.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

أسماء الله هي ماع أقره الشارع المقدس

 

[ 57 ]

(تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام) (سورة الرحمن، الآية: 78).

أسماء الله هي ما اقرّه الشارع المقدس:

قلنا إن الأسماء اللفظية هي الأسماء التي تدلل على أصحابها، والتي وضعت من قبل واضعين لها بحيث صارت تلك الأسماء علامة وسمة للمسمّى بها، وأسماء الله تعالى فيها اللفظي وفيها التكويني، أما اللفظي منها وكما في هذه الأسماء المباركة (الله، الرحمن، الكريم) تدلل على وجود وضع لها وثبات، لذلك كان إطلاق الأسماء على رب العالمين موقوف على تلك الأسماء التي أجازها الشارع المقدس فلا يمكن لأحدٍ أن ينتخب اسماً لله تعالى من عنده فيسميه به كأن يسمي الله (الجوهر) أو (العاشق)، فهذا الأمر لا جواز فيه إطلاقاً لثبوت عدم تسمية الشارع المقدس لهذه الأسماء، أما الأسماء (الشريف).. (الحبيب) أو (المحب) فيمكن اطلاقها على الله عز وجل لورود مثل هذه الأسماء عن الشارع المقدس (جل جلاله).

الدليل العقلي أقوى من الدليل اللفظي:

فدليل الموجودات (أي الأسماء التكوينية) على الله عز وجل هو دليل عقلي، وهو عند العقلاء أقوى بمراتب كثيرة من الدليل اللفظي، لذلك كان أهل البيت (ع) (وهم أسماء تكوينية لله تعالى) أسمى وأشرف من الأسماء اللفظية. وبالتأكيد ان كافة الموجودات هي أسماء الله تعالى ولكن الأنبياء والأولياء (ع) من حيث الاسمية لهم الغلبة والترجيح على سائر الموجودات لانهم (ع) من أبينا آدم (ع) وحتى سيدنا المسيح (ع) هم أسماء وجودية لله عز وجل، وكل منهم في حقيقته يمثل تجليّاً لصفة، واحدة أو اكثر من صفات الله تبارك وتعالى.

اما سيدنا محمد (ص) وآله الطاهرين (ع) فهم أسماء الله الحسنى، وهم الذين تجلّت بهم صفات الله عز وجل بشكل كبير, وما الموجودات بأسرها إلاّ كلمات الله، ويبقى محمد (ص) وأهل بيته (ع) هم الكلمات التامّات.

الحسن الذاتي والحسن الوصفي:

لقد تطرقنا سابقاً إلى موضوع المرايا، وسنتكلم الآن عن المرايا من جانب غير الجانب الذي تناولناه بالحديث سابقاً، والموضوع الذي سنطرقه هو موضوع الظهور التام، الناقص للشيء، وجانب نوعية وكيفية المرآة من حيث القيمة، فكما هو معروف أن بعض المرايا مصنوعة من مادة البلور الثمينة وهي تشتمل على حسنيين الحسن الذاتي والحسن الوصفي (حسن الاظهار)، بينما هناك مرايا تشتمل على حسن واحد.

فأهل البيت (ع) لديهم الحسن الذاتي ولديهم أيضاً الحسن الوصفي، فهم قد نهلوا من مبدأ الوجود بشكل كاف واستطاعوا أن يظهروا مبدأ الوجود بصورة حسنة فكان نور محمد (ص) هو أول المخلوقات التي ظهرت وتجلت وتلألأت، فكانت منه أنوار العرش وغيرها، وعن نور الحسين (ع) وهو نور الأنوار انبثقت الجنة (وهي نور في حقيقتها).

فأهل البيت (ع) مظهر ودليل لجميع أسماء وصفات الله عز وجل، حتى أن أسماءهم الشريفة هي في حقيقتها منبثقة عن اسم الله تعالى كما يتأكد ذلك في هذا الحديث المبارك.

أسماء أهل البيت (ع) مشتقة من أسماء الله تعالى:

فقد نقل صاحب تفسير الصافي عن الإمام السجاد (ع)، عن آبائه (ع) عن رسول الله (ص) أنه قال (يا عباد الله، إن آدم لما رأى النور ساطعا من صلبه إذ كان الله قدر نقل أشباحنا من ذروة العرش إلى ظهره رأى النور ولم يتبين الاشباح، فقال يا رب ما هذه الأنوار؟ فقال عز وجل أشباح نقلتهم من اشرف بقاع عرشي إلى ظهرك، ولذلك أمرت الملائكة بالسجود لك إذ كنت دعاء لتلك الاشباح، فقال آدم يا رب لو بينتها لي، فقال الله عز وجل: أنظر يا آدم إلى ذروة العرش، فنظر آدم ووقع نور أشباحنا من ظهر آدم على ذروة العرش فأنطبع فيه صور أنوار أشباحنا التي في ظهره كما ينطبع وجه الإنسان في المرآة الصافية فرأى أشباحنا، فقال ما هذه الاشباح يا رب، قال الله: يا آدم هذه اشباح افضل خلائقي وبرّياتي، هذا محمد وأنا الحميد المحمود في فعالي اشتققت له اسماً من اسمي، وهذا علي وأنا العلي العظيم شققت له اسماً من اسمي، وهذه فاطمة وأنا فاطر السماوات والأرض، فاطم أعدائي من رحمتي يوم فصل قضائي، وفاطم أوليائي عما يعّيرهم ويشينهم فشققت لها اسماً من اسمي، وهذا الحسن وهذا الحسين وأنا المحسن المجمل شققت اسمهما من اسمي، هؤلاء خيار خليقتي وكرام بريّتي، بهم آخذ وبهم أعطي وبهم أعاقب وبهم أثيب، فتوسّل بهم إلي يا أدم، وإذا دهتك داهية فأجعلهم إليّ شفعائك فاني آليت على نفسي قسماً حقاً ألاّ أخيّب بهم أملاً ولا أرد بهم سائلاً، فلذلك حين زلّت منه الخطيئة دعا الله عز وجل بهم فتبت عليه وغفرت له[1].

الأسماء التي يسميها الله تعالى تشتمل على المعاني:

وتختلف تسمية الله تعالى للأشياء عن تسميتنا نحن لها، ونعني بذلك التسمية ذات المعنى، اذ ان الإنسان انما يسمّي لأجل ان يضع السمة والعلامة على المولود الجديد مثلاً لأجل أن يمّيزه فعندما يسمي المرء وليده باسم زين العابدين فهو لم يراع مسألة العبادة. وانه ينتظر من وليده ان يكون بالفعل زيناً للعابدين، أو أن يمسي المرء ابنته الدميمة قمراً، أو أن يسمي ابنه قبيح الوجه حسناً، فهو في هذه التسمية لا يراعي موضوع المعنى في التسمية لذلك نرى شهرة تسمية الطفل الاعمى (في إيران) باسم نور علي. ولكن تسمية الباري تعالى تشتمل على المعنى المطابق للسمة، فهو عز جل عندما يقول اشتققت له اسماً من اسمي فانما قد اشتق له اسماً يحمل في طياته صفة من صفات الله عز وجل يجلّيها صاحب الاسم الموسوم بالاسم الإلهي.

إذاً التسمية الإلهية لا تقتصر على اللفظ لوحده، فهو عندما سمى حبيبه ونبيه محمداً (ص) فانما قد اختار له هذا الاسم واشتقه له من أفعاله الحميدة لأنه تعالى هو الحميد المحمود في فعاله، لذلك أراد ان يظهر أفعاله الحميدة جلية فخلق حبيبه (ص) وأسماه محمداً (ع) لكي يعرف الخلق على صفة الله هذه.

محمد (ص) الأسوة في جميع خصاله وفعاله:

ومما لا شك فيه أن محمداً (ص) كان يحمل في بدنه الإنساني جميع الصفات والأفعال والأقوال الحسنة الحميدة سواء كان ذلك قبل البعثة أم بعدها، بحيث ان الجميع اتفق على ذلك، المحب منهم أو الكاره، والعدو منهم أو الصديق، فهو العفو الحليم الرحيم الرؤوف، وكما قيل فيه (ص) (حسنت جميع خصاله) دون شك.

وعلي (ع) قد أشتق الله عز وجل له اسمه من أسمائه تعالى أيضاً، فالله هو العلي العظيم، فعلي هو العالي السامي في علو شأنه فتجلت عظمة الله وعلو شأنه في علي (ع) ولذلك فمن يريد ان ينظر إلى علو الله وعظمته فلينظر إلى علي (ع)، ويكفي من رفيع مقام علي (ع) وعلو شأنه أنه لم يعرف منزلته هذه إلاّ الله تعالى ونبيه محمد (ص) بحيث ان بعض الأفراد ممن يفتقرون للاستعدادات اللازمة في إدراك مقام علي (ع) قالوا بألوهيته (نستغفر الله).

الشفاعة الكبرى للزهراء(س) في محشر القيامة:

وعن فاطمة الزهراء(س) قال الباري تعالى، اشتققت لها اسماً من أسمائي فانا فاطر السماوات والأرض وهي فاطمة، وتعني كلمة (فاطر) فاصم الشي وفاصله عن بعضه البعض، وهو ذات معنى (فاطمة) الذي يعني كذلك الفصل والفصم.

فقد فطر الله عز وجل السماوات والأرض من عالم العدم إلى عالم الوجود ومن ظلمات (الماكان) إلى نور الكينونة، وتجيء فاطمة (التي اشتق الله تعالى اسمها من اسمه) يوم القيامة فتعظم محبيّها من ظلمات المحشر بشفاعتها وتترك المحشر الحالك يضج بأعدائها لوحدهم.. ويروى ان تجمع الخلائق في عرصة القيامة يكون على هيئة طوائف ثلاث، قد امتازت كل طائفة عن غيرها بما كتب على جباه أهلها، فطائفة تحمل عنوان (هذا مؤمن) على الجباه، وأخرى تحمل عنوان (هذا كافر)، والثالثة تحمل عنوان (هذا محب) وهذه الطائفة الأخيرة هم محبّوا أهل البيت (ع) الذين يكونون آنذاك بأمسّ الحاجة إلى الشفاعة، فتأتي الزهراء(س) فتنقل اولئك النفر بشفاعتها من ظلمات محشر القيامة إلى أنوار جنان الخلد.

الحسنان مظهران من مظاهر تجلّي الإحسان الإلهي:

والحسنان (ع) قد اشتق الله عز وجل لهما اسميهما من أسمائه فهو المحسن المجمل ذو الاحسان والأنعام، والحسنان هما مظهران من مظاهر تجلّى الاحسان والانعام الإلهيين اللذان بلغ من شأن احسانهما انهما لا يردان يد سائل إلى صدره خاوية من فضل الله.

يقول الشيخ الشوشتري (عليه الرحمة) في باب البكاء على الحسين (ع)، ولو ترقرق الدمع في عين المرء دون أن ينهمل لشمل الله هذا العبد برحمته، ولو انحدرت الأدمع من عينيه ولو مقدرا جناح بعوضة لأثابه الله تعالى بذلك ثواباً حسناً، ولو جرت دموع المرء حتى اخضّل منه وجهه لأثابه بذلك ان يحول دون ان ترهق وجه ذلك العبد ذلة أو قتر في القيامة. وما ذكره الشيخ الشوشتري يطابق تماماً ما جاءت به الروايات في هذا الشأن. إذاً الاحسان هو أحد صفات الله تعالى، وعليه فهلموا نقبل بوجوهنا إلى الحسين (ع) لننال العطاء الإلهي الفذ بشفاعته واحسانه، ولعلّنا نعرف قصة آدم (ع) التي يقول فيها (مالي كلمّا ذكرت الحسين (ع) هاجت بي الأحزان؟ وكيف لا وجبريل قد حدث آدم (ع) بمصيبة الحسين (ع) وعطشه.

[ 58 ]

(تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام) (سورة الرحمن، الآية: 78).

ولله الأسماء الحسنى فأدعوه بها:

وها قد تبينت لنا حقيقة أسماء الله الحسنى، ومصاديقها في أهل بيت النبي (ص)، وثبت لدينا أن أسماء أهل البت (ع) هي أحسن وأشرف أسماء الله التكوينية الخارجية التي جلّت صفات الله عز وجل. وانما قيل لأسماء الله الحسنى حسنى، لأنها اشتمل على جوانب ثلاثة هي:

1 ـ جانب الدلالة. 2 ـ جنب الذات. 3 ـ جانب الصفة.

ولقد شبّهنا الموجودات بالمرايا المستوية التي تعكس صور الصفات والأفعال الإلهية مما شّع منها على سطوحها، فظهر من شأن الله تعالى ما ظهر وبذات المقدار المناسب من لياقة تلك الموجودات واستعداداتها.

أما الحسن في جانب حد الذات، فكان مصداقه في الصوادر الأولى، وهم الأنبياء والأئمة (ع)، فهم يظهرون بشكل جلّي صفات الجمال والجلال الإلهيين، وهم اسم الله الأعظم. لذلك نلفت انتباهكم إلى أن قوله تعالى (ولله الأسماء الحسنى فأدعوه بها). (سورة الأعراف, الآية: 180) يعني أسماء العترة الطاهرة التي جاء الأمر الإلهي بضرورة التمسك بها.

النمطيّة الواحدة في الأسماء اللفظية:

ويعترض بعض المحققين على موضوع اعتبار الأسماء اللفظية أسماءً حسنىً، قائلين إن ذلك لا يولد القناعة الكافية في اعتقاده باعتبار وجود النمطية الواحدة في الأسماء اللفظية. فطالما كانت الأسماء لفظية فهي حينئذ لا تعدو أن تكون مجرد أسماء لا يخرج من وتيرة اللفظ بينما تتحقق حقيقة المراتب والمنازل في الأسماء العينية الخارجية المشتملة على المراتب.

وهذه الأسماء هي التي جاء الأمر الإلهي بالدعاء بها لانجاح المطالب وأشرف مراتب الأسماء الحسنى هي مرتبة وجود خاتم الأنبياء محمد (ص) ثم أهل بيته الطاهرين (ع) الذين سماّهم الباري عز وجل في كتابه الحميد بالوسائل الإلهية كما في قوله (وابتغوا إليه الوسيلة) (سورة المائدة، الآية: 35). ومن البديهي ان لا تمتلك الوسائل أية استقلالية في ذاتها، إنما نالت ما نالت من الشرف من خلال وساطتها في نيل وايصال الفيوضات الإلهية، ولكيما تتضح هذه الحقيقة بشكل اكثر، ننقل لكم شرح سلمان الفارسي (رض) لهذه الحقيقة:

سلمان يحاور المنافقين:

فقد أورد صاحب البحار في المجلد التاسع عشر هذه الحادثة، يقول إن سلمان الفارسي(رض) كان جالساً في مسجد النبي (ص) يوماً وحوله جمع من أهل الاسلام قد اندّس بينهم بعض المنافقين الذين حرموا من نعمة الولاية، فقال سلمان: لو كانت لأحدكم حاجة مهمة عند السطان ما، فهل هناك من شك ان سيسارع صاحب الحاجة هذه إلى اكرم الناس على السلطان ليشفع، له في نيل حاجته فيجعله وسيلته (وهذا في الواقع أمر وجداني)؟ فأقر الجميع بذلك، وهنا عاد ليقول لهم: فاعلموا إذاً ان أحب الخلق إلى الله وأكرمهم عليه هم محمد وعلي (ص) فادعوا الله بهما واجعلوهما لما سألتم الله فيه الوسيلة. فطفق المنافقون يسخرون ويستهزئون من قول سلمان معلنين عن نفاقهم بالقول: لو كانت اجابة الله موكولة ببركة التوسل بمحمد وعلي كما زعمت، فعلامك لا زلت فقيراً؟! ألا تسأل الله بهما ليغنيك فيجعلك أغنى أهل يثرب؟ (لقد ظن اولئك الجهال أن الرزق الإلهي لا يعدو الطعام واللباس والسكن والنكاح، يقول الإمام الرضا (ع): (العقل رزق)، تصوروا انهم يظنون ان الرزق منحصر بالشؤون المادية لوحدها، ولا يدرون ان الرزق المعنوي صورة اخرى من صور الرزق الإلهي ويفوق في شرفه وشأنه الرزق المادي) فأجابهم سلمان قائلاً: فوالله لقد أبّر الله قسمي عليه عندما سألته بحقهما حينما أعطاني من فضله الجزيل ما يعدل الدنيا وما فيها بمائة ألف الف ضعف، فبهت المنافقون من قوله هذا، وسألوه: وما أعطاك؟ قال سلمان: إنه كنز ثمين (فظن الحمقى أنه قد هدي إلى أموال طائلة) فقالوا: وأي كنز هذا؟ قال: لقد سألت الله أن يهبني قلباً ذاكراً ولساناً شاكراً وان يجعلني عند البلاء صابراً، ولقد انعم الله عليّ بما سألته ببركة أهل البيت (ع).

الأسماء التي يستجيب الله بها:

(فأدعوه بها) أي فادعوا الله بهذه الأسماء الحسنى، لأن هذه الأسماء هي وسائل نيل الآلاء، والنعم التي منّ الله عز وجل على العالمين بها (لقد منّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم) (سورة آل عمران، الآية: 164). فألبس تلك الأنوار لباس البشرية وجعل ذكرهم مستوجباً للتطهير من الذنوب وباعثاً على قبول الأعمال كما في النص الآتي (وجعل صلواتنا علكيم... كفارة لذنوبنا)[2] وأيضاً في نص الدعاء التالي (وباسمك الذي إذا دعيت به أجبت وإذا سئلت به أعطيت)[3]. وما الأسماء الحسنى إلاّ أسماء أهل البيت الذين لو جعلهم المرء وسيلته إلى الله تعالى بقلب واع وهو عارف بحقهم لاجيبت دعوته البتة، ولقضيت حاجته قطعاً، ان (إن للدنيا أو للآخرة)، مع ان الدنيا لا قيمة لها بذاتها كما قال سلمان(رض) (افضل من الدنيا بمائة ألف الف ضعف).

اختلاط الحرمان بالثراء:

ولعل البعض يقول لقد توسلنا على الله تعالى بأهل البيت (ع) ولكننا لم نجد لقضاء حوائجنا جوابا, فنقول إن الدنيا بذاتها مذمومة، وقد عمرت بالحرمان والمكاره، ولو دققنا النظر فيمن حصل على الثراء والسعة لوجدناهم قد اندفعوا نحو التوسل بالبقاء في دار الفناء! وقد باتوا وكأنهم مسامير قد سمّرت في الدنيا لا يبغون عنها حولاً ولا بدلاً وهم على تلك الحال يصعب انتزاع حب الدنيا من قلوبهم، ولو ادركهم الموت لألفيناهم قد خفقت قلوبهم لأموال الدنيا ومناصبها, لذلك نظر الله تعالى بعين رأفته وحكمته إلى مصالح عباده فابتلى بعض العباد بالحرمان والبلاء المناسب لحالهم، ثم لا يلبث بعد ذلك أن يمن عليهم بفرجه، لأن الله عز وجل لا يجعل عبده يرى الحرمان المنقطع إلى الهم والمؤدي إلى اليأس من رحمته، وهو في جانب آخر لا يعطيه الثراء والعطاء الذي يؤدي بقلبه إلى الشغف بالدنيا الزائلة حباً ورغبة. ومما لا شك فيه أن توسل العبد بأهل البيت (ع) إلى الله تعالى وجعلهم شفعاء في قضاء حوائجه يؤدي إلى اجابة الحوائج وقضائها ولكن بشرط تطابق ما سأل مع مقتضيات الحكمة الإلهية والمصالح العامة وفي الأوان المناسب.

ولو افترضنا عدم قضاء حاجة العبد في الدنيا, فمن المسلّم به ان الله عز وجل سيجعل له ما طلب ذخيرة للآخرة كما فصّلنا القول من قبل عند تعرضنا لقوله تعالى (يسأله من في السماوات والأرض). (سورة الرحمن, الآية: 29)

الاستغاثة بأهل البيت (ع) مؤكّدة الأثر:

ولقد جاءت وصايا عديدة تؤكد ضرورة التوسل بأهل البيت (ع)ن ولو كان الحال هو انعدام الأثر لما جاءت التأكيدات على موضوع التوسل والحث على المداومة عليه، وقد أفرد كتاب بحار الأنوار في المجلد التاسع عشر منه باباً خاصاً لموضوع الاستغاثة بأهل البيت (ع) اشتمل على ذكر الصلوات والأدعية الخاصة بهذا الشأن، بل أنه أشار إلى بعض القضايا والأمور الباعثة على التعجب والاندهاش لما في ذلك من عبر ومواعظ، كما في قصة أبي العباس احمد بن كثير ومكابداته عام 382 هجرية في سجن سليمان بن الحن، وصدور حكم الاعدام بحقه، ثم حصوله على النجاة والخلاص من الهلكة بعد استغاثته وتوسله بأهل البيت (ع)، وبالذات بالامام أمير المؤمنين (ع).

أينما حلّت العظمة والانعام فهي من الله تعالى:

(ذي الجلال والإكرام) وتقرأ أيضاً (ذو الجلال والإكرام) والأولى أشهر، وفيها يكون المعنى للآية الكريمة هو ـ عظم اسم ربك صاحب الجلال والإكرام ـ ذي الجلال والإكرام هنا صفة للرب تعالى على القراءة الأولى وفي القراءة الثانية صفة لاسم الرب (تعالى). ولقد قلنا آنفاً أن اسم الرب العظيم والمبارك هم محمد وآله (ص)، وقد ذكر صاحب مجمع البيان وغيره من المفسرين جملة من الروايات الواردة عن رسول الله (ص) التي تحث العباد على الاكثار من الدعاء بهذين الاسمين المباركين. لأنه من المقطوع به عند الدعاء بهذين الاسمين الكريمين أن يمن الله عز وجل بإجابته على الداعي بما احتمل الاسمان الشريفان من معانٍ ساميات. فمعنى الجلال: هو العظمة والكبرياء والاستغناء المطلق ومن المؤكد ان الجلال والعظمة هي شأن الله وحده وكل ما عداه ذليل، وما من عظمة نراها أينما كانت إلاّ وتعرب عن عظمة الله (عز وجل) وجلاله.

اما معنى الإكرام: فهو الإنعام والفضل والإحسان، فالله تعالى هو صاحب الإكرام وحده، أي انه هو صاحب الفضل العظيم والمن الجسيم، فهو يكرم الجميع، وحقيقة ما يقدمه المرء إلى الآخرين من احسان انما هو من عند الله (جل جلاله) لأن الخلق كله لله وهم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد.

التنّور وإبصار النور:

وطبقاً للتفسير الوارد عن الإمام الباقر (ع) في معنى هذه الآية الكريمة مما أشرنا إليه من قبل في قوله (ع) (نحن جلال الله وكرامته)، فان الله عز وجل يمن على كل عبد تعلّق بحجزة أهل البيت (ع) بالعظمة ويحفّه بكرمه، وكما قلنا آنفاً ان الله عز وجل عندما يجيب عبده الراعي بالاسمين الشريفين (ذي الجلال والإكرام) فانما يجيب بما يحملان من معان، لأن (من لم يتنوّر لا يستطيع رؤية النور)، وقد قال الحكماء: يجب أن يكون المدرك (بكسر الراء) من سنخ المدرك (بفتح الراء) ليتمكن من الادراك عندئذ. ولقد طهر الله تعالى أهل البيت (ع) (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً) (سورة الأحزاب، الآية: 33). ولما كانوا (ع) مطهرين وطاهرين، استلزم ذلك امتلاك المرء لعين سالمة طاهرة نظيفة تمكّنه من رؤية جمالهم وساطع أنوارهم، ومعرفة أسرارهم المعنوية. وما كانت التأكيدات والوصايا والتعاليم الاخلاقية المتعددة والمتكررة بشأن تهذيب النفس ومحاولة الحصول على ملكات الزهد والتقوى إلاّ لأجل أن يحصل الإنسان على السعة والرحبة في الصدور فيكون عظيماً وحينها يدرك العظمة، ومن لم يعظم به حاله سوف لن يتسنى مطلقاً مجالسة العظماء والنهل من فيوضهم.

إذاً لا نجد مناصاً من القول إن حقيقة إدراك جلال وعظمة أهل البيت (ع) مرهون بلزوم اكتسابنا للجلال والعظمة.

الاكرام الإلهي للشيعة ببركة أهل البيت (ع):

(نحن جلال الله وكرامته) وهو قول أهل البيت (ع) في معنى الآية الكريمة، ويعقّبون القول (سلام الله عليهم أجمعين) ـ (نحن كرامة الله التي اكرم الله عباده بطاعتنا ومودتنا) ـ بل والله إنه لكذلك، بل وأن ما سمعناه أو قرأناه ما هو إلاّ قطرة من بحار كرامات الله عز وجل، لأن بركة أهل البيت (ع) تحول بين المرء المؤمن وارتكابه للذنوب، بل ويجعل مسألة اجتراح السيئات على المؤمنين صعبة شاقة، وطعمها مراً علقماً، فمن بركة أهل بيت العصمة (ع) أن لا يعرف المؤمن للدنيا أية أهمية وينزع عن قلبه غشاء محبتها.

والحمد لله رب العالمين



[1] تفسير الصافي (ص 27).

[2] الزيارة الجامعة الكبيرة، كتاب مفاتيح الجنان.

[3] دعاء ليلة عرفة، كتاب مفاتيح الجنان.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست