.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

الزقوم والضريع طعام أهل النار

جنتان للخائفين من شأن ربهم

الجنتان، واحدة للعقائد والأخرى للأعمال

 

[ 46 ]

(هذه جهنّم التي يكذّب بها المجرمون * يطوفون بينها وبين حميم آن * فبأي آلاء ربكما تكذبان) (سورة الرحمن، الآيات: 43 ـ 45). (لا بشيء من آلائك رب اكذّب).

الزقّوم والضريع طعام أهل النار:

ومن الأخبار المهمّة والمفجعة هي أخبار طعام وشراب أهل النار، حيث تمت الاشارة إلى ذلك في عدة مواضع من القرآن الكريم، فأهل النار يأكلون ويشربون تماماً كأهل الجنة، ولهم ألوان خاصة من الاطعمة والأشربة.

وأحد تلك الاطعمة (الزقوم) وهي شجرة عظيمة مهيبة تنبت في قعر جهنم ولها ثمر يقال له الزقوم أيضاً وهي طعام الآثمين والمذنبين كما يتأكد في قوله تعالى (إن شجرة الزقوم* طعام الأثيم * كالمهل يغلي في البطون * كغلي الحميم) (سورة الدخان, الآية: 43 ـ 46). اما هيئة هذه الشجرة وهيئة ثمرتها فلها هيئة ظاهرية مقززة تشمئز منها النفوس ان لم تكن الفرائص مرتعدة منها، وهي كما وصفها المولى عز وجل في كتابه (طلعها كأنه رؤوس الشياطين) (سورة الصافات, الآية: 65). أما عن طعمها ومذاقها فهو بشكل لو أن المرارة في هذه الدنيا اجتمعت كلها سوية لما شكلت في ازاء مرارة هذه الثمرة من الشجرة المخيفة هذه إلاّ النزر اليسير من مرارتها[1]، ومن الطبيعي أن يكون إدراك هذه الحقيقة صعب علينا ومتعسراً لأننا نعيش في عالم يختلف عن ذلك العالم من حيث موجوداته وتفاصيله، وشأننا في ذلك كشأن الطفل وهو لم يزل جنيناً في رحم أمه لم يخرج إلى عالمنا ليدرك حقيقة ما هو موجود هنا، ويبقى تحقق الادراك مرهون بخروج الجنين إلى الدنيا، ونحن أيضاً هكذا, فطالما لا زلنا في رحم عالم الطبع المادي فنحن لا نستطيع أن نحير إدراكاً لتلك الحقائق على واقعها حتى ننتقل إلى رحبة ذلك العالم الجديد.

وتنقل الروايات عن ثمرة الزقوم ما يفيد أن من يبتلعها من أهل النار لا يلبث حتى تتقطع أحشائه إرباً إربا.

اما الضريع فهو الآخر من أطعمة أهل النار التي ذكرها القرآن الكريم، وهو كمثيله الزقوم يقطع الأحشاء من شدة حرارته ولا يتجرعه المجرمون من فرط مرارته.

الحميم، الماء المغلي في أقصى درجات الحرارة.

وكما أن أطعمة أهل النار لها ألوان عديدة، فان أشربتهم هي الأخرى لها أنواع متعددة، وأحد هذه الأشربة الوارد ذكرها في القرآن الكريم في عدة مواضع منه هو (الحميم)، ومعنى كلمة (الحميم) هو الماء المغلي، أمّا كلمة (آن) فهي تعني (بالغ) وهي صفة للحميم وآن مشتقة من انى ـ يأنى أي بلغ ـ يبلغ، فماء جهنم يصل إلى أقصى درجات السخونة والغليان بحيث ان حراراته تقطع لحم وجه الإنسان المجرم وتسقطه بمجرد أن يقربّه من فيه ليشرب منه، فكيف به إذاً لو دخل جوف المجرمين؟!، يقول تعالى (وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقاً) (سورة الكهف، الآية: 29).

أما النوع الآخر من الأشربة الجهنميّة فهو (الغسلين)، وهو اسم لحفيرة في جهنم تتجمع فيها الأدران والأوساخ والقيوح والدماء التي تخرج عن أبدان أهل النار، وهذا الشراب يعاني منه أهل النار أشد العناء من شدة نتنه وعفن ريحه.

وهناك نوع آخر من الشراب هو (الصديد) وهو قيح فروج الزناة.

والآن انتبهوا إلى هذه الحقيقة وهي، ان في جهنم أماكن يتناول فيها أهلها الطعام كالزقوم والضريع، وهناك أماكن لتناول المشروبات كالحميم والغسلين والصديد.

آلام الجوع والعطش عند أهل النار:

(يطوفون بينها وبين حميم آن)، ثم لا يلبث أهل النار حتى يسلّط الله عليهم آلام الجوع فيدفعهم إلى السعي بأقدامهم إلى شجرة الزقوم (وهو ألم وعذاب آخر يشتمل على عناء عظيم) فهم لفرط ما بهم من جوع يلجأون إلى شجرة الزقوم المرّة البشعة علّهم يسدوا من ثمرتها شيئاً فلا يلبثوا حتى يكتوون بنار العطش الشديد الذي يدفعهم إلى السعي نحو الحميم بعد أن يأخذ منهم كل مأخذ وهم على علم بأن ماء الحميم يغلي من شدة حرارته العالية، فتصوروا مبلغ حرارة عطشهم الذي يدفعهم نحو شرب الحميم؟! أو قناتهم بشرب الغسلين أو الصديد، وهم يعلمون ان الصديد هو السائل الذي تتقيحه فروج الزناة وهو منتن وحار جداً! لكنهم يرضون به شراباً معللين أنفسهم باطفاء جذوة العطش المتقدّة في أحشائهم، فما ان يهترئ أحدهم حميم جهنم حتى تتقطع أمعاءه وأحشاءه كما نقرأ (كمن هو خالد في النار وسقوا ماءً حميماً فقطع أمعاءهم) (سورة محمد (ص)، الآية: 15). بل ومن فرط حرارة جهنم وألوان عذابها الاليم تحترق جلود أهل النار، ثم لا يلبثوا حتى يبدلهم الله جلوداً غيرها إمعاناً في العذاب الشديد فيتواصل الألم فيذوقوا العذاب بجرمهم (كلمّا نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب) (سورة النساء، الآية: 56). ويروى أن جلود أهل النار تبدل أربعين مرة حينها، لأنه من البديهي وجود ألوان العذاب الاليم في جهنم يستدعي وجود أبدان قادرة على تحمل ذلك العذاب الذي لا ينفك عنهم.

الطواف بين الزقوم والحميم:

ويقوم أهل النار بالتنقّل المتواصل بين الزقوم والضريع وهو ما يعبّر عنه القرآن الكريم بعملية الطواف (يطوفون) لأجل تأمين الطعام والشراب مؤّملين رفع أذى الجوع وآلام العطش بذلك. تُرى هل يوجد لدينا خبر يشتمل على اكثر من هذا الخبر هولاً ورعباً؟! فو الله لو أن قلباً تنبّه من غفلته بهذا الخبر لما عادت عيونه تعرف لطعم النوم معنىً من شدّة ما سيتملكه من الخوف والذعر.

وبعد هذا الخطاب الإلهي الاخباري المزلزل يعود الباري (عز وجل) إلى مخاطبة خلقه من الجنّة والنّاس فيقول (فبأيّ آلاء ربكما تكذبان)؟ لأن آية (يطوفون بينها وبين حميم آن) هي نعمة أخرى باعتبار ان جهنم التي وصفها لنا الله تعالى، وحددت لنا الروايات بعض تفاصيلها هي أمر مطلوب بالعرض (كما قلنا من قبل) لكي يخشى الناس وعموم الخلق نتائج الأعراض عن أوامر الله وفرائضه فيصير مصيرهم إلى الجنة.

وبغير ذلك لا يجد المرء سبيلاً إلى الجنة فيصير إلى النار جزاءً بما كسبت يداه لأن الإنسان يحب العاجلة ويذر الآخرة ويسارع إلى الشهوات الحاضرة.

فمن هنا كان الانذار بالعذاب نعمة، لأن ذلك يدفع العباد إلى التعلق والتوسّل بالوسائل المؤديّة إلى الجنة، فيصلحون أحوالهم ويوفّقون إلى التوبة والانابة هربا وفراراً يحدوهم الخوف من نار جهنم.

في طي الطرق الشاقّة سعادة ولذّة:

ومن جانب آخر يتجلّى وجه نعمة النار للمؤمنين عندما يجتاز المرء المؤمن الصراط وهو يشهد النار توشك أن تأخذه عن يمينه وعن شماله ومن تحت رجليه تقول الروايات (ان الله (عز وجل) أمر بالنار فنفخ عليها ألف عام حتى ابيضّت ثم نفخ عليها ألف عام حتى احمرّت ثم نفخ عليها ألف عام حتى اسودّت، فهي سوداء مظلمة) فما أن يعبر المؤمن الصراط ويصل إلى منزله في الجنة سالماً حتى يطير فرحاً وينتشي سروراً ولعلّنا شاهدنا مثل هذه الحال في حياتنا، فعندما يسافر أحدنا على بلدٍ ما ثم يعود إلى وطنه يحس أنه قد مليء فرحاً وسروراً بعد أن يطوي سفره وقد عانى وكابد من الشدائد والأهوال والصعاب، لأن كثرة المخاطر في الأسفار تولّد لذات كبيرة عندما يطأ المرء أرض وطنه وقد سلم منها فهو حينئذ يشعر بالأمن والاطمئنان، ولأجل ذلك يقول المؤمن الناجي من أخطار النار بمجرد ان يصل الجنة وهو يشعر بالأمن والسلام (الحمد لله الذي أذهب عنّا الحزن) (سورة فاطر، الآية: 34). ثم يزيد مقوله (الحمد لله الذي صدقنا وعده) (سورة الزمر, الآية: 74).

النار جزاء للقاسية قلوبهم:

سألت ابنة مالك بن دينار أباها لم لا تنام؟ فأجابها أخاف أن يحلّ علي غضب الله وأنا في نومتي!)، فما دام القلب معموراً بخشية الله تعالى فان صلاح المرء مضمون، تخيلّوا ما سيفعل من رأى في منامه رؤيا وقد استيقنها، وهي تعلمه بحلول أجله بعد شهر واحد! أهناك من شك في مسارعته إلى قضاء ديونه وتسديد ما بذمته للآخرين ثم تهالكه في طلب التوبه والصفح والغفران على ما جنته يداه في ما مضى من عمره.

ومن وجوه اعتبار وجود النار وألوان عذابها نعمة هو لأنها ستكون جزاءً وعقاباً للظالمين والجائرين. فالمؤمن بما يملكون من رقة القلوب فهم لا يستطيعون حتى من إيذاء نملة كما هو شأن أميرهم الإمام علي (ع) حيث يقول (والله لو اعطيت الاقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلته)[2].

لماذا؟ لأن المؤمنين هيّنون لينّون فهم لا يطيقون سماع أحوال النار، فكيف بهم لو يشاهدونها؟ بينما أولئك الذين قست قلوبهم فهو لا يرحمون حتى الطفل الرضيع والشيخ الفاني ينبغي لهم محلاًّ ومستقرّاً يكافئ أعمالهم بالحق كما يقول الباري تعالى (وقضي بينهم بالحق وقيل الحمد لله رب العالمين) (سورة الزمر، الآية: 75). فيضع الله كل إنسان في مستقره اللائق به إذاً الحمد لله رب العالمين الذي جعل أهل النار في النار وأهل الجنة في الجنة.

الذكرى تنفع المؤمنين:

ومن وجوه عدّ جهنم وعذابها نعمة هو التذكير المستمر للمؤمنين بها لكي يكونوا على بينّه من أمرها وخطرها، فينتخبوا السبيل الواضح والصراط القويم بما لديهم من فطنة فيجنبّوا أنفسهم اصابة الخطايا وارتكاب الذنوب المؤديّة إلى نيل العقاب الأليم.

ولما كانت درجات إيمان المؤمنين متفاوتة فهم سينتظمون في عدة مجاميع، فبعضهم من يتأثر بشكل مؤقّت بهذه الآيات ثم لا يلبث حتى يعود إلى وضعه المشين السابق، وبعضهم من (يبكون ويزيدهم خشوعاً) (سورة الإسراء، الآية: 109). وفيهم من يستشعر عظمة الله وجلاله في كل آن فإذا بهم قد (خرّوا سجدّاً وبكيّا) (سورة مريم، الآية: 58).

[ 47 ]

(ولمن خاف مقام ربّه جنّتان * فبأيّ آلاء ربّكما تكذبّان) (سورة الرحمن، الآيات: 46 ـ 47).

(لا بشيء من آلائك ربّ اكذّب).

جنتان للخائفين من شأن ربهم:

وبعد سرد آيات التهديد والوعيد في هذه السورة، يأتي الدور إلى بيان واستعراض آيات الرحمة والبشارة التي هي بحق بشائر وأنباء سارة لأهلها.

(ولمن خاف مقام ربّه جنتان) ومعناها أن الله يعطي لمن يخشاه ويهاب شأنه ومقامه روضتان من رياض الجنة وسنأتي لاحقاً إلى وصف هاتين الجنتين، ولكن ما يهمّ بحثنا في هذه الآية هو معنى (الخوف من مقام الرب)، وقد أورد العلماء وجهين لذلك هما:

مقام الرب في نفس الإنسان:

الوجه الأول: وتعني (ولمن خاف مقام ربه (عند نفسه) جنتان)، أي من يجد في نفسه مخافة الله وخشيته فله منه جنتان، ولا تتحقق مخافة الله في نفس الإنسان إلاّ عندما يؤمن بواقع (ونحن أقرب إليه من حبل الوريد) (سورة ق, الآية: 16). وحقيقة (وهو معكم أين ما كنتم) (سورة الحديد، الآية: 4). فهو قد استحضر وجود الله في قلبه واستشعره حاضراً معه ورقيباً عليه فيتولد حينئذ الخوف في قلبه فلا يعود يسيء أدباً ويرتكب معصية لله عز وجل في سرّه أو علانيته فلو افترضنا أن بائعاً قد عرض سلعة ما للبيع وهو عالم بجودتها وقيمتها، وهناك مشتري لتلك السلعة (نحتمل اطلاعه على جودة السلعة تلك وقيمتها أو عدم اطلاعه) وكان البائع رجلاً يؤمن في قرارة نفسه بحضور الله تعالى ورقابته له فهو لا يغش المشتري إيماناً منه بأن الله خبير ومطلع وان كان المشتري غافلاً، لذلك يجعل الله عز وجل لذلك البائع جنتان لأنه خاف مقام ربه في نفسه.

صفة الخائف من مقام الرب:

ولتوضيح معنى الخوف من مقام الرب نستعين بهذا الحديث الشريف الذي ورد في كتاب أصول الكافي مرويّاً عن الإمام كشاف الحقائق جعفر بن محمد الصادق (ع)، يقول الإمام (ع) (من علم أن الله تعالى يراه ويعلم ما يعمله ويسمع ما يقوله ثم يحجزه ذلك عن القبيح فهو خائف من مقام ربه). إذاً العلم الحائل دون ارتكاب القبيح أمر ضروري وملح، ولكن بشرط وجود المراقبة، وتختلف درجات العلم هذا من فرد لآخر، وأدنى تلك الدرجات هي ان تحصل لدى الإنسان خشية الله عز وجل حين صدور الذنب فيمتنع عن مباشرته ويعفّ عن اجتراحهن وتتدرج تلك الدرجات حتى تصل إلى أسماها فتتولد لدى الإنسان حينئذ آثاراً باهرة عجيبة.

أربعون عاماً يرقب حضور ربه!

فعن أحوال المقدّس الأردبيلي يقال أنه لم يمد رجليه طيلة أربعين عاماً في يقظته و منامه معبراً عن حاله تلك بالقول (والله اني لأستحيي أن أمدّ رجليّ في حضرة رب العالمين)، وبالتأكيد فان مثل هذا الأدب لا يخلو من أجر وثواب إلهي يناله المرء.

وفي حال آخر للمقدّس الأردبيلي، (وهو ما حصل له حين حلول الموت) عندما أراد أن يصيب السُنّة فيمد رجليه وهو مستقبل القبلة في ساعة احتضاره قال(اللّهم أسألك العفو، فاني لم أمدّهما إلاّ وأنا في اضطرار لذلك وأنت تعلم أني لم أجرأ على مدّهما طيلة الأعوام السابقة، وها أنا ذا أمتثل لأمرك وسنّة نبيك (ص)).

وقد يكون لدى البعض من الأحوال ما تشاكل هذه الأحوال، فهناك من لم يجرأ أن يرفع صوته عند الحديث إجلالاً وإكباراً لحضور رب العالمين فضلاً عن أنه لم يفحش القول، وهكذا يزداد تأدّب العبد مع ربه بازدياد معرفته.

كيف ألهو عنك وأنت ناظري:

يقول الإمام السجاد (ع) (إلهي كيف ألهو عنك وأنت ناظري، وكيف أنساك ولم تزل ذاكري). ولقد أشرنا سابقاً إلى أن المراقبة لا تنعقد إلاّ بوجود طرفين للتراقب، فكما ان الله تعالى رقيب لعباده، وجب في المقابل أن يكون العبد مراقباً لربّه، وهذه حقيقة يصرح بها القرآن الكريم في قوله تعالى (وكان الله على كل شيء رقيباً) (سورة الأحزاب، الآية: 52). وقوله عز وجل (إن الله كان عليكم رقيباً) (سورة النساء، الآية: 1).

تحريم النار على الخائفين:

ونقل كتاب مصابيح القلوب قصة نقلتها بعض كتب التذكرة تقول، (مرّ رجل صالح بسوق الحدادين فوقع بصره على حداد وهو يدخل يده في كور الحدادة ثم يخرجها وهو ممسك بالحديد المحمر من شدة السخونة دون أن يصيبه أذىً، (يقول الراوي) فتحيّرت من فعله وشأنه، وقلت في نفسي أي رجل هذا الذي لا تعمل النار أثرها في يده؟! فدنوت منه وتجرّأت بسؤاله: كيف لم تعمل النار أثرها في يدك فتحرقها؟ فلم يكترث بي، فعاودت السؤل وازددت إلحاحاً حتى أجابني قائلاً: لقد كنت في شبابي ثريّاً موسراً، فمرّت علينا سنة قحط وجدب ضج الناس فيها من كثرة الجوع وكنت قد ذخرت لي طعاماً كثيراً يسد حاجتي فجاءتني في يوم امرأة علوية من جيراني وسألتني شيئاً من الطعام تسد به رمقها ورمق عيالها فبهرني حسنها وجمالها، فقلت لها: لك هذا ولكن بشرط أن تسلميني نفسك فاستعففت وامتنعت وردت عليّ قائلة: ليس ذا شأني فأنا لم أجرأ على فعل كهذا طيلة حياتي ثم ولّت عني بوجهها وانصرفت، ثم لم تلبث حتى عادت ثانية وذكرت لي ما ألمّ بها من ألم الجوع وتوسّلت بي أن أساعدها فلم أزدها على ما طلبت منها أولاً، فولّت عني وقفلت راجعة إلى دارها، وبعد حين عادت وقد بدا عليها أن الجوع قد أضرّ بها فقالت أنت وما شئت فإنني أكاد أنفق جوعاً، ففرحت بذلك، ثم عقبت قائلة ولكن بشرط أن تقودني إلى مكان خالٍ لا يرانا فيه أحد، فأجبتها على ما أرادت فأخذتها إلى مكان خالٍ لأقضي وطري منها فرأيتها ترتعش ثم قالت لي: الزم مكانك ألم تُعاهدني أن تقودني إلى مكان لا يرانا فيه أحد؟ فرددت عليها: ما الذي دهاك، ترى أهناك من هو مطلع علينا في هذا المكان؟! فقالت: بلى، فلا زال هنالك خمسة سوانا حاضرون ها هنا، انهم ربنا (تعالى) والملكين الموكلين بي والملكين الموكلين بك، فسرت في جسدي رعشة لرعشتها، وعزفت عن ارتكاب الحرام ثم قفلنا راجعين، فلما وصلنا إلى داري أعطيتها شيئاً من الطعام تسدّ به حاجتها فخالط تلك العلوية السرور ودعت الله لي قائلة: (اللهم حرم عليه نار الدنيا والآخرة)، ومنذ حيني ذلك وأنا لا أحس للنار أذىً وإيلاماً، وإني لأرجو ربي أن يعيذني من حريق نار الآخرة.

ونظير هذه القصة، يذكرها القرآن الكريم في سورة يوسف (ع)، حيث تقول التفاسير أن زليخا عندما رامت فعل القبيح ألقت بجرامها على شيء في الحجرة، فلما سألها يوسف عن سبب ما فعلت، قالت: إن هذا الصنم ربي، وأنه لمن المخجل أن ارتكب عملاً قبيحاً وهو يراني، وهنا بادر يوسف (ع) بالقول: أتستحين من صنم عملته يداك ولا استحيي من ربي الذي خلقني؟ (ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربه) (سورة يوسف، الآية: 24).

[ 48 ]

(ولمن خاف مقام ربّه جنتّان * فبأي آلاء ربكما تكذبان) (سورة الرحمن، الآيات: 46 ـ 47).

(لا بشيء من آلائك رب اكذب).

الجنتان، واحدة للعقائد والأخرى للأعمال:

(ولمن خاف مقام ربه جنتان) ومعناها (إن لمن خشي مقام ربه جنتان، واحدة عن عقائده الحقة جزاءً والأخرى لقاء أعماله الصالحات ثواباً، فالجنة الأولى لما عقد عليه قلبه في توحيد الله والإيمان بعدله واعتقاد نبوة سيدنا محمد (ص) واعتقاد امامة الائمة الطاهرين الاثني عشر (ع) والإيمان بالآخرة والمعاد، والثانية لقاء أدائه للفرائض والسنن والاتيان بالطاعات ولزوم العبادات والاقلاع عن المحرمات ومباشرة المعاصي والآثام وهناك من يقول أن الجنة الأولى هي جزاء الاتيان بالطاعات والفرائض، والثانية لقاء الامتناع عن المعاصي وارتكاب الذنوب. يقول فخر الكائنات وسيد الورى محمد (ص) (سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلاّ ظلّه (في القيامة، ولا ظل في الآخرة في الحقيقة إلاّ ظل العرش الإلهي المجيد)، واحد اولئك السبعة نفر هو من يرى الله رقيباً عليه وحاضراً معه وشاهداً على ما يفعل في خلواته، فيذكر الله تعالى ويخشع قلبه لذكره فتنفجر الدموع من عينيه وتبتلّ لهما وجنتيه. لأن الله عز وجل آل على نفسه أن لا يجمع خوفين لعبده، فأما خوف الدنيا وأما خوف الآخرة، يقول رسول الله (ص) (قال الله تبارك وتعالى، وعزتي وجلالي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين، فإذا آمنني في الدنيا أخفته في الآخرة، وإذا خافني في الدنيا آمنته يوم القيامة)[3] فيهبه الله حينذاك جنتين.

(يوم يقوم الناس لرب العالمين) (سورة المطففين، الآية: 6).

أم الوجه الثاني: وهو لا يتعارض مع الوجه الأول، وعليه يكون معنى الآية هو (ولمن خاف مقام ربه ـ يوم القيامة ـ جنتان) أي من خاف مقام ربّه في الآخرة عند قيام الساعة والحساب والمسائلة، فحفظ نفسه وراقبها وتعاهدها خوفاً من الله تعالى عند تلك المواقف لأنه سينتهي به المصير إلى الوقوف بين يدي رب العالمين كما يؤكد هذه الحقيقة الواقعة قوله تعالى (يوم يقوم الناس لرب العالمين) فهو يخاف ذلك فيُصلح صالح في دنياه، ولأجل ذلك يجزيه الله عز وجل جزاءً وفاقاً.

حالات الغشية عند الإمام الحسن (ع):

وقد نقل أصحاب التواريخ في أحوال الإمام الحسن بن علي المجتبى (ع) أنه كان يجهش بالبكاء كلمّا ذكر الموت، وكلمّا ذكر القيامة والصراط والميزان ومواقف الآخرة في القيامة، وما أن يذكر (ع) موقف العرض على الله (جل جلاله) حتى يخر مغشياً عليه، لأنه كان يتمثّل موقف الحساب كلمّا ذكر الوقوف بين يدي الله (عز وجل) وذكر قدوم ذلك اليوم الذي يأتي فيه نداء رب العالمين (يا عبدنا أتذكر ما فعلته في اليوم الفلاني والمكان الكذائي!

يقول الشيخ البهائي: ومرّ الإمام الحسن (ع) يوماً بنفر جالسين وفيهم شاب يقهقه بصوت عالٍ ضاحكاً فكلمّه الإمام (ع) قائلاً له: مه أيها الشاب هل جزت القبر والمساءلة ومنكر ونكير؟! أم هل فرغت من حساب يوم الجزاء؟ فبان على وجه الفتى بالغ التأثّر بعد سماعه لكلام الإمام (ع) ولم ير بعد ذلك اليوم ضاحكاً مقهقهاً حتى فارق الدنيا.

صلاح الحال يأتي في التخوّف من المستقبل المجهول:

يعد الخوف أحد مستلزمات الايمان، وكلما استحكم هذا الإيمان في قلب المسلم، كلمّا أدى ذلك إلى زيادة درجة خوف المرء من مقام ربّه (عز وجل).
فلو لم ينس الإنسان عقبات يوم القيامة بما فيها كأد وصعوبات، وعد مستقبله قريباً وأنه أوشك أن يطأ أعتاب القيامة والحساب بقدميه حالما تغفى ساعات عمره، فينشغل حينئذ بالتفكير ببقية العمر كيف سيفنيه، وسيفكر أيضاً بما أعدده الله من ابتلاءات ستواجهه قريباً، وسينشغل بذكر الموت المباغت له وهو لا يدري على أيّة حال سيدركه فيها، وعلى أي حال سيعقد العزم، أيموت وهو مشتاق إلى لقاء الله وأهل البيت (ع)، أم أنه سيموت وقد شغف قلبه حبّاً للمال والسلطة والعنوان؟ ثم يعتصر المرء ذهنه فيفكر في أحواله وهو قد انزل إلى قبره، فيأتيه الملكان ويسألانه، فهل سيحير لما سئل جواباً؟ وأي جواب هذا الذي سيردّ به؟ ثم تحل الساعة ويلج عالم القيامة بمواقفها الملئى بالشدائد والصعوبات والعقبات، ثم يعرض عليه سجله وقد أحصى عليه الكثير من الذنوب والآثام التي نسيها. فهنيئاً للمرء سعادته عندما يعمر قلبه بخشية الله تعالى، وهذه الخشية التي تأتي بنارها على هشيم مزارع الذنب فتذرها كالصريم. وعلى ذلك كانت شدة الخوف من دلائل الإيمان يقول رسول الله (ص) (أنا أخوفكم بالله) ويقول
المولى عز وجل في كتابه المجيد (ويخافون يوماً كان شرّه مستطيراً) (سورة الإنسان، الآية: 7). في وصف خوف أهل البيت (ع)، ويبقى الخوف من الله أحد أهم المنجيات من العذاب كما يرشدنا على هذه الحقيقة إمامنا الباقر (ع) في قوله (وأمّا المنجيات فخوف الله في السر والعلانية)[4].

رواية توجب الخشية:

وضمن ما جاء في الرواية الشريفة المروية عن النبي (ص) في معرض نزول قوله تعالى (لها سبعة أبواب)، أن جبريل أخبر النبي (ص) عن جهنم وهيئتها فقال: ان لجهنم سبعة أبواب (طبقات) بين الباب والآخر مسيرة سبعين عاماً، وعذاب كل باب (طبقة) سبعون ضعفاً من عذاب الطبقة التي تعلوها وأقل العذاب في الطبقة الأولى وهو معّد لمن خرج من دار الدنيا ولم يتب من ذنوبه الكبائر من أمتك. بعد ذلك يخيره قائلاً: وان امتك لا تقيّد بالسلاسل، ولا يختم على أفواههم كما يختم على أفواه المجرمين (لأنهم كانوا يرددن شهادة لا اله إلاّ الله طيلة أعمارهم كما أنهم لا يقيّدون بالأصفاد والأغلال في أيديهم لأنهم مدّوها إلى الله عز وجل بالدعاء)، وبعد أن سمع النبي (ص) ذلك بكى بكاءً مرّاً، ولم يستطع من مغادرة الدار فلمّا حان موعد الصلاة جاء بعض الصحابة إليه فقيل لهم إنه في حال لا يستطيع أن يكلّم أحد بها وكان من بينهم اولئك النفر من الصحابة سلمان الفارسي، فأدرك سلمان أن ما من أحد يمكنه حل هذه الأزمة التي أهمت النبي (ص) سوى الزهراء فاطمة (ع) (لأن النبي (ص) بمجرد أن يشم ريحها أو يراها يدخل الفرح والسرورو إلى قلبه، فالزهراء (ع) إن أقبلت تقبل معها ريح الجنة ورحمة الله عز وجل لأنها خلقت من مادة ثمار الجنة)، فذهب سلمان إلى عند فاطمة (ع) وسألها أن تلقى رسول الله (ص)، فجاءت الزهراء وشاهدت أباها وقد غارت عيناه في محجريهما وهنّ محمرّات من كثرة البكاء، وقد برزت عظام جبهته وخديه وأصفّر وجهه فسألته: فديتك نفسي يا ابتي ما الذي أبكاك؟ فحدثها النبي (ص) بما اخبره به جبرئيل من أنباء جهنم وعرّفها بشيء منه واخبرها أن امته لا تصفّد بالأغلال والسلاسل ولكنهم يسحبون على وجوههم في النار (الرجال يسحبون من لحاهم، والنساء من ذوائبهن) ويصرخ الشيوخ الويل لشيخوختنا، ويضج الشبان الويل لشبابنا وتولول النساء آه ووافضيحتاه، ثم يلقون في حفيرة النار وهم على تلك الحال، فيسألهم مالك خازن النار: من أية أمة أنتم، فلقد اُمرنا أن لا نغلكّم بالقيود والسلاسل، وأن لا نختم على أفواهكم؟ (فينسى لولئك الاشقياء ذكر اسم النبي محمد (ص) لأنهّم قد علقوا قلوبهم بحب الدنيا. وكيف ينسى المرء اسم نبيه محمد (ص) وحب محمد وآله ويجري في عروقهم وقد خالط لحومهم ودمائهم؟! وكيف ينسون أسماء أهل البيت (ع) وهم يندبون العمر كله ياحسين ويا علي!!) فيقولون نحن من أمة من أنزل الله عليه القرآن! فيرد عليهم مالك قائلاً: ويحكم ألم يكن في القرآن، ما يحجزكم عن ارتكاب المعاصي واجتراح السيئات؟ فيلقي بهم عندئذ في النار، فتتنحّى عنهم النار جانباً وهي تقول كيف اُحرق من يقول لا الله إلاّ الله، فيقال لها إنه أمر الله عز وجل، فتمتثل النار أمر ربها فتأخذهم من كل جانب، ويستمرون على هذا الحال المؤلم من العذاب حتى يتذكرون أسماء الله الحسنى (يا حنّان ويا منان)، فيدعون الله بها، فيأمر الله جبريل أن يمضي إليهم ويسألهم حاجتهم، فيمضي إليهم ملك الرحمة فيسألهم ما بهم، فيردون عليه قائلين من أنت؟ فيقول: أنا جبريل، فيقولون: أمين الوحي الإلهي، فيقول بلى، فيحملونه تحياتهم وسلامهم إلى النبي محمد (ص) ويوصونه أن يذكر له سوء حالهم، وعندما يصل خبر اولئك إلى النبي (ص)، يشفع لهم بإذن الله فيخرجهم الله من النار وقد صاروا كالفحم قد اسودت أبدانهم ووجوههم، فيأتيهم النداء أن امضوا إلى المكان الفلاني حيث أحد أنهار الجنة، فيذهبون إلى حيث أمروا فيلقون بأنفسهم في ماء النهر ثم يخرجوا منهم وكأنهم الفضّة بياضاً ثم يعودوا شبّاناً فيوردهم الله جنته.

في تعاهد حب أهل البيت (ع) تحصل النجاة:

ولقد ذكرت في معرض الحديث أهمية محبة وولاء أهل البيت (ع)، لأن أي تأكيد يرد إلى المؤمنين بضرورة التعلق بعالم المحبّة انما تتأكد حقيقته في السعي إلى اعمار القلوب بحب أهل البيت (ع)، هذا الحب الذي ينبغي أن يأخذ بمجامع القلوب.

وقد تجلّت هذه الحقيقة فيما أولاه المولى عز وجل للصلاة على النبي وآله من أهمية فائقة، يضاف لها اكرام السادات من ذراري أهل البيت (ع) واكنان المودة والاحترام لهم ولآبائهم الأئمة الطاهرين (ع) والانفاق على شيعة علي (ع) واطعامهم بقصد القربة إلى الله تعالى، وهذه الأمور في ذاتها حسنة بغض النظر عما تترتب عليها من عوائد ومنافع ربانيّة في العاجل والآجل، وصدق من قال؛

وأضرم الأحشاءَ ناراً في هواه

إنني عُدت لا أبغي سواه

 

ربّ زِدْ في حُزْني في فقدي حسين

ثم جرّد قلبي عما غيره


[1] لمزيد من التفصيل حول هذا الموضوع، يمكن الرجوع إلى كتاب الدار الأخرى في تفسير سورة الواقعة للسيد المؤلف(رض).

[2] نهج البلاغة/ الخطبة 224.

[3] تفسير نور الثقلين (ج5، ص 197).

[4] تفسير نور الثقلين، (ج5، ص197) نقلاً عن الخصال.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست