.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

أقسام الحب بحسب مباديه

لا محبوب حقيقة إلا الله

الشهود التام هو نهاية درجات العشق

 

 

فصل

(أقسام الحب بحسب مباديه)

اعلم ان أسباب الحب ومباديها لما كانت متعددة مختلفة فينقسم الحب لاجلها على أقسام:

الأول ـ حب الإنسان وجود نفسه وبقاءه وكماله، وهو أشد أقسام الحب واقواها، لان المحبة إنما تكون بقدر الملاءمة والمعرفة، ولا شئ أشد ملاءمة لاحد من نفسه، ولا هو بشيء اقوى معرفة منه بنفسه، ولهذا جعلت معرفة نفسه مفتاحا لمعرفة ربه[1]. وكيف لا يكون حب الشيء لذاته اقوى المراتب، مع أن الحب كلما صار أشد جعل الاتحاد بين المحب والمحبوب أوكد وأبلغ؟ وأي اتحاد أشد من الوحدة ورفع الاثنينية بالمرة، كما بين الشيء ونفسه، فالمحب والمحبوب واحد، وسبب الحب غريزة في الطباع بحكم سنة الله:

" ولن تجد لسنة الله تبديلاً "[2].

ومعنى حبه لنفسه كونه محباً لدوام وجوده، ومكرها لعدمه وهلاكه، فالبقاء ودوام الوجود محبوب، والعدم ممقوت، ولذا يبغض كل أحد الموت، لا بمجرد ما يخافه بعده، أو لمجرد ما يلزمه من سكراته، بل لظنه أنه يوجب انعدام كله أو بعضه، ولذا لو اختطف من غير الم وتعب، واميت من غير ثواب وعقاب، كان كارهاً لذلك، وكما ان دوام الوجود محبوب فكذلك كمال الوجود محبوب، لأن فاقد الكمال ناقص، والنقص عدم بالاضافة إلى القدر المفقود، فالوجود محبوب في اصل الذات وبقائه وفي صفات كماله، والعدم ممقوت فيها جميعاً.

والتحقيق: أن المحبوب ليس إلا الوجود، والمبغوض ليس إلا العدم، وجميع الصفات الكمالية راجعة إلى الوجود، وجميع النقائض راجعة إلى العدم، إلا أن كل فرد من الموجود لما كان له نحو خاص من الوجود، وكانت تمامية نحو وجوده بوجود بعض الصفات الكمالية التي هي من مراتب الموجودات، فكان وجوده مركب من وجودات متعددة، فإذا فقد بعضها فكأنه فاقد لبعض اجزاء وجوده، وبذلك يظهر: أن الموجود كلما كان أقوى وكان نحو وجوده أتم، كان اجمع لمراتب الوجودات في لقوة والشدة والعدة، وكانت صفاته الكمالية اقوى واكثر، لكونها من مراتب الوجودات، فالوجود الواجب الذي هو التام فوق التمام والقائم بنفسه المقوم لغيره ينطوي فيه جميع الوجودات، ويكون محيطاً بالكل، ثم محبة الأولاد من التحقيق يرجع إلى هذا القسم، لان الرجل إنما يحب ولده ويتحمل المشاق لاجله، وان لم يصل منه إليه نفع وحظ، لعلمه بأنه خليفته في الوجود بعد عدمه، فكأن بقاءه نوع بقاء له، فلفرط حبه لبقاء نفسه يحب بقاء من هو قائم مقامه وبمنزلة جزء منه،لما عجز من الطمع في بقاء نفسه، ولعدم كون بقائه هو بقاؤه بعينه يكون بقاء نفسه أحب إليه من بقاء ولده لو كان طبعه باقياً على اعتداله، وكذلك حبه لاقاربه وعشيرته يرجع إلى حبه لكمال نفسه، فانه يرى نفسه كبيراً قوياً لاجلهم، متجملا بسببهم، إذ العشيرة كالجناح المكمل للإنسان[3].

الثاني ـ حبه لغيره لاجل انه يلتذ منه لذة حيوانية. كحب كل من الرجل والمرأة للآخر لاجل الجماع، وحب الإنسان المأكولات والملبوسات، والسبب الجامع في هذا القسم هو اللذة، وهو سريع الحصول وسريع الزوال واضعف المراتب، لخساسة سببه وسرعة زواله.

الثالث ـ حبه للغير لاجل نفعه واحسانه، فان الإنسان عبد الاحسان، وقد جبلت النفوس على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها، ولذا قال رسول الله (ص): " اللهم لا تجعل لفاجر على يداً فيحبه قلبي ". فالسبب الجامع في هذا القسم هو النفع والإحسان، وهذان القسمان عند التحقيق يرجعان إلى القسم الأول، لان المحسن من أمد بالمال والمعونة وسائر الأسباب الموصولة إلى دوام الوجود وكمال الوجود، وسبب اللذة باعث لحصول الحظوظ التي بها يتهيأ الوجود.

والفرق أن الاعضاء، والصحة، والعلم، والطعام، والشراب، والجماع محبوبة لان بها كمال وجوده وهي عين الكمال، وأما الطبيب الذي هو سبب الصحة، والعالم الذي هو سبب العلم، ومعطى الطعام والشراب، والمرأة التي هي آلة الوقاع: محبوبة لا لذواتها، بل من حيث انها وسائل إلى ما هو محبوب لذاته، فاذن يرجع الفرق إلى تفاوت الرتبة، والكل يرجع إلى محبة الإنسان نفسه، فمن أحب المحسن لاحسانه فما احب ذاته تحقيقاً، بل أحب احسانه، ولو زال احسانه زال حبه مع بقاء ذاته، ولو نقص نقص الحب، ولو زاد زاد. وبالجملة: يتطرق إلى حبه الزيادة والنقصان بحسب زيادة الاحسان ونقصانه.

الرابع ـ أن يحب الشيء لذاته، لا لحظ يناله منه وراء ذاته، بل تكون ذاته عين حظه، وهذا هو الحب الحقيقي البالغ الذي يوثق به، وذلك كحب الجمال والحسن، فان كل جمال محبوب عند مدركه، وذلك لعين الجمال، لأن ادراك الجمال عين اللذة، واللذة محبوبة لذاتها لا لغيرها. ولا تظنن أن حب الصورة الجميلة لا يتصور إلا لأجل قضاء الشهوة، فان قضاء الشهوة لذة حيوانية قد يحب الإنسان الصور الجميلة لأجلها. وادراك نفس الجمال لذة اخرى روحانية يكون محبوباً لذاتها. ولا ريب في أن حب الصور الجميلة بالجهة الأولى مذموم، وبالجهة الثانية ممدوح، والعشق الذي يقع لبعض الناس من استحسان الصور الجميلة يكون مذموماً إن كان سببه اللذة الشهوية الحيوانية، ويكون ممدوحاً إن كان سببه الابتهاج بمجرد ادراك الجمال، ولأجل التباس السبب في هذا العشق اختلف العقلاء في مدحه وذمه. وكيف ينكر حب الصور الجميلة لنفس جمالها من دون قصد حظ آخر، مع أن الخضرة والماء الجاري محبوبان لا لتؤكل الخضرة ويشرب الماء، أو ينال منهما حظ سوى نفس الرؤية، وقد كان رسول الله (ص) تعجبه الخضرة والماء الجاري. والطباع الصافية السليمة قاضية باستلذاذ النظر إلى الأنوار والازهار والأطيار المليحة الألوان الحسنة النفس المناسبة الشكل، حتى الإنسان لتنفرج عنه الغموم بمجرد النظر إليها من دون قصد حظ آخر منها. وبما ذكرناه ظهر ضعف ظن بعض ضعفاء العقول، حيث زعموا أنه لا يتصور أن يحب الإنسان غيره لذاته، ما لم يرجع منه حظ إلى المحب سوى ادراك ذاته، ولم يعلموا أن الحسن والجمال ليس مقصوراً على مدركات البصر، ولا على تناسب الخلقة ، إذ يقال: هذا صوت حسن، وهذا طعم حسن، وهذا ريح طيب، وليس شيء من هذه الصفات مدركة بالبصر، وكذا ليس الحسن والجمال مقصوراً على مدركات الحواس، لوجودهما في غيرها، فان اكثر خصال الخير يدرك بالعقل بنور البصيرة الباطنة، إذا يقال: هذا خلق حسن، وهذا علم حسن، وهذه سيرة حسنة، ولا يدرك شيء من هذه الصفات بالحواس، بل يدرك بالبصيرة الباطنة، وكل هذه الخصال المدركة حسنها بالعقل محبوبة بالطبع، والموصوف بها أيضاً محبوب عند من عرف صفاته.

ومما يدل على تحقق الجمال المدرك بالعقل وكونه محبوباً: أن الطباع السليمة مجبولة على حب الأنبياء والأئمة (ع) مع أنهم لم يشاهدوهم، حتى أن الرجل قد تجاوز حبه لصاحب مذهبه حد العشق، فيحمله ذلك على أن ينفق جميع امواله في نصرة مذهبه والذب عنه، ويخاطر بروحه في قتال من يطعن في إمامه أو متبوعة، مع أنه لم يشاهد قط صورته ولم يسمع كلامه، فما حمله على الحب هو استحسانه بصفاته الباطنة: من الوع، والتقوى، والتوكل، والرضا، وغزارة العلم، والاحاطة لمدارك الدين، وانتهاضه لافاضة علم الشرع، ونشره هذه الخيرات في العالم، وجملتها ترجع إلى العلم والقدرة، إذ جميع الفضائل لا تخرج عن معرفة حقائق الأمور والقدرة على حمل نفسه عليها بقهر الشهوات، وهما ـ اعني العلم والقدرة ـ غير مدركين بالحواس، مع أنهما محبوبان بالطبع. ومن الشواهد على المطلوب: أن الناس لما وصفوا (حاتما) بالسخاء و (انو شيروان) بالعدالة، أحبهما القلوب حباً ضرورياً، من دون نظرهم إلى صورهما المحسوسة، ومن غير حظ ينالونه منهما، بل كل من حكى عنه بعض خصال الخير وصفات الكمال غلب على القلوب حبه، مع عدم مشاهدته ويأس المحبين من انتشار خيره واحسانه إليهم، ومن كانت بصيرته الباطنة أقوى من حواسه الظاهرة، ونور العقل اغلب عليه من آثار الحواس الحيوانية، كان حبه للمعاني الباطنة اكثر من حبه المعاني الظاهرة، فشتان بين من يحب نقشاً على الحائط لجمال صورته الظاهرة، وبين من يحب سيد الرسل (ص) لجمال صورته الباطنة.

الخامس ـ محبته لمن بينه وبينه مناسبة خفية، أو مجانسة معنوية، فرب شخصين تتأكد المحبة بينهما عن غير ملاحظة جمال، ولا طمع في جاه ومال، بل بمجرد تناسب الأرواح، كما قال النبي (ص): " الارواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف ".

السادس ـ محبته لمن حصل بينه وبينه الألف والاجتماع في بعض المواضع، لاسيما إذا كان من المواضع الغريبة، كالسفن والاسفار البعيدة. والسبب فيه: كون افراد الإنسان مجبولة على المؤانسة مع التلاقي والاجتماع، ولكون المؤانسة مركوزة في طبيعة الإنسان سمي إنساناً، فهو مشتق من الانس دون النسيان ـ كما ظن ـ، والمؤانسة لا تنفك عن المحبة، وربما كان حصول المؤانسة والحب بين أهل البلد، أو بينهم وبين أهل القرى، أو بين أهل البلاد المتباعدة والمواضع المختلفة، من جملة أسرار الأمر بالجمعة والجماعة وصلاة العيدين، والحج الباعث لاجتماع عموم الخلائق في موقف واحد.

السابع ـ محبته لمن يشاركه في وصف ظاهر، كميل الصبي إلى الصبي لصباه، والشيخ إلى الشيخ لشيخوخته، والتاجر إلى التاجر لتجارته، وهكذا... فان كل شخص مائل إلى من يشاركه في وصفه وصنعته وشغله وحرفته، والسبب الجامع فيه هو الاشتراك في والوصف والصنعة.

الثامن ـ حب كل سبب وعلة لمسببه ومعلولة وبالعكس، فان المعلول لما كان مثالا من العلة، ومترشحاً عنها ومنبجسا منها، ومناسباً لها لكونه من سنخها، فالعلة تحبه لأنه فرعها وبمنزلة بعض اجزائها التي كانت منطوية فيها، والمعلول يحبها لأنها اصله وبمنزلة كله الذي كان محتويا عليه فكان كلا منهما في حبه للآخر يحب نفسه.

ثم السبب ان كان علة حقيقية موجدة، تكون سببية أقوى في حصول المحبة والاتحاد مما إذا كان علة معدة. فأقوى أقسام المحبة ما يكون للواجب ـ سبحانه ـ بالنسبة إلى عباده، وبعد ذلك لا محبة أقوى من محبة العباد العارفين بالنسبة إليه ـ سبحانه ـ، فان محبتهم له من حيث كونه موجدا مخرجا لهم من العدم الصرف إلى الوجود، ومعطياً لهم ما احتاجوا إليه في النشأتين، ومن حيث انه ـ تعالى ـ تام فوق التمام في الذات والصفات الكمالية، والنفس بذاتها مشتاقة إلى الكمال المطلق، وهذه المحبة فرع المحبة ولا تحصل بدونها، ولذا قال سيد الرسل (ص): " ما اتخذ الله ولياً جاهلا قط ". وحب الأب لابنه وبالعكس نسبة هذا القسم، من حيث إن الأب سبب ظاهر لوجود الابن، وإن لم يكن سبباً حقيقياً، بل علة معدة له، فيحبه لأنه يراه بمنزلة نفسه في ويظنه مثالا من ذاته، ونسخة نقلتها الطبيعة من صورته، ويعد وجوده بمنزلة البقاء الثاني لنفسه، فيظنه أنه جزؤه وفي الخلق والخلق مثله، وكذا كل ما يريد لنفسه من الكمالات يريد أفضله له، ويفرح بترجيحه عليه، وتفضيله عليه عنده بمثابة أن يقال: انه في الآن أفضل من السابق، ومما يؤكد محبته له: أنه يرجو منه انجاح مقاصده ومطالبه في حياته ومماته، وليست محبة الابن للأب كمحبة الأب للابن، بل هو أضعف، لفقد بعض الأسباب الباعثة له، ولذا أمر الأولاد في الشريعة بحب الآباء دون العكس، وكذا المحبة التي بين المعلم والمتعلم من هذا القسم، لأن المعلم كالسبب القريب للحياة الروحاني للمتعلم وافاضة الصورة الإنسانية عليه، كما أن الأب كالسبب لحياته الجسمانية ورتبته الصورية، فهو والد روحاني له، وبقدر شرافة الروح على الجسم يكون المعلم أشرف من الأب، وعلى هذا ينبغي أن تكون محبة المعلم أدون من محبة الموجد الحقيقي وأكثر من محبة الأب، وقد ورد في الحديث: " ان آباءك ثلاثة: من ولدك، ومن علمك، ومن زوجك، وخير الاباء من علمك ". وسئل من ذي القرنين: ان أباك احب إليك ام معلمك؟ قال: " معلمي احب الي، لأنه سبب لحياتي الباقية، وابي سبب لحياتي الفانية ". وقال أمير المؤمنين (ع): " من علمني حرفاً فقد صيرني عبداً ". وعلى هذا ينبغي ان يكون حب النبي (ص) واوصيائه الراشدين (ع) اوكد من جميع أقسام الحب بعد محبة الله ـ سبحانه ـ، لأنه المعلم الحقيقي والمكمل الأول، ولذا قال (ص): " لا يؤمن احدكم حتى اكون احب إليه من نفسه واهله وولده ".

التاسع ـ محبة المتشاركين في سبب واحد بعضهم لبعض، كمحبة الاخوان والأقارب. وكلما كان السبب اقرب كانت المحبة اوكد، ولذا تكون محبة الاخوين اشد من محبة أبناء الاعمام مثلا، ومن عرف الله وانتساب الكل إليه، وبلغ مقام التوحيد، وعرف النسبة والربط الخاص الذي بين الله وبين مخلوقاته، ويحب جميع الموجودات من حيث اشتراكه معها في الموجد الحقيقي. ثم قد يجتمع بعض أسباب المحبة اكثرها في شخص واحد، فيتضاعف الحب، كما لو كان لرجل ولد جميل الصورة، حسن الخلق، كامل العلم، حسن التدبير، محسن إلى والده وإلى الخلق، كان حب والده له في غاية الشدة، لاجتماع اكثر أسباب الحب فيه، وربما احب شخصا آخر لوجود بعض أسباب الحب فيه من دون عكس، لعدم تحقق سبب من أسباب الحب فيه، وقد تختلف فيهما أسباب الحب، فيحب كل منهما الآخر من جهة، وتكون قوة الحب بقدر قوة السبب، فكلما كان السبب اكثر واقوى كان الحب اشد واوكد.

فصل

(لا محبوب حقيقة إلا الله)

اعلم انه لا مستحق للحب غير الله ـ سبحانه ـ، ولا محبوب بالحقيقة عند ذوي البصائر إلا هو، ولو كان غيره ـ تعالى ـ قابلا للحب وموضعا له فانما هو من حيث نسبته إليه ـ تعالى ـ، فمن احب غيره ـ تعالى ـ لا من حيث نسبته إليه، فذلك لجهله وقصوره في معرفة الله، وكيف يكون غيره ـ سبحانه ـ من حيث هو، لا من جهة انتسابه إليه، مستحقا للحب، وهو في نفسه مع قطع النظر عنه ـ تعالى ـ وعن انتسابه إليه ليس إلا العدم، والعدم كيف يصلح للحب، فينبغي ان يكون حبه لعموم الخلق بعموم النسبة، أي من حيث انها منه ـ تعالى ـ، وآثاره، ومعلولاته، واضوائه واظلاله، ولخصوص بعض الخواص الذين لهم خصوصية نسبة إليه ـ تعالى ـ، كالحب، والإنس، والمعرفة، والاطاعة لخصوص النسبة أيضا.

ومما يوضح المطلوب: ان جميع أسباب الحب مجتمعة في حق الله ـ تعالى ـ، ولا توجد في غيره حقيقة، ووجودها في حق غيره وهم تخيل ومجاز محض لا حقيقة له.

اما السبب الأول ـ اعني محبة النفس: فمعلوم ان وجود كل أحد فرع لوجود ربه وظل له، ولا وجود له من ذاته، بل هو من حيث ذاته ليس محض وعدم صرف، فوجوده ودوام وجوده وكمال وجوده من الله وبالله وإلى الله، فهو الموجد المخترع له، وهو المبقي له، وهو المكمل لوجوده بايجاد صفات الكمال فيه، فهو صرف العدم لولا فضل الله عليه بالايجاد، وهالك بعد وجوده لولا فضله عليه بالابقاء، وناقص بعد بقائه لولا فضله عليه بالتكميل، فليس في الوجود شيء له قوام بنفسه إلا القيوم المطلق الذي هو قائم بذاته ومقوم لغيره. وحينئذ، فمحبة كل شيء لنفسه ترجع إلى محبة ربه، وان لم يشعر المحب به، وكيف يتصور ان يحب الإنسان نفسه ولا يحب ربه الذي به قوام نفسه؟ مع ان من احب الظل احب بالضرورة الاشجار التي بها قوام الظل، ومن احب النور احب لا محالة الشمس التي بها قوام النور، وكل ما في الوجود بالاضافة إلى قدرة الله ـ تعالى ـ كالظل بالاضافة إلى الشجر والنور بالاضافة إلى الشمس، إذا الكل من آثار قدرته، ووجوده تابع لوجوده، كما ان وجود الظل تابع لوجود الشخص، ووجود النور تابع لوجود الشمس، بل هذا المثال انما هو للتفهم، والاضافة إلى اوهام العوام، حيث يتوهمون ان الظل والنور تابعان للشخص والشمس وفايضان عنهما، وعند التحقيق ليس الظل والنور أثرين للشخص والشمس وموجودين بهما، بل هما فايضان من الله ـ تعالى ـ، موجودان به بعد حصول الشرائط، كما ان اصل الشخص والشمس وشكلهما وصورتهما وسائر صفاتهما منه ـ تعالى ـ.

اما السبب الثاني، والثالث ـ اعني الالتذاذ والإحسان، سواء كان متعدياً إلى المحب ام لا: فمعلوم انه لا لذة ولا احسان إلا من الله ـ تعالى ـ، ولا محسن سوى الله، فانه خالق الاحسان وذويه، وفاعل اسبابه ودواعيه، وكل محسن فهو حسنة من حسنات قدرته وحسن فعاله، وقطرة من بحار كماله وافضاله.

واما الرابع ـ اعني الحسن والجمال والكمال: فلا ريب في انه ـ تعالى ـ هو الجميل بذاته والكامل بذاته، وهو الجمال الخالص، والكمال المطلق، وحقيقتهما منحصرة به ـ تعالى ـ، وما يوجد في غيره ـ تعالى ـ من الجمال والكمال لا يخلو عن شوائب الخلل والنقصان، إذ النقص شامل لجميع الممكنات وانما تتفاوت في درجات النقص. وقد عرفت ان الجمال المعنوي اقوى من الجمال الصوري، ومن كان من أهل البصيرة وكمال يكون حبه للجمال الباطن المعنوي اكثر واقوى من حبه للجمال الصوري، وحقيقة الجمال المعنوي الذي هو وجوب الوجود، وكمال العلم والقدرة، والاستيلاء على الكل، واستناد الجميع إليه، منحصر بالله ـ تعالى ـ، فإذا كان الجمال المشوب بالنقص محبوباً، فكيف لا يكون الجمال الخالص البحت الذي لا يتصور جمال فوقه محبوبا، بل المحبوب حقيقة ليس إلا هو.

صاف اگر باشد ندانم چون كند[4]

 

بادهء خاك آلودتان مجنون كند

على ان كل جميل بالجمال الظاهر الصوري، أو بالجمال الباطن المعنوي، رشحة من رشحات جماله، وكل كامل فكماله فرع كماله، فكل من احب جميلا احب خالقه وما احب احداً غير الله ـ تعالى ـ، لكنه احتجب عنه تحت وجوه الأحباب واستار الأسباب، هذا مع ان عمدة جمال المخلوقين انما هو علمهم بالله وبصفاته وافعاله، وقدرتهم على اصلاح نفوسهم بازالة الرذائل والخبائث الشهوية المانعة عن التقرب إلى الله ـ تعالى ـ، وباتصافهم بمعالي الصفات وشرائفها المقربة إلى الله، وعلى اصلاح عباد الله بالارشاد والسياسة، ومعلوم ان هذه الأمور اضافات إلى الله ـ سبحانه ـ، فحبها يرجع إلى حبه ـ تعالى ـ.

وأما الخامس ـ اعني المناسبة الخفية والمجانسة المعنوية: فلا ريب في ان للنفس الناطقة الإنسانية مناسبة مجهولة خفية مع باريها وموجدها، إذ هي شعلة من شعلات جلاله، وبارقة من بوارق جماله، ولذا قال الله ـ سبحانه ـ:

" قل الروح من أمر ربي "[5]. وقال: " إني جاعل في الأرض خليفة "[6].

إذ لم يستحق آدم خلافة الله لا بتلك المناسبة، وبهذه المناسبة ينقطع العبد إلى ربه، ويعرفه عند ابتلائه بمصيبة وبلية، وهذه المناسبة لا تظهر ظهوراً تاماً إلا بالمواظبة على النوافل بعد أحكام الفرائض، كما قال الله ـ تعالى ـ: " لا يزال العبد يتقرب الي بالنوافل حتى أحبه، فإذا احببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به ". وهذا موضع تزل فيه الاقدام، حتى وقع قوم في التشبيه الظاهر، وآخرون في الحلول والاتحاد، وأهل الحق الذين انكشفت لهم استحالة التشبيه والاتحاد، وفساد طرفي التفريط والافراط، واتضحت لهم حقيقة الشر، وعرفوا تلك المناسبة واستقاموا عليها: هم الاقلون. ثم من المناسبة الظاهرة التي بين العبد وبين ربه هو قرب العبد من الله في الصفات الربوبية والأخلاق الإلهية: كالعلم، والبر، والإحسان، واللطف، وافاضة الخير والرحمة على الخلق، وارشادهم إلى الحق... إلى غير ذلك من الصفات الإلهية، ولذا قيل: تخلقوا باخلاق الله. ولا ريب في ان ذلك يقرب العبد إلى الله، ويصيره مناسباً له. واما العلية والمعلولية فالأمر فيه ظاهر، وباقي الأسباب أسباب ضعيفة نادرة، اعتبارها في حق الله نقص.

وقد ظهر مما ذكر! أن أسباب الحب بجملتها متظاهرة في حق الله ـ تعالى ـ تحقيقاً لا مجازاً، وفي اعلى الدرجات لا ادناها. ثم كل من يحب احداً من الخلق بسبب من هذه الأسباب يتصور ان يحب غيره لمشاركته اياه في السبب. والشركة نقصان في الحب، لا يتصف أحد بوصف محبوب إلا ويوجد شريك له فيه، والله ـ سبحانه ـ هو الذي لا يشاركه غيره في اوصاف الكمال والجمال، لا وجوداً ولا امكاناً، فلا جرم لا يكون في حبه شركة، فلا يتطرق إليه نقصان، كمالا تتطرق الشركة والنقصان إلى اوصاف كماله، فهو المستحق لاصل المحبة وكمالها، ولا متعلق للمحبة إلا هو، إلا انه لا يعرف ذلك إلا العارفون من اوليائه واحبائه، كما قال سيد الشهداء (ع) في دعاء عرفة بقوله: " وانت الذي ازلت الاغيار عن قلوب احبائك، حتى لم يحبوا سواك، ولم يلجأوا إلى غيرك ".

تكميل

(الشهود التام هو نهاية درجات العشق)

قد صرح اساطين الحكمة: " ان الأشياء المختلفة لا يمكن ان يحصل بينها تشاكل وتآلف تام حتى يحصل بينهما الاتحاد والمحبة، واما الأشياء المتماثلة المتشاكلة فيشتاق بعضها إلى بعض ويسر بعضها ببعض، ويحصل بينهما التآلف والحب والوحدة والاتحاد ".

والتوضيح: ان الجواهر البسيطة لتشاكلها وتماثلها يحن بعضها إلى بعض فيحصل بينها التآلف التام، والتوحد الحقيقي في الذوات والحقائق، بحيث يرتفع عنها التغاير والاختلاف، إذ التغاير من لوازم المادية. وما الماديات فلا يمكن ان يحصل بينهما هذا التآلف والتوحد، ولو حصل بينها تآلف وشوق، فانما هو بتلاقي السطوح والنهايات دون الحقائق والذوات، وليس يمكن ان يبلغ مثل هذه الملاقاة إلى درجة الاتحاد والاتصال فيحصل بينها الانفصال. فالجوهر البسيط المودع في الإنسان ـ اعني النفس الناطقة ـ إذا صفى عن الكدورات الطبيعة، وتطهر عن الاخباث الجسمانية، وتخلى عن حب الشهوات والعلائق الدنيوية، انجذب بحكم المناسبة إلى عالم القدس، وحدث فيه شوق تام إلى اشباهه من الجواهر المجردة، ويرتفع منها إلى ما هو فوق الكل ومنبع جميع الخيرات، فيستغرق في مشاهدة الجمال الحقيقي، ومطالعة جمال الخير المحض، وينمحي في انوار تجلياته القاهرة، ويصل إلى مقام التوحيد الذي هو نهاية المقامات، فيفيض عليه من انواره ما لا عين رأت، ولا اذن سمعت، ولا خطر على خاطر، فيحصل له من البهجة واللذة ما يضمحل عنده كل بهجة ولذة، والنفس التي بلغت هذا المقام لا يتفاوت حالها كثيراً في حالتي التعليق بالبدن والتجرد عنه، إذا استعمال القوى البدنية لا يصدها عن ملاحظة الجمال المطلق، وما يحصل لغيرها من السعادة في الآخرة يحصل لها في هذه النشأة:

امـروز در آن كوش كه بينا بـاشى

حيـران جمـال آن دلا را بـاشى

شرمت بادا چون كودكان در شب عيد

تـا چنـد در انتظار فـردا بـاشي؟[7]

نعم، الشهود التام، والابتهاج الصافي عن الشوب، يتوقف على تجردها الكلي عن البدن، فانها وإن لاحظت بنور البصيرة في هذه النشأة جمال الوحدة الصرفة، إلا أن ملاحظتها لا تخلو عن شوائب الكدرة الناشية من الطبيعة، فالصفاء التام يتوقف على التجرد الكلي، ولذا تشتاق أبداً إلى رفع هذا الحجاب، ويقول:

حجـاب چهـره جـان ميشـود غبـار تنـم

خوشـا دمـي كه از أين چهـره پرده بر فكنم

چنين قفس نه سراي چون من خوش الحاني است

روم بروضـه رضوان كـه مـرغ آن چمنـم[8]

وهذه المحبة نهاية درجات العشق، وغاية الكمال المتصورة لنوع الإنسان، وذروة مقامات الواصلين، وغاية مراتب الكاملين، فما بعدها مقام إلا وهو ثمرة من ثمراتها، كالانس والرضا والتوحيد، ولا قبلها مقام إلا وهو مقدمة من مقدماتها، كالصبر والزهد وسائر المقامات. وهذا العشق هو الذي افرط العرفاء وارباب الذوق في مدحه، وبالغوا في الثناء عليه نثراً ونظماً. وصرحوا بأنه غاية الاتحاد والكمال المطلق، ولا كمال إلا هو، ولا سعادة إلا به، كما قيل:

  وقيل:

عشقت بوصل دوست وساند بضرب دست[9]

عشق است هر چه هست بگفتيم وگفته اند

دين ودانش عرض كردم كس بچيزي بر نداشت[10]

جز محبت هر چه بردم سود در محشر نداشت


[1]  كما قال أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام: " من عرف نفسه فقد عرف ربه ".

[2] الاحزاب، الآية: 62. الفتح، الآية: 23.

[3]  كما قال أمير المؤمنين ـ عليه الصلاة والسلام ـ في جملة ما أوصى به ولده الإمام المجتبى ـ عليهما الصلاة والسلام ـ: " واكرم عشيرتك، فانهم جناحك الذي به تطير، واصلك الذي إليه تصير، ويدك التي بها تصول " نهج البلاغة: 3/63، مطبعة الاستقامة، القاهرة.

[4]  ان خمركم الملوث بالغبار يجنني!! فلست ادري ما هو مفعوله ان كان صافياً؟!!

[5]  بني إسرائيل، الآية: 85.

[6]  البقرة، الآية: 30.

[7]  جاهد اليوم لكي تمسي بصير        ولكـي يسحرك الحسن المثير

  افـلا تخجل والعمـر قصير         في مساء العيد كالطفل الغرير

                       ترقب الصبح بقلب مستطير؟!

[8]  درن الأبدان قد مد على القلب الغطاءا    ما احيلى ساعة انفض عن روحي الغشاءا

   لم يكن مألف مثلى قفص.. فلأنتفض     عنـه للرضوان إذ كـنت له اشدو غناءا

[9]  كل ما في الحياة عشق، وقد قالوا          وقلنا: بالسعي وصل الحبيب!

[10]  لم يفدني في الحشر إلا الغرام!         فعلى العلم والرشاد السلام!

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست