.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

ولله ملك الفلك

مآل جميع الكائنات إلى الفناء

 

 

[ 25 ]

(وله الجوار المنشئات في البحر كالأعلام * فبأي آلاء ربّكما تكذّبان) (سورة الرحمن، الآيات: 24 ـ 25).

ولله مُلك الفُلك:

لقد ذكرنا في شرح هذه الآية الكريمة أن ملك الفلك لله عز وجل، فهي تجري في البحر وكأنها الجبال الشم في نشر أشرعتها، حتى ان الرائي ليراها من على البعد الشاسع. ويعد الفلك آية من آيات الله (تعالى) الباهرات، لأن حكمته البالغة جعلت هذا الجسم الثقيل الهائل يستقر على وجه الماء دون أن يغطس وينفذ إلى أعماق البحر السحيقة رغم أن الإبرة الصغيرة لا تلبث ان تغطس بمجرد أن يتم وضعها على صفحة الماء، وهذا في حد ذاته سر عجيب من الأسرار الالهية المودعة في عالم الطبيعة ليطلّع الإنسان على عظيم قدرة الله وجليل شأنه وبالغ حكمته.

والنقطة المهة في هذه الآية التي ينبغي الالتفات إليها هو وسم الفُلك بأنها من ملك الله (تعالى) كما يصرح بذلك قوله تعالى (وله الجوار المنشئات) مع أننا ندرك إن لكل سفينة صاحباً تحمل أسمه أو اسم شركته مثلاً.

من الخطأ أن يرى الإنسان نفسه مالكاً للأشياء:

ومن الأخطاء والمغالطات الإنسانية هو أن يرى الإنسان نفسه مالكاً لبعض الموجودات في العالم، في حين أنه يدرك بل ويؤمن بأن الأرض وما عليها، والسماء وما فيها ملك مطلق لله (عز وجل) كما يصرح بذلك قوله عز وجل (لله ما في السماوات وما في الأرض) (سورة البقرة, الآية: 284). أو ما أشارت إليه هذه الآية (قل اللهم مالك الملك , تؤتي الملك من تشاء, وتنزع الملك ممن تشاء) (سورة آل عمران، الآية: 26). وهذا يدلل على جهل الإنسان وقلة معرفته بكل وضوح، فهل نسي الإنسان أنه لا يساوي أكثر من حفنة من التراب مما على هذه الأرض الفسيحة؟ وأنه شيء يقف في عرض سائر الأشياء والموجودات؟ فهو لا يمتاز عن كل الأشياء إلاّ بأن الشارع المقدس (جل جلاله) قد استخلف هذا الإنسان في أرضه وجعله مالكاً مملكةٍ اعتبارية لأجل أن يقوم بحفظ النظام ورعايته في هذا العالم، ولذلك عندما نقول أن هذا البيت هو بيت زيدٍ وتلك الأرض هي أرض عمر وتلك السفينة هي سفينة زينت وهذه الطائرة هي طائرة الشركة الفلانية، فإنّما نقول ذلك باعتبار ان الملكية هي ملكية اعتبارية وليست حقيقية، لذلك كان لزاماً على الإنسان أن يلتفت إلى هذه الحقيقة ويؤمن بأن الملك لله (تعالى) جميعاً، وهذا هو ما صرحت به الآية الكريمة موضع بحثنا من أن ملكية السفن لله (عز وجل) باعتباره هو المالك الحقيقي لجميع الأشياء والموجودات، في حين ان المالك الاعتباري للشيء أو الأشياء تنقص عنده الأشياء وتزداد وتفنى أو تحصل (كأن يشتري السفينة التي لم تكن لديه من قبل، ثم يحصل من ورائها على أرباح معينة, أو تصاب بعارض فتترتب عليه بعض الأضرار أو الخسائر مثلاً)، لكن المالك الحقيقي يبقى هو صاحب كل شيء وان حصل انتقال للأشياء من شخص لآخر، أو ابتلي الشيء بنقص أو زيادة فتأمّل.

وأجزاء السفينة هي ملك لله أيضاً:

والكل يعرف أن السفينة تتشكل من عدة أجزاء مكونة لهيكلها العام وتركيباتها الجزئية الأخرى، فهيكل السفينة يتركب من ألواح السطح وعمود الصاري الخشبية، والماسكات الحديدية، وعادة ما يكون سطح السفينة من مادة الخشب الذي يتم استخراجه من الأشجار الكبيرة، وهنا نتساءل من أين جاءت تلك الأشجار؟ لقد جاءت تلك الشجار من ابداع ذلك الاله الذي وهب الطبيعة الحب والنوى وعلم الإنسان فنون الزرع والغرس، ثم شمل هذه النباتات بعين رعايته حتى صارت أشجاراً، ثم علمّ الإنسان أساليب الاستفادة منها في تنظيم شؤون حياته اليومية بما يعود عليه بالنفع والخير. إذاً هل يبقى من شك أن خشب هياكل السفن هو من عند الله وحده؟! وحتى قطع الحديد والمسامير المعدنية التي يتم بواسطتها أحكام تماسك بدن السفينة وهيكلها هو من عند الله تعالى وحده، فهذا الحديد الذي أودعه الباري في قلوب الجبال طيلة هذه السنين المتقادمة من عمر الحياة في هذا العالم قد عرف الإنسان عليه وجعله مدداً له في نيل المنافع (ولا شك ان اكتشاف المعادن والثروات قد حصل بفعل التأثيرات والحوادث الطبيعية من حيث كونها عوامل مطر أو سيول أو تعريّة التربة أن تأثير أشعة الشمس وغيرها وفي ظل ظروف مناسبة قد بدت للإنسان وتعرف عليها واستغلّها لتأمين منافعه)ن وعليه فان الخشب والحديد وسائر المكونّات الاخرى في تركيبة السفن هي من عند الله وحده.

تعلّم الإنسان صناعة السفن:

ولربمّا قيل: صحيح ان العلة المادية للسفن (أخشاب، حديد، مكونات أُخر) هي من عند لله، ولكن يبقى الدور المهم في إبداع صنع السفينة هو للإنسان لأنه هو الذي قطع الأخشاب والحديد وفق حجوم وقياسات محددة، ثم صمم هيكل السفينة طبقاً لحسابات وأبعاد دقيقة، وهو الذي صنع المحركات التوربينية والكهربائية والبخارية للسفن وفق المواصفات التي أجرى عليها الاختبارات ونجح في صناعات السفن، إذاً يبقى الدور المهم في مالكية السفن وصناعتها هو للإنسان.

وللجواب على ذلك نقول، إن هذه اليد التي تمسك المطرقة وترق المسامير الحديدية، وتقوم بنشر الخشب بالمنشار، والقدم التي تقطع المسافة على ظهر السفينة جيئة ورواحاً إنما هما من بديع صنع الله (عز وجل)، وحتى هذا العقل الإنساني المبدع (عند المؤمن والكفار) من حيث قدراته واستعداداته ودرجات الذكاء وفهمه لادراك خصائص الأشياء وطرق وأساليب الاستفادة منها انما هو من عند الله (عز وجل) وحده لا شريك له، ونحن نرى البعض الذين قد سلب الله منهم أحد تلك النعم (اليد، الرجل، العقل) لنعلّم أنّ صاحبها ليس لها بمالك وإنما مالكها وصاحبها الحقيقي هو الله عز وجل الذي وهبها بلطفه ورحمته للإنسان و(لا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم).

وقد يحصل أن يكتشف أو يخترع الإنسان بعض الأشياء المشتملة على خواص بعض الأجسام كالكهرباء، فهذا الاكتشاف في واقعه لم يتأتى للإنسان إلاّ بالهام الهي، فكم من علماء وباحثين أمضوا سنين متمادية قد بذلوا قصارى الجهود في محاولات اكتشاف واختراع آلات وأجهزة، أو تحسين وتطوير ما هو موجود منها فعلاً ولكنهم لم يوفقوا إلى اكتشاف الكهرباء أو الطاقة الذرية، ولكن العالم الفلاني فوجئ باكتشاف موضوع معين لم يكن يطلبه بالذات في بحوثه وتجاربه ولكنه حصل عليه بطريق الصدفة عرضاً، ونظير مثل هذه الحوادث كثيرة. ولنعد الآن إلى موضوع السفينة ولنر ماهية تلك القوة أو القدرة التي تدفعها فتجعلها متحركة على سطح الماء؟ إنه الكهرباء أو البخار أو الفحم الحجري أو غير ذلك من ألوان الطاقة التي كونّها وذخرها واظهرها الله عز وجل.

فلو تصورنا ان ذاكرة الإنسان سلبت منه، فهل يا ترى سيستطيع بعد ذلك أن يفعل شيئاً؟ بالتأكيد كلاّ وعليه يجب على الإنسان أن يغنم الفرصة ويسارع إلى تقديم الشكر والثناء والحمد لله تعالى لأنه أهل ذلك، ولأنه مصدر الخيرات جميعاً ومرجع جميع آلاء الإحسان وميسر جميع سبل اداء الصالحات والخيرات، وعندما نقول باختصاص الشكر والثناء بالله وحده لا يعني ان نجحد دور الآخرين الذين جعلهم الله سبباً ووسيلة في نقل فيوضات الرحمة الإلهية إلينا، بل ما نقوله هو انهم ليسوا مبدأ أو مصدر الخيرات والبركات والافضال، فالطبيب المعالج لمرضاه عندما يكتب وصفة الدواء لمريضه بقصد علاجه فيتماثل المريض للشفاء لا ينبغي حينئذ ان يقول هذا المريض إن الطبيب الفلاني هو الذي أنقذني وأحياني!! لأننا على يقين من ان ذات هذا الطبيب قد بعث بالكثيرين إلى المقابر!!!

لا تعارض بين المالكية الحقيقية والمالكية الشرعية للأشياء:

وهنا يتضح لنا ان المالك الحقيقي للسفن هو الله (عز وجل) بجميع أجزائها ومكوناتها العامة والتفصيلية وبدنها وصانعها الإنسان، فكل تلك الأشياء (وبضمنها الإنسان) هي من عند الله (تعالى) وإليه يعودون، بل ان ما في الأرض وما عليها وما فوقها وما تحتها هي ملك لله وحده، وهي ما يصطلح عليها بالمالكية الحقيقة.

والمالكية الإلهية الحقيقية لا تتعارض مع المالكية الاعتبارية أو التوكيلية أو الشرعية للأفراد، فعنوان المالكية المكتسب لدى الإنسان إنما حصل من خلال السبب الشرعي من قبيل البيع والشراء والميراث والهبة وغير ذلك من الأسباب التي يقوم على أساسها النظام الاجتماعي للحياة إذ لولاها لما تيسر للإنسان من نقل الأشياء وتنظيم وتسيير شؤون حياته اليومية، فقد تنسب مالكية شيء ما اليوم إلى شخص معين وفي الغد تنسب إلى شخص آخر لأنه اشتراه مثلاً أو حصل عليه بموجب الإرث، وتبقى عملية الانتقال إلى الشخص الجديد قادرة على حفظ حدود مالكيته للشيء باعتبارها شرعية محترمة ولا يجوز الاعتداء عليها بأي حال من الأحوال.

ولله سفينة أهل البيت (ع).

وفي المعنى الباطن لقوله تعالى (وله الجوار المنشئات في البحر كالأعلام) يقال ان المقصود بذلك هن الجواري على ظلمات بحر الهوى، فسفينة النجاة النبوية هي التي تمخر عباب البحر الدنيوي المحفوف بالمخاطر المهلكة المتصلة بحب الدنيا وحب النفس والهوى، فمن ركب هذه السفينة يكون قد ضمن لنفسه الوصول إلى شاطئ النجاة حيث الجنان والرضوان، ومن تخلّف عنها وعزف عن الركوب فيها فقد كتب على نفسه الغرق والهلكة في بحار الظلمات كما يتأكد هذا المعنى في نص الحديث الشريف الآتي (مثل أهل بيتي كسفينة نوح، من ركبها نجى، ومن تخلّف عنها غرق وهوى). وتعود ملكية هذه السفينة إلى الله عز وجل أيضاً، فما محمد (ص) إلاّ كائن مقرب عند الله سبحانه وتعالى، وما علي والحسن والحسين (ع) إلاّ عباد لله قد جعلهم المولى (تعالى) وسائط ربانية ونعماً إلهية حقيقية تضمن النجاة للعالمين، ومثلهم كمثل المصباح المادي في عالم المادة الدنيوي الحسي يهبنا الضياء والدفء والفوائد الجمة الأخرى، فهم مصباح عالم الروح والمعنى، ونورهم يهدي الناس إلى سبل الرشاد والفوز المعنوي، وعلى لك يكون سؤال الله التقريري الإلهي (فبأي آلاء ربكما تكذبان) مدعىً لعدم صدور الجحود والتكذيب بنعمة سفينة النجاة النبوية هذه. ولنا في بركة هذا الحديث الشريف حسن ختام لمقالنا هذا:ـ

شمس النبوة وقمر الولاية:

جاء في كتاب منهج الصادقين هذا الحديث الشريف المروي عن طرق العامة، فقد روي عن سليمان بن الاعمش بواسطتين عن النبي الأكرم (ص) أنه قال (إذا فقدتم الشمس فعليكم بالقمر، وإذا فقدتم القمر فعليكم بالزهرة، وإذا فقدتم الزهرة فعليكم بالفرقدين) ونحن نعرف أن نور القمر ما هو إلا انعكاس لضوء الشمس، اما الزهرة فهي إحدى الكواكب المنيرة التي لا نظير لها في شدة نورها بين سائر الكواكب المساوية، أما الفرقدان فهما النجمان القطبيان المتقابلان، أحدهما في قطب الشمال والثاني في قطب الجنوب، وهما في شدة نورهما وتلألأهما يأتيان من بعد الزهرة.

فتساءل أصحاب النبي (ص) قائلين: وأي شيء هن يا رسول الله؟ عندئذ أجابهم النبي (ص): أنا الشمس، وعلي القمر، فإن توفاني الله إليه فعليكم بلزوم علي (ع)، وبعد علي (ع) عليكم بالزهراء وهي الزهرة، ثم تمسكوا من بعد بالحسن والحسين (ع) فهما الفرقدان (عليهم جميعاً سلام الله تعالى).

[ 26 ]

(كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام * فبأي آلاء ربكما تكذبّان) (سورة الرحمن، الآيات: 26 ـ 28).

مآل جميع الكائنات إلى الفناء:

(كل من عليها فانٍ) وتعني أن مصير كل إنسان على وجه البسيطة يؤول إلى الفناء، (ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام) فبأي آلاء ربكما يا معشر الجن والانس تكذبّان؟

قلنا إن بداية السورة تناولت اسم الأرض بالذكر في قوله تعالى (والأرض وضعها للأنام) وعليه يتضح معنى كلمة (عليها) الواردة في هذه الآية من أنها الأرض من خلال قرينتين هما:ـ

قرينة الحال، وقرينة المقال، وبذلك يكون معنى الآية (كل من على الأرض فانٍ)، و(من) هو اسم موصول بمعنى الذي ويستخدم عادة للعاقل. وقد يستعمل أحياناً لغير العاقل ولكن بصورة محدودة للغاية، و(من) الواردة هنا تخص الإنسان والجن باعتبارهما من العقلاء، أي أن جميع الناس والجن ممن يعيش على هذا الكوكب وفي هذا العالم محكومون بالفناء ولا يبقى سوى الله وحدهُ (جل جلاله)، ولو اقبلنا أن (من) استخدمت هنا باعتبارها اسم موصول مطلق للعقلاء وغيرهم فيكون معنى الآية في هذه الحالة هو (إن كل ما على الأرض من ذي روح وغيره، بشر أو جن أو حيوانات أو نباتات فمصيره الفناء، بل وان الفناء يلحق أيضاً كل ذي عمر ومدّة، فالأرض أيضاً لها أجل لا تعدوه وهي ستؤول في آخر حالها إلى الفناء[1] وهذه الحقيقة تدلل عليها كثير من الآيات، كما في قوله تعالى (كل شيء هالك إلاّ وجهه) (سورة القصص، الآية: 88). وفي هذه الآية إشارة واضحة إلى فناء جميع الأشياء من سماوات وأرضين وعلويّات وسفليّات وكل موجود بالجواز، لأن ما كان له بداية لا بدّ وان تكون له نهاية، والنهاية هي الفناء ثم حلول عالم الآخرة وقيام الساعة عندما يحيى الله فيها أرباب النهى والعقول ثانية.

كل نفس ذائقة الموت، حتى ملك الموت:

جاء في كتاب البحار للعلامة المجلسي أن أحدهم قال: جئت الإمام الصادق (ع) معزيّاً بوفاة ولده إسماعيل، ولمّا جلست بادرني الإمام (ع) قائلاً (كل نفس ذائقة الموت إن في الأرض أو في السماء).

وقد خاطب الإمام الحسين (ع) في ليلة عاشوراء أخته العقيلة زينب(س) بمقالة لا تختلف كثيراً عما نقله الراوي من مقالة الإمام الصادق (ع) إذ قال (ع): (إن أهل الأرض يموتون، وأهل السماء لا يبقون). نعم عندما يموت الجميع يأتي النداء إلى ملك الموت، من بقي؟ فيجيب قائلاً: إنهم حملة العرش واسرافيل وميكائيل وجبرائيل يا رب، فيأتيه النداء: فليذوقوا الموت، وبعد أن يأتيهم الموت، يأتي النداء مرة أخرى: من بقي؟ فيجيب عزرائيل، بقيت أنا، فيأتيه النداء: مت أنت أيضاً، فيموت ملك الموت من ساعته، حينئذ يقول الواحد الأحد الصمد: أين اولئك الذين قالوا بزعمهم ان لهم الملك والسلطان؟ (لمن الملك اليوم) (سورة غافر، الآية: 16). فلا من مجيب غير الله (جل جلاله) (لله الواحد القهّار) (سورة غافر، الآية: 16).

فطوبى لمن آمن واستيقن أن الله (سبحانه وتعالى) هو المالك الحقيقي المطلق لكل شيء، وهو السلطان العزيز المقتدر وحده لا شريك له ولا عديل.

وعليه يصبح لكل ذي لب وحصيف ان مصير كل شيء هو الزوال والاضمحلال وأنّ الباقي بعد فناء كل شيء هو الله وحده ذو الجلال والإكرام هو من أوضح الواضحات وأتم البديهيّات والمسلّمات،

وما خلاه (كل من عليها فان)

 

لا يبقى من العالمين الا الله وحده

الأدلة النقليّة والعقليّة على فناء الموجودات:

وأقام الحكماء الالهيون براهين عقلية متعددة تدلّل على حقيقة فناء الموجودات، فقالوا إنّ كل مركّب لا بدّ له في النهاية من أن يصير إلى التحلّل، وما اجتمع اليوم من أجزاء لا بدّ وأن يأتيها يوم تتفرق فيه وتتناثر، وأحد تلك الأشياء المركبّة أبداننا.

لفتّته حصاة الموت كالرمل كما كان

 

إذا ما المرء قد صار شبيه الكأس تسبيكاً

وسيأتي اليوم الذي تنهار فيه الأبنية المحكمة والبنايات العالية ولو انها شيّدت من قطع الجبال الصلدة ومن الصخور الصمّاء، ولقد أبصرتم كيف أل عرش جمشيد الملك وأشباه هذا العرش إلى الخراب والدمار، والله وحده هو العالم كيف كانت هيئة عرش جمشيد عندما كان في أول أيام انشائه، وها هو اليوم وبعد بضعة الوف من السنين تشاهدونه على هيئة الأطلال والخرائب، وحتى الجبال فهي قد دخلت الآن في مرحلة الشيخوخة، وهي تتحرك اليوم نحو مرحلة الزوال والفناء، ولقد تحدث علم الفلك الحديث عن انتقال الأجرام السماوية إلى مرحلة البرودة والتوقف عن الحركة، وهذا يعني ان مسيرة العالم الذي أنشأه الله (عز وجل) تسير نحو حقيقة الزوال والفناء والتحلل بعد أن جمعه الله في هيئات مركبة ومتآلفة.

انعدام التركيبات المادية في الجنة:

ولو قدّر الله عز وجل لأحدنا أن يدخل الجنة، فهو حينذاك سيخلد فيها لأنها دار البقاء، ومن أسماء الجنة الأخرى (دار السلام) لأن حقيقة ما فيها هو السلامة المطلقة التي لا تشوبها شائبة السوء أو الفناء والزوال، لأنها دار البقاء لا دار الفناء وسبب غير مجهول، لأن التركيبات الماديّة في عالم الطبيعة لا تجد لها سبيلاً إلى الجنة فتكون فيها.

وقد جاء في كتاب (شرح الأسماء) حديث شريف يناسب مقالنا هذا يقول (عندما يرد المؤمن الجنة تأتيه رسالة مكتوب فيها ت من الحي الذي لا يموت، إلى الحي الذي لا يموت، فاني كنت إذا قلت للشيء كن فيكون، فقد جعلتك اليوم كذلك ـ). وهذا ما يؤكده القرآن المجيد في قوله تعالى (وإنّ الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون) (سورة العنكبوت، الآية: 64). لأن حقيقة هي أنها تؤول إلى الموت والزوال والفناء كما تحدثنا هذه الرواية الواردة عن الأئمة (ع): (إن لله ملكاً ينادي في كل يوم، لدوا للموت، وابنوا للخراب) فالدنيا ملؤها الانفصال والفراق والتباعد ولذلك لم تكن مؤهلة لتعلّق القلوب بها، ومثلها كمثل فقاعات الماء التي تظهر وتطفو على سطحه فهي لا قيمة ولا أهمية لها, ويبقى الوجود الحقيقي ممثلاً بالآخرة وعالم المعاني.

إنّما جئنا إلى الدنيا لكي نعمّر الآخرة:

فالدنيا هي مزرعة الآخرة ومقدّمتها، وقد حللنا فهيا ضيوفاً لكي نعد العدد ونهيأ أسباب السفر والرحيل والاقامة في عالم الآخرة لأنها دار البقاء والحياة الأبدية، وعليه يجدر بنا أن لا نضيع الغايات والأهداف فنسعى إلى تعمير دنيانا الفانية ونخرب آخرتنا الباقية.

قد أحاطتها النسور ألف الف

وذا يبقرها بمنقارٍ كسيفِ

 

هذه الدنيا شبيهُ الميتة

تارة تنهُش من مخلب ذا

ولكن لو جعل المرء عُشر همته التي يهتم بها لدنياه مختصةً بالآخرة لأفلح

وأنجح.

لم تخدعك الدنيا، ولكنك ولعت بها:

ومن درر كلام وأقوال سيدنا الإمام أمير المؤمنين علي (ع) التي نستحضرها هي قوله (ما خدعتك الدنيا ولكنك مغرم بها) ثم يعقب الإمام (ع) بقوله (فهل خدعك قبر أبيك مع ما فيه من العبرة والموعظة)؟!.

ونحن نقول إن لم ترد لنفسك العظة والعبرة فهذا شأنك، ولكن هل ترى ان أطلال الدنيا وخرائبها هي التي خدعتك؟ أم أن المنازل المعطلة التي فارقها أصحابها ورحلوا عنها هي التي غررت بك؟ أم أن الجنائز التي تمرّ بك كل يوم وترفع لك إعلانات الموت القادم، ولوحات الدعوة إلى الحضور والمشاركة في مراسم قراءة الفاتحة على أرواح الأموات هي التي مكرت بك؟ أم انك أنت الذي خدعت نفسك وغررت بها وأنت تمر على جميع تلك المظاهر الملئى بالعبر والمواعظ والانذار والاخطار ولكنك لا تعرها شيئاً من اهتمامك؟!

ولكن لا حياة لمن تنادي

 

لقد أسمعت لو ناديت حيّاً

لقد مررت قبل حين بامرأة مسنّة قد أحنى الدهر ظهرها وأضحى وقوفها يقارن الركوع، فسألتني قائلة: ادع الله تعالى أن يعجل بموتي!! فتساءلت قائلاً مع نفسي (هل أن هذه الخاطرة قد خطرت في بال هذه الامرأة حينما كانت شابة وتمنّت مثل هذه الأمنية.!) بلى، لقد ساقها الدهر إلى حال فقدت فيه من عوّلت عليه أن يأخذ بيدها ويقودها ان صار بها الحال إلى ما آلت إليه. فيا أيها الناس خذوا حذركم واعلموا أن الشباب لا يبقى وأنّ كل شيء قد عدا مسرعاً نحو الزوال والفناء.

شؤون الدنيا لا تثبت على حال واحد:

ان دار الدنيا بحق، دار شقاء ولكنها أيضاً دار عبرة، فهي دار تتغير وتتبدّل ولا تثبت على حال واحد، فالرجل الذي كان بالأمس موضع غبطة واشارات الآخرين، قد تحول اليوم إلى معدم وقد خسر كل شيء وتدهورت أحواله وفقد منصبه وسقط عن رأسه تاج الملك!![2]

وينقل الشيخ عباس القمي(رحمه الله) في كتابه الكنى والألقاب، أن صلاة الجمعة كانت تقام في كل يوم جمعة في مسجد بغداد الجامع، (يقول الراوي)، فشاهدت في أحد الجمع رجلاً ضريراً يمسك بإحدى يديه عصاً ويسأل الناس عطاءهم وهو يقول (ارحموا من كان بالأمس حاكماً عليكم) فسألت من ذا؟ فقالوا لي انه الخليفة العباسي الذي هجم الترك على ملكه وامسكوا به ثم فقؤوا عينيه وسلبوه ملكه وجردوه من كل شيء!!

 


[1] (كلاّ إذا دكّت الأرض دكّاً دكّاً) سورة الفجر، الآية: 21).

[2] هذه القضايا التي يذكرها السيد المؤلف (رحمه الله) كان قد تحدث بها قبل اكثر من ثلاثين عاماً، وبعد مرور كل هذه السنين شهدنا سوية انهيار نظام الشاه (محمد رضا بهلوي) الدموي الذي استخدم اكثر الأساليب دموية ووحشية من اجل سلب ثروات الأمة ثم آل به الحال إلى حال لم ينفعه فيه ماله أو سلطانه (ما أغنى عنه ماله وما كسب).

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست