني:
مستوى
الصفاء في
النية
والطهارة في
القلب. قال
تعالى: (والذين
جاهدوا فينا
لنهدينهم
سبلنا). [العنكبوت،
الآية: 69] كما
يتسائل
القرآن
الكريم
مشيراً إلى
الفرق في
ذلك، قال
تعالى: (أو
من كان ميتاً
فأحييناه
وجعلنا له
نوراً يمشي
به في الناس
كمن مثله في
الظلمات ليس
بخارج منها). [الأنعام:
122] ولقد قال
أئمة الدين
والأخلاق: ما
لم يكن
الإنسان على
بصيرة من
أمره فإنه لن
يعثر على
طريق
السعادة
أبداً، وما
لم يتخلص من
دخان الحسد
والحقد
والأنانية
والتكبر
وسائر
الرذائل فإن
عقله عاجز عن
هدايته إلى
طريق الصواب. لو أن شجرة
سليمة الجذع
سالمة
الجذور
تعرضت إلى
بعض الحوادث
فتساقطت
ثمارها
وتناثرت
أوراقها أو
بريت
أغصانها أو
عصف البرد
بخضرتها أو
التهمت
الطير
ثمارها
وأفسدتها،
فإن ذلك أمر
يدعو إلى
الأسف ولكنه
لا يدعو إلى
القلق
أبداً،
لماذا؟ لأن
جذعها سالم
ولذا فهي
ستورق من
جديد وستعود
إليها
خضرتها مرة
أخرى، ثم
تكتض
بالثمار
ملقية
ظلالها
الوارفة من
جديد،
ومادام
الأمر كذلك
فإن من حق
الإنسان أن
يشعر بالأمل. إن الوجود
يشبه إلى حد
بعيد شجرة
مثمرة، فإن
كانت سالمة
من العيوب
كانت نضرة
قوية تهب
الخضرة
والثمار
وتلقي
بظلالها
الوارفة على
الطريق
فيستريح
عندها
العابرون
ويتفيأون
ظلالها بعد
أن أحرقتهم
حرارة الشمس
ولكن هذه
الشجرة قد
تتعرض لبعض
الحوادث من
قبيل عبث
الأطفال
فتذهب تلك
المعاناة في
رعايتها
أدراج
الرياح. وهكذا
الإنسان
يعاني
ويتألم
سنوات طويلة
لكي يعد نفسه
ويكون حياته
وإذا كل ذلك
يذهب في لحظة
واحدة في
ضربة من
ضربات القدر
تجعل منه
بائساً
فقيراً، ذلك
ان متاع
الحياة
الدنيا معرض
لآلاف
الآفات
كالغرق
والحرق
والخطف
وغيرها.
وبالرغم من
أن كل ذلك
يبعث على
الأسى،
ولكنه لا
يدعو إلى
القلق خاصة
بالنسبة
لأولئك
الذين
يتمتعون
بالروح
القوية
والأمل. إن الجسم
السليم الذي
يخضع لجراحة
ما لا يدعو
إلى القلق
لأنه يملك
استعداداً
ذاتياً على
التئام
أنسجته،
بعكس الجسم
الذي يعاني
من مرض
السكري ـ
مثلاً ـ فإن
هنا أمر يصعب
علاجه وتجنب
أخطاره،
ولذا فهو
يدعو إلى
القلق، ذلك
أن أدنى جرح
بسيط يستغرق
وقتاً
طويلاً
لالتئامه. إن
الإنسان
الذي يتمتع
بالمعنويات
العالية
وبالأمل
يمكنه أن
يجبر كل كسر
يتعرض له،
غير أن
الطامة
الكبرى تحل
فيما إذا
تعرض الجذر
نفسه
للآفات،
وإذن فلن
يبقى للخضرة
والثمار من
أثر. لو أصيب
الإنسان ـ لا
سمح الله ـ
في روحه
وقلبه وذبلت
عواطفه
وأحاسيسه،
وأصبح
ساخطاً على
الناس
متشائماً
منهم، ورأى
نفسه وحيداً
دون سند
ومعين، إن
مثل هذا
الإنسان
سيكون عديم
النفع لنفسه
وللآخرين
وعندها
يتساوى موته
مع حياته. وقد عبر
القرآن
الكريم عن
ذلك
بالخسران
المبين، وهم
أولئك الذين
خسروا
أنفسهم
وأرواحهم،
فليس مهماً
أن يخسر
الإنسان بعض
ثمار حياته
ولكن
الخسارة
الكبرى أنه
يخسر الأمل
والرجاء،
والأكبر من
ذلك أن يخسر
الإنسان
الإيمان
الذي هو نبع
الأمل، ذلك
أن الإيمان
يصنع التوكل
والاعتماد
والأمل. إن
الإنسان
المؤمن لا
يعتبر نفسه
وحيداً
أبداً وهو
يردد دائماً:
(إياك
نعبد وإياك
نستعين) و(ربنا
عليك توكلنا
وإليك أنبنا
وإليك
المصير). [الممتحنة:
4] فالمؤمن
يتأثر
بالحوادث
ولكنه لا
يتزعزع
أبداً ولا
يشعر
بالقلق، ذلك
أن مصابه ليس
في دينه
وإيمانه
وعقيدته. قال تعالى
مخاطباً
رسوله
الكريم: (قل إنما
أنا بشر
مثلكم يوحى
إليّ أنما
الهكم إله
واحد فمن كان
يرجو لقاء
ربه فليعمل
عملاً
صالحاً ولا
يشرك بعبادة
ربه أحداً). [الكهف:
110] إن
الإيمان وفي
الوقت الذي
يمنح
الإنسان
الأمل ويهبه
الرجاء فإنه
يقف بوجه بعض
الأماني
الباطلة
ويمنع من
نموها، ذلك
أن الإنسان
تحده
الأماني،
حيث تموج في
أعماقه
الأماني
المحال، فقد
يتمنى أن تلك
الحادثة
التي وقعت له
فيما مضى لم
تقع أبداً أو
يتمنى
وقوعها على
نحو آخر، أو
يتمنى أن
تعود إليه
أيام الشباب
أو أنه كان
من أسرة فلان
أو من عائلة
الفلاني. إن هذه
الآمال
الوهمية
التي يعبر
عنها الدين
بأماني
الشيطان
تخدع
الإنسان
وتبدد عمره
وتجعله
هباءً
منثوراً،
فيستهلك
وقته وفكره
في الخيال. وهنا
ينسحب مثل
الشجرة
أيضاً. إذ
تبرز ضرورة
البستاني
الذي يرعاها
إذ لا يقتصر
عمله على
سقيها
وحمايتها من
الآفات فقط
بل يتعدى ذلك
إلى تشذيب
أغصانها إذ
يقطع ما يراه
زائداً من
أغصانها لكي
لا تستهلك
طاقتها في
نمو الأغصان
التي لا طائل
من ورائها. الإنسان
هو الآخر
يزخر
بالكثير من
الأماني
الباطلة
التي تستهلك
فكره وعمره
تماماً مثل
الأغصان
الزائدة
التي يعمد
البستاني
إلى التخلص
منها
والإبقاء
على الأغصان
المكتظة
بالثمار. ولهذا فإن
على الإنسان
أن يكافح
ويتخلص من
أمانيه
الباطلة ذلك
أنها مجرد
أوهام
شيطانية
فارغة. قال تعالى: (وما
يعدهم
الشيطان إلا
غرورا). [النساء: 119] قال
الإمام علي (ع)
لرجل سأله
موعظة: "لا
تكن ممن يرجو
الآخرة بغير
العمل ويرجو
التوبة بطول
الأمل، يقول
في الدنيا
بقول
الزاهدين
ويعمل فيها
بعمل
الراغبين،
إن أعطي منها
لم يشبع وإن
منع لم يقنع،
يعجز عن شكر
ما أوتي،
ويبتغي
الزيادة
فيما بقي،
وينهى ولا
ينتهي ويأمر
بما لا يأتي،
يحب
الصالحين
ولا يعمل
عملهم ويبغض
المذنبين
وهو أحدهم،
يكره الموت
لكثرة ذنوبه
ويقيم على ما
يكره الموت
من أجله، إن
سقم ظل
نادماً، وإن
صح أمن
لاهياً،
يعجب بنفسه
إذا عوفي
ويقنط إذا
ابتلي، إن
أصابه بلاء
دعا مضطراً
وإن ناله
رخاء أعرض
مغتراً،
تغلبه نفسه
على ما يظن
ولا يغلبها
على ما
يستيقن،
يخاف على
غيره بأدنى
من ذنبه
ويرجو لنفسه
بأكثر من
عمله، إن
استغنى بطر
وفتن وإن
افتقر قنط
ووهن، يقصر
إذا عمل
ويبالغ إذا
سأل، إن
أعرضت له
شهوة أسلف
المعصية
وسوف
التوبة، وإن
عرته محنة
انفرج عن
شرائط
الملة، يصف
العبرة ولا
يعتبر،
ويبالغ في
الموعظة ولا
يتعظ، فهو
بالقول
والغرم
مغنماً،
يخشى الموت
ولا يبادر
الفوت،
يستعظم من
معصية غيره
ما يستقل
أكثر منه في
نفسه،
ويستكثر من
طاعته ما
يحقره من
طاعة غيره،
فهو على
الناس طاعن
ولنفسه
مداهن،
اللهو مع
الأغنياء
أحب إليه من
الذكر مع
الفقراء،
يحكم على
غيره لنفسه
ولا يحكم
عليها
لغيره، يرشد
غيره ويغوي
نفسه، فهو
يطاع ويعصي،
ويستوفي ولا
يوفي، يخشى
الخلق في غير
ربه ولا يخشى
ربه في خلقه". لقد بين
الإمام علي (ع)
المسافة
التي تفصل
الخيال
والأماني مع
العمل
بعبارات
عميقة
تتغلغل في
طيات النفس
وتعرف
الإنسان ما
يعتمل في
باطنه من
أفكار؛ إذ
ينبغي على
الإنسان أن
لا تخدعه
الأماني
الطيبة، أي
لا يكتفي بها
معتبراً
نفسه
إنساناً
طيباً وأن
يبادر إلى
العمل
الصالح، فهو
وحده الذي
يجعله من
زمرة
الطيبين.
يقول القرآن
الكريم: (ليس
للإنسان إلا
ما سعى) ذلك أن
أساس سعادة
البشر هو في
العمل
والمثابرة،
العالم عالم
حركة ونشاط
فلا توجد
قطرة أو ذرة
دون عمل،
فالسحب
والرياح
والضباب
والشمس
والأفلاك
وكل شيء آخر
في هذا
الوجود هو في
حركة
ودوران،
والإنسان
شأنه شأن
الموجودات
الأخرى في
حالة حركة،
وإذن فعليه
أن يتحرك في
المدار
المنشود لكي
يصل إلى
سعادته. عادة ما
يكون
الأفراد
الذين
يمتازون
بالروح
العالية
والنشاط
الدائب أقل
ابتلاء من
غيرهم
بالأماني
البعيدة
والخيالات
الغارقة في
الأوهام،
ذلك أنهم
يفكرون
تفكيراً
عملياً
ومنطقياً
ويتمنون
أماني
معقولة تدور
في فلك
حياتهم، فلا
يحلقون
بأجنحة من
الخيال
والوهم؛ غير
أن الأفراد
الذين
يعانون من
أمراض نفسية
والمصابين
بالخمور
والمسلوبي
الهمة
والإرادة
يكتفون
بركوب سفن
الخيال التي
تبحر بهم
بعيداً في
عالم الوهم
حيث لا عمل
ولا نشاط،
وهذا ما عبر
عنه الدين
الحنيف بطول
الأمل الذي
يعاني منه
الكثير من
الناس إضافة
إلى
معاناتهم من
كثرة
التشكيك
والكلام
الذي لا طائل
من ورائه، من
غير أن يفكر
بالمبادرة
إلى إصلاح
نفسه
وإنقاذها من
مستنقع
الوهم. إن الإنسان
يتمتع بقدر
معين من
الطاقة
الفكرية
والطاقة
البدنية
التي ينبغي
توظيفها في
مجال معين،
فإذا ما صرف
طاقته
الفكرية
واستهلكها
في الخيال
والوهم
اضمحلت
وانتهت،
وإذا تحولت
إلى مجرد
كلام وتشكي
فلن يبقى
مجال
لاستهلاكها
في عمل مفيد.
ولهذا نرى
رجال الفكر
أكثر الناس
سلامة من مرض
الوهم وعلل
الخيال
وأقلهم
كلاماً
وتشكياً. [1]
نهج
البلاغة،
خطبة: 41 [2]
نهج
البلاغة،
خطبة: 124 [3]
بحار
الأنوار، ج41،
ص113 [4]
نهج
البلاغة،
خطبة: 200 [5]
نهج
البلاغة،
كتاب: 12 [6]
نهج
البلاغة،
وصية: 47 [7]
نهج
البلاغة،
وصية: 47 [8]
نهج
البلاغة،
خطبة: 183 [9]
نهج
البلاغة،
حكمة: 295 [10]
نهج
البلاغة،
حكمة: 212. [11]
نهج
البلاغة،
الوصية: 31
|
||||||||
|