.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست
 

خلافة أمير المؤمنين عليه السلام

تربية علي (ع) أو منزلة نهج البلاغة

 

 

خلافة أمير المؤمنين علي (ع)

قال الله الحكيم في كتابه الكريم: (أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين) [العنكبوت: 1 ـ 2].

من كلام لأمير المؤمنين قاله قبل استشهاده: "وإنما كنت جاراً جاوركم بدني وستُعقبون من جثة خلاء ساكنة بعد حراك وصامتة بعد نطق، ليعظكم هدوي وخفوت أطراقي وسكون أطرافي فإنه أوعظ المعتبرين من المنطق البليغ؛ غداً ترون أيامي ويكشف لكم عن سرائري وتعرفونني بعد خلو مكاني وقيام غيري مقامي[1]"

كلمات مؤثرة قالها الإمام وهو على فراش الموت بعد اغتياله الآثم، فهذا البطل الشجاع الذي دوخ الدنيا سيكون بعد ساعات جثة هامدة لا حراك فيها، وهذا في حد ذاته عبرة بالغة لمن كان له قلب، ثم يقول الإمام: ستعرفونني بعد أن أغادر هذه الدنيا ويسوسكم آخر بعدي، وستنجلي لكم الحقائق التي انطوى عليها وجودي، وستنمو البذور التي زرعتها في قلب المصاعب والحوادث المريرة شيئاً فشيئاً وستثمر في النهاية.

زخرت خلافة الإمام علي (ع) على قصرها بالفتن والقلاقل، فقد تسلم (ع) زمام الخلافة في أزمة عنيفة عصفت بالأمة الإسلامية، وكادت أن تجعل الكيان الإسلامي في خبر كان.

وانطلاقاً من الشعور بالمسؤولية الكبرى وبالرغم من كل المصاعب تصدى الإمام للخلافة، وكان مصرع عثمان ذريعة تذرع بها بعض الانتهازيين والنفعيين والباحثين حول اقتناص الفرص، مما عرض العباد والبلاد لفتنة كبرى.

وفي خضم الفتنة التي سبقت مصرع عثمان تبلور إجماع الأمة الإسلامية على ان الخلافة لا تصلح إلا بعلي ولا يصلح أحد للخلافة إلا ابن أبي طالب، ولذا فقد طلب عثمان من الإمام مغادرة المدينة إلى ينبع فترة من الزمن ريثما تهدأ الأمور وينسى الناس بغيابه المثال المنشود، وقد وافق الإمام على ذلك وتوجه إلى ينبع.

وبعد مدة من الزمن بعث عثمان وراء الإمام طالباًَ منه القدوم على جناح السرعة وتهدئة الثائرين على سياسته؛ وكان الخليفة الثالث يدرك تماماً بأن الشخص الوحيد المؤهل لهذه المهمة الحساسة هو الإمام (ع)؛ وعاد علي بناءً على أمر عثمان، وكان للثقة العالية التي يتمتع بها لدى الناس وقبوله في السفارة بين الأمة الثائرة والخليفة الأثر البالغ في تهدئة الأمور إلى حين؛ غير أن المحيطين بعثمان من أمثال مروان أفشلوا تلك المساعي الخيرة، باستثناء نائلة زوجة عثمان التي كانت تشير عليه بأن لا يستمع إلا لعلي بن أبي طالب.

وبدل أن يغير عثمان سياسته بعث عبد الله بن عباس وراء الإمام يطلب منه مجدداً مغادرة المدينة إلى ينبع؛ ويشعر الإمام بالمرارة جراء المواقف المتذبذبة لعثمان ويقول: "يا ابن عباس ما يريد عثمان إلا أن يجعلني جملاً ناضحاً بالغرب أُقبل وأُدبر. بعث إلي أن أخرج، ثم بعث إليّ أن أقدم ثم هو الآن يبعث إلي أن أخرج، والله لقد دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثماً[2]"

وعندما تفاقم الوضع وساءت الأمور وطلب الناس من الإمام أن يكون مندوبهم لعرض مطالبهم على عثمان، ولم يألو الإمام في إسداء النصح إلى الخليفة بأسلوب مؤثر قائلاً له: "وإني أنشدك الله ألا تكون إمام هذه الأمة المقتول فإنه كان يقال يقتل في هذه الأمة إمام يفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة ويلبس أمورها عليها ويبث الفتن فيها... فلا تكونن لمروان سيقة يسوقك حيث شاء بعد جلال السن وتقضي العمر[3]"

وتأثر عثمان فقال: "كلم الناس في أن يؤجلوني حتى أخرج إليهم من مظالمهم" فأجاب الإمام (ع): "ما كان بالمدينة فلا أجل فيه وما غاب فأجله وصول أمرك إليه".

وتطورت الأمور من سيئ إلى أسوأ إلى أن انتهت بمصرع عثمان، واندفعت الجماهير الثائرة تطلب من الإمام تحمل مسؤولياته في الخلافة، وقد بلغت شدة الزحام حداً جعلت الإمام يشير إلى ذلك في واحدة من المناسبات قائلاً: "وبسطتم يدي فكففتها، ومددتموها فقبضتها، ثم تداككتم عليّ تداك الابل الهيم على حياضها يوم وردها حتى انقطعت النعل وسقط الرداء ووطئ الضعيف وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إياي ان ابتهج بها الصغير وهدج إليها الكبير وتحامل نحوها العليل وحسرت إليها الكعاب[4]"

في مثل هذه الظروف تسنم الإمام علي منصب الخلافة في حين كانت بذور الفتنة والتفرقة التي بذرت فيما مضى قد نبتت، فحل التشتت محل الوفاق والفرقة بدل الاتحاد.

ولقد بدأت الفتنة من قلب الجزيرة العربية نفسها لتنتشر هنا وهناك إلى سائر الأمم التي دخلت في الإسلام مما عرض المسلمين إلى أخطار عديدة.

يقول الإمام في إحدى المناسبات: "ثم إنكم معشر العرب أغراض بلايا قد اقتربت فاتقوا سكرات النعمة واحذروا بوائق النقمة" ثم يقول (ع): "تثبتوا في قتام العشوة واعوجاج الفتنة عند طلوع جنينها وظهور كمينها وانتصاب قطبها ومدار رحاها[5]"

هذه الفتن التي تترعرع وتشب في أوقات الترف وفترات الطغيان فتبرز العقد النفسية وتظهر الأحقاد الدفينة.

وقد كان الإمام ذات يوم يتحدث إلى الناس عن الفتن المقبلة ويحذرهم منها، فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن الفتنة، وهل سألت رسول الله (ص) عنها؟ فقال (ع):

إنه لما أنزل الله سبحانه قوله: (آلم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون) [العنكبوت: 1 ـ 2]. علمت أن الفتنة لا تنزل بنا ورسول الله (ص) بين أظهرنا، فقلت: يا رسول الله ما هذه الفتنة التي أخبرك الله تعالى بها؟ فقال يا علي إن أمتي سيفتنون من بعدي. فقلت: يا رسول الله أوليس قد قلت لي يوم أحد حيث استشهد من استشهد من المسلمين وحيزت عني الشهادة فشق عليّ ذلك فقلت لي: أبشر فإن الشهادة من ورائك فقال لي: إن ذلك لكذلك، فكيف صبرك إذن؟ فقلت: يا رسول الله ليس هذا من مواطن الصبر ولكن من مواطن البشرى والشكر ثم قال الرسول الأكرم (ص): يا علي إن القوم سيفتنون بأموالهم ويمنون بدينهم على ربهم ويتمنون رحمته ويأمنون سطوته ويستحلون حرامه بالشبهات الكاذبة والأهواء الساهية فيستحلون الخمر بالنبيذ والسحت بالهدية والربا بالبيع قلت: يا رسول الله فبأي المنازل أنزلهم عند ذلك؟ أبمنزلة ردة أم بمنزلة فتنة؟ فقال: بمنزلة فتنة.

وقد كان للفتوحات الإسلامية الكبرى وتوسع البلاد والغنائم العديدة والثروات الهائلة التي وقعت في أيدي المسلمين الأثر البالغ في زرع بذور الفتن خاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار التقسيم الظالم لتلك الثروات، فبينما يتمتع البعض بالامتيازات الضخمة بقي قسم كبير من المسلمين يعيشون الحرمان، أضف إلى ذلك تصدي أشخاص غير مخلصين من الحزب الأموي لمسؤولية القيادة مما جعل تلك الثروات الهائلة حكراً على البعض دون الآخر، وهو ما عبر عنه أمير المؤمنين (ع) بالأثرة.

ومن هنا بدأت المظالم وبدأت روح الانتقام تتغلغل في النفوس، وقد اجملها الإمام في إحدى خطبه قائلاً: "اتقوا سكرات النعمة واحذروا بواتق النقمة". فلقد فعلت النعمة والنقمة فعلها في المجتمع الإسلامي، فالزبير بن العوام مثلاً وكما جاء في مروج الذهب للمسعودي بني القصور في البصرة والكوفة ومصر والاسكندرية، وعندما توفي خلف ألف فرس والف غلام وألف جارية بلغت قيمتها خمسين ألف دينار، وهذا الأمر ينسحب ـ أيضاً ـ على بعض الصحابة كطلحة وزيد بن ثابت ويعلي بن أمية وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم، وجعلت الإمام يشعر بالمرارة وهو يرى المجتمع الإسلامي يتحرك في طريق الانحراف. يقول (ع):

"وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدباراً والشر فيه إلا إقبالاً والشيطان في هلاك الناس إلا طمعاً، فهذا أوان قويت عدّته وعمّت مكيدته وأمكنت فريسته، اضرب بطرفك حيث شئت من الناس فهل تبصر إلى فقيراً يكابد فقراً أو غنياً بدّل نعمة الله كفراً أو بخيلاً اتخذ البخل بحق الله وفراً أو متمرداً كأن بأذنه عن سمع المواعظ وقرا. أين خياركم؟ وصلحاؤكم وأحراركم وسمحاؤكم؟ وأين المتورعون في مكاسبهم والمتنزهون في مذاهبهم[6]"

ولقد حاول الإمام فور تسلمه زمام القيادة إصلاح الأمور وحصر برنامجه السياسي في الإصلاحات الداخلية مركزاً تحذيره على مخاطر (سكرات النعمة وبوائق النقمة) ولم يجد معارضوه ممن استهوتهم الحياة الدنيا سوى دم عثمان وقميصه ذريعة لتحقيق أهدافهم.

وهكذا أمضى الإمام عهده القصير في معالجه هذه المسألة وآثارها، ومن العجيب أن الذين كانوا يتهمون الإمام بدم عثمان كانوا في الصفوف الأولى من معارضي عثمان والمسؤولين مباشرة عن قتل عثمان، إضافة إلى مسألة التحكيم التي عانى منها الإمام واتهم بترتيبها في حين كانوا هم المخططين لها.

ففي مسألة عثمان لم يبذل أحد من الناس ما بذله أمير المؤمنين (ع) من جهود مضنية في سبيل إخماد الفتنة، بل إن إحباط مساعيه (ع) هو الذي أدى فيما بعد إلى مصرع عثمان.

يقول الإمام (ع) في مسألة جوابية بعث بها إلى معاوية رداً على اتهاماته: فأينا كان أعدى له وأهدى إلى مقاتله، أمّن بذل له نصرته واستكفه أم من استنصره فتراخى عنه وبث المنون إليه حتى أتى قدره عليه، كلا (قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لاخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلاً) [الأحزاب: 18].

لقد رفض عثمان تحت تأثير بعض المنحرفين جميع اقتراحات الإمام لحل المسألة بالطرق السلمية في حين تقاعس معاوية متعمداً عن إغاثة عثمان في احلك الظروف التي مرت بالأخير.

لقد كان معاوية ينتظر مصرع عثمان ليكون له ذريعة للوصول إلى أهدافه، يقول الإمام في رسالة أخرى إلى معاوية: "فإنك إنما نصرت عثمان حين كان النصر لك وخذلته حين كان النصر له"[7]

لم يكن معاوية ليهمه مصرع عثمان بل كان همه الأول والأخير هو تحقيق أهدافه الشخصية، فعندما استنجده عثمان لم يتحرك معاوية خطوة واحدة لإغاثته ولكن وبعد أن رأى قميصه سيحقق أهدافه التي يصبو إليها صرخ: واعثماناه!

وطالما كرر الإمام ذلك في خطبه وأحاديثه قائلاً: "وإنهم ليطلبون حقاً هم تركوه ودماً هم سفكوه".[8]

وهذه الحقيقة تنطبق تماماً على بعض الذين اتخذوا من دم عثمان ذريعة لتحقيق أهدافهم وضمان مصالحهم أمثال طلحة والزبير وعمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان وآخرين.

أما الاتهام الآخر الذي عانى منه الإمام كثيراً فهو مسألة التحكيم. في حرب صفين حيث كانت الحرب محتدمة وكان النصر يلوح إلى جانب الإمام وإذا بمعاوية وعمرو بن العاص يقرران رفع المصاحف وإعلان التحيكم قائلين: "بيننا وبينك كتاب الله". وهكذا ارتفعت عشرات المصاحف على رؤوس الرماح، غير أن الإمام أمر باستمرار الحرب قائلاً: "إنها كلمة حق يراد بها باطل" ولكن الحيلة كانت قد انطلت على العشرات ممن يقرؤون القرآن قائلين: نعم، كتاب الله بيننا وبينهم؛ وطلبوا من الإمام إيقاف العمليات الحربية. وقد حاول الإمام إقناعهم بأن هذه المسألة مجرد حيلة، لكنهم أصروا وأعلنوا تمردهم على الإمام والتهديد بتفجير الموقف لصالح معاوية. وعندما أذعن الإمام لرأيهم وامر قادته بإيقاف الحرب.

ولم يكتف هؤلاء المتمردون بذلك بل تدخلوا في انتخاب من يمثل الإمام في مفاوضات التحيكم تلك؛ وبعد أن خدع المتمردون بانخداع ممثلهم انقلبوا على الإمام مرة أخرى وحملوه مسؤولية ما حصل وأعلنوا أن مسالة التحيكم بحد ذاتها كفر وأنهم قد تابوا إلى الله من ذلك، وطلبوا من الإمام أن يعلن كفره ومن ثم توبته. وهكذا ظهر (الخوارج) كحزب يناهض الإمام وخنجر طعن الإمام طعنة جبانة، واعتبروا أكثر أعداء الإمام خطراً على الإسلام، ذلك أن عداءهم كان ينطلق من أساس فكري وفلسفي خاطئ وخطير. وقد بلغ تعصبهم حداً جعلهم يخططون لتصفية الإمام جسدياً، وهذا ما حصل حيث استشهد الإمام بضربة سيف مسموم وهو يصلي لله في مسجد الكوفة على يد واحد من أولئك الأشقياء ألا وهو عبد الرحمن بن ملجم المرادي.

ولقد كان الجهل وراء جميع تلك المآسي والفتن والمصائب التي عصفت بالأمة التي استحالت إلى لعبة بأيدي بعض الذين استبد بهم حب الدنيا.

يقول الإمام شاكياً: "إلى الله أشكو من معشر يعيشون جهالاً ويموتون ضلالاً ليس فيهم سلعة أبوَر من الكتاب إذا تُلي حق تلاوته ولا سلعة أنفق بيعاً ولا أغلى ثمناً من الكتاب إذا حرّف عن مواضعه"[9].

 

تربية علي (ع) أو منزلة نهج البلاغة

الحمد لله رب العالمين بارئ الخلائق أجمعين والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله محمد وآله الطاهرين.

يجمع المؤرخون على أن الرسول الأكرم (ص) قد أولى علياً (ع) رعاية خاصة منذ نعومة أظفاره، فقد حمله إلى بيته مذ كان صغيراً وزقه تربية وعلماً، ولم يتعرف علي (ع) على غير أخلاق الرسول (ص)، فقد لازمه ملازمة الظل يذهب معه إلى كل مكان حتى عندما كان الرسول يخلو إلى ربه في تعبده وانقطاعه في التفكير وتدبر أمور العالم.

ويكاد يجمع المؤرخون أيضاً على أن الضائقة الاقتصادية التي حلت بعمه أبي طالب وكثرة عياله هي التي دفعت الرسول إلى الإقدام على تكفل عليّ ومحاولة رد الجميل لعمه الذي تكفل طفولته (ص).

فقد ذكر المؤرخون أن القحط قد عصف بأسرة أبي طالب مما حدا بالرسول (ص) إلى أن يقترح على عميه حمزة والعباس التخفيف من أعباء أبي طالب رضوان الله عليه، وقد احتفظ أبو طالب بعقيل إلى نفسه وسمح لهم بباقي أولاده فأخذ العباس طالباً وأخذ الحمزة جعفراً وتكفل النبي (ص) علياً. وهذه القصة تبدو بعيدة عن الواقع لأسباب منها: أن علياً كما يجمع المؤرخون كان في سن الخامسة أو السادسة من عمره وأن جعفراً كان يكبر علياً بعشرة أعوام وأن عقيلاً كان يكبر جعفر بعشرة أعوام أيضاً كما أن طالب أكبر من عقيل بعشرة أعوام، هو الآخر، وعلى هذا فإن طالباً يكون في سن الخامسة والثلاثين وعقيلاً في سن الخامسة والعشرين وجعفراً في الخامسة عشرة؛ فمن غير المعقول أن يتكفل أحد رجالاً بهذه الأعمار، أضف إلى ذلك أن حمزة كان له من العمر آنذاك خمسة وثلاثين عاماً أي بقدر سن الرسول (ص) وسن طالب الذي لم يرد له ذكر في بعض الروايات التي أشارت إلى موضوع الكفالة كما أهملت ذكر حمزة أيضاً، حيث اقتصرت على أن الرسول (ص) عرض الأمر على عمه العباس حيث امتنع أبو طالب عن تسليم عقيل فأخذ العباس جعفراً وحمل الرسول علياً.

وإذن فهناك تضارب في الروايات ولا نعلم مدى صحتها، خاصة إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن تكفل النبي (ص) لعلي (ع) لم ينحصر بسنة واحدة أو سنتين بل امتد لسنين طويلة، وكان يرافق النبي (ص) حتى في أماكن تعبده؛ كما أن العلاقة الاستثنائية التي حظي بها الإمام من لدن النبي والعطف والحنان والاهتمام لا يمكن تفسيرها بأنها محاولة لرد الجميل لأبي طالب.

يذكر ابن أبي الحديد رواية عن ابن عباس بأنه سأل أباه العباس بن عبد المطلب: أي بنيك أحب إلى رسول الله فأجاب العباس: علي؛ فقال ابن عباس: أنا أسألك عن بنيك وأنت تجيبني: علي؟! فقال الأب: لقد كان رسول الله يحب علياً حباًَ لم يحب به أحداً غيره.

إن هذه الرعاية الخاصة التي أولادها النبي لعلي مذ كان صبياً إنما كانت إعداداً له لكي يكون وزيره وناصره في المستقبل وليكون منه بمنزلة هارون من موسى إلا النبوة.

يتحدث الإمام عن هذه الفترة من حياة الرسول قائلاً: "ولقد قرن الله به من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره، ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني الاقتداء به[10]".

هكذا نشأ علي كغصن في شجرة فالرسول وعلي يتغذيان من جذر واحد، كما عبر الإمام: "وأنا من رسول الله كالصنو من الصنو والذراع من العضد". [نهج البلاغة، كتاب: 45]

وقد بلغ من تأثر الإمام بأخلاق الرسول ومسيرته وذلك التشابه المدهش بين الشخصيتين في المواقف حداً جعلت الشريف الرضي يذكر ذلك لدى جمعه خطب أمير المؤمنين في نهج البلاغة. يقول في مقدمته:

عليه مسحة من العلم الإلهي وفيه عبقة من الكلام النبوي.

إن هذا التشابه وهذا التناغم في منطق النبي والوصي إنما يعود إلى وحدة الأصل وتوحد الجذور، ويعود إلى أن علياً ترعرع وتفتح في بستان النبوة وإضافة إلى علاقة النسب وقرابة الدم فهناك انسجام روحي ومعنوي وحدّ بين الشخصيتين.

إن الإمام لم يترعرع في أكناف شخص أو معلم عادي وإنما تربى في أحضان الرسالة الإلهية، وهذا نهج البلاغة ـ وبغض النظر عن قيمته البلاغية بما يمتاز به من قوة في الأداء وجزالة في الأسلوب بحيث اعتبره الشريف الرضي وسماه "نهجاً للبلاغة" ـ فإنه يزخر بالمعارف الإسلامية الواسعة والكنوز الإنسانية الثرة تجعله أعظم تراث إسلامي بعد القرآن على الإطلاق.

لقد كان الأعداء والأصدقاء يتهافتون على حفظ كلماته وكانت خزائن الأمويين وهم أشد أعداء الإمام علي (ع) تزخر بخطبه وأحاديثه.

فهذا عبد الحميد الكاتب الشهير الذي كان يكتب لمروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين والذي كان مضرب المثل في البلاغة والفصاحة حتى قيل: "بدأت الكتابة بعبد الحميد وختمت بابن العميد" عندما قيل له: ما الذي خرّجك في البلاغة؟ قال: أحفظ كلام الأصلع" يعني بذلك علي بن أبي طالب (ع).

ويقول الجاحظ في كتابه (البيان والتبيين) مشيراً إلى مقولة الإمام (ع): "قيمة كل امرئ ما يحسنه يقول: لو لم يكن في الكتاب إلا هذه العبارة لكفى بل لزاد على الكفاية وأفضل الكلام ما قل ودل ثم يقول: وكان الله عز وجل قد ألبسه من الجلالة وغشاه من نور الحكمة على نية صاحبه وتقوى قائله".

ثم يصف حديث عليّ أنه يسمو في المعنى فصيح في اللفظ من غير تكلف وينزل على قلب المرء نزول الغيث على الأرض؛ ولم يكن الجاحظ من شيعة علي أو محبيه بل كان معادياً (وكان مائلاً إلى النصب) على ما ورد في كتب التاريخ.

كما ورد في كتب التاريخ أن عدي بن حاتم الطائي ـ الذي يعد من أبرز وأعظم أصحاب علي (ع) والذي قدم أولاده الثلاثة شهداء في معركة صفين وهم طريف وطارف وطرافة ـ أنه دخل على معاوية بن أبي سفيان وذلك بعد أن انتقلت الخلافة إليه فسأله الأخير: "أين الطرفات؟" فقال عدي: قتلوا يوم صفين بين يدي علي بن أبي طالب فقال معاوية: ما أنصفك علي إذ قدم بنيك وأخر بنيه فأجاب عدي بحزم: بل ما أنصفت علياً إذ قتل وبقيت؛ فقال معاوية: صف لي علياً فقال عدي: اعفني فقال معاوية: لابد من ذلك، وعندها قال عدي: كان والله بعيد المدى شديد التقوى يقول عدلاً ويحكم فصلاً تتفجر الحكمة من جوانبه والعلم من نواحيه ثم استرسل في الوصف حتى سالت دموع معاوية على لحيته وتمتم قائلاً: رحم الله أبا الحسن، كان كذلك. فكيف صبرك عنه؟ فقال عدي: صبر من قتل وليدها في حجرها".

لقد كان الأعداء والأصدقاء يجمعون على أنه "تتفجر الحكمة من جوانبه والعلم من نواحيه".

نعم، إن نهج البلاغة يعد كنزاً نفيساً ونبعاً ثراً يغذي الروح، ويهب القلب الطمأنينة والسلام. إنه دائرة معارف إنسانية كبرى، فهو يزخر بمختلف البحوث والتحاليل الفكرية الدقيقة بدءاً بتوحيد الله وصفاته وأسمائه والنبوة والمعاد وأسرار الخلق ووجود العالم ونشأة الإنسان وبعثة الأنبياء إلى المسائل الإسلامية والقرآنية العديدة، إلى القضايا الإنسانية المختلفة والمواعظ المؤثرة والأخلاق الرفيعة من صبر وشجاعة وعفة وتقوى واستقامة وهمة وإرادة؛ كل ذلك بأسلوب رفيع خلاب يأخذ بالنفوس وبالألباب.

كما يضم بحوثاً اجتماعية دقيقة تحلل الفتن وأسبابها وآثارها والخلافات وأضرارها، والعزة وشوكتها، والذلة وخسائرها، واصول العدل والمساواة والحقوق والحكم والقانون وواجبات الحاكم والتزامات الرعية ووظائف المجتمع وغير ذلك من شؤون الحياة، إضافة إلى شؤون الحرب والجهاد والقيادة إلى غير ذلك من الحوادث التي عصفت بالبلاد الإسلامية وجرت عليها الويلات كمصرع عثمان وحرب الجمل وصفين ومسألة التحكيم وقضية الخوارج.إضافة إلى قسم يشتمل على الملاحم وحوادث المستقبل التي سمعها عن الرسول (ص) كمستقبل البصرة والكوفة وفتنة الزنج واستبداد عبد الملك والحجاج بن يوسف، وما سيؤول إليه مصير الأمويين.

كما يضم أيضاً سياسته ومنهجه في الإدارة والحكم وغير ذلك من الأحكام الإسلامية كالصلاة والصيام والحج والجهاد والزكاة وصلة الرحم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما يُزخر ببيانات الحرب والاقدام، وبالصور العرفانية الرفيعة، والسير إلى الله، حيث حظي التوحيد وصفات الباري جل وعلى باهتمام كبير، فانفردت خطب كاملة كلها تتحدث عن صفات الربوبية ومعاني الأحد، الأمر الذي يجعل المرء يؤمن إيماناً قاطعاً بأن هذه الشخصية إنما استقت نورها من مشكاة النبوة ومن عالم المعاني، وعلى حد تعبير جبران خليل جبران: "جاور الروح الكلي وسامرها".

ومن الموضوعات التي أولاها الإمام اهتماماً في خطبه وأحاديثه مسألة حب الدنيا والزهد فيها والاتجاه نحو الآخرة وذكر الموت واغتنام فرصة العمر حيث يضع الإمام من قيمة الدنيا وزخرفها وما تنطوي عليه من ماديات في حين يرفع من شأن القيم المعنوية.

ومن عجائبه (ع) (كما ذكر ذلك الشريف الرضي) التي انفرد بها، أن كل كلامه الوارد في الزهد والمواعظ والتذكير والزواجر إذا تأمله المتأمل لم يعترضه الشك في أنه كلام من لاحظ له في غير الزهادة ولا شغل له بغير العبادة.. ولا يكاد يوقن بأنه كلام من ينغمس في الحرب مسلطاً سيفه فيقط الرقاب ويجدل الأبطال، وهو مع تلك الحال زاهد الزهاد، وهذه من فضائله العجيبة التي جمع بها بين الأضداد.

ويضم نهج البلاغة بين دفتيه بحوثاً في مسألة الحقوق الاجتماعية والعدالة والمساواة والثورة على الظلم ورفض العداوات، فلقد كان (ع) مثالاً للعدل والمساواة فانعكس ذلك على أحاديثه وكلماته، فهو القائل: "الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه[11]".

كما تحدث عن مسألة تبادل الحقوق في المجتمع، وأن كل حق يتمتع به إنسان يقابله واجب، وأن الحقوق تجري للجميع كما تجري عليهم، فليس هناك فئة تتمتع بالحق دونما واجب، وليس هناك فئة عليها دون أن تتمتع بالحق.

ومن المسائل الأخرى التي يضمها الكتاب، تلك التي تبين منهج الإمام في الإدارة والحكم والسياسية بعيداً عن الكذب والدجل والحيلة والمكر والخديعة والنفاق، فكان خطه واضحاً ومواقفه لا تقبل المماطلة.

وقد بلغت بعض عباراته من العمق ما جعل البعض يتيه في تفسيرها ويخطئ في تأويلها، حيث ينبغي في مثل هذه الحالة أن نأخذ شخصيته وسائر أحاديثه لكي يمكن بعد ذلك معرفة المعنى المنشود.

لقد كانت حياة أمير المؤمنين تجسيداً لكل الكلمات التي نطق بها، فلم يكن يتكلف الحديث في موضوع معين، بل كان مثالاً لكل ما قال وفعلاً لكل كلام، وكان في قمة الزهد وهو يتحدث عن الزهد، وكان في قمة العرفان وهو يشير إليه، وكان في قمة الإخلاص للإسلام عندما يؤكد على وجوب التضحية في سبيل إعلاء كلمة الحق. ولقد اجتمعت في شخصيته جميع الفضائل الإنسانية مما جعله مثالاً تقدسه البشرية جمعاء.

 


[1]   نهج البلاغة، خطبة: 149.

[2]   نهج البلاغة، خطبة: 24.

[3]   نهج البلاغة، خطبة: 164.

[4]   نهج البلاغة، خطبة: 229.

[5]   نهج البلاغة، خطبة: 151.

[6]   نهج البلاغة.

[7]   نهج البلاغة، كتاب: 37.

[8]   نهج البلاغة، خطبة: 22 ـ 135

[9]  نهج البلاغة، خطبة: 17

[10]   نهج البلاغة، خطبة: 224 القاصعة

[11]   نهج البلاغة، خطبة: 37

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست