.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

وضع الله ميزاناً لكل شيء

تقييم الأعمال بميزان الأعمال

 

[ 10 ]

(ووضع الميزان * ألاّ تطغوا في الميزان * وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) (سورة الرحمن، الآيات: 7 ـ9).

وضع الله ميزاناً لكل شيء:

لقد ذكرنا فيما سبق أن الميزان الذي تناولته الآيات الكريمة بالذكر له من حيث المعنى احتمالان: الأول: يعني العدل، وقلنا إن معنى كلمة (وضع) هو أَمَرَ، فيكون معنى آية (ووضع الميزان) أن أمر الله بالعدل، كما أن أفعاله تعالى تصدر عن جهة العدل، أما الاحتمال الثاني الذي ذكرناه فهو آلة الوزن والقياس المعروفة، والتي يتم بواسطتها وزن الأشياء والتعرّف على مقاديرها، فيكون معنى (ووضع الميزان) على الاحتمال الثاني هو خلق الله الميزان لكي يشاع به العدل.

إذا الميزان الذي وضعه الباري (عز وجل)، يمكّن الناس وزن الأشياء المادية الصورية والمعنوية الروحانية، لذلك كان الميزان من النعم الإلهية المهمّة، وأحد ألوان الرحمة الرحمانية. وقد تناولنا بالحديث ما يتعلق بميزان الأشياء المادية، وأمّا ما يتعلق بالمسائل العقلية فإن العقل الفطري الذي وهبه الله للإنسان يعد في ذاته ميزاناً من شأنه أن يحدد الحق من الباطل وأن يفصل بين الصائب والصالح من الأمور وبين النقيض من ذلك، وقد ذكر أهل العلم قوانين عدة بهذا الصدد.

ضرورة الميزان في الأمور المعنوية:

لو افترضنا أن الخالق (تعالى) لم يجعل للأمور المعنوية والباطنية والروحانية ميزاناً يستنبط من تلك الأمور العلم والمعرفة والحكمة التي تعد أساس سعادة الدارين، لهوى الإنسان في وادي الضلال والجهل والضياع، ولظن كل فرد منّا نفسه أفضل الخلق وأعتبر نفسه روحانياً من الطراز الأول، لأن الإنسان بطبيعة حاله يحب نفسه ويكرم شؤونه ويرى لذاته الرفعة على ذوات الآخرين في ضرورة اكتساب المنافع وتأمين المصالح. وعندئذ يبتلى بالعجب والغرور ولا ينظر بعد ذاك إلى الآخرين سوى نظرة التحقير والاستصغار.

ولذلك وتجنبّاً من حصول المنازعات والخصامات وطفو الضغائن والأحقاد والعداوات على سطح الحياة الإنسانية، ألهم الله (تعالى) الإنسان والميزان والقبّان المكيال وسائر آلات القياس والعيار، ثم أوصاه بتعاهدها لكي يستطيع تنظيم شؤون حياته المادية في تبادل المنافع، وفوق هذا وذاك وضع المولى (جل جلاله) موازينَ ومقاييس للأمور المعنوية لكي يُخرج الإنسان والبشرية جمعاء من ظلمات الجهل ونتائجه الوخيمة المترتبة عليه، كالجهل والغرور والكبر، فجاءت تلك الموازين على صور شتى كما سنرى:ـ

القرآن الكريم ميزان للسعادة والشقاء:

فقد جعل الله (عز وجل) القرآن الحكيم ميزاناً للسعادات والشقاوات من حيث جنبة الألفاظ. وما من شك في حقيقة صحة إخبار القرآن لمن أراد أن يستخبره عن نفسه أهو من أهل السعادة أم من أهل الشقاء بل يجده دليلاً مرشداً لما طلب ففي قصة بهلول العاقل مع هارون الرشيد كفاية عن استخبار القرآن في هذا الشأن، فلقد كان هارون في هودجه وقد ارتدى ملابس السلطنة البهيّة، وقد سار موكبه بكل عظمة وحشمة، وإذا بصائح يصيح.. يا هارون!! فأنزعج الخليفة من سوء أدب المنادي وصاح بحاشيته: ائتوني بهذا. (لأنه كان يعتقد بأن ينادى بلقب (يا أمير المؤمنين) ومع إظهار آيات الاحترام والتبجيل) فجاؤوه ببهلول، فبادره هارون قائلاً: كأنك لم تعرفني من أنا يا هذا فناديتني بما ناديتني؟ فأجابه بهلول: كلا، واني لاعرفك بشكل جيد من أنت، الست أنت من خزنة جهنم؟ فاستشاط هارون غضباً وقال له: وكيف ذاك؟ قال بهلول: لأن الله تعالى وهبك الملك والقوة لكي تحول بين الناس وبين أن يسلكوا سبيل جهنم بأن تنهى عن المنكر، ولكنك حيث لم تفلح في حمل الناس على ما آتاك الله إلى سبيل الجنة والرضوان، كنت بذلك أول وارد على جهنم، حينئذ بكى هارون (إما تظاهراً بتأثير الموعظة فيه، وإما تأثراً مؤقتاً) فقال هارون: أصبت يا بهلول، فإلى ما سيؤول حالي؟ قال بهلول: (لقد انزل الله قرآناً ميزاناً للأعمال يستطيع كل منّا ان يعرض حاله عليه)، فاعرض نفسك على قوله تعالى (إنّ الأبرار لفي نعيم* وان الفجّار لفي جحيم) (سورة الانفطار، الآية: 13 ـ 14). وانظر إلى ما سيؤول إليه أمرك؟ ففي الجنة مثواك ان كنت من الأبرار والصالحين، وفي النار عقباك إن كنت من الفجار والأشرار).

أهل بيت النبي (ص) ميزان الأفعال والأقوال:

اما الميزان الآخر لأقوال الإنسان وأفعاله فهم الأنوار الطيبة والعترة الطاهرة للنبي محمد (ص)، فهم الحد الأوسط الحقيقي، والقسط الواقعي، والميزان الدقيق لمن أراد أن يستخبر حاله، فسلوكهم المثال وشأنهم الاعتدال، ومن أراد زنة نفسه فليزن أقواله وأفعاله بأقوالهم وأفعالهم (ولا نقصد هنا تطابق فعل المرء وقوله مع أقوال وأفعال أهل البيت (ع) كأن ذلك مستحيل على كل أحد، ولكننا نريد بقولنا هذا أن يختبر الإنسان أفعاله وأقواله هل هي مؤالفة لأقوالهم وافعالهم (ع) أم أنها مخالفة).

ولاية عليّ (ع) ميزان للأمور المعنويّة:

جاء في تفسير علي بن ابراهيم القمي، إن الإمام الصادق (ع) قال: (والنجم والشجر يسجدان) النجم هو النجم هو جدي خاتم الأنبياء (ص)، ويسجدان ـ يعني يعبدان الله تعالى، (والسماء رفعها) يقصد بذلك سماء النبوة، إذ إن الباري عز وجل قد منّ على جدي رسول الله (ص) بالمقام الشامخ، (ووضع الميزان) يعني ان جعل ولاية علي بن أبي طالب (ع)، فعلي هو القسطاس المستقيم، وعندما تقوم الساعة وتنصب الموازين في يوم الحساب، تأتي مسألة ولاية علي (ع)، فان كان المرء في ولايته لعلي (ع) مراعياً شؤون وسلوك وأقوال علي (ع) كان من أهل النجاة والفوز (وهذا بالطبع لا يخلّ بالوجوه والمعاني الآخر للميزان)، لأن الله تعالى يقول (وزنوا بالقسطاس المستقيم) (سورة الإسراء، الآية: 35). معنى القسطاس المستقيم هو الميزان الصحيح، فهو في الأمور المادية يمثل الميزان والقبان والمكيال وغيرها، أما في الأمور المعنوية فهو الإمام علي (ع) كأحد مصاديقه وأبرزها.

الأنبياء موازين لأممهم:

وقد جاء في رواية حول مضمون قوله تعالى (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة). ان الإمام (ع) يفسر هذه الآية قائلاً: الموازين القسط هم الأنبياء وحجج الله عز وجل، إذ إن النبي (ع) هو ميزان الأمة، فكلما اقترب الإنسان في أحواله وسلوكه وأقواله ومعتقداته من النبي أو إمام الزمان لنال السعادة والمنزلة الرفيعة بنفس ذلك المقدار، لذلك كان علينا لزاماً أن نقيّم أحوالنا وأوضاعنا مع أحوال وأوضاع أئمتنا (ع) كما نرى في هذا الأنموذج:ـ

ترويض النفس على كظم الغيظ:

لقد علّمنا مولانا أمير المؤمنين (ع) فضيلة كظم الغيظ، ولا ندري مقدار ما استفدنا من تعليم مولانا، فكلنا يعرف قصة عمرو بن عبد ود العامري في نزاله مع الإمام علي (ع)، وكيف ان ذلك الدنيء بصق في الوجه الشريف للإمام أمير المؤمنين فما كان من الإمام إلاّ ان كظم غيظ نفسه ولم يؤاخذه على ما فعل انتصاراً لنفسه بل تركه هنيهة دون رد حتى يأخذه بالانتقام في ذات الله عز وجل فكان رده (ع) موضع فخر جميع الأولياء والأوصياء (ع) وسائر الخلق.

أسد الله وفخر ذي الأولى

 

من عليّ خذ درس إخلاص العمل

حيّر في الردّ أرباب النهى

 

حين جار الوغد عمرو وبصق

ولعل من رائع القول ما نُسب إلى الإمام علي (ع) قوله:

فمضيت ثمة قلت لا يعنيني

 

ولقد أمرّ على اللئيم يسبني

إطلالة على إنفاق وزهد أمير المؤمنين:

نطل من خلال الآيات المباركة في سورة الدهر على جانب من إنفاق الإمام علي (ع) في سبيل الله عز وجل كما في قوله تعالى (ويطعمون الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً) (سورة الدهر، الآية: 8). فلقد قدموا طعامهم للآخرين رغم حاجتهم الماسة إليه لصيامهم وفرط جوعهم لأنهم مصداق قوله تعالى (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) (سورة الحشر، الآية: 9). وعن زهد مولى المتقين (ع) الذي صار حديثاً تتناقله الركبان والبوادي من أهل خاصته أو من عامة الناس، فلباسه البسيط الذي لم يكن يحظى منه بأدنى اهتمام يقول عنه مقسماً (والله لقد رقعت مدرعتي هذه، حتى استحييت من راقعها، ولقد قال لي قائل ألا تنبذها عنك؟ فقلت اغرب عني فعند الصباح يحمد القوم السرى)[1] نعم أليس القماش لستر العورة ورفع الحاجة، فأي أهمية تولى لقماش يكون سعر المتر الواحد منه مائة دينار، أو نصف دينار؟ لأن المهم في الأمر هو أن يجد الإنسان ما يستر به عورته ويغطي به بدنه، وان لا يولي الإنسان أهمية لأقوال الآخرين أو أن يتهيب مقالتهم له لبساطة ما يقتنيه لسد حاجاته أو حاجات عياله، ولقد قال معاوية (عليه الهاوية) وهو أحد أشد أعداء أمير المؤمنين (ع)، عن زهد الإمام علي (ع) (والفضل ما شهت به الاعداء): علي هو من لو كان لديه وعاء مملوء بالتبر وآخر بالتبن، لتصدّق بالتبر أولاً ثم لأتبعه بالتصدق بالتبن.

وصف ضرار لعلي (ع):

يقول ضرار بن ضمرة، دخلت على معاوية بعد موت أمير المؤمنين (ع) فقال لي: صف لي علياً, فقلت اعفني، فقال، لا بد ان تصفه، قال ضرار: قلت، إمّا إذا كان فانه كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزخرفها، ويأنس بالليل ووحشته، غزير العبرة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب وكان فينا كأحدنا، يجيب إذا سألناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن والله مع تقريبه وقربه منا لا نكاد نكلمه هيبة له، يعظم أهل الدين، ويقرب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييئس الضعيف من عدله، فأشهد الله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله وغابت نجومه قابضاً على لحيته تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين ويقول: يا دنيا غرّي غيري، أبيّ تعرضتِ؟ أم إليّ تشوقتِ؟ هيهات، هيهات، قد طلّقتك ثلاثاً لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير، وحظك يسير، وعيشك حقير، آه آه من طول السفر وقلة الزاد ووحشة الطريق)[2].

بلى والله، متى كان لعلي (ع) رغبة بالدنيا؟ وما الدنيا؟ لكي يعلق المرء بها قلبه وقد عاش بها ستين أو سبعين سنة؟ فحقاً قول سيدنا أمير المؤمنين أن متاعها إلى زوال ولذاتها إلى اضمحلال وهمومها كثيرة، وأحزانها طويلة.

بعد استعراضنا لجانب من هذا الميزان نقول: لنزن أنفسنا به ولنر هل نمتلك نحن الآن القرب من تلك الأحوال والصفات، أم لا؟ والعياذ بالله تعالى. لندرك بوضوح معنى الميزان الظاهري والباطني.

لا تعرضوا عن الإمام (ع):

(ألاّ تطغوا في الميزان) أي إياكم أن تبخسوا الناس أشياءهم وان تجوروا عليهم هذا عن الميزان الظاهري، اما في الميزان الباطني فتعني هذه الآية، إياكم أن تظلموا أئمتكم وتعرضوا عنهم لانهم هم موازين العدل الإلهي، فمن اعرض منكم بوجهه عن آل محمد (ص) فقد رمى بنفسه في الهلكات، وعليكم أيضاً أن لا تدعوا موازين القسط هذه رهينة دورهم أو أن تتركوها معطلة ثم تركضون خلف من هم سواهم معنى نقض القرآن وظلم نفسه فاصبحوا من المحرومين بما جنته أيديهم.

[ 11 ]

(ووضع الميزان * ألاّ تطغوا في الميزان * وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان) (سورة الرحمن، الآيات: 7 ـ 9).

تقييم الأعمال بميزان الأعمال:

إن من رام الحصول على السعادة التامة وجب عليه أن يجعل من ميزان سلوك الإمام علي (ع) مثالاً يقتدي به في سلوكه، لان الإمام هو ميزان الأعمال كما في زيارة الإمام (ع) (السلام على ميزان الأعمال)، بل حرّي بنا أن نجعل أمير المؤمنين (ع) نموذجاً لتقييم أنفسنا من خلال موازين صفاته وأحواله علاوة على ذلك.

ولعل البعض يعتلج في صدره هذا التساؤل: ما معنى ان أمير المؤمنين ميزان للأعمال؟ وكيف يكون الأنبياء والأوصياء موازين إلهية؟، والجواب على هذا التساؤل هو ان ما يتبادر إلى أذهان البعض من أن أعمال العباد ستكون في كفة ميزان ثم تكن أعمال الإمام علي (ع) أو أعمال النبيين والوصيين في كفة أخرى لمعرفة أي كفة سترجح على الأخرى هو تصور خاطئ، وانما نعني بميزان الأعمال هو تقييم أعمالنا وفق عمل الامام باعتباره أصلا وأساساً ونموذجاً للقياس والتقييم من حيث درجة القرب والبعد والتشابه والتنافر في الأعمال والسلوك، لا أن نتصور ان هناك من سيكون له إخلاص كإخلاص علي (ع) أو عمل كعمل الأنبياء، أو عرفان كعرفان الأئمة، لأن هذا التقييم سيعني بالضرورة هلاك جميع الناس وفق هذا المنظور، لأنه ما من أحد يمتلك من الصفات والفضائل ما لدى اتباع الأئمة (ع) كسلمان وأبي ذر(رض)، فكيف سنتصور رقي الحال بهم إلى درجات الأئمة والنبيين (ع)؟

ومن مثل علي (ع) في عبادته؟

في مرة اعترض بعض الأشخاص على الإمام السجاد (ع) قائلاً له: لم تثقلون على أنفسكم بكثرة العبادة وطول الصيام وغزير البكاء؟ ألستم معصومون؟ ألستم من ذرية النبي (ص)؟ وهنا صاح الإمام السجاد (ع) على ولده وقال له: ائتني بالصحيفة التي تشتمل على ذكر عبادة جدي علي (ع)، فجاءه الإمام الباقر (ع) بها، ثم شرع في تلاوة ما كتب فيها وهنا استرسل الإمام بالبكاء ثم قال: ومن مثل علي (ع)؟!

نعم الإمام السجاد (ع) يقول هذه المقالة، وانه ليعني بها ما يقول، من انه هو أيضاً ليس مقدوره أن يكون كعلي (ع)، وفي هذا الدليل الكافي لكي يدرك الآخرون منزلتهم ويعرفون حقيقة حالهم، واظنني وفقت في الإجابة على تلك الشبهة، فكما عرفتم اننا كنا نتحدث مرة عن النجاة، ونتحدث أخرى عن السعادة التي تمثل منزلة رفيعة للغاية لا تفوقها منزلة، وهذه المنزلة هي المقام الشامخ الخاص بالإمام علي (ع)، وتبقى منازل الآخرين تتدرج في القرب من تلك المنزلة بحظ وهم بالسعادة التي تقترب من السعادة التامة بمقدار قربهم من الإمام (ع) وبمقدار كمالاتهم، فعلى سبيل المثال ان للاخلاص وحضور القلب درجات، فان لم يكن بميسور المرء تحقيق الاخلاص والغفلة، لأن العمل الذي يفتقر إلى الاخلاص لا قيمة له وإن كان في عظم الجبال.

إذاً، الإمام علي (ع) ميزان، وهذا يعني ان اسس السعادة تكمن في علي فلو عمل الإنسان وفقاً لتلك الأسس لحصل على السعادة بالمقدار الذي نهل به من تلك الاسس وعمل بها فيكون الميزان هو ما يحققه الإنسان في كسب النجاة.

أنوار بحار الولاية تغسل أدران الذنوب:

والمعوّل في النجاة هو رجوح الحسنات على السيئات، فلو كانت حسنات المسلم اكثر من سيئاته (حيث تقف حسنة الإيمان بالله، وولاية أهل البيت (ع) في رأس قائمة الحسنات بالطبع) كان من أهل النجاة، ويروى انه (يأتى في يوم القيامة عند الميزان بأعمال المؤمن، فإذا بكفة سيئاته ترجح على كفة حسناته، حينئذ يأخذ اليأس من النجاة يسري في عروقه حتى ليكاد ان ينقطع به الرجاء، فإذا بنور يشع فجأة ويأخذ بغسل ذنوب المؤمن وسيئاته، فيقول: ما هذا النور يا رب؟ فيأتيه الرد: انه نور حب علي (ع).

وقد جاءت عدة روايات بهذا الشأن لمن أراد الاستزادة، يجدها في المجلّد الثالث من كتاب بحار الأنوار.

إذاً كلما ازدادت درجة التعلق والحب (بغضّ النظر عن قلة عمل المحب)، كلّما ظهر أثر جاذبية الحب بين الحبيب والمحبوب، إلى أن يصار بهما إلى الاجتماع.

ميزان الأعمال رادع عن الغرور:

والنقطة الأخرى المهمة في موضوع وضع الميزان هي، الحيلولة دون إصابة المرء بالعجب والغرور، لأن من يراقب إخلاص علي (ع) سيقول في نفسه: أين إخلاصنا من إخلاص علي (ع)؟ ومن يرى عمل علي (ع) في ضربة ضربها في يوم الخندق كانت افضل من عبادة الثقلين، سيقول أين عملنا من عمل علي (ع)؟ ورغم ان علياً (ع) مع كل ما كان عنده من عمل وإخلاص يتأوه مردداً: (آه آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق)!! إذاً ما الذي ينبغي أن نقوله نحن؟ أليس انه من البخس ان نولول ونندب صارخين من قلة فهمنا ووعينا لنكون قد عبّرنا عن إدراكنا لقلة أعمالنا وضعف إخلاصنا لنكون قد مارسنا عبادة ترقق قلوبنا القاسية فنردد في كل حين حروفاً تترجم صدق ما تعتمر به قلوبنا وضمائرنا (الهي أنا المتسوّل الذي قد رام وصلك، قد جئتك وأنا اعلم اني لن أنال ما لم استحقه منك بعملي، ولكني يا رب لست ابرح عن بابك المشرع ولن اقطع من فضلك رجائي (لأن سليمان في سعة ملكة لم يرم النملة بالحرمان من لطفه).

حب علي (ع) ينفع في سبعة مواطن:

يعد موطن الميزان في مواقف القيامة من اصعب المواطن والمواقف، فقد نقل عن النبي (ص) أنه قال: (حبي وحب أهل بيتي نافع في سبعة مواطن، أهوالهن عظيمة، عند الوفاة، وفي القبر، وعند النشور، وعند (تطاير) الكتب، وعند الحساب، وعند الميزان، وعند الصراط)[3] وفي رواية أخرى منقولة عن الإمام الرضا (ع) يقول فيها من زارني على بعد داري، أتيته يوم القيامة في ثلاثة مواطن حتى اخلصه من أهوالها، إذا تطايرت الكتب يميناً وشمالاً، وعند الصراط، وعند الميزان)[4].

القحط والغلاء من آثار نقص المكيال:

ورد في الخبر أن أمير المؤمنين (ع) كان ماضياً في السوق، فرأى عطاراً يزن الزعفران وقد مالت كفة الميزان بشكل مفرط يثير لدى الرائي شكاً ان الميزان فيه عيب، فقال له الإمام (ع): اعمد إلى إصلاح ميزانك أولاً، ثم بعد ذلك زن به (ألاّ تطغوا في الميزان)، وقد ذكر البعض ان معنى الآية هو (إياكم أن تجوروا فيما وزنتم به).

ثم تأتي آية (وأقيموا الوزن بالقسط) وهو تأكيد على ضرورة اقامة الوزن بالعدل (ولا تخسروا الميزان) أي خذوا حذركم ان تنقصوا الكيل والميزان، وقد ثبت ان انتشار نقص المكيال والميزان في أمة ما يؤدي إلى شمولها بالآثار والنتائج السيئة في الدارين، كما أكّد ذلك الحديث النبوي الشريف (لو أخسر قوم موازينهم، رفع الله تعالى البركة عن زروعهم) أي انهم سيبتلون بالقحط والغلاء، إذ إن بعض آثار الذنوب السيئة كما في القحط والغلاء تظهر واضحة في دار الدنيا بسبب نقص الميزان، وحصول الجفاف وقلة الأمطار بسبب منع الزكاة، وكثرة موت الفجأة نتيجة شيوع الزنا، وما على ذلك.

سيول الغش أغرقت البقرة!

وفي معرض الحديث عن النقص في الميزان، يتندّر البعض بتناقل هذه القصة التي تقول ان رجلاً كان يمتلك بقرة يعتاش على بيع لبنها، فصادف ان كثر الطلب على لبنه فعمد لاجل تأمين حاجة الناس إلى خلط اللبن بالماء، وكان لهذا الرجل صاحب ناصح ما إن أدرك ما عمد إليه صاحبه حتى سارع إلى نهيه عن الغش وردعه إلى حالته الأولى، ولكن صاحب البقرة لم يرعوِ وضاعت نصائح الصاحب المخلص هباءً، واستمرت الحال بصاحب البقرة، يخلط لبنها بالماء ويقدمه للناس فترة من الزمن، حتى جاء في أحد الأيام سيل عظيم اجترف المنازل والمزارع، وكان من ضمن ما اجترفه السيل، بقرة البائع الغشاش، فحزن صاحب البقرة على ضياع رأس ماله وأهتم كثيراً لذلك، فجاءه صاحبه الناصح مغتنماً الفرصة ليقدم له العزاء على ما أصابه قائلاً له: لا تحزن يا أخي وليكن حسن عزائك التجمل بالصبر، كل ما في الأمر إن الماء الذي خلطته طيلة أيامك الماضية مع لبن بقرتك قد استحال سيلاً واجترف البقرة، فلا تبتئس!!.

نعم إن النقص في الكيل والميزان يعدم البركة، لأن المنقص عندما يظن انه قد خدع المشتري انما قد خدع نفسه في الواقع وظلمها، لأنه سيخسر ماله في الدنيا نتيجة سوء عمله، وسيكون نصيبه في الآخرة:ـ

إحاطة الديّانين بالمخسر في يوم القيامة:

عند قيام القيامة يتعلق الديانون بمن أخسر الناس حقوقهم وانقصهم كيلهم ووزنهم فيطالبونه عن كل درهم بسبعمائة ركعة صلاة، فإن أعطى وفى، وان لم يعط حمّلوه من أوزارهم وذنوبهم بذلك المقدار، وفي رواية يرويها العامة، أن المخسر يطالب عن كل درهم بأربعة آلاف ركعة فإن وفى فبها وإلاّ فإنه يعذب بذلك المقدار.

وبعد أن تتم تصفية حسابات الناس مع المخسر، يساق به إلى جهنم فيجد أمامه جبلين من نار، فيقال له: اذهب وزن من هذين الجبلين)[5]!

وكان الإمام أمير المؤمنين (ع) يأتي إلى سوق الكوفة وينادي (اتقوا الله * ولا تخسروا الميزان * وزنوا بالقسطاط المستقيم)، وحقيقة الأمر ان النقص في الميزان لا قيمة له، لأن البطن تمتلئ بكل ما يملأها المرء، ولكن العمل هذا يؤدي بصاحبه إلى خسران الدنيا والآخرة ونحن نعلم ان العيال والاطفال لا يأكلون إلا ما قدرّ الله لهم من رزق، فالله الله أن تجعلوا رزق عيالكم مالاً حراماً فيأتونكم في القيامة هم أيضاً ويأخذون بتلابيبكم صارخين بكم لم أخسرتم الميزان وأطعمتونا مالاً حراماً؟

فتأملوا كيف ان لذة أي عمل لا تعدو طرف اللسان ثم يكون مصيرها الزوال بسرعة، فلم يضيع الإنسان نفسه في وديان الشقاء والبلاء العظيمين، أترونها لذة لها عظيم نفع؟!

إكراماً لصنمِهِ، لا يُخسر عابدُ الصنمِ الميزانَ!!

كتب أحد أصحاب كتاب التذكرة انه في سفر له إلى الهند ذهب إلى دكان قصاب ليشتري اللحم فلفت نظره تشاغل القصاب عند وزن اللحم بالنظر بين الحين والآخر إلى شيء قد لفّه بالمنديل في أعلى الميزان: يقول سألته: مالك كلّما أردت أن تزن اللحم نظرت إلى ذلك المنديل الملفوف؟ فأجابني: إن ذلك الذي تراه ملفوفاً هو صنمي، وقد علقته في أعلى الميزان لكي أرقبه كلما أردت وزن اللحم لئلا تدفعني نفسي إلى إنقاص الوزن!!

وأسوء من عبدة الاصنام اولئك الذين يبرأ الإسلام منهم وهم يزعمون انهم يؤمنون بالقرآن ويؤمنون بقوله تعالى (وهو معكم أينما كنتم) (سورة الحديد، الآية: 4). ولكنهم عندما يجدون أنفسهم تدفعهم لطلب المزيد من المال بطريق الحرام يسارعون إلى إنقاص الوزن والكيل ويغشّون الناس ويرتكبون ألوان الجرائم والخيانات، كما كان شأن عسكر كربلاء عندما ارتكبوا أفظع جريمة بحق الدين رجاء جائزة حقيرة أمّلهم يزيد (لعنه الله) بتقديمها لهم.

 

[1] نهج البلاغة ـ الخطبة 160.

[2] عدّة الداعي، لأحمد بن فهد الحلي.

[3] خصال الصدوق.

[4] عيون أخبار الرضا (ع) (ص361، باب66).

[5] (روي عن النبي (ص) انه قال: إن من يختان الناس في المكيال والميزان، يؤتى به في القيامة إلى جهنم، ويوضع بين جبلين من نار، ثم يقال له: كِل وزِن هذين الجبلين، ويبقى على هذه الحال في النار). تفسير منهاج الصالحين.

 

 

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست