.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست
 

الصبر والظفر

الاختيار ميزة الإنسان الكبرى

نعمة الكلام

دور العمل في هداية الإنسان

الروح الاجتماعية لدى المؤمن

رعاية الجوانب الأخلاقية في الإنفاق

الجدب الروحي والفكري

الفقر المعنوي

 

 

الصبر والظفر

قال أمير المؤمنين (ع): "لا يعدم الصبور الظفر وإن طال به الزمان". [نهج البلاغة، حكمة: 153]

الظفر والنجاح هو هدف وأمنية كل إنسان، حيث يسعى الجميع للبحث عن الطرق التي تؤدي إلى ذلك.

ومن البديهي أن يسعى المرء لنيل مراده ووصل محبوبه، فهو يعيش هاجس الوصال في قلبه دائماً، كما أن فكره مشغول بالبحث عن أنجع الوسائل لتحقيق ذلك الهدف الذي يرنو إليه، ويتساوى الجميع في هذه القاعدة ولكنهم يختلفون في تشخيص السبل، فالبعض بعيدون كل البعد عن الواقع فهم يعيشون في أرض الخيال ويحاولون حل القضايا بالوهم، فهم يعتقدون بأن النجاح هو مجرد حظ يصادف الإنسان، وأن كل امرئ يولد سعيداً أو شقياً، فمن كتبت له السعادة لن يستطيع أي شيء أن يسبب له الشقاء، ومن ولد شقياً لن يتمكن أي شيء من أن يسبب له أو يسوق له السعادة وأن لا أثر للعلم أو الإيمان ولا العمل ولا الأخلاق في ذلك، وأنها غير قادرة على جلب السعادة له، وأن الشقاء سيلازمه ملازمة الظل حتى لو سلك الصراط المستقيم.

إن هؤلاء يظنون أن لا شيء في العالم قادر على أن يسعد الشقي أو يشقي السعيد.

وللأسف فإن الكثير من الناس اليوم يعتقدون بذلك، ولكن أدنى تأمل في الواقع يقود إلى اكتشاف العلة والمعلول في الحوادث وما يدور في هذا العالم وأنه لا وجود لما يدعى بالحظ والنصيب وأن ذلك أمر خيالي من وحي الشيطان، فلا الدين يعترف بالحظ ولا منطق العقل.

إن الله لم يخلق الإنسان بذاته شقياً أو سعيداً، وإن بساط الحظ ليس من قبيل البياض بحيث لا يقبل السواد وليس من قبيل السواد بحيث لا يقبل البياض. إنه انعكاس لصفحة الروح والقلب وهما متغيران بحيث يمكن أن يكونا ناصعين كالثلج أو أسودين كظلام الليل.

فالعلم والمعرفة والإيمان والتقوى والاستمرار بالعمل الصالح يصقل الروح ويجعلها براقة كالنور، في زمن تسود فيه الخرافات والأساطير والفسق والفجور.

قال تعالى: (إن خلقنا الإنسان من نطفة امشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً). [الدهر: 2]

إن الإنسان مخلوق يحمل في أعماقه مختلف الاستعدادات إضافة إلى امتلاكه للحرية والاختيار، وعليه أن يكتشف طريق الحق ويميزها عن مسالك الباطل ومهاوي السقوط والانحراف.

إن بعض الناس وخلال بحثهم عن وسيلة النجاح والظفر والموفقية لا يتوهمون بعامل بعيد عن أرض الواقع فيعتمدون عليه، ومع ذلك فإنهم يضيعون بين العوامل الأخرى وينسون أنفسهم، فيما تمتد أعينهم طمعاً بالآخرين، ويعتمدون عليهم في جميع شؤونهم، يرغبون أن ترافقهم توصيات الآخرين بهم؛ ومثله كحكاية ذلك الشخص الذي رأى افعى نائمة فوق عتبة داره فقال: "يا للحسرة إذ لا يوجد رجل أو حصاة!". الشيء الذي لا يدخلونه في حسابهم هو شخصيتهم ولا يعتقدون بأن هذا المجتمع الذي هو في نظرهم مجتمع فاسد، ولا يحترم الكمال واللياقة والكفاءة بل يعتمد التوصيات التي يصدرها بعض الأشخاص حيث ترفع شأن البعض وتحطّ من شأن البعض الآخر، لا يعتقدون بأن هذا المجتمع يضم فريقين من الناس، فريق يرفع بوصاياه وفريق آخر يرتفع بتلك الوصايا. ومع ذلك فإن عدداً لا بأس به يتمتع بالاستقلال ويمتاز بالاعتماد على نفسه، وإذا كان الأمر كذلك فلماذا لا ينضوي الإنسان تحت لواء هذا الفريق الثالث؟ ولا يكون طفيلياً يعيش على موائد الآخرين.

إن الطريق الصحيح هو أن يعتمد الإنسان على نفسه وأن لا ينسى استعداده المخبوء في طوايا ذاته، وليعلم أن هذا العالم هو عالم الأسباب ومن الأفضل أن يعتمد الإنسان الأسباب التي تنطوي عليها نفسه.

لقد خلق الله الإنسان وجهزه بالأشياء التي تصنع شخصيته ومن ثم تؤهله لنيل السعادة.

إن من الأمور التي تعتبر شرطاً للنجاح والموفقية في الأعمال وخاصةً الأعمال الكبرى هو الصبر والتحمل، وبغير ذلك لا يمكن للإنسان أن يستمر في العمل المناسب له والذي يتوافق مع استعداداته وقابلياته، فيدع عمله في منتصف الطريق منتقلاً من عمل إلى عمل دون أن يصل إلى نتيجة.

إننا نرى الكثير من الأفراد الذين يمتازون بالنبوغ في مجالات عديدة لا يحققون شيئاً بسبب نفاد صبرهم وتنقلهم هنا وهناك، في حين نرى أشخاصاً متخلفين عنهم في الذكاء والاستعداد ـ مثلاً: كانوا ينالون في المدرسة أنصاف درجاتهم ـ ولكنهم بمثابرتهم وصبرهم وتحملهم تقدموا وشقوا طريق رقيهم حتى نالوا إعجاب الجميع.

عندما نسمع أو نرى أحداً يخترع شيئاً مهماً فإن أول شيء يخطر في بالنا هو ان نقول يا له من نابغة ويا له من عقل عجيب، وكأن الأمر في تصور البعض كان حصيلة جهد عدة ساعات أو عدة أيام، غافلين عن أهم شيء في ذلك وهو المثابرة والصبر، فقد ينفق أحدهم ثلاثين عاماً من حياته في الصحارى والرمال لكي يتوصل إلى اكتشاف أثري هام.

لا يمكن الجزم بأن المخترعين والمكتشفين يعتبرون من نوابغ عصرهم، ذلك أنه قد يوجد من هو أنبغ منهم ولكنه يفتقد ميزة الصبر.

إن الصبر هو رفيق النجاح منذ القدم، وكما يقول المثل: من صبر ظفر. إن الصبر وحده كفيل بأن يوصل الإنسان إلى تحقيق هدفه حتى ولو إلى حين وكما قال الإمام علي (ع):

"لا يعدم الصبور الظفر وإن طال به الزمان".  

الاختيار ميزة الإنسان الكبرى

يقول الحكماء والفلاسفة إن الإنسان حيوان اجتماعي، وهذه الكلمة ليست بسيطة بل إنها تنطوي على عالم زاخر بالمعاني، ومعنى ذلك لا ينحصر في رفقة سفر أو جلسة سمر بل يمتد ليشمل كل نواحي الحياة وفي تحمل الأعباء، ولهذا تسنّ القوانين وتنظم المعلومات والصناعات والفنون والأخلاق الاجتماعية وتبذل المحاولات لإرساء العدالة والإنصاف والتضامن.

يقوم البناء بوضع الحجر فوق بعضه ثم يستخدم الطين كملاط ويستفيد من الحديد كمساند فينهض البناء ويمسك بعضه بعضاً في نوع من التعاون، فهل إن التعاون بين أفراد النوع البشري بهذا المستوى من البساطة؟ أوعلى مستوى أرقى من ذلك، فإن بعض الحيوانات كالنحل وبعض الحيوانات المفترسة تعيش على شكل جماعات وقد قسمت الأعمال فيما بينها بشكل يدعو إلى الحيرة والإعجاب، حتى أن بعضها ليفوق الإنسان دقة ونظاماً، ومع كل هذا فإن حياة الإنسان أرقى بكثير بل لا يمكن مقارنتها بحياة تلك الحيوانات. لماذا؟ الجواب أن كل ذلك النظام الذي يسير حياة الحيوان إنما ينبع من الغريزة، فكل ما تقوم به الحيوانات من وظائف وأنشطة هو من وحي الغريزة تماماً، كما هو الحال في أعضاء البدن كحركة الدم أو خفقان القلب؛ فهناك نوع من الجبر والتسيير الصارم الذي لا يقبل المعارضة؛ أما الإنسان فإنه يمتاز بالحرية والاختيار، ولذا يتوجب توزيع الأعمال بين الأفراد ولكن عن طريق الانتخاب والتشخيص وسيادة نوع من النظام في ذلك. وهنا يكمن الفرق الكبير بين الإنسان والحيوان، ذلك أن الإنسان يواجه طريقين أو يقف على مفترق طريقين حيث يتوجب انتخاب أحدهما أما الحيوانات الاجتماعية من قبيل النمل والنحل فإنها لا تمتلك ولا تعرف سوى طريق واحد وهو الغريزة.

قال تعالى: (ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين). [البلد: 8 ـ 10] والنجدان هنا يعبران عن طريقي الحق والباطل، طريق يأخذ به نحو قمة الجبل، وطريق ينحدر به نحو الهاوية (إنا خلقنا الإنسان من نطفة امشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً. إنا هديناه السبيل إما شاكراً وأما كفوراً). [الدهر: 2 ـ 3]

وهذا هو امتياز الإنسان على غيره، وعلى هذا ينهض القانون والأخلاق، ومن هنا تنطلق رسالات الأنبياء وكتب السماء لتوضيح الأمر ووضع الحقيقة أمام الإنسان كما تصرح بذلك سورة الحج المباركة حيث تبين عواقب ونتائج كلا الاختيارين.

إن الهدف من وراء بعثة الأنبياء وإنزال كتب السماء هو إقرار التوازن في المجتمع البشري وإرساء قواعد العدالة فيه، ذلك أن الحرية التي يتمتع بها الإنسان قد أنتجت كما هائلاً من القوانين والآداب والسنن المتناقضة جعلت الإنسان بحاجة إلى توجيه وإرشاد.

ولو كان الإنسان كسائر الحيوانات الأخرى يسير وفق ما تمليه غريزته، ويستجيب لوحيها كدقات القلب وحركة الدم وإيعاز العصب وكما تقوم به الأنسجة والعظام من وظائف، لما احتاج المجتمع البشري إلى قوانين تنظم حياته ولما ترتب على عمله ثواب ولا عقاب ولما كان مورداً للخطاب.

إن هذه الحاجات إنما نجمت عن الحرية والاختيار اللذين يمتاز بهما الإنسان، وهذه الحرية هي التي رفعته فوق مصاف الملائكة، ذلك أن الملائكة لا يتمتعون بهذا الامتياز ولا يعرفون سوى طريق واحد فقط هو العبادة والطاعة.

أما الإنسان فهو وحده الذي يمكنه أن يحلق في سماء الكمال حيث الملأ الأعلى ويمكنه أن ينحط إلى أسفل سافلين حيث الاستغراق في المادة. وكل هذا يتوقف على إرادته وتصميمه في الاختيار أو الانتخاب.

 

نعمة الكلام

إن كل نعمة إلهية مهما كان حجمها تستوجب الشكر لله، ومعنى الشكر هنا هو ليس كما يقوم به بعض المتملقين من التلاعب بالألفاظ، إذ ينبغي أن يكون في داخل القلب إحساس بالشكر والامتنان، هذا أولاً، وثانياً أن لا يكون هذا الشكر متوجهاً للذات الإلهية المقدسة وهو الله الصمد الذي لا يحتاج إلى أحد ويحتاج إليه كل أحد، فلا الشكر باللسان ولا اللامتنان في القلب يمكنه أن يقدم شيئاً لله سبحانه وتعالى.

إن شكر النعمة في الواقع هو أن نعرف واجبنا تجاهها، ومن ثم أداءنا لذلك الواجب. إن واجبنا تجاه كل نعمة من نعم الخالق لا يدعونا للاستفادة من تلك النعمة بالشكل المعقول والمناسب في إطار "التكليف" وتحت عنوان "أداء الواجب".

فاللسان والقدرة على الكلام واحدة من نعم الله الكبرى التي وهبها للإنسان، حتى أن الفلاسفة اعتبروا أن ميزة الإنسان الوحيدة عن الحيوان هي القدرة على البيان والكلام إذ يعتبر ذلك مظهراً من مظاهر الإدراك وممثلاً عن الفكر والعقل.

يقول القرآن الكريم: (الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان). [الرحمن: 1ـ 4]

وعلى أساس هذا تمكن الإنسان من إبراز ما يختلج في باطنه من معانٍ ونقلها للآخرين وللأجيال، ولولا ذلك لما أمكن الإنسان أن يحيى حياته الاجتماعية.

إن هذه النعمة تستوجب الشكر؛ الشكر الذي يتجلى في استخدام اللسان في التعبير عن الحق والحقيقة وتجنب الكذب والغيبة والنميمة.

لقد خلق الله الإنسان ليكون داعياً إلى الحق وهادياً إلى الصراط المستقيم، لا وسيلة للخداع والضلال والضياع والنفاق.

يقول الإمام علي (ع): إن من عزائم الله في الذكر الحكيم، التي عليها يثيب ويعاقب ولها يرضى ويسخط أنه لا ينفع عبداً ـ وإن أجهد نفسه وأخلص فعله ـ أن يخرج من الدنيا لاقياً ربه فيما افترض عليه من عبادته أو يشفي غيظه بهلاك نفس أو يَعُرّ بأمر فعله غيره، أو يستنجح حاجة الناس بإظهار بدعة في دينه أو يلقى الناس بوجهين أو يمشي فيهم بلسانين.

وفي مناسبة أخرى يقول (ع): "ولقد قال لي رسول الله (ص) أني لا أخاف على أمتي مؤمناً ولا مشركاً، أما المؤمن فيمنعه الله بإيمانه، وأما المشرك فيقمعه الله بشركه، ولكني أخاف عليكم كل منافق الجنان، على اللسان، يقول ما تعرفون ويفعل ما تنكرون".

ظاهره حمل وديع وباطنه ذئب كاسر. إن هذا الإنسان الذي هو نعمة من نعم الله يمكنه أن يكون أكبر الكبائر عندما يكون وسيلة للكذب والنفاق والبهتان والغيبة وغير ذلك.

كما يقول (ع) في دعاء له: اللهم اغفر لي ما أنت أعلم به مني، فإن عدت فعد علي بالمغفرة. اللهم اغفر لي ما رأيت من نفسي ولم تجد له وفاءً عندي. اللهم اغفر لي ما تقربت به إليك بلساني ثم خالفه قلبي. اللهم اغفر لي رمزات الألحاظ وسقطات الألفاظ وشهوات الجنان وهفوات اللسان.

 

دور العمل في هداية الإنسان

جاء في الحديث الشريف: "كونوا دعاة بغير ألسنتكم".

بالرغم من امتلاك الإنسان لملكة الفكر واستقلاله في التفكير إلا أنه يقع تحت تأثير الآخرين بشكل أو بآخر.

عندما نريد أن نسوق قطيعاً من الخراف من هذا الجانب إلى الجانب الآخر من الطريق فإننا سنواجه مصاعب في البداية ذلك أن أياً منها لا يملك الاستعداد لعبور الطريق وحده، إذ ينبغي سوق واحدة أو أكثر من تلك الخراف وإرغامها على عبور الطريق وبهذا يندفع القطيع نحوها.

إن هذه الظاهر التي نشاهدها في الخراف نلاحظها في سلوكنا نحن البشر، حيث نرى القسم الأعظم من أعمالنا وحركاتنا وعاداتنا تنشأ عن التقليد واتباع الآخرين دون الالتفات إلى نوع العمل، خيراً كان أم شراً؛ ولهذا يقطف الرائد لفعل الخير ثوابه وثواب من سار عليه، ويحصد الرائد لفعل الشر جزاءه وجزاء من سار عليه.

وما دامت هذه الظاهرة موجودة في حياة المجتمع فما أحرى بأولئك الذين يرغبون بفعل الخيرات أن يستفيدوا منها ويكونوا أسوة وقدوة لغيرهم فيعبدون طريق الخير والصلاح أمام الناس ويكونوا هداة وأدلاء لهم.

هناك طريقان لهداية البشر، الأول: طريق التحدث إليهم أو الكتابة لهم والطريق الآخر هو الريادة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تنافس الخطابة أو الكتابة الريادة في عمل الخير تأثيراً في الناس. وقد قال العظماء: "مئات المقالات لا تساوي نصف عمل".

إن الفرق بين الفلاسفة والأنبياء في هذا المجال أن الفلاسفة يتحركون ضمن إطار الحديث والكلام والنظريات فقط، أما الأنبياء فهم وقبل أن يقولوا شيئاً فإنهم يجسدونه في أعمالهم، وبهذا ينفدون إلى قلوب الناس ويمتلكون عواطفهم. فالكلام لا يمكنه أن يتعدى في التأثير الآذان، ولكن العمل أمواج تتردد في أعماق الروح وتنعكس في طوايا القلب.

إن الحديث الذي يرافقه إيمان واعتقاد لابد وأن يفعل فعله في الروح ومن ثم يترك أثره على الجوارح فيتجسد على شكل عمل. لقد كان الأولياء يدعون الناس إلى الله بأعمالهم لا بكلامهم فقط.

من السهل جداً أن نتحدث عن الحق والعدالة والكرم والتقوى والتسامح والحرية والفداء وان نستغرق في وصفها والتعمق في بحثها ولكن من الصعب جداً أن نجد ذلك مجسداً في أمثلة حية؛ أن نجد إنساناً عادلاً أو حراً أو متسامحاً أو مضحياً: وقلما نجد من يتأثر لحديث أو مقالة ولكن الإنسان ليركع أمام من يجسد قيمة من تلك القيم التي يتعاطف معها، وهذا هو السر في بقاء تعاليم الفلاسفة والحكماء محصورة بين طيات الكتب في حين تدوي تعاليم الأنبياء في الخافقين ولا زلنا نشهد بأم أعيننا آثار النبوات بالرغم من تعاقب العصور.

إن الحديث وحده والكلام لا يمكنه أن يفعل ذلك أبداً وإن أمواج الكلام محدودة المدى والأثر.

يقول أمير المؤمنين علي (ع): "الحق أوسع الأشياء في التواصف وأضيقها في التناصف".

فالحديث عن الأمانة والصدق والاستقامة والبحث في ذلك من أيسر الأمور وأسهلها ولكن العمل بها هو من أصعب الأمور، ذلك أنها تضع على المحك.

يقول (ع): "إني لا أحثكم على طاعة إلا وسبقتكم إليها ولا أنهاكم عن معصية إلا وأتناهى قبلكم عنها".

ويقول أيضاً: "من نصب نفسه إماماً للناس فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه، ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم".

 

الروح الاجتماعية لدى المؤمن

سأل رسول الله (ص) أصحابه: أي عرى الإسلام أوثق؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، وقال بعضهم: الصلاة، وقال بعضهم: الزكاة، وقال بعضهم: الصيام، وقال بعضهم: الحج والعمرة، وقال بعضهم الجهاد، فقال رسول الله (ص): لكل ما قلتم فضل وليس به، ولكن أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله وتوالي أولياء الله والتبري من أعداء الله[1].

من الممكن أن يؤدي الإنسان فريضة الصلاة كشكل من أشكال العادة وهكذا بالنسبة للصيام أو الزكاة أو الحج، وقد تدفعه روحه الحماسية إلى الجهاد فيجاهد، ولكن المحك الحقيقي لجوهر الإنسان إنما يمتحن في ولائه وعدائه ومدى انطلاقهما وبواعثهما وهل هما ناجمان عن الحب في الله أو البغض فيه إذ لا يمكنهما أن يكونا عادة من العادات.

وقد ورد في الأخبار والروايات أن أقل حقوق المؤمن أن تحب له ما تحب لنفسك وتكره له ما تكره لها، أي أن تضع نفسك مكانه فتتمنى له ما تتمنى لنفسك فإن كان طبيباً وراجعه مريض شعر الطبيب بأنه هو المريض فيقوم بعلاجه ومداواته كما لو أنه يداوي نفسه ويعالج جسمه، أو كان يعمل في مؤسسة فيعامل المراجعين كما أنه واحد منهم، ينجز معاملاتهم ويلبي حاجاتهم ويسرع في ذلك متصوراً أن المراجع هو نفسه أو أخ له أو أب أو ابن فلا يثور في وجوههم ولا يؤخر أعمالهم ولا يغشهم، وإذا كان يعمل في مصنع ينتج ألبسة أو أطعمة للناس تصور أنه سوف يحملها إلى منزله، فيجهد نفسه في إنتاجها ودقة صنعها.

يقول رسول الله (ص): "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".

إن الجسم يعيش حالة من التضامن بين أعضائه، أما الجماد أو الميت فلا يعيش مثل هذه الحالة. والمجتمع بدوره يعيش نفس هذه الظاهرة فإن كان هناك نوع من التضامن والتكافل بين أفراده كان مجتمعاً حياً تنبض في أعماقه الروح الاجتماعية بالمحبة والتآلف وإلا فهو مجتمع ميت.

أصاب المدينة المنورة قحط شديد فأرسل الإمام الصادق وراء غلام له يقال له معتب وسأله وقد زاد السعر بالمدينة: كم عندنا من طعام، فقال معتب: عندنا ما يكفينا شهوراً كثيرة. فقال الإمام: أخرجه إلى الناس وبعه. فقال معتب متعجباً: وليس بالمدينة طعام!! فكرر الإمام أمره قائلاً: بعه. فلما باعه معتب قال الإمام الصادق (ع): اشتر مع الناس يوماً بيوم. ثم قال: اجعل قوت عيالي نصفاً شعيراً ونصفاً حنطة فإن الله يعلم أني واجد أن أطعمهم الحنطة على وجهها ولكني أحب أن يراني قد أحسنت تقدير المعيشة[2].

وهذا هو معنى الروح الاجتماعية التي تحيى بها المجتمعات الإنسانية عندما تربط أفرادها روح المحبة والتضامن والأخاء تماماً كما قال الإمام الصادق: فإن الله يعلم أني واجد أن أطعمهم الحنطة على وجهها ولكني أحب أن يراني قد أحسنت تقدير المعيشة.

أسأله تعالى التوفيق في ذلك وأن يستلهم مجتمعنا تلك القيم السماوية السامية وأن تشيع فيه الروح الاجتماعية.

 

رعاية الجوانب الأخلاقية في الانفاق

ورد في التاريخ أن أمير المؤمنين (ع) بعث إلى رجل بخمسة أوساق من تمر، فقال رجل لأمير المؤمنين: لا كثر الله ضربك أعطي أنا وتبخل أنت!!

إذ ليس من السخاء أن يسألك أحد فتعطيه لأنه إذا سألك فقد أعطاك ماء وجهه. السخاء أن يجود المرء بماله دون سؤال أي يجنب المحتاج ذل السؤال.

إن من يبخل على إخوانه المحتاجين ثم يقول في صلاته: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات فهو كذاب، ذلك أن من يبخل على أخيه بالدينار والدرهم كيف يسخو عليه بالجنة والمغفرة.

تتحدث سورة البقرة عن الإنفاق في العديد من الآيات حيث يولي القرآن الكريم أهمية بالغة لرعاية الجوانب الأخلاقية في الإنفاق، فقد تَكون في غياب ذلك أضرار كثيرة تذهب بالفوائد المرجوة من وراء الإنفاق.

أما الجوانب الروحية والأخلاقية التي ينبغي رعايتها فبعضها يتعلق بشخص المنفق وبعضها يرتبط بالفقراء والمحتاجين ممن ألجأتهم الضرورة إلى أن يمدوا أيديهم لطلب الغوث والمساعدة. فيما يتعلق بالمنفق أن يكون إنفاقه خالياً من الرياء وأن يكون عمله تعاطفاً خالصاً مع المنكوبين والمحتاجين ونابعاً من الإيمان والضمير ومصداقاً للحديث الشريف: مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى.

إن العمل الذي ينبعث من وراء الرياء تكون أضراره أكثر من فوائده، كما ان القرآن الكريم كثيراً ما يقرن الإنفاق بالهدف وهو أن يكون في سبيل الله، أن يكون الإنفاق من أجل رضا الله لا من أجل الجاه أو الاستجابة لبعض الأهواء النفسية؛ هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ينبغي على المنفق أن لا يسحق الطرف الآخر نفسياً وروحياً. قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس). [البقرة: 264]

لقد كان أئمتنا الأطهار ينفقون أموالهم سراً لكي يصونوا المحتاجين والمساكين وأهل العوز من شعورهم بالذلة والمهانة. وهكذا تكون آثار تلك الأعمال مضاعفة؛ قال تعالى: (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم). [البقرة: 261]

 

الجدب الروحي والفكري

في السنة العاشرة من الهجرة أي قبل رحيل الرسول بعام واحد توجه الإمام علي (ع) نحو اليمن مع بعض الصحابة، وذلك بأمر من الرسول (ص) بعد أن دخل الناس في دين الله أفواجاً وبرزت الحاجة إلى من يعلمهم أحكام الدين وتعاليم الإسلام ومحو ما تبقى من آثار الوثنية في نفوسهم وقلوبهم. وقد قال النبي (ص) لعلي فيما أوصاه به: "لأن يهدي الله بك أحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس".

قال تعالى في أول سورة البقرة: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون). [البقرة: 2 ـ 3]

والمراد من الإنفاق في بعض ما ورد من الروايات إنفاق العلم ونشره بين الناس، وهناك أحاديث تعبر عن هذا المعنى أو تشير إليه من قبيل أن نشر العلم أفضل من إنفاق المال، وأنه لا هدية أغلى من أن يتحف المرء صديقه بحكمة يرشده بها إلى غير ذلك من الأحاديث والروايات التي تعكس مدى اهتمام الدين بهذا الجانب، ذلك أن الإسلام يرى الجدب أو الفقر الروحي والفكري أسوأ من الفقر الاقتصادي.

فالعوز المالي يمكن جبرانه وعلاجه ولكن الفقر الروحي يؤدي بالإنسان إلى الشقاء حتى لو كان غنياً.

ونحن هنا لا نحاول أن نحمد الفقر والعوز، بل نؤكد على أن الفقر لا ينحصر بالجانب الاقتصادي فقط، إذ إن هناك ما هو أخطر من ذلك وهو الفقر في الفكر والروح.

ولعل اهتمام الإنسان في هذا الجانب من الفقر يعود إلى معاناته والآلام التي تنجم عن العوز المادي خلافاً للفقر الروحي والمعنوي الذي لا يمكن الشعور به من قبل الإنسان الفقير في هذا الجانب، بل إن الآخرين ـ خاصة أولئك الذين يتمتعون بالثراء الروحي والفكري ـ هم الذين يدركون مدى فقر الإنسان في هذه الناحية.

ولذا نرى الأنبياء ومن سار على خطاهم منذ فجر التاريخ يؤكدون على رفع العوز الروحي والمعنوي، ذلك أن الفقر الاقتصادي أمر يدركه الناس كافة ولا يحتاج إلى من ينبههم إليه.

قال تعالى وهو يعدد النعم التي انعم لها على نبينا الأكرم (ص): (ألم يجدك يتيماً فآوى ووجدك ضالاً فهدى ووجدك عائلاً فأغنى فأما اليتيم فلا تقهر. وأما السائل فلا تنهر وأما بنعمة ربك فحدث). [الضحى: 6 ـ 11]

ويقول الإمام علي (ع): "إن للجسم ستة أحوال: الصحة، والمرض، والموت، والحياة، والنوم، واليقظة. وكذلك الروح فحياتها علمها، وموتها جهلها، ومرضها شكها، وصحتها يقينها، ونومها غفلتها، ويقظتها حفظها[3]".

وكل امرئ لا يحسن إلى غيره يكون له نوع من السيادة حيث يشعر الطرف الآخر بأنه قد تفضل عليه فيكون له حق الاتباع والاحترام فكيف إذا كان الإحسان علماً وهداية وإرشاداً؟! يقول الإمام (ع): من علمني حرفاً صيرني عبداً.

لقد كان السيد الرضي العالم الكبير الذي جمع نهج البلاغة مشهوراً بعزة النفس وقد عرف عنه رفضه الهدية من أي كان حتى أنه رفض هدية قدمها له والده! فصادف أن أحد أساتذته قدم له كتاباً هدية فرفض قبول ذلك قائلاً: إني لا اقبل هدية حتى من أبي، فقال الأستاذ: ولكن مقام المعلم أعلى من مقام الوالد. وأمام هذا المنطق والدليل القوي رضخ الشريف الرضي وأخذ الهدية.

إن العلم في ذاته شرف وتعلمه عبادة وطاعة، ونشره أسمى من العبادة وإن حق المعلم والمرشد أعلى وأسمى بكثير من كل ذلك.

 

الفقر المعنوي

في حديث للإمام الحسن (ع): "عجبت لمن يتدبر أمر دنياه ولا يتدبر أمر دينه".

إن الإنسان ليهرب من الفقر والعوز، فإذا شعر أن هناك نقصاً أو عوزاً في زاوية من زوايا حياته سارع إلى رفع ذلك العوز وسد ذلك النقص، فالفقر والعوز المادي واضح وملموس سهل الإدراك ولكن العوز الروحي والفقر الفكري على العكس من ذلك تماماً.

فالافتقار إلى المال مثلاً أمر يدركه ويلمسه الجميع ولهذا يحاول المرء ويسعى لمواجهة الفقر وقد يصل الأمر بالإنسان إلى الإسراف والإفراط في ذلك فيصاب بالحرص والطمع مما يترك آثاراً سلبية على المجتمع. كما أن الفقر يؤثر بشكل أو بآخر على مركز الإنسان الاجتماعي ولهذا فهو يسارع إلى تعزيزه وضعه من خلال ذلك، وهذا الأمر ينسحب على مظهر الإنسان الخارجي أيضاً..

ولكن الإحساس بالفقر الروحي والافتقار إلى الأدب في المعاشرة والتربية في السلوك أدنى بكثير، فالإنسان الذي يعاني من فقدان الأدب والأخلاق الإنسانية والتربية الاجتماعية الصحيحة لا يدرك ذلك خاصة إذا كان ذلك مترسخاً في أعماق روحه، وبعبارة أخرى إذا كان ذلك قد أصبح لديه ملكة من الملكات. وإن كان ذلك الطراز من الأخلاق شائعاً في المجتمع فإن الأمر هنا ينقلب إلى استحسان ودفاع.

كذلك الإنسان الفقير علمياً وفكرياً فإنه لا يدرك جهله أبداً، والسبب كما قلنا يعود إلى أن الإنسان يهتم بطعامه وشرابه في حين يهمل جانب الفكر والعلم وهذا منتهى الجهل.

إن أول العلم هو الإحساس والشعور بالفقر في هذه الناحية أي أن يحس الإنسان بالعوز العلمي فيسارع إلى رفع ذلك العوز، وكلما تقدم في العلم شعر بالجهل أكثر، حتى إذا اصبح حكيماً أو فيلسوفاً إذا به يقول: لقد أنفقت عمري في طلب العلم ليل نهار فعلمت أخيراً بأني لا أعلم أبداً.

ولعل من أعظم الأشياء المؤثرة في حياة الإنسان والتي تعود عليه بالنفع الكبير هو الإحساس بالفقر العلمي والشعور بالجهل لأن ذلك يؤجج في روح الإنسان حالة التعطش في طلب العلم، كما يؤجج الحرص جذوة الاندفاع في طلب المال والثراء.

لقد سجل التاريخ حكايات عجيبة عن بعض الناس الذين اشتهروا بالحرص والطمع وكانت مواقفهم تبعث على الحيرة في ذلك، ونظير هذه الحكايات نجد أعجب منها لدى أولئك الذين تأججت في نفوسهم جذوة طلب العلم؛ فهذا أبو ريحان البيروني العالم الرياضي والفيلسوف الكبير نراه وهو على فراش الموت يعيش لحظات عمره الأخيرة إذا به ينتهز وجود أحد الفقهاء الذين حضروا لعيادته فيثير مسألة فقهية بالرغم من وضعه الصحي المتدهور. وإذا بالفقيه يقول متعجباً: وهل هذا وقت للسؤال والبحث العلمي؟! ولكن البيروني يجيبه قائلاً: أن أعرف جواب هذه المسألة ثم أموت أفضل من أن أموت وأنا جاهل بها.

إن العلم والفكر هما غذاء الروح وإن على الإنسان الذي يفكر بتأمين طعامه وشرابه أن يفكر أيضاً بغذاء يشبع روحه، فهذا الاهتمام في جانب الجسم ينبغي أن يقابله اهتمام في جانب الروح حتى أن أحدهم يتساءل: لماذا لا يمد الناس أيديهم إلى الطعام في الظلام حتى يحضروا سراجاً يعينهم على تمييز ما يدخل إلى جوفهم، ولكنهم إذا جلسوا إلى مائدة الفكر لم يفكروا بسراج العقل ليبصروا ما يدخل رؤوسهم؟!

فكما أن الغذاء بعضه ينفع البدن وبعضه يضر، بعضه منشط وبعضه يبعث على الضعف، كذلك الفكر يختلف في قيمته العلمية ويتفاوت في مستواه، بعضه يقوي الروح وبعضه يضعفها، بعضه يبعث الأمل في النفس والآخ يبعث على اليأس والقنوط، بعضه شفاء وبعضه داء.

فالتعاليم الدينية ـ مثلاً ـ تبعث الأمل في النفوس وتجعل للحياة قيمة سامية وتدفع الإنسان إلى التفكير في مصير الآخرين، في حين أن هناك تعاليم تبعث اليأس في النفس وتشوه معنى الحياة في الروح باعتبار ان الوجود الإنساني هو مجرد عبث وأن الحياة لا معنى لها أبداً، وبالتالي تصنع إنساناً متشائماً ينظر إلى الحياة من وراء منظار أسود.

إننا نقرأ الحوادث اليومية التي تطالعنا بها الصحف، فنجد أخباراً مروعة عن انتحار بعض الشبان أو بعض حوادث القتل، وعندما نتمعن في حيثيات تلك القضايا نجد بعضها يعود إلى ملل من الحياة وشعور باليأس والقنوط، ولو بحثنا في جذور ذلك لوجدنا أن هناك بعض الكتب التي تتضمن أفكاراً خطرة تكرس اليأس في حياة الإنسان قد سممت أفكارهم ودفعتهم في طريق اليأس والجريمة والانحراف بعد أن قتلت في نفوسهم الأمل ودمرت في أرواحهم التفاؤل.

فلو أن أحداً تناول مرطبات مسمومة مثلاً لظهرت أعراض السم بعد لحظات أو ساعات، ولنقل فوراً إلى المستشفى لعلاج حالة التسمم هذه ولتعرض بائع المرطبات إلى ملاحقة القانون، ولكن الكثير يطالع الكتب المملوءة بالسموم الفكرية التي تشل الروح وتسممها دون أن ينبههم إلى ذلك أحد ودون أن يتدخل مسؤول لإيقاف خطر كهذا.

فمن يبيع أغذية مسمومة يتعرض إلى ملاحقة القانون لإيقافه عند حده، أما أولئك الذين يبيعون أفكاراً مسمومة خطرة تدمر العقل وتنشر السم في أعماق الروح فهم في منأىً من ذلك؛ وإنه لأمر عجيب حقاً! والأعجب من ذلك أن بعض تلك الأفكار المسمومة تختبئ وراء واجهة دينية أو تتخذ لها صبغة مذهبية، وفي هذا ما يضاعف خطرها مئات المرات.

إن تاريخنا ليزخر بالكثير من الأفكار المسمومة التي اتخذت لها أشكالاً دينية وأصبحت متداولة في أسواق الفكر دون أن ينتبه إلى زيفها أحد، فهل هناك من يصدق أن ما نراه اليوم من خمول وجمود وكسل هو نتاج تلك الأفكار؟!

لابد وأنكم سمعتم بأن القانون الإسلامي يحرم نشر وبيع ومطالعة كتب الضلال، وقد يبدو هذا الأمر عجيباً في نظر البعض، ولكن أليس هناك من تتسمم روحه بمثل هذه الكتب، وإذا كان البعض يعتبر ذلك منافاة للحرية فإن القليل من التأمل سيجعلهم لا يعتبرون ذلك الإجراء معقولاً فحسب بل وضرورياً.

إن كتب الضلال يعني تلك الكتب المنحرفة، وإذا كان هناك من يتساءل عن المقياس في ذلك، فالجواب هو من خلال الآثار التي يتركها الكتاب في روح القارئ، تماماً كما يترك الطعام أثره في الجسم، فالغذاء الفاسد يسبب انحرافاً في صحة الجسم، وكذا الفكر الفاسد يسبب هو الآخر انحرافاً في سلامة الروح. فالكتب التي تستهدف القضاء على العفة والخلق والإيمان هي كتب ضلال وانحراف، وهذا الأمر ينسحب على المحاضرة والفيلم، فهناك أحاديث مسمومة وهناك أفلام ضالة، وعلى المرء أن يتفحص في كل ذلك كما هو الحال في تخير الأطعمة المناسبة لجسمه وبدنه.

وعلى المسؤولين الالتفات إلى هذه المسألة وأن لا يحصروا اهتمامهم في صحة البدن، بل أن يهتموا ـ أيضاً ـ بصحة العقول وسلامة الأرواح. إن هذه المسؤولية هي في أعناق الجميع لأن المسلم أخو المسلم، وكل مسلم مسؤول عن مصير وسعادة أخيه، مسؤول عن مراقبة الأفكار التي ترد عقله وروحه.



[1]   بحار الأنوار، ج69، ص343

[2]   بحار الأنوار، ج47، ص59

[3]   بحار الأنوار، ج61، ص40

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست