.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

الطريق في تخليص النية

الكراهة

الشوق

تعلق الحب بجميع القوى 

 

 

تتميم

(الطريق في تخليص النية)

الطريق في تخليص النية في الطاعات تقوية إيمانه بالشرع، وتقوية ايمانه بعظم ثواب الطاعات مع خلوص النية، وإذا قوى ايمانه فربما انبعث من نفسه رغبة إلى فعل الطاعة مع خلوص النية، مثلاً من لم تكن له نية الولد في النكاح بل كانت نيته فيه مجرد قضاء الشهوة، فينبغي له أن يقوى ايمانه بعظم ثواب من سعى في تكثير أمة محمد (ص)، ويدفع عنه نفسه جميع المنفرات عن الولد، كثقل المؤونة وطول المتعب وغيره، وإذا فعل ذلك انبعثت من نفسه رغبة إلى تحصيل الولد للثواب.

ومنها:

الكراهة

وهي نفرة الطبع عما لا يخلو عن ايلام واتعاب، فإذا قويت سميت مقتاً، وضدها الحب، وهو ميل الطبع إلى الشيء الملذ، فان تأكد ذلك الميل وقوي سمي عشقاً.

اعلم أن عدم الرغبة والغفلة والكراهة والبعد أمور متناسبة مترتبة بعضها على بعض، وكذا اضدادها ـ اعني الشوق والنية والحب والإنس ـ أمور متناسبة يترتب بعضها على بعض، فنحن هنا نشير اجمالا إلى معانيها والفرق بينها، ثم نذكرها مفصلة على الترتيب.

فنقول: قد عرفت ان الغفلة والنية ضدان، وهما عبارتان عن عدم انبعاث النفس وانبعاثها إلى ما فيه غرضها الملائم اما عاجلاً أو آجلاً، واما عدم الرغبة والشوق فهما ضدان ومبدآن للغفلة والنية.

بيان ذلك: ان معنى عدم الرغبة ظاهر، والشوق عبارة عن الرغبة إلى الشيء الذي لم يصل إليه وكان مفقوداً عنه بوجه، فالشوق لا يخلو عن ألم المفارقة، ولو زالت المفارقة وحصل الوصال انتفى الشوق. ثم فرق الشوق عن النية ظاهر، فان الشوق مجرد الرغبة إلى الشيء من دون اعتبار انبعاث النفس إلى طلبه في مفهومه، والنية هي الانبعاث المذكور، فالشوق مبدأ النية، والنية مترتبة عليه، وبذلك يظهر الفرق بين ضديهما أيضاً ـ اعني عدم الرغبة والغفلة.

واما (الكراهة والحب): فقد عرفت أنهما عبارتان عن نفرة الطبع عن المؤلم، وعن ميله إلى الملذ، سواء انبعثت النفس عن طلبه ام لا، وبهذا يفترق الحب عن النية، فان النية هي انبعاث النفس، وهو مغاير لمجرد الميل، بل الميل منشأ للانبعاث، وسواء حصل الوصول إلى الملذ أم لا، وبهذا يفترق عن الشوق، فان الشوق يعتبر في مفهومه عدم الوصول، فالشوق والنية والارادة لا ينفكان عن الحب، والحب يكون مقارنا لهما ألبته، فإذا حصل الوصول إلى المطلوب زال الشوق والارادة وبقى الحب بدونهما. وبما ذكر يظهر الفرق بين الكراهة وبين عدم الرغبة والغفلة.

وأما (الانس): فهو عبارة عن استبشار النفس بما يلاحظه من المطلوب المحبوب بعد الوصول واستحكامه ورسوخه، والبعد عبارة عن عدم الوصول إلى المحبوب أو الوصول إلى ما لا يستبشر ولا يبتهج بملاحظته، لعدم الرغبة إليه أو للتنفر عنه، فالحب منشأ الانس، والإنس يترتب عليه، وهو غاية المحبة، فلا يخلو انس عن المحبة، والمحبة قد تكون بدونه، ثم المطلوب المحبوب قد يكون مطلوباً للقوة العاقلة، كالعلم بحقائق الأشياء، وقد يكون مطلوباً للقوة الغضبية، كالاستيلاء والغلبة، وقد يكون مطلوباً للقوة الشهوية، كالمال والازواج، وعلى كل تقدير تكون الأمور المذكورة ـ اعني عدم الرغبة والغفلة والكراهة والبعد ـ واضدادها ـ اعني الشوق والارادة والحب والإنس ـ متعلقة بتلك القوة، معدودة من رذائلها أو فضائلها. ثم المحبوب ان كان يستحسن حبه وطلبه شرعاً وعقلاً، كان ما يتعلق به من الشوق والارادة والحب والإنس من الفضائل واضدادها من الرذائل، وان كان مما يذم حبه وطلبه شرعاً وعقلاً كان بالعكس.

فصل

الشوق ـ افضل مراتب الشوق الشوق إلى الله. تعلق الحب بجميع القوى ـ أقسام الحب بحسب مباديه ـ لا محبوب حقيقة إلا الله ـ الشهود التام هو نهاية درجات العشق ـ سريان الحب في الموجودات ـ رد المنكرين لحب الله ـ معرفة الله اقوى سائر اللذات ـ تحقيق رؤية الله في الآخرة ولذة لقائه ـ الطريق إلى الرؤية واللقاء ـ تفاوت المؤمنين في محبة الله ـ الواجب اظهر الموجودات ـ علائم محبة الله ـ معنى حب الله لعبده ـ الحب في الله والبغض في الله ـ الوفاء في الحب ـ الانس ـ الانس قد يثمر الادلال.

قد تقدم تفصيل الكلام في النية والغفلة.

واما الشوق، فنقول في بيانه: قد عرفت أن الشوق عبارة عن الميل والرغبة إلى الشيء عند غيبته، فان الحاصل الحاضر لا يشتاق إليه، إذ الشوق طلب يسوق إلى نيل امر، والموجود لا يطلب، فالشوق لا يتصور إلا إلى شيء ادرك من وجه ولم يدرك من وجه، فما لا يدرك أصلاً لا يشتاق اليه، إذ لا يتصور ان يشتاق أحد إلى شخص لم يره ولم يسمع وصفه، وما ادرك بكماله لا يشتاق إليه أيضا، إذ المداوم لمشاهدة المحبوب والوصل إليه من جميع الوجوه لا يتصور أن يكون له شوق، فالشوق يختص تعلقه بما ادرك من وجه دون وجه، وهذا انما يكون باحد وجهين:

(أحدهما) ان يتضح الشيء اتضاحاً ما، ولم يستكمل الوضوح، فاحتاج إلى استكماله. فيكون الشوق إلى ما بقى من المطلوب مما لم يحصل. مثال ذلك: ان من غاب عنه معشوقه، وبقى في قلبه خياله. يشتاق إلى استكمال خياله بالرؤية، ومن رأى معشوقه في ظلمة، بحيث لا تنكشف له حقيقة صورته، يشتاق إلى استكمال رؤيته باشراق الضوء عليه، فلو رآه بتمام الرؤية انتفى الشوق، كما انه لو انمحى عن قلبه ذكره وخياله ومعرفته حتى نسيه لم يعقل وجوده.

(ثانيهما) أن يدرك بعض كمالات المحبوب، ووصل اليه، وعلم اجمالا ان له كمالات اخر، ولم يدركها ولم يصل إليها، فيكون له شوق إلى ادراك تلك الكمالات. مثال ذلك: ان يرى وجه محبوبه، ولا يرى شعره ولا سائر اعضائه، فيشتاق إلى رؤية ذلك.

فصل

(افضل مراتب الشوق الشوق إلى الله)

افضل مراتب الشوق هو الشوق إلى الله ـ سبحانه ـ وإلى لقائه، وهي المظنة إلى الوصول إليه، وإلى حبه وانسه والتقرب لديه، وهو رأس مال السالكين، ومفتاح أبواب السعادة للطالبين، والوجهان الموجبان للشوق متصوران في حق الله، بل هما ثابتان وملازمان لجميع العارفين، فلا يخلو عارف من الشوق إلى الله:

أما الوجه الأول، فلأن ما اتضح للعارفين من الأمور الإلهية وإن بلغ غاية الوضوح، فكأنه من وراء ستر رقيق، فلا يكون متضحاً غاية الاتضاح، بل يكون مشوباً بشوائب التخيلات المكدرة للمعلومات والمانعة عن ظهورها اليقيني، (لا) سيما إذا انضاف إليها شواغل الدنيا، فكمال الوضوح في الأمور الإلهية إنما هو بالمشاهدة واشراق التجلي، ولا يكون ذلك في هذا العالم، بل يكون في الآخرة، فهذا أحد الموجبين لشوق العارفين إلى الله ـ سبحانه ـ. وهو الشوق إلى استكمال الوضوح فيما اتضح اتضاحاً ما.

وأما الثاني، فلأن الأمور الإلهية لا نهاية لها، وإنما ينكشف لكل عارف بعضها، وتبقى أمور غير متناهية خفية عنه، والعارف اجمالا وجودها، وكونها معلومة لله ـ تعالى، ويعلم أن ما غاب من علمه من المعلومات اكثر مما حضر، فلا يزال متشوقاً إلى أن يحصل له من المعلومات المتعلقة بعظمة الله وجلاله وصفاته وأفعاله بما لا يعرفها اصلاً، لا مع الوضوح ولا مع الابهام والاجمال، والشوق الأول ربما انتهى في الآخرة إذا حصل الشهود واللقاء المعنوي لأجل استخلاص النفس من موانع الطبيعة وقشوراتها وحصول التجرد التام لها، وأما الشوق الثاني فلا يمكن أن ينتهي في الدنيا ولا في الآخرة، إذ نهاية ذلك أن ينكشف للعبد في الآخرة من عظمة الله وكبريائه وجلاله وصفاته واحكامه وأَفعاله ما هو معلوم لله ـ تعالى ـ وهو محال، إذ معلومات الله المتعلقة بذاته وصفاته وافعاله غير متناهية قوة وشدة وعدة، فتمتنع احاطة الإنسان بها، فلا يزال العبد عالماً بأنه قد بقى من جلال الله وعظمته ومن صفته وفعله ما لم يتضح له، فلا يسكن قط شوقه، وما من عبد إلا ويرى فوق درجته درجات كثيرة لا نهاية لها، فيشتاق إليها ألبته، وإذا كان اصل الوصال واللذة حاصلاً، فربما كان الشوق إلى المراتب التي فوق مرتبتها شوقاً لذيذاً لا يظهر فيه ألم، وربما كانت لطائف الكشف والبهجة ودرجاتهما متوالية إلى غير النهاية، وتحصل للعبد هذه الدرجات في الآخرة على التدريج، فلا يزال العبد يتصاعد ويترقى إليها، ولا يزال النعيم واللذة تتزايد له أبد الآباد من غير انقطاع له، وتكون لذة ما يتجدد من لطائف النعيم شاغلا له عن الاحساس بالشوق إلى ما لم يحصل له المه، فان امكن في الآخرة حصول الكشف فيما لم يحصل فيه كشف في الدنيا، لكان حصول المعارف والابتهاجات والانوار وتجددها في الآخرة ممكناً، وإن لم يكتسب اصلها في الدنيا فيتجدد ويتوارد على العبد في الآخرة على الدوام والاستمرار من دون أن ينتهي إلى حد. وربما كان قوله ـ تعالى ـ:

" نورهم يسعى بين أيدهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا "[1].

اشارة إلى هذا المعنى، ويكون المراد به إتمام النور في عين ما استنار في الآخرة استنارة محتاجة إلى الظهور، ثم إلى زيادة الاستكمال والاشراق، وإن اختص حصول نعم الآخرة وانوارها وابتهاجاتها على النعم التي تزود من أصلها ولم يحصل للعبد ما لم يكتسب في الدنيا أصله من الأنوار والابتهاجات فيكون ترقي العبد في الآخرة في ازدياد الابتهاج والاشراق فيما حصل له اصله، وعلى هذا، فربما انتهى إلى حد ووقف هناك ولا يتضاعف، وقوله ـ تعالى ـ: " نورهم يسعى.. إلى آخر الآية " يحتمل لهذا المعنى أيضا، بأن يكون المراد طلب اتمام نور تزود من الدنيا أصله. (قيل): وقوله تعالى:

" أنظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً "[2]:

يدل على أن الأنوار لابد أن يتزود أصلها في الدنيا، ثم يزداد في الآخرة اشراقاً، فاما أن يتجدد نور لم يكتسب أصله في الدنيا فلا.

ثم لا يخفى أن تعيين الاصل والفرع للانوار والابتهاجات ومراتب الآخرة عندنا مشكل، وليس لنا طريق إلى القطع بأن أي شيء أصل لاي نور وبهجة، وربما كان المظنون عندنا: أن أصل كل نور وسعادة وبهجة هو اليقين القطعي الاجمالي بأن الواجب ـ سبحانه ـ في غاية العظمة والجلال والقدرة والكمال، وأنه تام فوق التمام، وكل ما سواه من المهيات الموجودة صادرة عنه على أشرف انحاء الصدور وأقواها وأدلها على العظمة، وأنه لا موجود ولا شيء إلا الواجب وصفاته وأفعاله، وأن ذاته الاقدس ذات لا يمكن أن يكون لذهن من الاذهان العالية، ولا لمدرك من المدارك المتعالية عقلاً كان أو نفساً أو غيرهما، لو أمكن أن يكون مدركاً، أن يدرك في لحاظ التعقل ذاتاً يمكن أن تكون فوقه أو مثله، بل كلما تصور اجمالا فهو فوقه، وكذا صفاته الكمالية وافعاله، وأن صفاته الكمالية: من عظمته، وجلاله، وقدرته، وجماله، وعلمه، وحكمته، وغير ذلك غير متناهية، وليس لها حد وغاية، وما تعلق به علمه من مخلوقاته لا نهاية له كثرة وقوة وكمالا، وأن له من المراتب الغير المتناهية من العظمة والجلال مالا يطيق اشرف الموجودات واقواها لا دراك أولها، فمن عرف ذلك وتيقن به، وعلم ان هذا العالم وما فيه لا نسبة له إلى عالم الآخرة وما فيه، وأن ألطافه ومزاياه إلى عباده الذين عرفوا نسبتهم إليه، وتيقنوا بأن لا شرافة ولا كمال للنفوس والعقول فوق معرفة ربهم والتقرب إليه والوصول إلى حبه وانسه، فقد وصل إلى أصل كل سعادة ونور وبهجة، لاسيما إذا دفع عن نفسه ذمائم الأخلاق واتصف بفضائلها. وقد ظهر مما ذكر: أنه لا ريب في ثبوت الشوق للعباد إلى الله ـ سبحانه ـ. والعجب ممن انكر حقيقة الشوق إلى الله ـ سبحانه ـ لانكاره المحبة له ـ كما يأتي ـ، إذ لا يتصور الشوق إلا إلى محبوب، وقد عرفت ثبوته من حيث النظر والاعتبار. ولا ريب في ثبوته ـ أيضاً ـ من الآيات والأخبار: قال الله ـ سبحانه ـ:

" فمن كان يرجو لقاء ربه...." إلى آخر الآية[3].

فان الرجاء لا ينفك عن الشوق. وقال رسول الله (ص) في دعائه: " اللهم إني اسألك الرضاء بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك الكريم، وشوقاً إلى لقائك ". وفي بعض الكتب السماوية: " طال شوق الأبرار إلى لقائي. وأنا إلى لقائهم لأشد شوقاً ". وفي أخبار داود (ع): " إني خلقت قلوب المشتاقين من نوري، ونعمتها بجلالي ". وفيها أيضا: " أنه تعالى اوحى إلى داود: يا داود! إلى كم تذكر الجنة ولا تسألني الشوق الي؟ قال: يا رب! من المشتاقون إليك؟ قال: إن المشتاقين إلي الذين صفيتهم من كل كدر، ونبهتهم بالحذر، وخرقت من قلوبهم إلى خرقا ينظرون إلى، وإني لأحمل قلوبهم بيدي فأضعها على سمائي، ثم ادعو بملائكتي، فإذا اجتمعوا سجدوني، فأقول: اني لم اجمعكم لتسجدوني، ولكن دعوتكم لاعرض عليكم قلوب المشتاقين إلى، واباهي بهم إياكم، فان قلوبهم لتضيء في سمائي لملائكتي كما تضيء الشمس لاهل الأرض، يا داود اني خلقت قلوب المشتاقين من رضواني، ونعمتها بنور وجهي، فاتخذتهم لنفسي محدثين، وجعلت ابدانهم موضع نظري إلى الأرض، وقطعت من قلوبهم طريقا ًينظرون به إلى، يزدادون في كل يوم شوقاً ". واوحى الله إليه أيضا: " يا داود! لو يعلم المدبرون عني كيف انتظاري لهم ورفقي بهم وشوقي إلى ترك معاصيهم، لماتوا شوقاً إلي، وتقطعت اوصالهم عن محبتي ". وفي بعض الأخبار القدسية: " ان لي عباداً يحبونني وأحبهم، ويشتاقون إلى واشتاق إليهم، ويذكرونني واذكرهم، واول ما اعطيتهم ان اقذف من نوري في قلوبهم، فيخبرون عني كما اخبر عنهم، ولو كانت السماوات والارض وما فيهما في موازينهم لا ستعد بها لهم، واقبل بوجهي عليهم، لا يعلم أحد ما أريد أن أعطيه ". وقال الصادق (ع): " المشتاق لا يشتهي طعاماً، ولا يلتذ شراباً، ولا يستطيب رقاداً، ولا يأنس حميماً، ولا يأوى داراً، ولا يسكن عمراناً، ولا يلبس ثياباً، ولا يقر قراراً، ويعبد الله ليلاً ونهاراً، راجياً بأن يصل إلى ما يشتاق إليه، ويناجيه بلسان الشوق معبراً عما في سريرته، كما أخبر الله ـ تعالى ـ عن موسى بن عمران في ميعاد ربه بقوله: (وعجلت إليك رب لترضى)، وفسر النبي (ص) عن حاله: (أنه ما أكل ولا شرب ولا نام، ولا اشتهى شيئاً من ذلك في ذهابه ومجيئه أربعين يوماً شوقاً إلى ربه)، فإذا دخلت ميدان الشوق، فكبر على نفسك ومرادك من الدنيا، وودع جميع المألوفات، وأصرفه عن سوى مشوقك، ولب بين حياتك وموتك: لبيك اللهم لبيك! أعظم الله أجرك، ومثل المشتاق مثل الغريق، ليس له همة إلا خلاصه، وقد نسى كل شيء دونه "[4]. وما ورد في الادعية المعصومية من طلب الشوق أكثر من ان يحصى، والظواهر الآتية المثبتة للمحبة والأُنس تثبت الشوق أيضاً.

وأما (الكراهة والبغض وضدهما ـ اعني الحب ـ) فنقول: قد عرفت أن الكراهة والبغض عبارة عن نفرة الطبع عن المؤلم المتعب، والحب الذي هو ضدهما عبارة عن ميل الطبع إلى الملائم الملذ.

وتوضيح ذلك: أنه لا يتصور حب إلا بعد معرفة وادراك، وكذلك لا يتصف بالحب جماد ولا يحب الإنسان ما لا يعرفه ولم يدركه، فالحب من خاصية الحي الدراك، بعد حصول الادراك بالفعل.

ثم لما كانت المدركات منقسمة إلى ما يوافق طبع المدرك ويلذه، وإلى ما يخالفه ويؤلمه، وإلى ما لا يؤثر فيه بالذاذ وايلام، فالقسم الأول يكون مرغوباً عند المدرك، ويسمى رغبة، وميله إليه حباً، والقسم الثاني يكون منفوراً عنده، وتسمى نفرته عنه كراهة وبغضاً، والثالث لا يوصف بميل وكراهة، فلا يوصف بكونه محبوباً، ولا مكروهاً. ثم اللذة لما كانت عبارة عن ادراك الملائم الملذ ونيله، فالحب الذي هو الميل والرغبة إليه لا يخلو عن لذة محققة أو خيالية، وعلى هذا فيمكن أن تعرف المحبة بأنها ابتهاج النفس بادراك الملائم ونيله، هذا فانك قد عرفت أن المدرك إن كان مما يستحسن حبه شرعاً وعقلاً، كان كراهته وبغضه من الرذائل وحبه من الفضائل، وإن كان مما يذم حبه، كان بالعكس من ذلك.

فصل

(تعلق الحب بجميع القوى)

الحب والكراهة لما كانا تابعين للادراك، فينقسمان بحسب انقسام القوة المدركة، التي هي الحواس الظاهرة، والحواس الباطنة، والقوة العاقلة. فمن الحب ما يتعلق بالحواس الظاهرة، بمعنى أن المحبوب مما هو مدرك وملذ عندها، كالصور الجميلة المرئية، والنغمات الموزونة، والروائح الطيبة، والمطاعم النفيسة، والملبوسات اللينة بالنظر إلى الخمس الظاهرة. ومنه ما يتعلق بالحواس الباطنة، بمعنى أن المحبوب مما هو مدرك وملذ عندها، كالصور الملائمة الخيالية، والمعاني الجزئية الملائمة بالنسبة إلى المتخيلة والواهمة. ومنه ما يتعلق بالعاقلة، بمعنى أن المحبوب مما هو مدرك وملذ عندها، كالمعاني الكلية، والذوات المجردة. ولا ريب في أن العقلي من الحب واللذات أقوى اللذات وابلغها، إذ البصيرة الباطنة أقوى من البصيرة الظاهرة والعقل أقوى إدراكاً وأشد غوصاً ونفوذاً في حقائق الأشياء وبواطنها من الحس، وجمال المعاني المدركة بالعقل أعظم من جمال الصور الظاهرة الحسنة، فتكون لذة العقلة وحبه بما يدركه من الأمور الشريفة الإلهية التي جلت عن ادراك الحواس اتم وابلغ، ولذا جعل رسول الله (ص) الصلاة أبلغ المحبوبات عنده في الدنيا، حيث قال: " حبب إلى من دنياكم ثلاث: الطيب، والنساء، وجعلت قرة عيني في الصلاة "، فان الالتذاذ بالصلاة لذة عقلية، كما أن الالتذاذ بالطيب لذة شمّية، وبالنساء نظرية ولمسية.

فان قيل: حقيقة الإنسان نفسه الناطقة، ولها ثلاث قوى، وهي: العاقلة، والشهوية، والغضبية، وقوى اخرى هي: الحواس الظاهرة والحواس الباطنة، وشأن العاقلة ـ كما ذكرت ـ ادراك المعاني الكلية، والحقائق المجردة، وشأن الحواس الظاهرة ادراك المبصرات والمسموعات والمشمومات والمذوقات والملموسات، وشأن الحواس الباطنة ادراك المعاني الجزئية، والصور المدركة بالحواس الظاهرة وضبطها، ومن جملة ما يدرك بالحواس ما يتعلق بقوتي الغضب والشهوة. من الغلبة والاستيلاء والوصول إلى المناكح والمطاعم وضدهما، فالمحب لهذه المدركات والملتذ بها ماذا من النفس وقواها المذكورة، وهل المحب والملتذ هو المدرك بعينه أو غيره؟.

قلنا: المحب والملتذ أولاً في كل من هذه المدركات هو المدرك، وثانياً وبالواسطة هو النفس، إذ كل ادراك يتعلق باحدى القوى ليصل بالآخرة إلى النفس، فيحدث فيها ما يقتضيه من اللذة والالم، إلا أن ما يدرك بالحواس مما يتعلق بقوتي الشهوة والغضب لا بد أن يصل إليهما أيضا، فيحصل لهما اللذة أو الالم، وبواسطتهما يصل إلى النفس، فالمدرك أولاً للغلبة أو العجز هو الوهم، فيلتذ أو يتألم، ثم يصل منه أثر الادراك والالتذاذ والالم إلى القوة الغضبية، ويصل منها الاثر إلى النفس فيلتذ أو يتألم، والمدرك للطعم والريح واللين والنعومة هي الذائقة والشامة واللامسة، فالالتذاذ والتألم لها أولا وبواسطتها للقوة الشهوية، وهذا إن كانت الشهوية قوة على حدة سوى الذائقة والشامة واللامسة وسائر الحواس الظاهرة، وإن كانت معنى جنسياً شاملاً لجميعها فالأمر ظاهر. وبما ذكر ظهر وجه تعلق الحب بجميع القوى.

 


[1]  التحريم، الآية: 8.

[2] الحديد، الآية: 13.

[3] الكهف، الآية: 111.

[4] صححنا الحديث على مصباح الشريعة: باب99، ص193 ـ 194.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست