.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

تناسب العذاب البرزخي مع كبر المعصية

سيماء المؤمن والكافر في عصر ظهور المهدي عليه السلام

 

[ 44 ]

(فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان * فبأي آلاء ربّكما تكذبّان * يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والاقدام) (سورة الرحمن، الآيات: 39 ـ 41). (لا بشيء من آلائك رب اكذب).

تناسب العذاب البرزخي مع كبر المعصية:

قلنا عن موضوع التناقض الموعوم في هذه الآية القرآنية مع غيرها من الآيات أنه يرتفع بمجرد عدم تحقق أحد الشرائط الثمان آنفة الذكر، وقد تحقق لدينا الآن ارتفاع التناقض من خلال شرط تعدد المكان إذ إن الموقف الأول والمسمى بموقف البعث والنشور لا يشتمل على السؤال باعتبار حالة الدهشة والرعب التي تتملك جميع الخلائق حينذاك وهو موقف يختلف تماماً عن موقف الحساب. ثم ذكرنا وجود التعددية في شرط وحدة المحمول، وقلنا بوجود تعدد الأشخاص الذين يتراوح حالهم بين تحقق الحساب والمسائلة معهم وبين عدمه في القيامة، وقلنا أن المسلّم به هو اعفاء المسلم الموالي لأهل البيت (ع) التائب عن ذنوبه في دار الدنيا أو المطهر في سجن البرزخ وعذابه من الحساب والمسائلة هناك لأنه سيقدم على الآخرة وهو نقي طاهر لا تبعة عليه، وقد أكدت هذه الحقيقة كما قلنا جملة من الروايات الشريفة.

وهنا نبّه إلى أن شكل الذنب وحجمه يتطلب أنواعاً وألواناً من العقوبات والعذاب يتناسب معها، فقد يستدعي ذنب عذاباً برزخياً لمدة سنة واحدة، بينما يتطلب بعض الذنوب عقاباً يشتمل على عذاب برزخي لألف سنة مثلاً، ويتأكد ذلك بالخصوص في موضوع حقوق الآخرين، وعليه وجب الحذر الشديد من مسألة عدم الايفاء بتلك الحقوق أو تعمد غبنها أو انتهاكها، ولكي نتبيّن صورة الخطر المرعب هذا، نطالع سوية هذه القصة:

سنة من العذاب لأجل حقوق الناس:

ذكر المرحوم الحاج الشيخ النوري في كتابه دار السلام نقلاً عن المرحوم الحاج السيد محمد الأصفهاني (وهو من كبار علماء أصفهان) أنه قال: بعد مضي عام واحد على وفاة المرحوم والدي، شاهدت في ليلتي تلك في عالم الرؤيا والدي وسألته عن أحواله فأجابني لقد كنت في عناء شديد لم افرغ منه نهائياً إلاّ يوم أمس، فعجبت لقوله وسألته عن سبب عنائه ذاك؟ قال: لقد كنت مديناً بثمانية عشر قراناً[1] للسقا المعروف بمشهدي[2] رضا ونسيت أن اوصي بها في وصيتي لأجل ترد إليه، ولقد صرت إلى اليم العذاب منذ ساعة وفاتي وحتى يوم أمس حينما وهب (المشهدي رضا) لي حقه الذي بذمتي، وأنا الآن في حال حسن. يقول السيد محمد الاصفهاني، كانت هذه الرؤيا حينما كنت مقيماً في مدينة النجف الأشرف فسارعت إثرها إلى كتابة رسالة إلى اخوتي في مدينة اصفهان وضمّنتها موضوع الرؤيا وسألتهم التحقق من مسألة الدين الذي كان في ذمة والدي وطلبت منهم تسديده لصاحبه، ولما وصلت رسالتي لهم ذهبوا إلى المشهدي رضا السقا وسألوه عن دين والدي فأجابهم بالايجاب وقال لهم: لقد كان لي بذمته ثمانية عشر قراناً، ولكنه قد مات وضاع عليّ حقي لأنني لم آخذ عليه حينها سنداً بالمبلغ، وعزفت عن المطالبة بحقي لأنني ظننت أنها ستكون عقيمة لعدم وجود الدليل على حقي، وبعد مرور عام على وفاة والدكم تذكرت الدين فحدثني نفسي أن والدكم قد قصّر بحقي عندما لم يكتب لي بالدين، بل انه لم يتجرأ أن يذكره في كتاب وصيته، فقلت لأهبها له على حب جده رسول الله (ص) لكي لا يعذّب عليها، وهنا سارع اخوتي بدفع مبلغ الدين إلى هذا الرجل فاعتذر عن قبوله وامتنع قائلاً: كيف آخذ ما وهبته! فتأمّل عزيزي القارئ وأعلم ان البقاء في عذاب البرزخ مرهون بنوع الذنب وخطره، وأن شيعة علي (ع) يتم تطهير المذنب منهم غير التائب في البرزخ.

تطاول زمان الحساب في القيامة، إمعانٌ في عذاب المذنبين:

اما الوجه الثالث في باب حل اشكال التناقص فهو كيفية السؤال، فهل هو سؤال استفهامي؟ ام هو سؤال استنكاري؟، فمرة يسال المرء ماذا عملت؟ بقصد أن يطلع السائل على ما فعله المسؤول لأن السائل لا يدري، ومرة يسأل المرء ماذا عملت؟ بقصد التوبيخ وهو يعني في نص سؤاله لماذا تجرّأت على فعل هذا الأمر القبيح استنكاراً وتوبيخاً، لذلك كان موقف البعث عندما يخرج المرء رأسه من قبره وينفض عنه التراب وهو على هيئته الحقيقية فلا ضرورة حينها للسؤال الاستفهامي لأن الله تعالى يظهر كل ما أخفاه العبد في دنياه، في يوم القيامة, بينما يكون السؤال في موقف الحساب على هيئة توبيخية واستنكارية، ولذلك يقف البعض ألف سنة يوبّخ ويعنف زيادة في عذابه لا ما يذهب إليه البعض من أن سؤال الحساب استفهامي (وهو السؤال الموجه للمسؤول بقصد التعرف على ما فعل وما نوى)، وخير دليل على ما نقول هو قوله تعالى في الآية اللاحقة (يعرف المجرمون بسيماهم) أي أن أعمال المجرمين تتجسد في ملامحهم وصورهم فتعرف منهم حينئذ حقيقة ذنوبهم ومعاصيهم.

كشف غطاء المُلك عن الملكوت:

(بسيماهم) السيماء هي ظهور حالات وأفكار الإنسان على قسمات الوجه وملامحه فيعرف حينذاك المجرمون من خلال قسمات وجوههم، السارق يبدو على سيماه ما يدلل على انه سارق، وكل فرد مذنب يعكس على قسمات وجهه ما أبطن وأخفى من أعمال وعقائد. فكما أن الأثر يترتب على العم الصالح الذي يفعله المؤمن في الآخرة، فكذلك أيضاً تترتب الآثار على الأعمال المشينة التي يرتكبها المجرمون والمذنبون فتظهر جلية في القيامة عندما يكشف الغطاء المتمثل بعالم الملك عن عالم الملكوت، فالإيمان والعمل الصالح يتجلّى نورهما في ذلك اليوم فيبصر العبد المؤمن سبيله بهما وهو يجتاز الصراط بينما تعم الكافر والمنافق ظلمات المعاصي والنفاق والكفر فلا يبصر شيئاًن ولا يستطيع حتى أن ينتفع من أنوار المؤمنين في ذات الحال كما يقول الله (عز وجل) (يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم، قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً) (سورة الحديد, الآية: 13).

نماذج من هيئات بعض المجرمين في عالم الملكوت:

وهنا نستعرض سوية بعض الصور الملكوتية لبعض المذنبين كما نقلها صاحب تفسير مجمع البيان عن رسول الله (ص)، يقو (ص) (يرد النمام المحشر يوم القيامة وهو على هيئة القرد) بحيث ان جميع من يراه يعرفه على أنه نمام[3] ومثير للتشاحن والبغضاء بين الناس (وبطبيعة الحال لا تستدعي الحاجة ان يوجه إليه سؤال يستفهم فيه عن عمله).

(اما آكل السحت (كنقص الكيل والميزان) فيأتي على هيئة الخنزير ويأتي مؤذي جاره وهو مقطوع اليد أو الرجل، أما آكل الربا فيأتي وقد انتفخت بطنه حتى أنه لا يطيق معها الوقوف أو المشي كما يقول عز وجل (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلاّ كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس) (سورة البقرة، الآية: 275). اما العلماء الذين لا يعملون بعلمهم فيردون المحشر وهم ينهشون بألسنتهم، ويأتي المتكبّرون وقد لبسوا جبباً من نار ويرد ذو الوجهين واللسانين (ممن يقابل الناس بوجه جميل ولسان طيب ثم يكيل لهم السوء والأذى بوجه كالح في غيابهم) المحشر بلسانين من نار واحد قد اندلع من فيه والآخر من قفاه، أما المرء المعجب بعمله فيرد المحشر وهو أصم ابكم، ويرد الظالم الجائر إلى المحشر وهو أعمى).

اسوداد الوجه وارتعاش اليد من علامات المجرمين:

ومن الوجوه الأخرى في معنى الآية الكريمة، هو أن يرد المجرمون المحشر وقد اسودت وجوههم واسوداد الوجه وحده كاف كدليل على جرم صاحبه كما أن بياض الوجه دليل على صلاح صاحبه ومن سيماء المجرمين الأخرى التي يعرفون بها في القيامة هو ارتعاش اليد واستلامهم لصحائف أعمالهم بشمالهم (بأياديهم اليسرى) كما نقرأ في قوله تعالى (فأمّا من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه) (سورة الحاقة، الآية: 25). وتصور آية اخرى مظهراً آخر يعرب عن الاحتقار والتوهين للمجرمين كما في قوله تعالى (وأما من أوتي كتابه وراء ظهره * فسوف يدعو ثبوراً) (سورة الانشقاق الآية: 10 ـ 11).

إلقاء المجرمين في النار بجمع رؤوسهم إلى أقدامهم:

(فيؤخذ بالنواصي والاقدام) النواصي جمع ناصية وهي مقدم شعر الرأس والجبهة ومعنى الآية هو أن الله يأمر بامساك المجرم من رأسه من ناحية ناصيته ثم يجمع إلى أقدامه، أو يمسك من رأسه لوحده من جانب ويمسك من أقدامه من جانب آخر ثم يلقى به في نار جهنم، أو أن يمسك البعض منهم من أحد هذين الموضعين من بدنه والبعض الآخر من الموضع الآخر ثم يلقى بهم في نار جهنم على هذا الوضع المزري المشين.

(فبأي آلاء ربكما تكذبان) إنما هذه الأخبار نعم لكم، فبأيها لا تؤمنان ولا تصدقان يا معشر الناس والجنّة؟!

لا تسكن روعك حتى تستيقن العفو من ربك:

فيا أيها الإنسان اعلم أنك لو عفوت عن الذنب ولويت عنه عنان نفسك فلم تباشره برأسك هذا لوردت القيامة في غدك الآتي وأنت مرفوع الرأس شامخاً، ولكنك ان ملأت هذا الرأس (والعياذ بالله) من ثقل الكبر فستجد رأسك في غد القيامة الطويل قد تمرغ بأديم الأرض ذلاً وهواناً، وعليه فلنسائل أنفسنا هل تيسّر لدينا الحصول على براءة من عذاب الله وسخطه أم لا؟ وهل أن يقيناً أن ألوان العذاب تلك لم تعد لنا بالذات؟ ترى هل نحن على يقين من أننا سنستقبل الموت القادم وقد تبنا؟ ترى هل نزعنا عن أنفسنا لباس الفضلة وتهيّأنا للموت المسرع نحونا ؟ بل هل جعلنا من قول الله سبحانه وتعالى (انهم يرونه بعيداً ونراه قريباً) (سورة المعارج, الآية: 6-7). منهجاً استعدادياً للقاء الآخرة وفراق الدنيا الحتمي؟

فلنعلم ان الله (عز وجل) لم ينفك يحذّرنا وينبأنا لكي نستعد في البقية المشكوكة الباقية من العمر لمثل تلك الأهوال الشديدة والعقبات الكؤودة فنحيد عنها باصلاح ذواتنا وبناء ما أفسدناه في سالف عمرنا، فنعمر لما هو آتينا (ان شاء الله تعالى).

اسحبوني على وجهي في النار عساني لا أعود لغفلتي!

ولعل مما يروض النفس الصعبة هذه الحادثة التي نقلها كتاب قصص العلماء في موضوع فضائل سماحة الشيخ المهدي، المهدي كان الشيخ المهدي رجلاً بكاءً من خشية الله عز وجل، وكان في بعض الأحيان وعندما يستشعر أن الغفلة قد ألهته عن ذكر الله والآخرة يدعو ولده وخادمه يصحبانه إلى ظاهر المدينة في قفر من القفار، ثم يجمعون شيئاً من أشواك الأرض وأعشابها ثم يأججوا فيه النار، ثم يلتفت الشيخ المهدي إلى ولد وخادمه ويأمرهما أن يأخذوا بلحيته ويسحبانه على وجهه في النار ويقولا له: (أيها الغافل، هذه نار الدنيا وأنت لا تطيقها، فكيف بك بعذاب أعده الله في الآخرة من غضبه وسخطه) ثم يوصيهما أن لا تأخذهما به شفقة فيدعا ما أُمرا به!!

(آه من ذنوب أنا ناسيها وأنت محصيها).

[ 45 ]

(يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والاقدام* فبأي آلاء ربكما تكذبان * هذه جهنم التي يكذّب بها المجرمون* يطوفون بينها وبين حميم آن * فبأي آلاء ربكما تكذبان) (سورة الرحمن، الآيات: 41 ـ 45). (لا بشيء من آلائك رب اكذب).

سيماء المؤمن والكفار في عصر ظهرو المهدي (عج):

ذكرنا فيما سبق ان الآية المباركة تشير إلى تحقق معرفة المجرمين والكافرين من خلال سيماهم وعليه لا تعود هناك حاجة إلى الاستفهام من اولئك النفر عن اسمائهم أو أعمالهم أو سيئاتهم، وتفيد بعض الروايات المروية من طرق أهل البيت (ع) بصدد هذه الآية ان من مصاديق هذه الآية هو ظهور الإمام الحجة بن الحسن المهدي(عج) يقول الإمام أبو عبد الله الصادق (ع): (ذلك لو قام قائمنا، أعطاه الله السيماء، فيأمر بالكافرين فيؤخذ بنواصيهم وأقدامهم ثم يخبطهم بالسيف خبطاً)[4] نعم ففي ذلك الرفان ينقش على جبهة كل كافر (وهذا كافر بالله)، وينقش كذلك على جبهة كل مؤمن بأحرف من نور (هذا مؤمن بالله).

وعن الدجال الملعون ورد أيضاً أنه أعور ومكتوب على جبهته (هذا كافر بالله).

وحدة الإنسان والحيوان من حيث القيمة في الجوانب الماديّة:

(فيؤخذ بالنواصي والأقدام) أي فيؤخذ بمقدم رأس المجرم وقدميه فيجمعا سوية ثم يلقى به في النار. ولنا هنا وقفة قصيرة لتوضيح سبب ذكر الآية لرأس الإنسان، فكما نعرف أن احترام رأس الإنسان في الواقع يعود إلى تحقق ذكر الله من خلاله، وحصول عملية السجود لله عز وجل بواسطته ولو افترضنا عدم خضوع رأس الإنسان (والعياذ بالله) لله رب العالمين، فما الفرق حينئذ بينه وبين رأس الحيوان؟ بل وبماذا سيمتاز عليه؟ لأننا ندري ان قيمة الإنسان تكمن في حيازته للجوانب المعنوية التي يفتقر وجودها لدى الحيوان، وعليه لو فرّط الإنسان تكمن في حيازته للجوانب المعنوية التي يفتقر وجودها لدى الحيوان، وعليه لو فرّط الإنسان بتلك الجنبات المعنوية المؤلّفة للقيمة الإنسانية فحينئذ لن يكون لكلمة (إنسان) إي معنىً، بل يتهاوى الإنسان إلى منزلة الحيوان، عندما لا يتبقّى لديه سوى الجوانب المادية، ولعل الكثير من الحيوانات تمتلك من القدرات المادية ما تفوق مثيلتها التي يمتلكها مثل اولئك النفر من البشر. فالهدهد مثلاً لديه من القدرة على تشخيص محل وجود الماء تصل إلى مسافة عدة أميال، والكركون يمتلك حاسة شم قوية تمكنّه من شم الروائح النفاذة من مصادرها من على مسافة عدة فراسخ، أما عن النطق، فان الكثير من الحيوانات باستطاعتها الاعراب عن رغباتها ومقاصدها بعدة وسائل، وأحد تلك الوسائل هو اللسان، فهي تتخاطب بلغات خاصة فيما بينها، وعن حاسة السمع، فان البعوضة تمتلك حاسة سمع أقوى من تلك التي لدى الإنسان، فهي بإمكانها سماع الترددات والذبذبات الناشئة عن اهتزاز الهواء عندما يحاول أحدنا رفع يده لطردها مثلاً، فتلوذ بالفرار قبل ان يستطيع النيل منها بسوء، وفي الصناعة والهندسة نجد أن النحل هو أعظم المهندسين الذين يختصون بهندسة العمارات والانشاءات، فهو ينشأ البيوت السداسية المنتظمة دون أن يلجأ على استخدام الوسائل الهندسية المساعدة في عمليات التصميم والانشاء.

من كل ما سبق يتبين لنا أن الإنسان لا يختلف عن الحيوان من حيث الجوانب والقدرات المادية التي يمتلكها، فهو له رأس كما للحيوانات رؤوس، ولكن هذا الرأس لو تنوّر بنور العقل وخضع لربه (تعالى) وتواضع له ساجداً على الأرض وارتبط بعالم الارواح، لصار عزيزاً كريماً، كما أراد الله (عز وجل) له ذلك حين قال (ولقد كرّمنا بني آدم) (سورة الاسراء, الآية: 70). وقوله (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) (سورة المنافقون, الآية: 8).

الجنّة ليست محل عبادة:

ويروى عن المؤمنين يستقر بهم الحال في الجنان، أن أنواراً خاصة تشع عليهم فيخرّون للأذقان سجّداً، فيأتيهم النداء: (ارفعوا رؤوسكم، ليس ها هنا محل سجود، حسبكم سجودكم في دار الدنيا). ولأن الجنة مكان الملك والسلطنة لا مكان العبودية والخضوع، مكان الحصاد وجني الثمار لا مكان البذور والغرس.

بينما يؤخذ بنواصي وأقدام المجرمين وقد غُلّوا بالسلاسل الحديدية ثم يلقى بهم في نار جهنم لأنهم يستحقون هذه النتيجة المرّة باعتبارهم لا شأن ولا وزن لهم بالمرّة.

غلّ أهل النار بالسلاسل والأصفاد:

أما عن دواعي تقييد أيادي وأرجل أهل النار بالقيود والاصفاد والسلاسل ثم الالقاء بهم في جهنم، فتعود إلى ان لنار جهنم السنه لهب وشرر عظيمة، يبلغ من عظمتها ما تستطيع ان تدفع بالأجسام إلى أعلى من فرط حرارتها الهائلة وشدة انفجارات براكينها العنيفة، لذلك كانت الاغلال والاصفاد والقيود والسلاسل الحديدية ذات السبعين ذراعاً على حد وصف القرآن المجيد (خذوه فغلّوه * ثم الجحيم صلّوه * ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه). (سورة الحاقة، الآية: 30 ـ 32). لتثقل من وزن أبدان أهل النار فينتهون حيها إلى قعر جهنم نزلاً.

هذه النار التي كذّبتم:

(هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون) (سورة الرحمن, الآية: 43). هذه الآية تشتمل على التقريع العنيف والتعنيف الشديد وكفى بها عذاباً معنوياً كبيراً يتلقاه المجرمون والآثمون، فحينما يعرض اولئك المذنبون على النار يقال لهم، أنها جهنم التي كنتم بها تكذبون، ومن ذكرها تسخرون ها قد رأيتموها عياناً ومعنى كلمة (مجرمون) في هذه الآية على الظاهر هو (منكرون) لأن حقيقة جرمهم الكبيرة تنبع من انكارهم لوجود جهنم، ويعود منشأ انكارهم هذا إلى جهلهم المركب الذي جزّأهم على انكار هذه الحقيقة.

الانكار، منشأهُ ضحالة الفكر وسطحيّة التفكير:

فلو أراد أحد أن يُنكر شيئاً ما وجوداً (من حيث القول بعدميّته جزماً وقطعاً) لوجب عليه الاحاطة التامة بجميع جوانب الشيء مورد الانكار، وإلاّ فإن الانكار حينئذ لا يعدو أن يكون مجرد زعم وهراء، وعليه فان الذي ينكر وجود الجنة أو النار هو في الواقع زعيم بأنه قد أحاط بجميع عوالم الدنيا والآخرة والملك والملكوت، ظواهرها وبواطنها بحيث أنه وصل إلى درجة اليقين في عدم وجود الخبر المقنع وعليه أنكر وجود الجنة أو النار بينما هو في واقع أمره لم يتجاوز حدود التراب المحيط بأقدامه، ومثل هذا الإنكار يعد دليل على حماقة المنكر وقلة عقله وضحالة فكره، لأنه من المسلّم به أن كلمّا وفر عقل المرء كثر بذلك احتماله للمحتملات كما نقرأ في نص القول المأثور الآتي (إنما يعرف عقل المرء بكثرة محتملاته) إذاً فهو لا يسارع إلى انكار ما لم يعلم بل يحمل ما لا يعلمه على محمل الامكان والجواز.

فلو افترضنا أن مخبراً أخبر بخبر ما وهو ممن يشهد له بالصدق والعقل، فيكفينا في اخباره هذا دليلاً على صحة ما أخبر به خصوصاً ولو أن المخبر ذاك كان نبياً أو إماماً فحينها سيقول العقل ان ما أخبر به صحيح قطعاً.

اما لو كان المخبر امرءً عادياً، وأخبرنا أن بعد عالمنا هذا عالم آخر فيه جنة ونار لقال العقل لنا علينا أن لا نقطع بالانكار فلعل ما أخبر به صحيح. إذاً عندما يقول القرآن العظيم أن محمداً (ص) هو رسول الله تعالى لقال العقل بلا تردد قد قبلت ما أخبرت به أيها الكتاب قطعاً هو رسول الله (ص).

آية ورواية عن النار:

يقول المولى (سبحانه وتعالى) في كتابه الكريم (وان جهنم لموعدهم أجمعين * لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزءٌ مقسوم) (سورة الحجر، الآية: 43 ـ 44). أي أن جهنم هي ما وعد بها المجرمون والكافرون، وجهنم هذه لها سبعة أبواب (أي سبع طباق لكل طبقة فئة من اولئك النفر تختص بهم تلك الطبقة وبألوان من العذاب خاصة، وتأتينا رواية شريفة تشرح لنا هذه الآية، تقول الرواية (إن لجهنم سبع دركات (طبقات أو أبواب) كل دركٍ فيها سبعون ألف جبل لكل جبل سبعون ألف وادٍن ولكل وادٍ سبعون ألف قعر، في كل قعر سبعون ألف قصر، وفي كل قصر سبعون الف صندوق من نار تضّج بالحيّات والعقارب)!! إن مثل هذه الآيات والروايات المفرعة التي نقرأها الآن لو لم تكن صادرة عن كتاب الله الحكيم وأقوال المعصومين (ع) لقال العقل عنها لعلّها كذلك وعسى أن تكون صحيحة، ولكنها ولأنها صدرت عن القرآن الكريم وأحاديث المعصومين (ع) فهي مؤكدة يستيقنها العقل ولا تحتمل الشك أو الترديد. فقد جاء رجل إلى الإمام الرضا (ع) وسأله: يا بن رسول الله (ص) أخبرني عن الجنة والنار أهما مخلوقتان؟ فردّ عليه الإمام (ع): بلى، وان رسول الله دخل الجنّة ورأى النار لما عرج به إلى السماء[5].

ويقول سيد الأولى وفخر الكائنات محمد (ص) (عندما عرج بي إلى السماء، أتى بي جبريل حتى وصلنا إلى مالك خازن النار، فسألته أن يرفع عن جهنم غطاءها، فردّ علي مالك: إنك لا تطيق ذلك يا محمد (ص)، فسألته أن يريني جانباً منها فكشف مالك شيئاً من غطائها وإذا بلهيبها يتأجج عالياً فلم يطق رسول الله (ص)، رؤية ذلك). نعم إنها جهنم، ولو أن قطرة من الزقوم سقطت على الدنيا لاحترقت، ولو أن أحد خزنة جهنم أطّل على أهل الدنيا بهيئته المخفية المهيبة لخرّ الناس مغشياً عليهم من شدة الرعب. وروي أن رسول الله (ص) بعدما عرج به إلى السماء ورأى النار لم ير ضاحكاً حتى قبضه الله تعالى إليه، فالرسول (ص) شهد الأمر وأبلغنا به ونحن سمعناه، وها نحن نلهو عنه، فلنعلم ان المرء إذا ما طهر ظهر عنده التأثر بهذه الأخبار، ولكننا للأسف شغلنا أنفسنا بمشاغل اصطنعناها فاستغرقت منّا أعمارنا ولم يعد فيها ما يكفي للتشاغل بأنباء الآخرة!!

انشغال يحيى (ع) في صباه بذكر الموت:

ورد في كتاب لآلئ الأخبار وعدة الداعي وسائر الكتب الاخرى، عن رسول الله (ص) في شرح قوله تعالى (وآتيناه الحكم صبيا). (سورة مريم, الآية: 12). أنَّه قال (ع) (كان من زهد يحيى بن زكريا (ع) أنه أتى بيت المقدس فنظر إلى المجتهدين من الأحبار والرهبان عليهم مدارع الشعر وبرانس الصوف وإذا هم فرقوا تراقيهم وسلكوا فيها السلاسل وشدّوها إلى اسواري المسجد. فلما نظر إلى ذلك، اتى أمه فقال لها: يا اماه انسجي لي مدرعة من شعر وبرنساً من صوف حتى آتي بيت المقدس فأعبد الله مع الأحبار والرهبان فقالت له امه: حتى يأذن نبي الله في ذلك، فدخل زكريا بمقالة يحيى فقال زكريا: ما يدعوك إلى هذا وإنما أنت صبي صغير؟ فقال له: يا أبت أما رأيت من هو اصغر سناً مني قد ذاق الموت؟ قال بلى ثم قال لأمه انسجي له مدرعة من شعر وبرنساً من صوف، ففعلت. فتدرع بالمدرعة على بدنه ووضع البرنس على رأسه، ثم أتى بيت المقدس فأقبل يعبد الله عز وجل مع الأحبار حتى أكلت مدرعة الشعر لحمه. فنظر ذات يوم إلى ما قد نحل من جسمه فبكى، فأوحى الله تعالى: يا يحيى أتبكي مما نحل من جسمك وعزتي وجلالي لو اطلعت على النار اطلاعة لتدرعت مدرعة الحديد فضلاً عن المنسوج، فبكى حتى أكلت الدموع لحم خديه وبدا للناظرين أضراسه. فبلغ أمه ذلك فدخلت عليه واقبل زكريا واجتمع الأحبار والرهبان فأخبروه بذهاب لحم خديه، فقال ما شعرت بذلك، فقام يحيى فنفض مدرعته، فأخذته امه فقالت: أتأذن لي يا بني ان اتخذ لك قطعتي لبود يواريان أضراسك وينشفان دموعك؟ فقال لها، شأنك، فاتخذت له امه ذلك ووضعتهما فابتلتا من دموع عينيه فحسر عن ذراعية ثم أخذهما وعصرهما فتحدرت الدموع بين أصابعه، فنظر زكريا إلى ابنه وإلى دموع عينيه، فرفع رأسه إلى السماء، وقال (اللهم هذا ابني وهذه دموع عينيه وأنت ارحم الراحمين).

زكريا يحدث قومه بحديث العذاب:

وكان زكريا (ع) إذا أراد أن يعظ بني إسرائيل يتلفت يميناً وشمالاً فان رأى يحيى لم يذكر جنة ولا ناراً، فجلس ذات يوم يعظهم، فالتفت فلم ير يحيى فأنشأ يقول: حدثني حبيبي جبرئيل عن الله تبارك وتعالى ان في جهنم جبلاً يقال له السكران، في اصل ذلك الجبل وادياً يقال له الغضبان، يغضب لغضب الرحمن تبارك وتعالى، في ذلك الوادي جب قامته مائة عام، في ذلك الجب توابيت من نار، في تلك التوابيت صناديق من نار وثياب من نار وسلاسل من نار وأغلال من نار. فرفع يحيى (ع) رأسه فقال: واغفلتاه من السكران ثم اقبل هائماً على وجهه، فقام زكريا (ع) من مجلسه ودخل على ام يحيى فقال لها: يا ام يحيى قومي فاطلبي يحيى فاني قد تخوفت أن لا نراه إلاّ وقد ذاق الموت، فقامت فخرجت في طلبه حتى مرت براعي غنم قالت له: يا راعي هل رأيت شاباً من صفته كذا وكذا؟ فقال لها لعلك تطلبين يحيى بن زكريا؟ قالت نعم ذكرت النار بين يديه فهام على وجهه فقال إني تركته الساعة على عقبه ثنية كذا وكذا ناقعاً على قدميه في الماء رافعاً بصره إلى السماء يقول: وعزتك يا مولاي لا ذقت بارد الشراب حتى أنظر إلى منزلتي منك، فاقبلوا إليه: ولما رأته امه دنت منه فأخذت برأسه فوضعته بين ثدييها وهي تناشده بالله أن ينطلق معها إلى المنزل. فقال زكريا: يا بني ما يدعوك إلى هذا، إنما سألت ربي أن يهبك لي لتقر بك عيني؟ قال: أنت أمرتني بذلك يا أبه قال ومتى ذلك يا بني؟ قال: ألست القائل: إن بين الجنة والنار لعقبة لا يجوزها إلاّ البكاءون من خشية الله، قال بلى، فجد واجتهد وشأنك غير شأني. ثم كانت نهاية يحيى بن زكريا (ع) على يد ملك تلك البلدة وكان للملك ابنة تعجبه وكان يريد أن يتزوجها! فلما بلغ أمها إن يحيى (ع) كان ينهى عن نكاح ابنة الاخت، أدخلت ابنتها مزينة على الملك، فلما رآها سألها عن حاجتها قالت ما حاجتي ان تذبح يحيى بن زكريا, فدعا بطشت ودعا يحي فذبحه، وكانوا يعتقدون إن الدم المسفوح من القتيل لو ساح على الأرض لعمهم البلاء، فلذلك أمر بالطشت! وذاك الحسين (ع) مرملٌ قد ساح الدم منه في الفلوات.

فهلاّ أذنت يا يحى العزيز فآتيك بالطشت

 

واهٍ لدمك الطهر قد فاض على البقاع


[1] القران: أصغر عملة نقدية إيرانية كانت تستخدم في التداول إلى حد قريب وتسمى اليوم ريالاً.

[2] المشهدي: لقب يضاف للمرء المسلم الذي يوفقه الله تعالى بزيارة مدينة مشهد حيث ضريح الإمام الثامن علي بن موسى الرضا (ع).

[3] النمّام: هو الشخص الذي يسمع كلاماً ما من أحد الأفراد فيعمد إلى نقله للآخرين متوخيّاً اثارة العداوة والبغضاء والاحن بينهم بقصد التفريق.

[4] تفسير نور الثقلين/ المجلد الخامس ـ ص 196 نقلاً عن كتاب بصائر الدرجات.

[5] تفسير نور الثقلين/ (ج5 ـ ص196) نقلاً عن كتاب عيون أخبار الرضا (ع) للصدوق.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست