.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست
 

مقدمة

معرفة الله أساس إنساني

معرفة الله أساس الدين

الدين سند السعادة

العبيد والأحرار

ذكر الله وحده الذي يهب الروح السلام

 

 

المواعظ والحكم

مقدمة

  الكتاب الذي بين يديك عزيزي القارئ مجموعة مقالات وأحاديث للأستاذ الشهيد مرتضى مطهري في فترة زمنية تبلغ اثنتي عشر عاماً ويوضح أغلبها نظم وقوانين وثقافة الإسلام؛ ويمكن تشبيه هذا الكتاب بكتاب "عشرون مقالة" من جهة، وبكتاب "قصص الأبرار" من جهة أخرى، وكلاهما من آثار الشهيد رضوان الله عليه.

لم تكن هذه المقالات في حوزة "مجلس الاشراف" ولكنها كانت في أرشيف إحدى المؤسسات الثقافية. وننتهز هذه الفرصة لنعرب عن تقديرنا للأستاذ حميد خزائي الذي كان له دور في المحافظة عليها.

عنوان الكتاب، وكذلك ترتيب المقالات وتنقيحها تم بإشراف أحد الأساتذة المختصين حيث جهد على أن تكون المقالات مرتبة ترتيباً تبرز فيه وحدة الموضوع.

يعكس الكتاب ثقافة الإسلام الأصيلة والمفاهيم السامية للدين الإسلامي الحنيف. نأمل من العلي القدير أن يحقق هذا الأثر النفيس ـ شأنه شأن بقية آثار الشهيد ـ أهدافه في إرشاد الأمة الإسلامية، والإنسانية جمعاء.

 

معرفة الله أساس إنساني

يقول أمير المؤمنين علي (ع): "أول الدين معرفته".

لو شبهنا الدين ببناء يتألف من جدران وباب وسقف ونوافذ وقواعد ينهض عليها البناء فإن قواعد جميع الأفكار والعقائد والأخلاق الدينية هي معرفة الله؛ ولو شبهنا الدين بكتاب علمي يضم أبواباً وفصولاًَ وقضايا متنوعة وأفكاراً يقوم عليها أصل الكتاب فإن معرفة الله سبحانه هي الأساس الأول في ذلك.

إذا أردنا مثلاً أن نخزن مقداراً من مواد البناء فليس مهماً ترتيب خزنها، أو أدرنا أن نؤلف كتاباً متنوعاً يضم مقالات مختلفة فليس مهما ترتيب مقالاته أو تسلسلها، ذلك أنه كتاب متنوع في مواضيعه. وحتى مطالعة مثل هكذا كتاب لا يلزمنا أن نبدأ بالموضوع الأول أو بالصفحة الأولى إذ يمكننا أن نبدأ من منتصف الكتاب أو من آخره، أما إذا أردنا أن نقيم بناءً معيناً فإن الأمر هنا يختلف تماماً فالتسلسل والدقة والحساب أمر مطلوب، وكذلك لو أردنا أن نؤلف كتاباً علمياً أو أردنا مطالعته فإن أول شيء نفعله هو مواكبة الكتاب من بدايته وحسب ترتيب مواضيعه.

فالتدين المنطقي والسليم يلزم المرء أن يشرع من البداية من الأسس ألا وهي التوحيد ومعرفة الله، فإذا لم يثبت هذان الأصلان في أعماق الروح وطيات القلب فإن سائر الأجزاء ستبقى دونما أساس متين.

فعندما صدع الرسول الأعظم بدعوته وبشر برسالته هل قال صلوا أو صوموا؟ وهل قال صِلوا أرحامكم، ولا يظلم بعضكم بعضاًَ، وهل دعا إلى الالتزام ببعض الآداب المستحبة في المشي أو الجلوس أو تناول الطعام؟ إنه لم يقل أو يذكر من ذلك شيئاً، بل هتف عليه الصلاة والسلام: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا. لقد بدأ الرسول الأعظم دعوته إلى الدين الحنيف بهذه العبارة فاحتل بها قلوب العالمين ومن ثم بنى أمته العظيمة انطلاقاً من ذلك الأساس المتين.

إن معرفة الله لا تقتصر على الدين فحسب، بل إنها جوهر الوجود الإنساني، ذلك أن بناء الإنسان لا يتم إلا على أسس التوحيد.

إننا نطلق على كثير من الأمور والشؤون وننعتها بالإنسانية، فنقول إن الإنسانية تقتضي الرحمة والمروءة والإحسان وإن الإنسانية تنشد السلام وتنفر من الحرب وتجعلنا متعاطفين مع المرضى والجرحى والمنكوبين وتدفعنا إلى مساعدة المحتاجين وتطلب منا التضحية بالنفس واحترام حقوق الآخرين وإلى غير ذلك من المواقف والسلوك، وكل ذلك صحيح لا يعترض عليه أحد بل إن على كل إنسان أن يحقق إنسانيته من خلال ذلك، ولكنا لو تساءلنا عن الأسس المنطقية التي تستند إليها تلك الوصايا والأخلاق التي تدفعنا إلى التضحية بمصالحنا من أجلها فإننا سنكون حينها عاجزين عن إقناع أنفسنا والآخرين بالفلسفة الكامنة وراء تلك الأخلاق والمواقف إذا لم نأخذ بنظر الاعتبار معرفة الله.

لا يمكننا أبداً اكتساب القيم الأخلاقية الرفيعة أو الانتهال من الفيض الروحي بعيداً عن نبعه الإلهي، فحتى أكثر المؤسسات مادية في العالم تجد نفسها مضطرة إلى أن تبني نظمها الاجتماعية على أسس أخلاقية.

لا يمكن إقصاء الإنسانية بعيداً عن معرفة الله؛ فأما الإيمان أو السقوط في حضيض الحيوانية وعبادة الذات والمصلحة الشخصية وما تضج به من انقياد إلى الشهوة والوقوع في أسرها؛ فأما عبادة الله أو عبادة البطن والجاه والمناصب والمال. إذ ليس هناك من طريق ثالث.

ومن يدعي الشرف والخلق والتقوى والعفة وهو بعيد عن الله الذي هو نبع كل تلك الصفات فإن ذلك مجرد أوهام لا غير.

يعبر القرآن الكريم عن هذه الحقيقة بقول عز وجل: (ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها). [إبراهيم: 27]

الإيمان شجرة تمد جذورها في أعماق الروح فتتفرع منها أغصان الاعتقاد بالنبوة والولاية والأديان، وكذلك الاعتقاد بأن هذا العالم قائم على العدالة والحق وأنه لا يضيع أجر المحسنين وسيلقى المسيئون جزاء أعمالهم.

أما ثمار هذه الشجرة الطيبة فهي الشرف والكرامة والعفة والتقوى والإحسان والتسامح والفداء والقناعة والطمأنينة والسلام.

وفي مقابل ذلك يضرب القرآن مثلاً آخر، يقول سبحانه وتعالى: (ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار). [إبراهيم: 28] وهذه حقيقة تتجلى أحياناً في أفراد نراهم يتحمسون دفاعاً عن عرق أو قومية أو يقعون تحت تأثير بعض العقائد فتشتعل في نفوسهم المشاعر الكاذبة التي قد تدفعهم إلى التضحية بأرواحهم من أجلها، ولو سنحت الفرصة لأحدهم أو راجع نفسه قليلاً لعجز عن إيجاد أساس منطقي لموقفه وسلوكه، فقليل من التأمل والإرشاد سوف يقشع تلك السحب عن سماء روحه.

أجل إن الإيمان هو وحده الذي يمتلك أساسه الإنساني المتين، وإن قواعد البناء الإنساني إنما تنهض على التقوى والاستقامة والطهر وعلى الشجاعة والشهامة والفداء، وهي الخصال التي يمتاز بها الإنسان عن الحيوان.

الإيمان بالله وحده البديل لعبادة الذات والمصلحة الشخصية، وهو ما يشير إليه القرآن الكريم في قوله تعالى:

(الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات). [البقرة: 255 ـ 256]

 

معرفة الله أساس الدين

قال أمير المؤمنين علي (ع): أول الدين معرفته.

لكل شيء بداية وأساس فإذا نهض واشتد وأثمر فإنما يعود الفضل إلى نقطة البداية وإلى ذلك الأساس.

فالدين ذلك النظام الشامل بعقيدته وفكره وأخلاقه إنما يبدأ من نقطة واحدة ويرتكز على ركن واحد، فإذا انطلق من تلك النقطة ونهض على ذلك الأساس فإنه ينهض قوياً متيناً ومفيداً، وتلك هي معرفة الذات الإلهية المقدسة والإيمان بالأحدية المطلقة.

فالإيمان بالنبوة أو الاعتقاد بالمعاد مثلاً، على أنهما أصلان ضروريان في الدين إلا أنهما بمثابة غصنين متفرعين من ذلك الجذع، لأن التوحيد أصل ثابت ولأن "للعلم مالك وهو الله" وهو الذي يدبر الوجود ويسوقه نحو الكمال، كما أن البشرية أفراداً كانوا أم مجتمعات بحاجة إلى من يهديها ويدلها عن طريق "الوحي والإلهام" وبواسطة بعض النفوس البشرية الطاهرة التي هي بمثابة علامات هداية وإرشاد حيث تتجلى بالأنبياء والرسل.

بما أن أصل التوحيد ثابت وأن الموجودات تتحرك نحو الكمال المنشود، ولأن الوجود الإنساني يحمل في أعماقه إرشادات النشأة الأخرى وهي عالم الآخرة، فإنه بمثابة الجذع الذي تتفرع عنه الأغصان والأوراق والثمار.

قد يوجد بعض الناس ممن يغالون في إيمانهم بالأنبياء، ينظرون إليهم على أنهم آلهة صغار يعبدونهم من دون الله؛ إن مثل هذه العقائد السخيفة إنما تنشأ عن خلل في الأساس الأول من البناء وهو التوحيد وعن قصور في معرفة الله سبحانه، وإلا فكيف يمكن للإنسان الذي له أدنى معرفة بالله مالك الملك أن ينصرف إلى عبادة إنسان لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً على حدّ تعبير القرآن الكريم أو يشرك بعبادة الله أحداً ليس بيده موت ولا حياة ولا نشور.

وكذلك فإن سائر أغصان وأوراق وثمار الدين إذا ما نبتت في أصل التوحيد استقامت وآتت أكلها، أما إذا لم تتصل بذلك الجذع فإنها لن تؤتي ثمارها المرجوة.

على سبيل المثال فإن واحدة من هذه التفرعات وفي مرحلة التطبيق التي يوجبها الدين هي مسألة احترام حقوق الآخرين. إن أصل التوحيد يقضي بأن الله عادل وحكيم وبصير، وأن الله العادل الحكيم لا يصدر عنه أمر ظالم وأن الله سبحانه ـ وكما نص القرآن على ذلك ـ يأمر بالعدل والإحسان والإيثار والتضحية ورعاية الآخرين، كما أن الله العادل الحكيم ينهى عن الأعمال القبيحة والسيئة والأعمال التي يستقبحها العقل وأن الله العادل الحكيم ينهى عن الظلم والعدوان، ولكننا نجد في الماضي والحاضر وفي المستقبل أيضاً أناساً يرتكبون الفحشاء والمنكر والعدوان ومع ذلك يدعون بأن الله قد أمر بذلك وأن ما يقومون به يوافق الموازين الشرعية والأحكام الدينية؛ يقول سبحانه وتعالى في سورة الأعراف: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون) [الأعراف: 28]

إن هذه الآية الكريمة تشير إلى أن هؤلاء الناس لو كانوا يدركون التوحيد أو عرفوا الله بأسمائه الحسنى وأدركوا أن الله عادل وحكيم لما تفوهوا ببدعهم أبداً، ولما قالوا بأن أعمالهم تلك على موازين الدين، ذلك لو أنهم عرفوا أن الله لا يأمر بالظلم، وأن الله لا يقول ليطأ بعضكم بعضاً وأن يلتهم البعض كدّ البعض الآخر باسم الدين، لما حصل ذلك أبداً.

إن الله سبحانه لا يرضى أن يعيش البعض كلاًّ على الآخرين وأن يكون عبئاً على المجتمع دون أن يفكر بتخفيف أعباء الآخرين. إن رضا الله يكمن في تنفيذ أوامره وإن أوامر الله هي كما ذكرنا آنفاً.

أجل إن ألف باء الدين هي معرفة الله، فكما أن التلميذ في المدرسة إذا لم يدرك المعلومات الأساسية التي تؤهله لقراءة الكتب فإنه سيكون عاجزاً تماماً عن إدراك مسائل الطبيعة والرياضيات والأدب، فالتلميذ إنما يتعلم أولاً الحروف التي تتألف منها اللغة، فإذا لم يتعلم ذلك فإنه سيكون عاجزاً عن القراءة وبالتالي فإنه سوف لن يفهم أياً من الدروس.

إن معرفة الله هي بمنزلة الحروف الأولى في الدين، فمن عرف الله تمكن من قراءة خط الدين وأدرك المرامي التي ينشدها الدين، أما إذا لم يدرك تلك الحروف فإنه سيخطئ في قراءة كلمات الدين وأوامره ومن ثم يخطئ في ترجمتها في سلوكه وسيصل به الأمر إلى ما عبر عنه القرآن في قوله سبحانه وتعالى: (الذين ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً). [الكهف: 104]

ولذا قال الإمام علي (ع): "أول الدين معرفته". إن معرفة الله ليست أول الدين فحسب بل وسطه وآخره أيضاً، ذلك أن الذات الإلهية المقدسة هي أول الوجود وآخره، مع جميع الموجودات، محيط بها. وإذا أصبح الإنسان موحداً حقاً لهوت نحوه جميع الفضائل وانجذبت إليه.

 

الدين سند السعادة

يشعر الكائن الحي بالسعادة والاستقرار عندما تكون حياته ووجوده متناغماً وموافقاً للبيئة التي يعيش فيها، أي عندما تكون الظروف المحيطة به تتفق وحياته الخاصة، وحياته متناغمة أو منسجمة مع ظروف المحيط؛ فمن البديهي إذا حصل خلل في ذلك التوافق فإن هذا الكائن الحي سيكون عرضة للاضمحلال والفناء لأنه جزء والجزء يتبع الكل وأن المحاط تابع للمحيط. وإذن فإن الكائن الحي محكوم بالفناء شاء أم أبى؛ فالشرط الأول للبقاء والسعادة هو تناغم حياة الكائن الحي مع المحيط والبيئة.

الإنسان بدوه كائن حي وهو محكوم بالقوانين التي تشمل جميع الكائنات الحية وهو خاضع لتلك القوانين شاء أم أبى، وإذن شرط بقاء الإنسان وسعادته في الحياة أن تكون حياته متوافقة ومتناغمة مع الظروف المحيطة به من ماء وهواء وضوء وتراب؛ وإضافة إلى هذه البيئة فهناك بيئة أخرى وهي الجو الاجتماعي الذي يتنفس ويحيى فيه.

فالكائنات التي لا تحيى حياة مدنية واجتماعية لا تعرف معنى الجو الاجتماعي، غير أن الإنسان يعيش حياة اجتماعية.

صحيح أن بعض الكائنات الأخرى لديها حياة اجتماعية كالنحل أو النمل أو بعض الحيوانات الأخرى ولكن حياتها هذه محكومة بالغريزة، لا إرادة لها في ذلك، وحياتها الاجتماعية هذه شبيهة بالمحيط الطبيعي، على عكس الإنسان الذي يعيش جوه الاجتماعي عن إرادة واختيار، حيث تتجلى صعوبات الحياة البشرية، إذ إننا نعيش في وسط اجتماعي له عاداته وآدابه وتقاليده ومقنناته، وكل هذه عوامل اجتماعية تحيط بنا، ولذا ينبغي أن يكون ذلك متناغماً مع حياتنا الشخصية، أو تكون حياتنا الشخصية متوافقة مع المحيط الذي نعيش فيه.

غير أن هذا التناغم في حياة الفرد يجب أن يتحقق من خلال مصالح المجتمع العامة، أي أن الهدف الأصلي للحياة الاجتماعية لا يمكن أن يكون مجرد مصالح شخصية، يجب أن تكون هناك مصالح عامة تضمن السعادة والبقاء للجميع؛ ومن البديهي أن المصلحة العامة تتحقق من خلال مصلحة الأكثرية، ولهذا نرى جميع القوانين في العالم تسن من خلال المصلحة الاجتماعية العامة.

أما التناغم المطلوب في حياة الفرد تجاه المجتمع فهو حالة التسليم والرضا والقناعة بمصالح المجتمع العامة وغض النظر عن بعض المصالح والمنافع الشخصية عندما تصطدم بمصالح المجتمع العليا، وأن يفعل الفرد دونما إحساس بالزجر أو شعور بالغضب.

فإذا كان المجتمع يدور في فلك العدالة، والقوانين الحاكمة مبنية على أساس عادل، أي أن تكون الطبيعة الاجتماعية متناغمة مع الأكثرية من جهة، وكان الفرد متفهما ومدركاً عند تصادم منفعته الشخصية مع المصالح العليا للمجتمع ثم أبدى حالة من الرضا بذلك، كان الأمل بالسعادة الحقيقية كبيراً.

وهنا تتجلى أهمية وضرورة الدين الذي ينهض على أساس التوحيد والإيمان بالله الواحد الأحد؛ فالدين ضروري في إيجاد التناغم في المعادلتين؛ فهو من جهة يحاول أن يصنع محيطاً اجتماعياً متناسباً مع الحياة الفردية وذلك من خلال تحقيق العدالة الاجتماعية وجعلها مصلحة عامة، كما يسعى من جهة أخرى إلى إحداث تناغم في حياة الفرد مع المصلحة العليا للمجتمع.

فالتناغم المطلوب في حياة الفرد تجاه المصلحة الاجتماعية يتحقق من خلال غض النظر بل وحتى الإيثار والإحسان.

فهل يوجد شيء غير الدين قادر على إقناع الإنسان كفرد على الرضا والتسليم للمصلحة الاجتماعية العليا؟

إن التاريخ البشري ليزخر بمواقف البطولة والفداء والتضحية والإحسان وخدمة الشعوب ومواقف الشجاعة والشهامة أمام الظلم والاستبداد، وهي إنما تنطلق من الدين والإيمان بالله السميع البصير العليم الحكيم.

فهل هناك قوة قادرة أخرى يمكنها أن تنافس الدين في هذا المضمار أو تدعي قيامها بمهمات الدين حتى ولو بنسبة واحد بالمئة.

نسأله تعالى أن يوفقنا إلى العلم بأحكام الدين كما أنزله الله على رسوله محمد (ص)، وأن نكون سعداء بذلك..

العبيد والأحرار

قال الإمام علي (ع): "الدنيا دار ممر لا دار مقر، والناس فيها رجلان: رجل باع نفسه فأوبقها ورجل ابتاع نفسها فأعتقها".

إن هذه العبارة على قصرها لتزخر بالمعاني العميقة التي لا تترشح إلاّ من روح مضيئة بنور الله؛ أجل إن خلاصة عمر أغلب الناس ـ ومع الأسف ـ هي العبودية وبيع النفس وهدر الشخصية الإنسانية والخسران بتعبير القرآن الكريم، العبودية للشهوات والغضب والحقد والوقوع في أسر العادات والتقاليد الجاهلية التي تتناقض ومنطق العقل، واللهاث وراء الصرعات.

إن البعض من الناس يظنون أنفسهم أحراراً لأنهم ليسوا عبيداً لدى الآخرين، غافلين عن آلاف الحقائق الدقيقة التي هي أدق من الشعر، غافلين عن أن العبودية لها ألف شكل وشكل، وأن الأسر له ألف شكل وشكل، غافلين عن أن الطمع هو ضرب من العبودية، وأن العادات الجاهلية هي ضرب من الأسر، وأن عبادة المال هي نوع من العبودية.

كان يوسف الصديق يُعامل كعبد سنوات طويلة، وكان يباع ويشترى في الاسواق وتتلاقفه الأيدي كبضاعة وينتقل من بيت لآخر، ولم يكن يملك من الدنيا شيئاً، حتى الطعام الذي يتناوله والثياب التي يرتديها كانت هي الأخرى ملكاً لأسياده، بل حتى ثمار عمله التي يحصل عليها بعد جهدٍ جهيد.

لقد كان يوسف من وجهة نظر مادية عبداً، غير أنه أثبت العكس في قصته مع أجمل نساء مصر عندما رفض جميع الاغراءات بل وجميع التهديدات، وبالرغم من كونه عبداً فقد أعلن بأن روحه حرة وأنه ليس عبداً للشهوات قائلاً: إني عبد الله وإن (السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه). [يوسف: 33]

إن التاريخ ليزخر بالأمثلة العديدة عن بعض الأفراد الذين كانوا يُعاملون وبحكم القانون على أنهم عبيد أرقاء ولكنهم كانوا أحراراً بنفوسهم وعقولهم وأفكارهم. أليس لقمان الحكيم الذي سميت به إحدى سور القرآن الكريم كان عبداً؟ ولكنه كان في قمة الحرية بأخلاقه وروحه.

في مقابل ذلك توجد أمثلة عديدة لأشخاص يُعتبرون أحراراً من وجهة نظر القانون ولكنهم أسرى وعبيد، فعقولهم مستعبدة وأرواحهم وقلوبهم مستعبدة وأخلاقهم وشهامتهم مستعبدة (اولئك الذين خسروا أنفسهم). [هود: 21] بتعبير القرآن الكريم.

فليس مهماً أن يخسر الإنسان في مسرح الحياة حلته أو يخسر منزله أو يخسر ماله وثروته، أو يخسر منزلته الاجتماعية. الخسران الحقيقي هو خسران النفس وخسران الحرية والشهامة والشجاعة، وخسران المحبة والعاطفة الإنسانية، خسران العقل والإيمان والقناعة.

الناس فريقان كما عبر عن ذلك علي (ع): فريق "باع نفسه فأوبقها" وفريق "ابتاع نفسه فأعتقها"، فريق يلهث وراء المال والثروة والمقام والهوى والرغبات وزينة الحياة، وفريق يسعى لتحقيق شخصيته الإنسانية وبناء نفسه على اساس من العزة والكرامة والاستقامة والتقوى والعدالة والإيمان. إن القرآن الكريم ليؤكد ذلك ويشير إلى عدم وجود شيء في الحياة له قيمة تجعل الإنسان يبيع نفسه من أجله.

يقول الشاعر:

أمطري لؤلؤاً جبال سرنديب          أو أفيضي آبار تكرور تبرا

همتي همة الملوك ونفسي         نفس حر ترى المذلة كفرا

 

ألا بذكر الله تطمئن القلوب

ذكر الله وحده الذي يهب الروح السلام

يتعرض جسم الإنسان لبعض الحالات الحسنة والسيئة، وكذلك فإن روحه أو نفسه هي الأخرى تتعرض لحالات متشابهة بالرغم من أن الاختلافات العديدة بين الروح والجسم، فالجسم مثلاً له حجم ووزن في حين لا تمتلك الروح ذلك، فالقليل من الطعام الذي يرد بدن الإنسان سوف يؤثر على وزنه، ولكن لو أضيف عالم من الفكر والعلم لما طرأ تغير على وزنه أبداً.

كما أن سعة الجسم محدودة، أما الروح فلا حدود لها، فكل لقمة يتناولها الإنسان تحتل حيزاً من معدته، وشيئاً فشيئاً تمتلئ المعدة حتى يشعر الإنسان بالشبع ومن ثم يكون عاجزاً عن تناول لقمة إضافية، حيث يبقى كذلك إلى أن تصرّف المعدة الطعام، في حين أن الروح لا تعرف الشبع ابداً فكلما غذيتها بالعلم والمعرفة ازدادت جوعاً وقالت: (رب زدني علماً). [طه: 14] فالروح لا تصرّف المعلومات الأولى لكي تستعد لاستقبال المعلومات الجديدة؛ يقول الإمام علي (ع): "كل وعاء يضيق بما جعل فيه إلا وعاء العلم فإنه يتسع".

كما أن الجسد يضعف شيئاً فشيئاً ويشيخ أما الروح فإنها لا تشيخ أبداً. الجسد يموت ويتلاشى ويتحول إلى ذرات متناثرة، ولكن الروح لا تعرف الموت أو الفناء، الروح باقية تنتقل إلى عالم آخر إذا ما تلاشى الجسد. قال الرسول الأكرم (ص): "خلقتم للبقاء لا للفناء".

في الوقت الذي توجد فيه اختلافات بين الروح والجسد فإن هناك شبهاً بينهما في نواح عديدة، فالجسد لكي يسعد وينشط يحتاج إلى أنواع من الأطعمة والأشربة، والروح هي الأخرى تحتاج إلى غذاء خاص، وغذاؤها هو العلم والحكمة والإيمان واليقين. وكما أن الجسد يذبل إذا لم يصله الغذاء الكافي فإن الروح هي الأخرى تذبل إذا لم يصلها غذاؤها الخاص.

يقول الإمام علي (ع): "إن النفوس تكل كما تكل الأبدان فاهدوا إليها طرائف الحِكم".

والروح تمرض كما يمرض الجسد، ولذا فهي تحتاج إلى علاج ودواء، فإذا كان الجسد يمرض بسبب خلل ينشأ في ميزان مزاجه أو في مجموع المواد التي يتألف منها نقصاً أو زيادة، وبشكل عام خلل في المعادلة التي خلقه الله عليها؛ فإن الروح لها معادلتها وميزانها الخاص بها، الروح تحتاج إلى الحب وتحتاج إلى نظام أخلاقي وتحتاج إلى العلم والمعرفة، وتحتاج إلى الإيمان والعقيدة، وتحتاج إلى سند تعتمد عليه وترجوه في كل أعمالها، وكل هذه الأشياء لازمة لاستقرار وتعادل ميزان الروح وإلا فإن أي خلل يهدد هذا التوازن سوف يسلب الإنسان سعادته واستقراره وطمأنينته.

إن بعض الناس يشعرون في أعماق نفوسهم بالضجر. إن هذا القدر من الإحساس الذي يحرمهم من تذوق طعم السعادة ويسلبهم الشعور بالاستقرار والسلام يؤدي بهم إلى الذبول والقلق دون أن يدركوا العلة في ذلك، فبالرغم من توفر كل أسباب الحياة إلا أنهم لا يشعرون بالرضا أو السعادة.

إن على هؤلاء الأفراد أن يؤمنوا بوجود جذب روحي.. يجب أن يذعنوا لهذه الحقيقة ويعترفوا بأن الإيمان حاجة فطرية وتكوينية بل إنها أسمى حاجاتنا الإنسانية.

فإذا انتهلنا من نبع الإيمان وأضاء نور الله أرواحنا، وتجلى الله في أعماق نفوسنا أدركنا معنى السعادة واللذة والبهجة. يقول الله سبحانه في محكم كتابه الكريم: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب). [الرعد: 28] وقال علي (ع): "إن الله جعل الذكر جلاءً للقلوب تسمع به بعد الوقرة وتبصر به بعد العشوة وتنقاد به بعد المعاندة [1]".



[1]  نهج البلاغة: 217

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست