.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

إستحالة الهرب من البلاء العام الشامل

الشعلة المضرمة هي الشواظ

 

[ 39 ]

(يا معشر الجن والأنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلاّ بسلطان* فبأي آلاء ربكما تكذبان) (سورة الرحمن، الآيات: 33ـ34). لا بشيء من آلائك ربِّ أُكذّب.

استحالة الهرب من البلاء العام الشامل:

كلمة (أقطار) الواردة في الآية هي جمع (قطر) وهو الجانب أو الطرف، ومعنى الآية ـ يا معشر الجن والانس إن استطعتم أن تفرّوا من أطراف السماوات والأرض ففروا، لكنكم تدركون إنكم عاجزون عن ذلك إلاّ بوجود قدرة الله أو عونه أو مساعدته أو بحجة من الله وبرهان أو.. وعودا على بدء نقول، إن بعض مصاديق الآية تتعلق بالدنيا، والبعض الآخر يتعلق بالآخرة وذكرنا أن أحد الوجوه المتعلقة بدار الدنيا هو الفرار من القضاء والبلايا العامة، وعندما يحل البلاء الشامل (كالأوبئة والطاعون والزلازل و...) لا يمكن الفرار حينئذ من أي طرف وجانب وقطر، كما أن حلول الموت يعجز الهارب ويقع على الطالب، بل لا يمكن حتى أن يصار إلى تأخير وقوع الموت لحيازة الفرصة على الهرب.

قوة الجن الفائقة على قوة الإنسان:

والملاحظ لهذه الآية بشيء من الدقة يجدها قد قدمّت اسم الجن على اسم الانس، ولعل الباعث على ذلك هو تفوّق الجن على الانس من حيث القوة باعتبار أن الآية الشريفة تستعرض قدرة وقوة هذين المخلوقين ازاء القضاء والقدر الإلهيين، لذلك كان الافتتاح باسم الجن أبلغ وأنسب.

ومن البديهي،وكما أشرنا إلى هذا الموضوع من قبل، أن قوة الجن المادية تفوق القوة البدنية الإنسانية بمراتب عديدة، رغم أن الإنسان يتفوّق على الجن من حيث القوة الروحانية والعلمية والقدرة على اكتساب المعارف، ويعود السبب في ذلك إلى طبيعة تكوين أجسام الجن، فهي اكثر شفافيّة ولطافة من أجسام البشر لأن مادة خلقهم الأولى هي النار، بينما مادة خلق البشر الأولى هي التراب، على ما نوهنا إلى هذه الحقيقة في بداية شرحنا وتفسيرنا للسورة.

ولكن يبقى الإنسان متفوقاً على الجن من حيث إلمامه بعلم القرآن والمعارف الإلهية، كما يتأكد ذلك في قوله (تعالى) (قل لئن اجتمعت الانس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً) (سورة الإسراء، الآية: 88). عندما قدم الباري (عز وجل) ذكر الانس على ذكر الجن، ويشهد أيضاً على هذه الحقيقة قوله (عز من قائل) (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا انه هو السميع العليم) (سورة الإسراء، الآية: 1)، وعلى أية حال فان موضوع الآية التي نحن بصددها تتعلق بالقدرة المادية، لذلك جاء ذكر الجن سابقاً لذكر الأنس باعتبارهم اكثر قدرة واعظم قوّة. ومع ما للجن من قوة وقدرة فائقتين فهو الآخر عاجز عن الفرار والهرب من قضاء الله وقدرة فتأمّل.

العلم بما وراء الطبيعة يتحصّل بإذن الله ومدده:

والوجه الآخر الذي ذكره المفسرون كمصداق لهذه الآية هو العلم بما وراء الطبيعة، حيث أن الآية تشير في خطابها معشر الجن والأنس قائلة (إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض) ـ لتعلموا ما وراءهما ـ فانفذوا، (لا تنفذون إلاّ بسلطان) فهي قد اشترطت في الوصول إلى عالم الملكوت وما وراء الطبيعة أن يتحقق اجتياز أقطار السماوات والأرض من خلال وجود القدرة الإلهية المعبّر عنها في الآية بالـ (سلطان). وهنا نتساءل: من هو صاحب القدرة على اجتياز عالم الطبيعة والمادة الطالب الولوج إلى عالم الوجود الملكوتي عند المبدأ والمعاد لينتهي إلى الملكوتين السفلي والعلوي؟ إنه أم باهر وقاهر ولا يمكن تحقيقه إلاّ مع وجود العون والمدد الإلهين كما حصل مع الحبيب محمد (ص) في ليلة المعراج عندما طوى عالم الطبيعة المادي وعرج إلى ملكوت العوالم الأُخر[1].

الملائكة تحكم طوق حصارها على عرصة المحشر:

ومن الوجوه الأخرى في المصاديق المطابقة لهذه الآية هي (القيامة)، ولعل هذا الوجه هو الأولى باعتبار سياق الآيات، واستناداً إلى ما جاءت به الروايات، وان لم يكن يتنافى ذلك مع انطباق الوجوه الأخرى التي سبقت الإشارة إليها، وعليه يكون معنى الآية (يا معشر الجن والانس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض) فانفذوا من صحراء القيامة ـ (لا تنفذون إلاّ بسلطان) وقد أورد صاحب تفسير البرهان في معرض تفسيره لهذه الآية حديثاً شريفاً روي عن الإمام باقر العلوم (ع) ننقل لكم زبدته، يقول (ع) (عندما يشأ الله (تعالى) أن يجمع الناس للحساب في يوم الجزاء، يأمر المنادي بالنداء: يا معشر الجن والانس اجتمعوا، فيجتمعون في أقل من طرفة عين، ثم يؤمر بأهل السماء الأولى بالنزول وإحاطة الخلائق، ثم يؤمر بأهل السماء الثانية (وهم ضعف عدد أهل المساء الدنيا) بالنزول وإحاطة أهل السماء الأولى، وهكذا يؤمر بأهل السماء الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة بالنزول وإحاطة صفوف ملائكة السماوات التي سبقتهم (مع أن عدد أهل كل سماء يتزايد ضعف عدد أهل السماء من الطبقات التي تليها) فيحاط بالخلائق بصفوف، الملائكة، وهنا يأتي النداء الالهي(يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلاّ بسلطان).

انحصار السلطة برحمة الله(تعالى):

(لا تنفذون إلاّ بسلطان) أي لا تستطيعون الخروج والعبور إلاّ بقدرة الله ولطفه ورحمته، فيا أيها المساكين، اعلموا انه لا سبيل لكم سوى سبيل النجاة الإلهي الذي لا بد لكم من الركون إليه والاحتماء به، وهو السلطان الإلهي الذي من حازه يكون قد خلّف وراءه الهموم والشقاء لأنه افضل سبل النجاة. وقد ذكر العلامة الطباطبائي وغيره من العلماء أنّ في هذه الآية بيان لنعمتين:

الأولى: وهي التذكير بعجز وضعف الجن والانس عندما تخبرهم الآية ان لا سبيل لهم للفرار والنجاة.

والثانية: هي التذكير بأن السلطان منحصر بقدرة ولطف ورحمة الله (عز وجل)، فقد أعطانا الله في هذه الآية الدواء الناجع، لداءٍ شخصه الباري في ذات الآية أيضاً.

وما رغبتي بالملك إلاّ أن أخدمك

 

وما شوقي للسيادة إلاّ عبوديّة لك

فسبيل النجاة من كل مسكنة نجده ميسوراً في بيوت الله تعالى، فليس من أحد سوى الله يأخذ بأيدينا وينتشلنا مما نحن فيه ويفرغ الهموم والأحزان عن قلوبنا، لذلك وجب علينا أن نحكم أطواق العبودية لله على رقابنا، ونروض أنفسنا الصعبة على قبول العبودية له وحدهُ كما أمرنا بذلك (عز وجل) (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا) (سورة آل عمران، الآية: 200). وعليه كانت تلك الآية نعمة من وجهيها، (فبأي آلاء ربكما تكذبّان) أبالتذكير بضعفكما وعجزكما؟ أم بالتذكير لكما بسبيل النجاة والخلاص الذي دلّكما عليه الله وجعله لكما في رحمته؟ (فبأي آلاء ربكما تكذبان) ولقد كشفنا لكما الداء ثم أرشدناكما على الدواء لتأخذوا حذركم ثم تعتبروا.

الأمر التعجيزي وهو ما يبّرز حالة العجز لدى المقابل:

ونكمل الأن بقية مضمون الحديث المروي عن الإمام الباقر (ع) (وبعد أن تهبط ملائكة السماوات السبع وتتشكل صفوفها المحيطة بالخلائق في صحراء المحشر وقد احكم طوق الحصار عليهم هنا يأتي الأمر التعجيزي (وهو الأمر الذي يعجز عن تنفيذه الطرف المقابل كأن يقال له ـ إن استطعت أن تنقل هذا الجبل إلى المكان الفلاني فانقله ـ وبداهة لا يستطيع تحقيق هذا الأمر لأنه خارج عن حدود قدرته واستطاعته) حينما يأمر الله ملكاً بالنداء (يا معشر الجن والأنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلاّ بسلطان)؛ وقد أحاط الملائكة بهم من كل جانب فهم لا يلوون على شيء، حينذاك يعم الناس اليأس ويطرقوا برؤوسهم إلى الأرض. وهنا سكت الإمام (ع) عن الحديث وشرع بالبكاء بصوت عالٍ، يقول الرواي قلت لأصبر حتّى ينتهي الإمام من بكائه، فلمّا سكت الإمام (ع)، قلت له: فأين حينئذ جدك رسول الله (ص) وأين علي وأين ذريته وشيعته؟ (يقصد بقوله ذاك هل هم أيضاً ممن احكم طوق الحصار عليهم؟

حسنة الولاية، أمنٌ من فزع يومئذ:

إذّاك تبسم الإمام (ع) وقال: (من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون) (سورة النمل, الآية: 89)، انهم (ويقصد بهم النبي (ص) وعلي (ع) وذريته وشيعتهم) على قطعة من مسك أذفر نصبت عليها منابر من نور وقد ارتقى كل منهم منبره، أما محمد وعلي (صلوات الله عليهما) فهما يضيئان كالشمس والقمر، والباقون كالنجوم يتألقون وقد أحاطوا بهما، وهم في راحة وأمان)[2]. وما عبّر عنه الإمام (ع) بالحسنة عند استشهاده بالآية الكريمة تلك انما عنى بالحسنة الولاية لعلي بن أبي طالب (ع) التي تؤمن صاحبها يومئذ من فزع القيامة.

حديث إبن عباس ساعة الموت:

وينقل المؤرخون عن ابن عباس (وهو ابن عم النبي (ص), كان من كبار المفسرين من الصحابة وقد اشتهر بعلمه وعمله حتى قيل له (حبر الأمة) أي عالمها) رفقته النبي (ص) والإمام علي (ع) لسنين عديدة، وسماعه لآلاف الاحاديث عن النبي (ص) دون واسطة أنه أيقن أن لا خلاص من أهوال القيامة وأخطارها إلاّ بالولاية، ويقال أنه عندما أحس بالموت قد أدركه رفع كفيه بالدعاء قائلاً (اللّهم إني أتقرّب إليك بولاية الشيخ علي بن أبي طالب (ع) ويعني بذلك أنه لا يثق بعمل يجده مقبولاً عند رب العالمين سوى ولاية وليّه علي بن أبي طالب (ع)، بلى والله انه لحق (ألا ومن مات على حب آل محمد مات مؤمناً تائباً مستكمل الإيمان)[3].

[ 40 ]

(يرسل عليكم شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران * فبأي آلاء ربكما تكذبان) (سورة الرحمن، الآيات: 35 ـ 36). (لا بشي من آلائك رب اكذب).

الشعلة المضرمة هي الشواظ:

وتستعرض هذه الآية المباركة الجزء المتمم لبيان ضعف وعجز الجن والانس في مقابل قدرة الله المطلقة

(يرسل عليكم شواظ) تقرأ كلمة (شواظ) بضم الشين أو بكسرها، والمشهور قراءتها بالضم، وهي تعني الشعلة النارية المضرمة ذات اللون الأزرق الخالص، وتتميز بقدرتها الكبيرة على الاحراق، ومن الطبيعي أن تكون قدرة الاحراق اكبر كلمّا كانت شعلة النار ألطف، فنار الآخرة ألطف بدرجات متعددة عما هي عليه نار الدنيا وعليه كانت قدرتها على الاحراق اكبر بأضعاف كثيرة.

المعاني المتعددة للنحاس:

وذكرت عدة معانٍ للنحاس نأتي إلى ذكر أهمها:

الأول: ويعني الدخان.

والثاني: ويعني الرصاص المذاب.

والثالث: ويعني معدن النحاس المنصهر، وهناك معان أخرى عزفنا عن ذكرها لبعدها عن واقع معنى الآية، وبناءً على ما سبق يكون معنى الآية (يرسل عليكم شواظ من نار ونحاس) هو ـ يرسل عليكم يا معشر الجنة والناس نار من نيران جهنم ودخان، أو رصاص مذاب، أو نحاس مذاب ـ. ومن يتأمل في التصوير الرائع للآيتين الماضيتين يرى فيه ان الملائكة قد أحكمت حصارها على الخلائق وهي تحمل معها نيراناً قد اندلعت ألسنتها، أنه مشهد مخيف ومهول حقاً، فلو لم يكن التقدير الإلهي بإبقاء الناس والآخرين في موقف الحساب لالتهمتهم تلك النيران، لأن نار الآخرة نار مدركة وذات شعور كما هي سائر أشياء الآخرة، لأن الآخرة دار الحياة الحقيقية[4] كما تصور هذه الآية المباركة تلك الحقيقة (إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيّظاً وزفيراً) (سورة الفرقان، الآية: 12). فلولا رحمة الله ورأفته لنفق وهلك كل من حملته أرض المحشر من شدة صرخات جهنم.

إذاً ألسنة نار جهنم تحول دون استطاعة أحدٍ ن الهرب، فيبقى الجميع ملازمين لعرصة المحشر لا يلوون على شيء، إن طوعاً أو كرهاً.

أنهار القطر المذاب في النار:

ونقل أبو الفتوح الرازي في تفسيره رواية يتحدث مضمونها عن وجوه خمسة أنهار تجري بالنحاس المذاب في الآخرة، كما هو الحال في انهار الجنة الأربع التي ورد ذكرها في قوله تعالى (مثل الجنة التي وعد المتقون، فيها أنهار من ماء غير آسن، وأنهار من لبن لم يتغيّر طعمه، وانهار من خمر لذة للشاربين، وانهار من عسل مصفّى) (سورة محمد (ص)، الآية: 15). وتقول الرواية إن تلك الأنهار موزّعة، ثلاثة منها في النهار ونهران في اللّيل (ولعل المقصود هنا بالنهار والليل هو أن الثلاثة الأولى هي آثار الأعمال القبيحة والمعاصي التي ارتكبها المجرمون في دنياهم نهاراً، أمّا النهران المتبقيان فهما آثار الآثام والأعمال القبيحة المرتكبة في دنياهم ليلاًن لأن عالم الآخرة لا يشتمل على ليل أو نهار). وعلى ذلك يكون المعنى هو ان كلمة نحاس معطوفة على شواظ فيصير ـ يرسل عليكم ألسنة النيران والنحاس المذاب ـ.

الكل ينادي وانفساه يومذاك:

(فلا تنتصران) أي فلا يستطيع أحد منكما ان ينصر الآخر أو يغيثه، أي لا الجن بمقدورهم اغاثة الانس، ولا الانس بامكانهم نجدة الجن، بل لا الآباء باستطاعتهم نصرة أبنائهم، ولا الأبناء في وسعهم اعانة آبائهم، الكل مهتم لنفسه، والجميع يرددون انشودة واحدة هي انشودة (وانفساه)، وهو ما يتأكد في قوله (عز وجل) (يوم يفر المرء من أخيه * وأمه وأبيه * وصاحبته وبنيه * لكل امرئٍ منهم يومئذ شأن يغنيه) (سورة عبس، الآيات: 34 ـ 37). فهم يومذاك في شأن يغنيهم حتى عن المطالبة بحقوقهم الشخصية وظلاماتهم، الجميع يصرخ وانفساه، حتى الانبياء (ع) يرددون (وانفساه) و(ربي نفسي) باستثناء واحد من جميع العالمين، يتجرّد عن ذاته ويفكر بالآخرين وينادي (ربي أمتي)، انه سيد الخلق وخاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد (ص)، بينما الآخرون مشغولون بالتفكير بأنفسهم في تلك الساعة العصيبة. وبعد هذا التصوير الدقيق لما سيجري في موقف المحشر من امور عظام يعقب ربنا تعالى بقوله (فبأي آلاء ربكما تكذبان).

تلك الأخبار نعمة إلهيّة:

ويجدر بنا ان نلتفت إلى الأخبار الإلهية هذه التي تعلمنا بما سيحدث في المستقبل لنكون على بينّه ونعد العدد لذلك، وهذه الأخبار هي نعمة الهية عظيمة كما قلنا، تستحق الشكر والثناء، لان الأخبار حصل قبل أن يدركنا الموت وحينذاك تجيء مرحلة اللاعمل وتطوى فيها صحائف الأعمال، إذا ما يعلمنا به الباري عز وجل انما هو لأجل أن نتهيّأ ونتعبّأ من اجل استحصال براءة العتق من النار، فلو صدق السامع بهذه الأخبار يكون قد تدرّع بما يمنع اصابته بنبال المعاصي المستهدفة للقلوب، فيحترز من ارتكاب الذنوب ويسارع إلى طلب التوبة والمغفرة ويشرع بالندم بكاءً وأنيناً ليغسل بدمعه أدران المعاصي والقبائح التي اقترفها في ما مضى من سني العمر، بل وسيقى فرقاً وجلاً قد وقرت خشية الله في سويداء فؤاده، فيذوب قلبه من شدة حرارة الرهبة من الله وعظم خشيته من أمره (عز وجل)، وما لخوف هذا إلاّ عبادة قلبية تستوجب حلول رحمة الله ولطفه عليه، فيجزيه الله (تعالى) عن خوفه هذا بوعد صادق في قوله (ويخافون يوماً كان شره مستطيراً) (سورة الإنسان، الآية: 7). (فوقاهم الله شر ذلك اليوم) (سورة الدهر، الآية: 11). نعم إن شأن نزول هذه الآيات ومصداقها هم أهل البيت (ع) دون شك، ولكن موردها عام يشمل جميع أهل الخوف من الله (عز وجل)ن فكلمّا ازدادت خشية المرء من الله وتلظّت نارها في فؤاده، كلما كان مؤهلاً بشكل اكبر لنيل رحمة الله وحفظة ورعايته، وعندما ينفض عن رأسه تراب القبر عند النشر والحشر يكون آمناً وتأتيه البشارة الإلهية التي نقلتها رواية شريفة يقول مضمونها (إن للبكائين من خشيتي أسمى وأعلى المنازل والدرجات).

بشارة لمن خاف عذاب ربّه.

ونقل كتاب لآلئ الأخبار عن قول المنصور بن عمار أنه قال: في سفر لي إلى احدى البلدات، اقتربت من مسجدها، فوردته وتهيأت لأداء الصلاة، فانتبهت إلى شاب يصلي بكل خشوع وخضوع، فحدثني قلبي ان هذا الشاب لا يبدو عليه أنه من أهل الغفلة لأن (الاناء ينضح بما فيه) فأردت أن استأنس به، فتركته حتى فرغ من صلاته ثم قلت له: أيها الشاب ان علائم الايمان تسطع من محيّاك واني أريد الأنس معك بالحديث فقل لي هل مر عليك قوله تعالى (كلاّ إنها لظى * نزاعة للشوى * تدعو من أدبر وتولى) (سورة المعارج، الآية: 15 ـ 17). فرق قلبه وبكى بكاء الثكلى على وليدها، ثم التفت الي وقال: وهل تحسن غيرها؟ فأجبته نعم، هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة) (سورة التحريم، الآية: 6). فما انتهيت من تلاوتها عليه حتى صاح صيحة عظيمة وخرّ مغشياً عليه كأنه خشبة لا حراك فيه، فتحسسته فإذا هو ميت، فقمت أفتش عن أهله وذويه، فلما وجدتهم أخبرتهم بما حدث فجاؤا وحملوا جنازته فسألتهم أن يأذنوا لي في تولي غسله، فأذنوا لي بذلك فشرعت انزع عنه ملابسه فلما ترائى لي صدره وجدت عيه عبارة قد نقشت بخط عريض (فهو في عيشة راضية * في جنة عالية * قطوفها دانية) (سورة الحاقة، الآيات: 21 ـ 23).

بلى والله، ان العين التي تدمع من خشية الله (عز وجل) لا بد وان يكون لها أجراً، وأن القلب الذي يخفق فرقاً ورهبة من عذاب الله وسخطه لا بد وأن يهبه الله الأمن، ثم يواصل ابن عمار حكايته، فيقول ثم كفنّاه ودفناه وحثونا التراب على جسده، وعندما عدنا، ذهبت لأنام، فلما نمت رأيت في منامي هذا الشاب وهو على هيئة الملوك، فقلت له ما فعل بك ربك؟ قال: لقد وهبني الله منزلة تفوق منازل الشهدا وقال لي: إن الشهداء يقتلون لأجلي بسيوف الكافرين، وأنت قتلت بآية عذاب من آياتي لأجلي! فلقد نال ذلك الشاب تلك المنزلة الشريفة التي سمت على منازل الشهداء بفضل تأثره بآيات العذب تلك، وهذه حقيقة تؤكد ان هذه الآيات وان كانت في واقعها آيات عذاب إلاّ أنها في حقيقتها نعمة، (فبأي آلاء ربكما تكذبان) يا معشر الجنة والناس!

زلزلة القيامة وبشارة الخائفين:

وكتب صاحب تفسير منهج الصادقين عن سبب نزول آية (يا أيها الناس اتقوا ربكم ان زلزلة الساعة شيء عظيم * يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد) (سورة الحج، الآية: 1). قائلاً: نزلت هذه الآية الكريمة ليلة كان المسلمون في طريقهم إلى غزو بني المصطلق، فبكى المسلمون لدى سماعهم هذه الآية ولم يطبق النوم على اجفانهم طيلة تلك الليلة حتى اطلع عليهم الصبح فوصلوا إلى منطقة القتال ما بين باكٍ وصارخ ونادب ومولول بحيث لم يقو أحد منهم على نصب الخيام للتعسكر فيها، ولم يشعلوا ناراً لأنهم اهتموا بأمر فائق على تلك الأمور، وهنا زف لهم رسول الله (ص) البشرى رأفة بقلوبهم المحترقات قائلاً: لقد اخبرني جبريل ان ثلثي امتي في الجنة، وان امتي لترد القيامة على مائة وعشرين فوجاً، يدخل من كل فوج ثمانون ألف نفر الجنة دون حساب. (وبالتأكيد ان هذه البشارة هي لمن يستعر قلبه ناراً من خشية الله وعذابه، وعندما يذكر المرء هذه النعمة لا يجد بداً من ان يقول الحمد لله الذي جعلني من أمة محمد (ص)، عندها قام أحد أصحاب النبي (ص) واقفاً وسأله: ادعوا لي يا رسول الله (ص)، ثم ما لبث أن قام رجل آخر وسأل النبي (ص) ما سأله الأول، فلم يجبه النبي (ص) إلى ما أراد. وقد احتمل بعض العلماء أن يكون الثاني من المنافقين ولذلك لم يعتن رسول الله (ص) بسؤاله. ومهما يكن الحال فان ما يهمنا من تلك الحكاية هو ان يعيش المرء موازناً بين حالتي الخوف والرجاء، فكلمّا أرادت نار الخوف أن تشدّه إليها استعان على ذلك برحمة الرجاء.

 

[1] (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا انه هو السميع العليم). (سورة الإسراء، الآية: 1). وللاستزادة يمكن الرجوع إلى أثر السيد المؤلف(رض) الموسوم بالمعراج في شرح وتفسير سورة النجم.

[2] قال الإمام الباقر (ع): إن الله إذا بدا له أن يبين خلقه ويجمعهم لما لا بد منه، أمر منادياً ينادي، فاجتمع الجن والانس في أسرع من طرفة عين، ثم أذن لسماء الدنيا فتنزل وتكون من وراء الناس، ثم أذن للسماء الثانية فتنزل وهي ضعف التي تليها، فإذا رآها أهل المساء الدنيا قالوا جاء ربنا، قالوا لا وهو آت يعني أمره، ثم تنزل كل سماء وتكون كل واحدة منها من وراء الأخرى وهي ضعف التي تليها، ثم ينزل أمر الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى ربكم ترجع الأمور، ثم يأمر الله منادياً ينادي (يا معشر الجن والانس...) الآية، تفسير علي بن ابراهيم القمي عن تفسير نور الثقلين (ج5 ص 195).

[3] عن تفسير الكشاف للزمخشري وتفسير الثعلبي وتفسير روح البيان للآلوسي.

[4] (وان الدار الآخرة لهي الحيوان). سورة العنكبوت، الآية: 64).

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست