.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

الحمد لله الذي لم يجعلني من أهل النار

من ذا الذي يمكنه الهرب من الله؟

 

[ 37 ]

(سنفرغ لكم أيها الثقلان * فبأي آلاء ربّكما تكذبّان).

(سورة الرحمن، الآيات: 31 ـ32).

(لا بشيء من آلائك ربّ اكذّب)

الحمد لله الذي لم يجعلني من أهل النار:

قلنا أن النار جعلها الله مثوىً ومأوىً للكفار والمعاندين، وسيأتي اليوم الذي تمتلئ النار من اولئك الأشرار، كما يذهب نص دعاء كميل إلى تأكيد هذا المعنى في عبارة (أقسمت أن تملأها من الكفارين، من الجنة والناس أجمعين، وأن تخلّد فيها المعاندين)، فالنار هنا ستكون سبباً من اسباب تسكين قلوب المؤمنين، وباعثاً هاماً على تنفيس همومهم لأنها آوت أعدائهم الذين ما انفكّوا يعاندونهم.

ويروى أن المؤمن عندما ينتهي به الأمر إلى الجنة، ينتبه على احدى النعم اللهية الغافل عنها عندما يعرض له مكانه في النار الذي كاد أن ينحدر إليه فيما لو لم يكن مؤمناً، فيغلبه السرور ويسعد جذلاناً لما وفقه الله له من نجاة وانعتاق. وفي ذات الحين يعرض للكافر المخلّد في النار مكانه في الجنّة الذي كاد أن يسمو إليه فيما لو كان مؤمناً، فتزداد حسرته ويشتد عذابه وبلائه.

إذاً النار للمؤمن مبعث سرور وفرح من جانبين:

الأول لأنها صارت مثوىً لأعدائه في الله، والثاني لأن الله (عز وجل) انقذه منها.

الفرق بين الذات والعرض:

اما الوجه الآخر في اعتبار الحساب والجزاء والنار نعماً الهية فلأنها مطلوبة، والمطلوبيّة على نحوين:

اول: المطلوب بالذات، أي أنه مطلوب للرغبة فيه مباشرة.

والثاني: المطلوب بالعرض، وهو المطلوب بالواسطة والتبعيّة لتحقيق هدف معين، ولتوضيح هذا الأمر نعمد إلى المثال الآتي:

لو أخذنا العسل (مثلاً)، هذا النوع من الطعام مطلوب للإنسان الصحيح والمعانى بذاته لأنه طعام لذيذ ومفيد، بينما الدواء المسرء نجده مطلوب عند الإنسان السقيم والمريض ولكن بالعرض، أي أن المريض يذهب إلى الطبيب، ويتكلف المشقة للوصول إليه، ثم ينفق أموالاً، ثم يذهب للبحث عن هذا الدواء المر الذي وصفه له الطبيب علاجاً، ثم يتحمل مرارة طعمه عندما يشربه، فهو يطلبه لأجل الشفاء والعافية ولذلك قيل له مطلوب بالعرض، لأنه لو لم يكن مطلوباً لهدف وغاية لما اتعب المرء نفسه في البحث عنه والحصول عليه وتجشّم الصعوبات.

الجنة مطلوبة بالذات، لا النار:

وقد خلق الله الجنة في بداية الأمر وجعلها مطلوبة بالذات، ولكن ولكون الإنسان ميّال بطبعه للكسل والخمول، كان ذهابه إلى الجنة تفسيراً لما لطريق الجنة من صعوبات وشدائد تستدعي سعة الصدر وفائق الصبر، والحال أنه كسول ومتقاعس ولا يعدو إلاّ وراء الشهوات الآنية الحاضرة، وفي هذه الحال (سيبقى الإنسان محروماً من الوصول إلى نعم الجنة ولذاتها)، لذلك عمد المولى (تعالى) إلى خلق النار وجعل فيها ألوان العذاب والأهوال ثم حذّر منها أهل الشهوات كيما يخافوا، كما في قوله (تعالى) (ذلك يخوّف الله به عباده يا عباد فاتقونِ) (سورة الزمر، الآية: 16). فإذا ما تولّد الخوف لدى الإنسان دخل حينئذ في مدخل المتقين، فنفض عن نفسه غبار الكسل ونزع ثوب الخمول وشمّر عن ساعديه في طلب الجنة، لأنه أدرك أن ما من سبيل ثالث لمن حمل التكليف الإلهي، فأما سبيل الجنة، وأما سبيل النار، أي اما السعادة الأبدية، واما الشقاء الأبدي (فماذا بعد الحق إلاّ الضلال، فأنّى تصرفون) (سورة يونس، الآية: 32).

إذاً جهنم كالدواء المر للرجل المريض مطلوبة بالعرض لكي يصل إلى الجنة عندما يخاف الله فيبتعد عن الذنب والمعصية، وعليه جاء السؤال الإلهي في موضعهِ عندما يقول (فبأي آلاء ربكما تكذبّان)؟.

نعمة النار: مما لا شك فيه أن الكثير من الأطفال والصبيان يعشقون اللعب ولا ينفكون عنه، وكلنا شهدنا اصرارهم على مواصلة اللعب رغم الالحاح عليهم بضرورة التبكير بالذهاب إلى المدرسة (مثلاً) أو تأدية الفرائض البيتية المدرسية، ورغم اصرار المرّبين على أن (العلم نور والجهل ديجور) ومطالبتهم بالتعلم واكتساب العلوم والمعارف التي تؤهلهم في المستقبل ان يكونوا من ذوي الشأن، رغم كل ذلك يستمر الصبيان في التصامم والاهمال ومواصلة اللعب فلا يلبث الوالد أو الولي حتى يضطر إلى رفع العصا والتلويح. بالضرب المبرح بها ليعمد الصبي إلى أداء فرائضه وترك اللهو واللعب. وهنا لا يجد الصبي بدّاً من ترك اللعب والانصراف إلى دروسه ومدرسته ليتعلم مشفقاً على نفسه من ضربات العصا المؤلمة.

وأنتم معشر الأنس والجن اعلموا ان شؤون الله في هذه الدار عديدة، ولكن سيأتيكم يوم لا يكون فيه شأن الله (عز وجل) إلاّ الحساب (سنفرغ لكم أيها الثقلان) وعندها لا يغادر الحساب منكم أحداً. فهلّموا إذاً إلى العمل الصالح والايفاء بالفرائض الإلهية، واستيقنوا أن من لم يكتب له الله (عز وجل) بلوغ الجنّة فسينكب عن الصراط ويهوي إلى سحيق جهنم كما تهوي أوراق الشجر في الخريف[1]، لأن لنار جهنم جاذبية تتمكن بواسطتها من جذب الأفراد والأشياء نحوها، فهي كحجر المغناطيس عندما يجذب إلى أقطابه برادة الحديد، فالنار يجذب إليها أهل العذاب والشقاء، وقد يبلغ من قوة جذب النار للعصاة، أن تجرهم إليها من على بعد سبعين عاماً كما ذكرت ذلك احدى الروايات[2].

التحذير من الخطر الجسيم نعمة:

ويكمن الجانب الآخر في اعتبار النار والحساب نعمة عندما نقرأ قوله تعالى (فبأي آلاء ربكما تكذبان) لأن هذه الآية انما مثلها كمثل الناقوس الذي يدّق ليحذر الناس من الخطر الجسيم، فهل هناك أدنى شك من أن عذاب النار هو بلاء وخطر جسيم؟ إذاً الاعلان عن هذا الخطر المقبل قبل وقوعه إنمّا هو نعمة بالغة عظيمة. ويقيننا في ذلك ينبع من صحة مصدر الاعلان وصدقه، فكما أننا عندما نسمع من خلال المذياع ان سيلاً عظيماً جارفاً أخذ يهدد مدينتنا وهو الآن متجه نحوها، فنبادر بكل عجلة إلى ترك كل شيء من أملاك ولا نفكّر إلاّ بانقاذ أرواحنا وممتلكاتنا خفيفة الحمل ونقلها إلى محل آمن هرباً من ذلك المصير المخيف. ألا يعد ذلك التحذير الاذاعي في ذاته نعمة تستحق الشكر؟ ثم لو فرضنا أن أحداً ما عرف بموضوع السيل العرم ذاك ولكنه تعمّد عدم أخبار الناس به، ألا ترونه قد ارتكب ظلماً واثماً مبيناً؟ وهل ترونه سينجح في الفرار من تأنيب الناس وتعنيفهم؟ والحال أنه لو بلغ بذلك الحدث قبل حصوله وأنقذ حياة الآخرين لوضع نفسه موضع الشكر والامتنان. وهكذا الحال أيضاً فيمن يعلم أن في مسير القافلة الفلانية اخطار محدقة بها لما سيفعله قطاع طرق قد تربصوا بها غنيمة سهلة، فيبلغ أولئك النفر بذلك الخطر ليحذروه، فهو حينئذ يكون قد أسدى لهم خدمة عظيمة لا تثمّن.

نعمة الاخبار القرآني عن الآخرة:

فيا أيها الناس، كيف بكم لو كان المشفق عليكم من الأخطار، والمحذّر الجاد لكم من الأهوال هو القرآن الكريم، فهو يخبرنا عن مكامن الخطر التي تتبع مرحلة الموت ابتداءً من البرزخ ومروراً بمراحل القيامة من حشر وميزان وصراط ونار وجنة، فهي والله نعم الهية تكمن في خرص القرآن على الاخبار بالواقع والأمور الواقعات. ولقد صدق المثل الشائع عندما يقول (الصديق من قال لك أخبرتك، والعدو من قال لك إنما أردت أن أخبرك) لأن الصاحب والمحب يعلمك بالأخطار قبل أن يحيق بك فيلحقك الأذى والضر منها، أما العدو فهو لا يتورّع أن يدعك فريسة سائغة للأخطار والأهوال، ثم لا يثنيه غدره عن المجيء إليك والقول لك إنما أردت أن أخبرك ولكن!! أليس قول العدو هذا في ذاته شماتة وتشفٍ؟ أليس هو مصيبة أخرى نزلت على رأس المفجوع، فهو يدري بالخطر، ولكنه لا يقول لك احذر حتى يحيق بك وعندها يأتيك ليأسف ويزعم أنه أراد ذلك الخلاص ولكن!! وعليه فلنعلم علم اليقين أن ليس في هذا الوجود الهائل من هو اكثر حباً لنا من ربنا (عز وجل)، فهو يحبنا أكثر من حبنا لانفسنا، بل هو الذي وهبنا الحب وعلمنّا إياه، وهو الذي رأف بنا وعلمنا الرأفة لنرأف بحالنا, وهو الذي برحمته ملأ قلوب الآباء والأمهات بالشفقة ليشفقوا على فلذات أكبادهم خوف الأذى والضرر.

من أول المنازل وحتى نهاية الصراط:

ولقد ضم القرآن المجيد بين دفتيّه قرابة ألف آية كريمة عن موضوع سفر الآخرة، ابتداءً من أول منازلها في حالة النزع والتسليم للموت (كلاّ إذا بلغت التراقي) (سورة القيامة، الآية: 26). ومروراً بحالة الاحتضار (والتفّت الساق بالساق) (سورة القيامة، الآية: 29). ثم فراق الدنيا (فكيف إذا توفّتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم) (سورة محمد (ص)، الآية: 27). والتوسل بالعودة إلى الدنيا لطلب الاصلاح (رب ارجعون* لعلي اعمل صالحا فيما تركت) (سورة المؤمنون، الآية: 99 ـ 100). ثم مرحلة النعيم أو العذاب البرزخي (ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون) (سورة المؤمنون، الآية: 100). ثم القيامة ومنزل البعث والنشور (يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا) (سورة يس، الآية: 52). ثم منزل تطاير الكتب واستلام صحائف الأعمال (فأمّا من اوتي كتابه بيمينه) (سورة الانشقاق، الآية: 7). ثم منزل الحساب (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) (سورة الأنبياء، الآية: 47). ثم حالة تلوّن الوجوه بين الاستبشار وبين الخوف (وجوه يومئذ ناعمة لسعيها راضية) (سورة الغاشية، الآية: 8 ـ 9). ثم منزل الصراط (وان الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون) (سورة المؤمنون، الآية: 74). ثم المصير إلى الجنة أو إلى النار. فلم يدع الله (تعالى) شيئاً عن الدار الآخرة لم يشر إليه في كتابه الحكيم، فهل بعد كل ذلك التحذير من الأخطار والأهوال، التي يريد الله (تعالى) بنا أن نخلص منها فلا نقع فريستها، يمكننا ان نجحد هذه النعمة الباهرة؟ وهل يمكن لعاقل أن يجد هذه الأخبار الإلهية عن وجود الأخطار الفادحة المقبلة بكل تلك التفاصيل والدقّة، أقلّ شأواً وأدنى صحة من اخبار المذياع عن السيل الجارف أو قطاع الطرق!!؟

(سنفرغ لكم أيها الثقلان) فيا معشر الانس والجن استعدوا، فعن قريب نقصدكم لنحاسبكم على فعالكم، ثم نجزيكم الجزاء الأوفى، فخذوا حذركم وتعبأوا انما نخبركم لكي لا يفاجئكم هول المطلّع، فزنوا أقوالكم وأعمالكم بدءً بساعتكم هذه.

إنظروا لما تقدموه لغدكم:

ثم يقول المولى (تعالى) في كتابه الكريم (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدّمت لغد) (سورة الحشر، الآية: 18). فأي شيء ستقدمه لغدك أيها الإنسان؟ ذلك الغد الخالد بعد الموت، عندما تطالع بنفسك صحيفة عملك بعد ان يقول لك الله عز وجل (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً) (سورة الإسراء، الآية: 14). وعندها تجد الصحيفة قد ضمّت كل شيء من أفعالك وأقوالك ونواياك فتذهل وتقول (مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها) (سورة الكهف، الآية: 49).

فهل ترى أيها الحبيب أن الابن الذي لا يلتفت إلى نصح أبيه المشفق الجاني انه قد أمن الهلكة ونجا بنفسه؟ انه الضرر الذي لا يحيق إلاّ بمن يصم اذنيه عن قبول مواعظ الواعظين ونصائح الناصحين المشفقين.

اغسلوا درن الذنوب بماء التوبة:

والآن وقد دق لنا الله عز وجل أجراس الخطر، واكثر رسوله الكريم (ص) من تحذيراته وأوصانا ان لا نحتقر شيئاً من الذنوب أو نستصغره كما دل على ذلك حديثه (ص) لابن مسعود يا بن مسعود لا تستصغرنّ شيئاً من الذنوب، لأنك لو قرأت صحيفة عملك في القيامة ووجدت فيها ذنباً قد أحصي عليك لبكيت بدل الدمع دماً وقيحاً)، بل انه كذلك، ولقد تضمنت رواية ما مفاده ان رجلاً عطّل في عرصة القيامة مائة عام لذنب اقترفه، حتى يستوفي حسابه، وعلى ذلك كان حريّ بالمؤمنين أن لا يغفلوا عن نعمة هذه الأخبار لكي تكون لهم القدرة على مغادرة دائرة الآثام والذنوب بحيث لو بدر منهم ذنباً لسارعوا على غسل درنه بماء التوبة والانابة إلى الله (عزّ وجل) للتخلص من سوء آثاره، فنحن لا نرى لنا ملجأً حصيناً يعصمنا من الذنوب إلاّ الله (تعالى)، وهو أيضاً يأمرنا بالاسراع إليه هرباً من الذنوب قائلاً (ففرّوا إلى الله) (سورة الذاريات، الآية: 50). اللهم منّ علينا بالتوبة والانابة إليك. وايقظنا من نومة الغافلين من قبل أن يدركنا ولات حين مناص.

[ 38 ]

(يا معشر الجن والأنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فأنفذوا، لا تنفذون إلاّ بسلطان* فبأيّ آلاء ربكما تكذّبان). (سورة الرحمن, الآيات: 33ـ34). لا بشيء من آلائك ربّ اكذّب.

من ذا الذي يمكنه الهرب من الله؟!

قلنا عن الآية السابقة (سنفرغ لكم أيّها الثقلان) انها تعني سنقصدكم قريباً يا معشر الأنس والجن لنصفّي حسابكم ولنجزي كل نفس منكم ما كسبت ولا نستثني منكم أحداً، إن مؤمناً أو كافراً.

أمّا في هذه الآية الكريمة، نجد أن المولى (عز وجل) يؤكّد عجز الخلائق وضعفهم، ويحصر القدرة والقوة به وحده، لأجل ان يتبيّن الإنسان هذه الحقيقة، ويسلّم بأن القوة لله جميعاً، وما دونه لا يمتلك إلاّ العجز والضعف والفاقة.

وكلمة (معشر) مشتقة من (عشر) وهي الجماعة الكثيرة، والخطاب فيها موجّه إلى الجمع الكثير من الأنس والجن، وفيه يطلعهم الباري (تعالى) على حقيقة عجزهم عندما يخبرهم أن لو استطاعوا أن يخرجوا أو يهربوا من أقطار السماوات والأرض، فحينئذٍ فليهربوا من الله (تعالى) وملائكته وقضائه وحكمه، ومن أنواع البلاء الإلهي الحتمي، وليهربوا من الحساب والميزان والصراط والجزاء. وعبارة (إن استطعتم أن تنفذوا) دليل رائع على عجز وضعف الجميع، وأن القدرة لله وحده.

لا حول ولا قوّة إلاّ بالله:

(لا تنفذون إلاّ بسلطان) ومعناها ـ لا تستطيعون الفرار إلاّ بقدرة الله وقوته وعن كلمة (سلطان) وردت عدة معانٍ لها نذكر منها:ـ

1 ـ القوة والقدرة. وعليه يكون معنى الآية، أن ليس لأحدٍ القدرة على الفرار والهرب إلاّ بحول الله وقوته، وإلاّ فانه يبقى عاجزا وضعيفاً أمام قوة الله وحوله.

2 ـ وقال البعض إن تنوين (بسلطانٍ) هو تنوين، معوّض عن المضاف إليه وهي ياء المتكلّم المحذوفة، وأصلها (لا تنفذون ألاّ بسلطاني)، أي لا تستطيعون الهرب إلاّ بقدرتي، وقد أجاد مولانا الأمام أمير المؤمنين (ع) التعبير في مناجاته الرائعة حيث يقول (مولاي مولاي، أنت القوي وأنا الضعيف، وهل يرحم الضعيف إلاّ القوي.

مولاي مولاي، أنت القادر وأنا العاجز، وهل يرحم العاجز إلاّ القادر)[3] فيا من ادّعى انه من شيعة علي (ع)، تُرى هل نهلت من معين عرفان علي (ع) هذا؟ فذاك مولاك يعرب عن عجزه التام إزاء قدرة الله المطلقة. (اللهم اجعلنا ممن ينتفع من عرفان علي (ع) وحقيقة توحيده وايمانه).

نعم إن الواقع يؤكّد عجز العبد عن فعل أي شيء لافتقاره إلى القدرة الذاتية[4]. فهو لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً. ولكن المرء تغرّه أحياناً فترة شبابه، فينسى ضعفه وعجزه حينما كان وليداً يهدهده المهد، وينسى عجزه وضعفه حينما يصير شيخاً يترنّح على شفير اللّحد، ومع ذلك فهو صريع التذكر لهذه الحقيقة، فهو عندما يذكرها يبادر إلى الهرب إلى الله (عز وجل) (يا من إليه يهرب الخائفون)[5] يا ربّ أن تردني فأي فلاح عندي يرفعني إليك، فلقد أقسمت عليكم بربوبيتك ولطفك أن لا تولّ وجهك عني فانك ان تمنعني عن بابك وأنا عبدك الضعيف الفقير إليك فلن أجد لي باباً أطرقه لغيرك، سبحانك لا شريك لك ولا عديل)[6]، اللّهم فأرحم من لا يجد لنفسه راحماً سواك.

القناعة والرضا بتقدير الله (عز وجل):

ويقول بعض المفسرين عن هذه الآية أنها تتعلّق بعالم الدنيا، وهناك من يقول أنها تتعلّق بعالم الآخرة، وكلا الفريقين ذكر عدداً من الوجوه والأدلة المؤيّدة لما ذهب إليه.

والواقع ان القرآن الكريم يحتوي على مواضيع عامة وكليّة لها كثير من المصاديق الخارجية يذهب على الاستدلال بها المفسرون، فمن يذهب إلى أن هذه الآية تتعلق بعالم الدنيا يقول، إن الله (تعالى) قال في كتابه العزيز ـ يا معشر الجن والانس الذين أحيط بهم من كل جانب، ليس لكم من سبيل للخلاص سوى اللجوء إلى الساحة الالهية المقدسة ـ فلكل فرد هموم وغموم نشأت بفعل القضاء والقدر الالهيين المقدرين له، وعليه فمن أين سيتأتى له تبديل التقدير الإلهي وهو العاجز الضعيف[7]؟! ونحن نرى البعض وهو يعاني من ضيق ذات اليد إملاقاً وانسحاقاً، ولكن مصالحهم العليا تتطلب ان يقدر الله لهم هذا الانسحاق، بينما نجد البعض الآخر قُدر لهم الثراء والغنى، والبعض الآخر في صحة وسلامة، وغيرهم في سقم ومرض.

وعليه ينبغي على الإنسان أن يسعد بتقدير الله وحكمه، لأن ما قدّره الله له لا يعدو ان يكون محض خير وصلاح. (اللّهم ورضّني من العيش بما قسمت لي يا ارحم الراحمين)[8].

وهل يفر أحد من الموت؟!

ومن الموارد التي ذكرها المفسرون حول هذه الآية هو الموت، يقولون ان الخطاب موجه على هذا النحو ـ يا معشر الجن والانس ان استطعتم ان تهربوا من الموت فاهربوا ـ.

وها نخن قد حللنا في عصر قد تقدم فيه العلم الحديث والطب والجراحة، وتطورت بشكل مذهل صناعة الاجهزة والوسائل الطبية والمختبريّة، ورغم ذلك لم يستطع أحد منذ فجر التاريخ وحتى يومنا هذا أن يحول دون وقوع الموت (كلاّ إذا بلغت التراقي) (سورة القيامة، الآية: 26)، لنادى الأحبة والأهل (وقيل من راقٍ) (سورة القيامة، الآية: 27). ولكنهم لم يعلموا ان كل شيء قد انتهى، ويبقى الشخص الوحيد الذي يدرك هذه الحقيقة هو من نزل بساحته الموت (وظنّ أنه الفراق) (سورة القيامة، الآية: 28). حينذاك يفقد الآخرون الأمل في الابقاء عليه حيّاً.

رحلة وداع السلطان محمود مع جواهره وكنوزه:

وفيما أورده صاحب كتاب التواريخ، قصة السلطان محمود الغرنوي الذي جمع من وسائل العيش الرغيد واسباب الذعة ما تدر ان يكون لأحد من أقرانه، فلقد كان هذا والهاً ومولعاً بشكل غريب بجمع واكتناز الجواهر ونفائس الأموال والحلي، ولذلك كان يعاود الغارات الغزوات على بلاد الهند فيحطم أصنامهم ويغنم جواهرهم النفسية ثم يملأ بها خزائنه، حتى فاضت تلك الخزائن بما ندر ونفس من المجوهرات والحلي ونفائس الأموال الباهرة. وعندما دنى أجله وسقط طريح فراش الموت طلب الحكماء والاطباء ليشفونه مما فيه، فأخبره الحكماء والأطباء ان لا رجاء في شفائه من مرضه هذا، وانه قد بات على موعد مع فراق هذه الدار بعد ثلاثة ليالٍ، فينصحون أن يمهد لسفر الطويل هذا فما كان منه إلاّ أن نادى الغلمان أن يأتوه بكنوزه ويضعونها أمامه ليلقي عليها نظرة أخيرة، فلبّ الغلمان ما أمرهم به وجاؤوه بصناديق المال والذخائر النفيسة والحلل والحلي والمصوغات والمجوهرات ثم اخذوا يقدمون كل صندوق أمامه ويفتحونه ثم يأتون بالآخر وهكذا، وهو ينظر إلى كنوزه نظرات الوداع والرحيل الأبدي ويشهق بآهات الحسرة على وداعهن ويهمل الدموع الساخنات ثم ينتحب وينشج نشيج الوالهين الفاقدين على ما انفق عليه العمر حتى جمعه وحازه!!

ألا ترونه ذا فعل عجيب؟ انه وبدلاً من أن يأمر أعوانه بانفاق هذه الكنوز في سبيل الله على الفقراء والمساكين وذوي العوز والفاقة، نجده (كما يسجل التأريخ) يولول ويبكي في لحظات عمره الأخيرة حسرة على فراق المال، وبدلاً من ان يتحرق بكاءً في طلب العفو والمغفرة من الله (تعالى) على ما جنته يده الآثمتان، يبكي بكل لوعة وحرقة في رحلة وداعه مع كنوزه رغم أنه يعلم يقيناً أن جوهرة واحدة من كنوزه لم يعد يمكنه الانتفاع بها، ولو أنه افتدى نفسه بكل ما ملك من أموال، لن يصل إلى مناه في مد عمره لساعة واحدة تجنبّاً للموت المدرك له. تُرى من ذا الذي تنفعه العبرة وتنقذه الموعظة؟ انه بلا شك ذلك المرء السعيد الذي يرى في أحوال الماضين لنفسه كل العبرة فيعتبر وفي اخبارهم كل العظة فيتعظ، بينما نجد الشقي من لا يعتبر بغيره بل يعتبر الآخرون به.

لفتّته حصاة الموت كالرمل كما كانا

 

إذا ما المرءُ قد صار شبيه الكأس تسبيكاً

يقول الإمام علي (ع) (كفى بالموت واعظاً) ولكن أين من يتعظ؟

ولقد قال الإمام الحسين (ع) لاخته العقيلة زينب في ليلة العاشر من المحرم وهو يربط على قلبها عندما يذكر لها موت الأحبة والأهل، إذا لم يترك الموت الفاضل وينقّض على المفضول، يقول الإمام (ع) (إن أهل الأرض يموتون، وأهل السماء لا يبقون،... جدي خير مني (وقد مات) وأبي خير مني (وقد مات)، وأمي خير مني (وقد ماتت) و....

 

[1]  بحار الأنوار، ج3.

[2] بحار الأنوار، ج3.

[3] مناجاة أمير المؤمنين (ع)، كتاب مفاتيح الجنان.

[4] (ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء) سورة النحل، الآية: 75.

[5] دعاء الجوشن الكبير/ البند44.

[6] النص المذكور هو ترجمة لأبيات شعرية في هذا المعنى مع شيء من التحوير تطلبه السياق.

[7] راجع البند 68 من دعاء الجوشن الكبير.

[8] دعاء أبي حمزة الثمالي/ كتاب مفاتيح الجنان.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست