.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

إطلاقات اليوم في اللغة

الخلق، وتقسيم الرزق في الدنيا

 

[ 33 ]

(يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن * فبأي آلاء ربكما تكذبان). (سورة الرحمن, الآيات: 29ـ30)

إطلاقات اليوم في اللّغة:

(كل يوم هو في شأن)، (كلّ) منصوب بالظرفية استناداً إلى فعل مقدّر دلّت عليه عبارة (في شأن) وأحد وجوهه هو (يقلبّ القلوب في كل يوم).

ولكلمة (يوم) اطلاقات واستعمالات متعددة، منها:

أولاً: المعنى المصطلح والمعروف لليوم الممتد بين طلوع الشمس وغروبها، وهو ما يقال له لغةً (النهار)، وهو اليوم الشرعي والعرفي المقابل لكلمة (اللّيل).

ثانياً: المقدار المحدد من الزمان الذي ينجز فيه عمل معين، وهو ما يعنى به الوقت، سواء كان هذا الوقت يوماً واحداً أو شهراً أو ألف سنة، أي أنه لا اعتبار في قصر الوقت أو طوله، كأن يقال مثلاً (يوم الجمل) والمقصود به معركة الجمل التي استمرّت قرابة الستة أشهر، أو (يوم صفّين) أي معركة صفّين التي دارت رحاها ثمانية عشر شهراً، أو (يوم الحساب)، وهو أحد مواقف القيامة الذي يعده القرآن الكريم ألف سنة مما نعدّ في دنيانا (وإنّ يوماً عند ربّك كألفِ سنةٍ مما تعدّون) (سورة الحج، الآية: 47). أو (يوم القيامة) وهو مجموع مواقف القيامة ويعد بخمسين ألف سنة ٍ(في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنة) (سورة المعارج، الآية: 4). أو حسبما عبّر بعض الأولياء عن الدنيا والآخرة، بيوم الدنيا ويوم الآخرة، ويقصد ما أمتدّ به عالم الدنيا (من الانشاء وحتى الفناء)، وجميع ما يمتد به عالم الآخرة.

الفعاليّة الإلهيّة الدائمة:

(في شأن) ـ وكلمة شأن تطلق عادة على الأمر العظيم، وتطلق أيضاً على الفعل والعمل، فقد يقال ان لفلانٍ شأن وهذا يعني أنه مشغول بعمل ما، وهو على أية حال ليس بعاطل. وعليه يكون المعنى المناسب لعبارة (كل يوم هو في شأن) أن الله تعالى مشغول بفعل أمر عظيم في كل يومٍ، واليوم هنا هو الاطلاق الثاني وهو ما نقصد به الوقت المحدد لعمل ما، وليس اليوم المعروف المقابل للّيل، ومعنى (كل يوم) هو على الدوام، إذاً المعنى النهائي للآية هو ـ أن الله مشغول على الدوام بفعل أمر عظيم ـ.

وهنا يتبادر إلى الذهن السؤال الآتي: ما هو شأن الله (عز وجل)؟ والجواب، ان المقصود بالشأن الإلهي هو الفعل الواحد من الأفعال والشؤون المتعلّقة بعباده، فهو يدير تلك الشؤون والأفعال، وقد سُئل سيدنا خاتم الأنبياء محمد (ص) عن معنى هذه الآية الكريمة (كما ذكر ذلك صاحب تفسير نور الثقلين عن أبي الدرداء عن النبي (ص) فقال:[1] (من شأنه أن يغفر ذنباً، ويفرج كرباً، ويرفع قوماً، ويضع آخرين).

غفران الذنوب وفرج الكروب:

وعليه فان أحد تلك الشؤون الإلهية هو غفران الذنوب، إذ أن الله (تعالى) هو العالم وحده كم يغفر من الذنوب على مدار الأربعة وعشرين ساعة من اليوم، وهو وحده المحصي بعدد المستغفرين، وسائلي العفو، وطالبي الصفح عن ذنوبهم وخطاياهم في كل لحظة، خصوصاً أصحاب الليل، وعشاق السحر كما في قوله تعالى (وبالأسحار هم يستغفرون) (سورة الذاريات، الآية: 18). وقوله عز وجل (والمستغفرين بالأسحار). (سورة آل عمران، الآية: 17)

أما الشأن الآخر الذي أورده هذا الحديث النبوي الشريف فهو (فرج الكروب)، فكم من المعضلات والمحن والآلام والاستغاثات والشدائد التي يتلوّى منها العباد في كل آن يأتيهم لها الغوث الإلهي والرفق الرباني فيزول عنهم ما بهم من آلام ومعاناة.

ويرفع قوماً، ويضع آخرين:

ومن وجوه كلمة (شأن) التي وردت في الآية الكريمة، والتي أشارا لها بوضوح الحديث النبوي الشريف (سالف الذكر)، هو رفعة أقوام من البشر، وضعة آخرين، فكم من فقير يغنه الله من فضله فيرفعه، وكم من حقير ووضيع يشرّفه الله بكرمه، وكم من ذليل ومهان يعزه الله بلطفه، في كل لحظة وآن وعلى العكس من ذلك، كم من شريف يهنه الله، وكم من غني يملقه الله، وكم من عزيز يذلّه الله ويهلكه.

يقول الامام علي (ع) (الحمد لله الذي لا يموت، ولا تنقضي عجائبه، لأنه كل يوم في شأن من إحداث بديع لم يكن).

يولج اللّيل في النهار، ويولج النهار في اللّيل:

وقد ذكر الزمخشري في تفسيره الكشاف في هذه القصة اللطفية، المناسبة لموضوعنا، (في أحد الأيام، سأل ملك وزيره: ما معنى شأن الله في قوله تعالى (كل يوم هو في شأن)؟ فأجابه الوزير: امهلني يا سيدي يوماً افكّر في ذلك ثم أقدّم لك الجواب, فأمهله الملك فغاص الوزير في بحر أفكاره، وأحاطت به الهموم والغموم وهو لا يحير جواباً لسؤال الملك، وكان للوزير هذا، غلام حكيم ولبيب، فلمّا رأى سيده على تلك الحال، تقدّم منه وسأله: ما الذي دهاك يا سيدي فجعلك تغرق نفسك بالهموم هكذا؟ فرد عليه الوزير قائلاً: إليك عني، فرد عليه الغلام: ولكنني أكاد أحترق لما ألمّ بك يا سيدي، فقل لي ما الخبر فلعل الله يجعلني سبباً لخلاصك مما أنت فيه، فرمقه الوزير ثم قال له: انه سؤال الملك عن معنى شأن الله وقد استمهلته يوماً لا رد له الجواب، ولكنني لم أحر لما سأل جواباً، عندئذ قال له الغلام: لا عليك يا سيدي، أخبر الملك أنك تعرف غلاماً يعلم سر الآية وهو الذي سيخبرك بمعناها. فذهب الوزير إلى الملك وقد اصطحب معه الغلام، ثم أخبر الملك بالغلام وسر الآية، فسأله الملك عن المعنى، فأجابه: ان معنى الشأن في هذه الآية الكريمة هو "يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، ويخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي) ويشفي سقيماً، ويعز ذليلاً، ويذل عزيزاً، ويفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم).

نعم إن الله يولج الليل في النهار إذ ينقص النهار ويزيد في الليل، ثم يولج النهار في الليل فينقضي الليل ويزيد النهار، وهذا ما نعرفه جميعاً، ففي كل عام نشهد النهار في الصيف يمتد إلى أربعة عشر ساعة، ثم يتناقص إلى أن يصل إلى عشر ساعات في الشتاء، وتمتد تبعاً لذلك ساعات اللّيل لتصير أربعة عشر ساعة في الشتاء ثم تتناقص ساعات الليل الشتوي لتصل إلى عشر ساعات في الصيف وهكذا دواليك.

يخرج الحي من الميّت، ويخرج الميت من الحي:

ومن شأنه تعالى أيضاً, أن ينشى الأحياء عن الأموات، فهذا التراب الذي ننظره ما هو إلاّ وجوه ميت، ولكن قدرة الله تعالى تحييه فتنشأ منه الأبدان الحية.

هذا التراب الضعيف فيك أقتدر

يا قائماً بالذات دونَ الذوات

يا صانع الخلق الذي منه أنفطر

وعلا كرسيُ علمك كل ذات

 

ثم لا تلبث الأحياء حتى تموت، ولا يعلم كم عدد الأحياء الذين ينُشأون عن الأموات في كل يوم إلاّ الله (عز وجل)، وكم من الأحياء الذين يدركهم الموت في كل يوم؟ أبشراً كانوا أم مخلوقات أخر.

والشأن الآخر هو (إعزاز الأذلاّء)، و(إذلال الأعزاء)، (ويفعل ما يشاء).

فعندما سمع الملك هذه العبارات من لسان الغلام أنبهر بما قال، وأعجبه علمه وحسن بيانه، فجعله وزيراً له بدلاً عن وزيره السابق، وهنا قال الغلام (وهذا أيضاً من شأن ربنا) يريد به عزل الوزير عن وزاراته، واحلاله محله، فقد رفعه الله وفعل ما شاء وحكم ما أراد، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم).

من الأصلاب إلى الأرحام:

وها قد مرّت علنيا سوية نماذج وصور من شؤون الله (تعالى)، وهي جميعاً تمثل المصداق الحقيقي لكلمة (شأن) الواردة في الآية المباركة.

وقد أورد صاحب تفسير مجمع البيان أقوالاً لعدد من العلماء ضمّنها مصاديقاً ومداليلاً لكلمة شأن، يقول العلامة الطبرسي: إن الله (تعالى) يحرك في كل يوم ثلاثة قوافل، واحدة من أصلاب الرجال إلى أرحام النساء فيقرّها هناك، والثانية من أرحام النساء إلى وجه البسيطة في دار الدنيا، والثالثة من ظاهر الأرض إلى باطنها، وهذه الوقافل الثلاث لا يعلم عدتها إلا الله (عز وجل)، فهذه القوافل ذات الشأن الإلهي تسير في كل يوم بارادته (تعالى)، وقوافل الموت لا تتأخر، إن ليلاً أو نهاراً (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) (سورة الأعراف، الآية: 34). وحتى لو توسل المرء بملك الموت أن يمهله يوماً واحداً فيؤخر عنه الموت المحيق به، لرد عليه الملك هيهات فقد نفذت أيام عمرك، فيتوسل إليه أن يؤخره لساعة واحدة، فيرد الملك كلاّ فان ساعات عمرك هي الأخرى قد نفذت. (اللّهم نسألك وندعوك أن تجعل أعمالنا في تلك الساعة ملؤها التسليم والانقياد إليك وحدك لا شريك لك).

كشف الضرّ، وجلب النفع:

والوجه الآخر للشأن في هذه الآية هو ما أورده أيضاً صاحب تفسير مجمع البيان حيث ذكر ان دفع الضر وجلب المنافع هو من الشؤون الإلهية، فهو تعالى يدفع الضرر ويكشفه عن عباده، ويمّن عليهم بالمنافع ويغمرهم بالفوائد والعوائد. (وهو عليكم رقيباً) أي وفوق أنه قد تكفّل بشؤونكم فهو يراقبكم ويحفظكم، إذاً تعالوا للنظر إلى أنفسنا، فإذا فعلنا، وما الذي سنفعله والله تعالى هو الرقيب علينا؟؟

يقول الإمام السجاد (ع) (فكيف اغفل عنك وأنت ذاكري ورقيبي؟)، والمراقبة الصحيحة وفقاً لما يقوله علم الأخلاق هو (تحققها بشكل متبادل) فلا يصح ان يقال ان هناك مراقبة دون تحققها في الطرفين، فكما ان الله (عز وجل) رقيب عليّ، فينبغي حينئذ أن لا اغفل عن ذكره. يقول الإمام أمير المؤمنين (ع) (رحم الله امرئ، خاف ذنبه وذكر ربّه)، فيا أيها الإنسان: تأمّل حالك وأنظر في أي شأن أنت؟ أأنت في سكر وثمالة؟! إذا أنت في كفران واعتراض.

(اللّهم غيّر سوء حالنا بحسن حالك).

[ 34 ]

(يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن * فبأيّ آلاءِ ربّكما تكذبّان). (سورة الرحمن, الآيات: 29-30)

الخلق، وتقسيم الرزق في الدنيا:

بعد أن ذكرنا جملة من الأقوال والآراء في معنى كلمة (شأن)، نعود فتقول ان كلمة اليوم الواردة في الآية حسبما ذكر ذلك صاحب مجمع البيان انمّا يراد بها عالم الدنيا بأسره، لأن عوالم الوجود تنقسم إلى يومين هما، يوم الدنيا، ويوم الآخرة، وعلى هذا الأساس يكون معنى الآية الكريمة هو (الله (تعالى) في كل يوم من الدنيا والآخرة هو في شأن)، فشأن الله في يومنا هذا (وهو يوم الدنيا) هو عبارة عن الخلق والابداع والانشاء، وتقدير الأرزاق لخلقه، وتقسيمه عليهم، والأمر والنهي لعباده، وابتلائهم، وما إلى ذلك من أمور أخرى، أمّا شأن الله (عز وجل) في غدنا في يوم الآخرة فهو الثواب والعقاب.

الخلق والانشاء في ستة أيام، والسبت يوم الراحة!!!

وفوق ذلك فان هذه الآية بذاتها هي رد مفحم لمزاعم اليهود الذين قالوا أن الله (عز وجل) خلق الخلق في يوم الأحد ثم اختتم الخلق والابداع في يوم الجمعة، فهي ستة أيام كاملة، ثم كان يوم السبت يوم استراحة الله (سبحانه وتعالى)، ومعنى كلمة السبت بالعربية هو التعطّل عن الفعل. ونحن نقول أن ما ذهبت إليه اليهود من عقيدة الاستراحة الإلهية في يوم السبت لا يعدو أن يكون محض خطل وهراء، لأن هذا الزعم مردود منذ البداية، باعتبار أن منشأ الأيام صادر عن حركة الأرض، فكيف تأتّى لهم أن يزعموا انه كانت آنذاك أياماً هي الجمعة والسبت وغيرها ولما تخلق الأرض بعد؟! بل وفي هذه الآية اكبر الرد المفحم على ما زعموا من باطل القول والاعتقاد، ولقد لعن القرآن الكريم هذه العقيدة وأمثالها، ولعن أصحابها حيث يقول (وقالت اليهود يد الله مغلولة، غلّت أيديهم ولعنوا بما قالوا، بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء) (سورة المائدة، الآية: 64).

فالزمان إذاً لا تنحصر فيه أفعال الله تعالى، بل أن شؤون الله (عز وجل) تجري في كل آن وزمان، بل أن الزمان خَلْقٌ من خلق الله وعليه فان الله (تعالى) لا يحدّه زمان ولا يقيّده أوان، فشأن الله يجري في كل لحظة من عطاء، وأرزاق، وكشف كربات، وإجابة دعوات، وإيصال الموجودات إلى كمالاتها المطلوبة.

نظرات اللطف الإلهي إلى لوح النور:

ونقل كتاب مجمع البيان رواية شيقة عن ابن عباس(رض) حول هذه الآية تفيد (إن مما خلق الله (عز وجل)، لوحاً من درّة بيضاء، مداده ياقوتة حمراء، كتابه نور وقلمه نور، ينظر الله (تعالى) فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة، بها يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويعز ويذل ويفعل ما يشاء[2].

استضاءة القلوب بنور الأمل بفضل آية الشأن:

فببركة هذه الرواية المروّية عن ابن عباس حول تفسير آية (كل يوم هو في شأن) ينبغي أن ينفجر نور الأمل في قلوب المؤمنين وأن يتنامى الرجاء بما عند الله (تعالى)، ولمّا كانت شدائد الدنيا كثيرة وصعوباتها متعددة، وجب على الإنسان أن يفوّض أمره إلى الله في كل شدّة، ويقول (لعّل الله يشملني بنظرة واحدة من نظراته الثلاثمائة والستين فيأتيني الفرج وتشملني الرعاية واللطف الإلهيين ويدركني الغوث من عنده (عز وجل).

على العكس من الكافرين الذين قد أغرقوا أنفسهم في بحور اليأس والقنوط من رحمة الله الواسعة[3] وعليه كان من اللازم على المرء المؤمن أن ينتظر الفرج الإلهي كما في نص الرواية الآتية (افضل العبادات هو انتظار الفرج)، فلعل الفرج يأتيك عصراً ان لم يأتيك صباحاً، ولعله يأتيك مساءاً أو صباحاً ان لم يأتيك في ضحاك أو ليلتك. فالتجارب كثيرة في هذا المضمار، والاحاديث جمّة، فكل منّا كانت له تجربة من هذا القبيل، فكم من شدائد وأهوال ومصاعب مرت علينا وظننا بها أن لا حل لها، ولكن الله تعالى كشف كرباتها وحل معاضلها بلطفة ورحمته (وكم من بلاء دفعته)، ولقد اشتمل كتاب (الفرج بعد الشدّة) بالكثير من الحكايات عن إدراك الغوث الرباني والفرج الإلهي لمن ألمّت به الشدائد، على حين غرّة، فرجاً قريباً عاجلاً.

فبأيّ إجابات ربكمّا لا تصدقّان؟!

(فبأي آلاء ربكما تكذبان)، قلنا إن تكرر مجيء هذه الآية انما يحصل للضرورة اللازمة بعد كل آية تسبقها، وتشتمل على ذكر نعمة ما بين نعم الله (عز وجل)، والتكرار هنا هو تكرار أكيدي وتأييدي على وجود النعمة، فالآية السابقة تناولت موضوع سؤال من في السماء والأرض لربهم (تعالى) بأن يجيبهم لما سألوه، والحال إن أبواب الإجابة الإلهية مفتوحة للسائلين، وعليه يأتي السؤال التقريري للجن والانسن فبأيٍ من اجابات الله (جل وعلا) على مسائل عباده في قضاء حوائجهم لا تؤمنان؟! أهناك مخلوق أو موجود رُدّت مسألته وهي في واقعها تطابق استعداداته التكوينية؟ وهل هناك من سأل الله حاجة وهي منسجمة مع حكمته والمصلحة العليا، ثم ردّه الله خائباً؟ كلا والله، ولكن الإنسان نسيٌّ.

فبأي شأنٍ إذاً أنتما تكذبّان؟

ولما كان الله ولا زال ولن يفتأ أن يكون هو في شأن، على الدوام، فبأي شأن من شؤونه، وبأي فعل من أفعاله يمكنكم التكذيب والانكار؟ أبشأن أحيائه الموتى؟ أم بشأن اماتته الأحياء؟ بتقديره للرزق، أم بتقسيمه على العباد؟ هؤلاء العباد الذين لم يكن أحدهم اكثر من قبضة تراب نبضت فيها الحياة, بل لم يكن أحدهم اشرف من قطرة ماء مهين، سمعت وأبصرت ونطقت ثم اشتدت وتعلّمت؟

فيا معشر الجن والانس ألا تنظرن إلى الذين يلتحقون في كل يوم منكم بقافلة الآخرة, وإلى الذين يقدمون إلى هذا العالم في قافلة الدنيا؟ فكم من وضيع ينال الشرف، وكم من شريف انحدر إلى الضعة، لأن المصلحة اقتضت أن يكون كل ذلك، فهل لا زلتما بعد هذا وذاك لا تؤمنان؟؟!!

رد الإمام السجاد (ع) على تهديد الحجاج الثقفي:

وجاء في المجلد الحادي عشر من كتاب بحار الأنوار في أحوال الإمام السجاد (ع)، أن ملك الروم بعث برسالة تهديد ووعيد إلى الخليفة الأموي (عبد الملك بن مروان)، وقد ضمّن مطلعها بكلمات قاسية وعبارات نابية، ثم جاء فيها أنه فيها أنه توعّده بأن يرسل إليه مائة ألف ومائة ألف ومائة ألف، (أي ثلاثة عساكر يبلغ مجموع مقاتليها ثلاثة مائة ألف رجل) فلم يحر عبد الملك جواباً على رسالة التهديد الروميّة، ولمّا كان عبد الملك يعلم أن الإمام علي بن الحسين (ع) هو عالم العصر بلا منازع، لذلك وضع خطة ماكرة لاستطلاع اجابة الإمام (ع) حول رسالة ملك الروم (فهو لم يكن يرغب ان يطلع الإمام (ع) أو غيره على حقيقة الرسالة) فبعث إلى عامله على الحجاز (الحجاج بن يوسف الثقفي) لعنة الله عليه وأوصاه أن يتب إلى الإمام زين العابدون (ع) رسالة تهديد (تتضمن نفس عبارات التهديد التي بعث بها ملك الروم) ثم يأخذ جواب الإمام (ع) عليها ويبعث به إليه لكي يجعل من رد الإمام (ع) رداً لملك الروم، فامتثل الحجاج لأمر عبد الملك وبعث برسالة تهديد ووعيد إلى الإمام السجاد (ع)، ولم يمر طويلاً حتى جاء رد الإمام (ع) وفيه (بسم الله الرحمن الرحيم ان لله تعالى في كل يوم ثلاثمائة نظرة، ما من نظرة الاّ وبها يحيي ويميت ويعز ويذل، وإني أرجوه أن يكفيك نظرة واحدة)[4]. فبعث الحجاج بنص رد الإمام (ع) إلى الخليفة الأموي (عبد الملك بن مروان)، وقام هذا الأخير بارسال رد الإمام (ع) بعينه (دون أدنى تغيير) إلى ملك الروم، ولمّا تلقّى ملك الروم رسالة الخليفة واطلّع على ما ورد فيها، قال انه ليكذب، فهذا الكتاب وما فيه ليس من عنده، وأن حديثه الحديث أهل بيت محمد (ع)!

قبل الموعد بساعة، المحكوم بالقتل يصبح خليفة:

ونقل عن هرثمة بن أعين وزير المأمون العباسي أنه قال: في خلافة موسى الهادي العباسي، وعندما كان أخوه هارون ولياً للعهد، جاء في حراس القصير في ظهيرة يوم قائض من أيام الهجير ونادوني أن أجب الخليفة، فخفت على نفسي وقلت لعله يريد قتلي في هذه الساعة، فأوصيت أهلي بوصيتي، ثم ودعتهم وذهبت إلى قصر الخلافة، فلما صرت إلى الخليفة، صاح الخليفة بالغلمان أن اتركوا المكان وخلّوه، فلما بقيت والخليفة لوحدنا، التفت إليّ وقال: اسمع، لقد دعوتك لأجل أن تنجز عدة أمور عظام، فبادرت بالقول من فرط هلعي وخوفي منه: لبيك يا مولاي فلك السمع والطاعة، وهنا شرع الخليفة بتعريف تلك الأمور قائلاً: أمّا الأمر الأول، فأريد منك أن تقتل أخي هارون ولي العهد في ليلتنا هذه ولا تبرح حتى تأتيني برأسه، فلقد جاءني السعادة والعيون بأخبار مؤكدة تقول أنه قد أزمع على قتلي، وهنا قلت له: الأمان يا سيدي، قال: هات ما عندك، قلت: يا مولاي دع عنك ما نويت من قتل هارون فأنه من ارحامك، فردّ عليّ مغضباً: إن تفعل وإلاّ عدمتك حياتك ثم تابع قوله، أمّا الأمر الثاني فهو أن تبادر إلى الذهاب إلى السجن بعد فراغك من قتل هارون, فتبحث عن ولد علي وفاطمة (ع) فتعدمهم الحياة جميعاً، والويل لك لو بقي منهم أحداً. وامّا الأمر الثالث فهو أن تذهب إلى الكوفة بعد فراغك من قتل السادة العلويين والفاطميين، وتنادي على رؤوس الناس، من كان من أولاد العبّاس فليخرج عن المدينة، ثم تعطي أوامرك باحراق الكوفة، بعد ذلك تتفحص دورها فان بقي فيها دار سالم تخربها، ومن عثرت عليه وبه رمق من الحياة فأذقه الحمام، ولما أتم قوله صاح بي: والآن قم وأعدد نفسك لما أُمرت به.

يقول هرثمة، ثم ولّى عني موسى الهادي وتركني ارتجف كالسعفة في الريح العاصف حتى جنّ عليّ اللّيل وأنا افكر فيما أمرني به، وقد غلبت عليّ الهواجس وإذا بي اغظّ في نومة، وفجأة حضرني من قال لي: أجب حرم الخليفة فقد دعوك لأمر عاجل، فذهبت مسرعاً وإذا بصوت الخيزران أم الخليفة يُناديني: أدخل يا هرثمة انه والله لأمر عظيم، فلمّا دخلت اعلمتني الخيزران بموت موسى الهادي! فعجبت من قولها وسألتها عما جرى وامسك بيد الخليفة وأتحسسها فإذا هو جثة هامدة لا حراك فيهان فأجابتني الخيزران محدثةً: لقد كنت أنصت إلى ما حدّثك به ولدي موسى عندما استدعاك واختلى بك، وسمعت الأمر كلّه بقتل ولدي هارون وذرية علي وفاطمة وشيعتهم, ولما ولّى عنك ودخل إلى مقصورته ذهبت إليه وجعلت أتلّطف به وأتوسّل إليه عسى أن ينصرف عما عزم عليه، فلم يلتفت إليّ، فأمسكت ذوائبي البيض وسألته أن يعزف عما نوى، فازداد حنقاً وضربني على صدري ثم صاع بي (تنّح جانباً)، فأصررت عليه أن لا يفعل، وهنا شخر غيضاً وغضباً وأمتشق سيفه وأقبل نحوي وهو يصيح: إن لم تسكتي قتلتك أنت الأخرى، فأحسست أن ما من معين ولا من مغيث إلاّ الله وحده، فتوجّهت إليه أبث شكواي وقد فاضت عيناي بالدموع، ووقفت أصلي ركعتين، ثم كشفت عن رأسي ونشرت شعري، وشرعت بالنحيب والبكاء والانين والدعاء إلى الله (تعالى) وشكوت إليه ولدي موسى حتى خنقتني الآهات وأخرستني العبرات، وفي هذه الاثناء جاءني من يقول هلّمي فقد اختنق موسى، فقفزت من مكاني وذهبت إليه وأنا اصرخ بهم: آتوني ماءً، فلما جاؤوني بالماء أخذت أسقيه فإذا بالماء لا يدخل في جوفه، ولم يمض طويلاً حتى مات!!

هناك تقلّد هارون زمام الأمور وجلس على كرسيّ الخلافة بكل عظمة وجلال بعد أن كان قاب قوسين أو أدنى من الموت المحتوم، ولكنه أمسى الخليفة الحاكم قبل موعد قتله بساعة واحدة، بينما يموت الخليفة السابق، (أو يقتل خنقاً كما في بعض المنقولات) الذي أمر بقتل ولي العهد والخليفة الجديد، قبل أن يُنفّذ ما عقد العزم عليه. ولكن تُرى هل اعتبر هارون بما آل إليه مصير أخيه؟! لقد فعل هارون فعالاً، (وأي فعال) بآل علي (ع)، ولم يلبث أن جاء ولده المأمون ليكمل المشوار، فيفعل فعالاً منكرة بالامام الرضا (ع) والسادة العلويين.



[1]  مجمع البيان في تفسير القرآن / للطبرسي.

[2] تفسير مجمع البيان/ الطبرسي.

[3] ( كما يئس الكفار من أصحاب القبور). (سورة الممتحنة، الآية: 13).

[4] بحار الأنوار/ المجلّد الحادي عشر.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست