.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

ما ينبغي في الحاج

الميقات

ما ينبغي في الميقات

ما ينبغي عند دخول مكة

ما ينبغي عند الطواف

ما ينبغي عند استلام الحجر

السعي

ما ينبغي عند الوقوف بعرفات

المشعر

ما ينبغي عند الرمي والذبح

ما ينبغي للزائر عند دخول المدينة المنورة

ما ينبغي للزائر عند دخول النجف وكربلاء

 

 

فصل

(ما ينبغي في الحاج)

ينبغي للحاج، عند توجهه إلى الحج، مراعات أمور:

الأول ـ أن يجرد نيته لله، بحيث لا يشوبها شيء من الاغراض الدنيوية، ولا يكون باعثة على التوجه إلى الحج الا امتثال أمر الله، ونيل ثوابه، والاستخلاص من عذابه، فليحذر كل الحذر ان يكون له باعث آخر، مكنون في بعض زوايا قلبه، كالرياء والحذر عن ذم الناس وتفسيقهم لو لا يحج، أو الخوف من الفقر وتلف امواله لو ترك الحج، لما اشتهر من ان (تارك الحج يبتلى بالفقر والادبار)، أو قصد التجارة أو شغل آخر، فان كل ذلك يخرج العمل من الاخلاص، ويحجبه عن الفائدة وترتب الثواب الموعود، وما اجهل من تحمل الأعمال الشاقة التي يمكن ان تحصل بها سعادة الابد، لاجل خيالات فاسدة لا يترتب عليها سوى الخسران فائدة، فيجتهد كل الجهد ان يجعل عزمه خالصا لوجه الله، بعيداً عن شوائب الرياء والسمعة، ويتيقن انه لا يقبل من قصده وعمله إلا الخالص، وان من أفحش الفواحش أن يقصد بيت الملك وحرمه والمقصود غير، فليصحح في نفسه العزم، وتصحيحه باخلاصه باجتناب كل ما فيه رياء وسمعة.

الثاني ـ ان يتوب إلى الله تعالى توبة خالصة، ويرد المظالم، ويقطع علاقة قلبه عن الالتفات إلى ما وراءه، ليكون متوجها إلى الله بوجه قلبه، ويقدر انه لا يعود، وليكتب وصيته لاهله واولاده، ويتهيأ لسفر الآخرة، فان ذلك بين يديه على قرب، وما تقدمه من هذا السفر تهيئة لاسباب ذلك السفر، فهو المستقر واليه المصير. فلا ينبغي ان يغفل عن ذلك عند الاستعداد لهذا، فليتذكر عند قطعه العلائق لسفر الحج قطع العلائق لسفر الآخرة.

الثالث ـ ان يعظم في نفسه قدر البيت وقدر رب البيت، ويعلم انه ترك الاهل والاوطان، وفارق الاحبة والبلدان، للعزم على أمر رفيع شأنه، خطير أمره: اعني زيارة بيت الله الذي جعل مثابة للناس، فسفر هذا لا يضاهي اسفار الدنيا. فليحضر في قلبه ماذا يريد، واين يتوجه، وزيارة من يقصد، وانه متوجه إلى زيارة ملك الملوك في زمرة الزائرين إليه، الذين نودوا فأجابوا، وشوقوا فاشتاقوا، ودعوا فقطعوا العلائق، وفارقوا الخلائق واقبلوا على بيت الله الرفيع قدره والعظيم شانه، تسليا بلقاء البيت عن لقاء صاحبه، إلى ان يرزقوا منتهى مناهم، ويسعدوا بالنظر إلى مولاهم، فليحضر في قلبه عظم السفر، وعظمة البيت، وجلالة رب البيت، ويخرج معظما لهما، ناوياً ان لم يصل وادركته المنية في الطريق لقي الله وافداً إليه بمقتضى وعده.

الرابع ـ ان يخلى نفسه عن كل ما يشغل القلب، ويفرق الهم في الطريق، أو المقصود، من معاملة أو مثلها، حتى يكون الهم مجردا لله، والقلب مطمئنا منصرفا إلى ذكر الله وتعظيم شعائره، متذكراً عند كل حركة وسكون امراً اخرويا يناسبه.

الخامس ـ ان يكون زاده حلالا، ويوسع فيه ويطيبه، ولا يغتم ببذله وانفاقه، بل كان طيب النفس به، إذ انفاق المال في طريق الحج نفقة في سبيل الله، والدرهم منه بسبعمائة درهم، قال رسول الله (ص): " من شرف الرجل ان يطيب زاده إذا خرج في سفر ". وكان السجاد (ع) إذا سافر إلى الحج،، يتزود من اطيب الزاد، من اللوز والسكر والسويق المحمض والمحلى. وقال الصادق (ع): " إذا سافرتم، فاتخذوا سفرة وتنوقوا فيها ". وفي رواية: " انه يكره ذلك في زيارة الحسين (ع) ". نعم ينبغي ان يكون الأنفاق على الاقتصاد من دون تقتير ولا إسراف، والمراد بالاسراف التنعم بأطائب الاطعمة، والترفه بصرف انواعها على ما هو عادة المترفين، واما كثرة البذل على المستحقين، فلا إسراف فيه، إذ لا خير في السرف، ولا سرف في الخير. وينبغي ـ أيضاً ـ ان يكون له طيب النفس فيما اصابه من خسران ومصيبة في مال وبدن، لان ذلك من دلائل قبول حجه، فان ذهاب المال في طريق الحج يعد الدرهم منه سبعمائة في سبيل الله، فالمصيبة في طريق الحج بمثابة الشدائد في طريق الجهاد، فله بكل اذى احتمله وخسران أصابه ثواب، فلا يضيع منه شيء عند الله.

السادس ـ أن يحسن خلقه، ويطيب كلامه، ويكثر تواضعه، ويجتنب سوء الخلق والغلظة في الكلام، والرفث والفسوق والجدال، والرفث اسم جامع لكل فحش ولغو وخنى، والفسوق اسم جامع لكل خروج عن طاعة الله، والجدال هو المبالغة في الخصومة والمماراة بما يورث الضغائن ويفرق الهم ويناقض حسن الخلق. قال رسول الله (ص): " الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة "، فقيل: يا رسول الله، ما بر الحج؟ قال: " طيب الكلام واطعام الطعام ". فلا ينبغي ان يكون كثير الاعتراض على رفيقه وجماله، وعلى غيرهما من اصحابه، بل يلين جانبه، ويخفض جناحه للسائرين إلى بيت الله، ويلزم حسن الخلق، وليس حسن الخلق مجرد كف الأذى، بل احتمال الأذى، وقيل: سمى السفر سفراً، لانه يسفر عن أخلاق الرجال.

السابع ـ ان يكون اشعث أغبر، غير متزين ولا مائل إلى أسباب التفاخر والتكاثر، فيكتب في المتكبرين ويخرج عن حزب الضعفاء والمساكين، ويمشي ان قدر، خصوصاً بين المشاعر. وفي الخبر: " ما عبد الله بشيء افضل من المشي ". وينبغي إلا يكون الباعث للمشي تقليل النفقة، بل التعب والرياضة في سبيل الله، ولو كان القصد تقليل النفقة مع اليسار فالركوب افضل. وكذا الركوب افضل لمن ضعف بالمشي، وساء خلقه، وقصر في العمل، ففي الخبر: " تركبون احب الي، فان ذلك اقوى على الدعاء والعبادة ". وكان الحسن بن علي ـ عليهما السلام ـ يمشي وتساق معه المحامل والرحال. وإذا حضرت الراحلة ليركبها، فليشكر الله تعالى بقلبه على تسخيره له الدواب، لتتحمل عنه الأذى، وتخفف عنه المشقة. وينبغي ان يرفق بها، فلا يحملها ما لا تطيق.

فصل

(الميقات)

إذا خرج عن وطنه، ودخل إلى البادية، متوجها إلى الميقات، وشاهد العقبات، فليتذكر فيها ما بين الخروج من الدنيا بالموت إلى ميقات يوم القيامة، وما بينهما من الاهوال والمطالبات، وليتذكر من هول قطاع الطريق هول منكر ونكير، ومن سباع البوادي وحياتها وعقاربها حيات القبر وافاعيها وعقاربها وديدانها، ومن افراده عن اهله واقاربه وحشة القبر ووحدته وكربته، وليكن في هذه المخاوف في أعماله واقواله متزوداً لمخاوف القبر.

فصل

(ما ينبغي في الميقات)

إذا دخل الميقات، ولبس ثوبي الاحرام، فليتذكر عند لبسهما لبس الكفن ولفه فيه، وانه سيلقى الله ملفوفا في ثياب الكفن لا محالة، فكما لا يلقى بيت الله إلا بهيئة وزي يخالف عادته، فكذلك لا يلقى الله بعد الموت إلا في زي يخالف زي الدنيا، وهذا الثوب قريب من ذلك الثوب. إذ ليس مخيطاً، كما ان الكفن أيضاً ليس مخيطا، وإذا احرم وتلبي فليعلم ان الاحرام والتلبية اجابة نداء الله، فليرج ان يكون مقبولا، وليخش ان يكون مردوداً، فيقال: لا لبيك ولا سعديك! فليكن بين الخوف والرجاء متردداً، وعن حوله وقوته متبراً، وعلى فضل الله وكرمه متكلا. فان وقت التلبية هو بداية الأمر، وهو محل الخطر. وقد روي: " ان علي بن الحسين ـ عليهما السلام ـ لما أحرم، واستوت به راحلته، اصفر لونه وانتفض، ووقعت عليه الرعدة، ولم يستطع ان يلبي. فقيل له: لم لا تلبي؟ فقال: اخشى ان يقول ربي. لا لبيك ولا سعديك! فلما لبى غشي عليه وسقط من راحلته. فلم يزل يعتريه ذلك حتى قضى حجه ". فليتذكر الملبي عند رفع الاصوات في الميقات خائفا راجيا، انه اجابة لنداء الله تعالى، إذ قال تعالى:

" وأذِّن في النّاس بالحج يأتوك رجالاً "[1].

ويتذكر من هذا النداء الخلق بنفخ الصور، وحشرهم من القبور، وازدحامهم في عرصات القيامة لنداء الله، منقسمين إلى مقربين ومبعدين، ومقبولين ومردودين، ومردودين في أول الأمر بين الخوف والرجاء، مثل تردد الحاج في الميقات، حيث لا يدرون ايتيسر لهم اتمام الحج وقبوله ام لا.

فصل

(ما ينبغي عند دخول مكة)

ينبغي ان يتذكر عند دخول مكة: انه قد انتهى إلى حرم من دخله كان آمنا، ويرج عنده ان يأمن بدخوله من عقاب الله، وليضطرب قلبه من ألا يكون اهلا للقرب والقبول، فيكون بدخول الحرم خائبا مستحقا للمقت، وليكن رجاؤه في جميع الأوقات غالبا، إذ شرف البيت عظيم، ورب البيت كريم، والرحمة واسعة، والفيوضات نازلة، وحق الزائر منظور، واللائذ المستجير غير مردود. وإذا وقع البصر على البيت، فليحضر في قلبه عظمته، ويقدر كأنه مشاهد لرب البيت لشدة تعظيمه، وليرج ان يرزقه لقاءه كما رزقه لقاء بيته، وليشكر الله على تبليغه اياه إلى بيته، والحاقه اياه بزمرة الوافدين إليه، ويتذكر عند ذلك ايصاب الخلائق إلى جهة الجنة آملين لدخولها كافة، ثم انقسامهم إلى مأذونين في الدخول ومصروفين عنها، إنقسام الحاج إلى مقبولين ومردودين.

فصل

(ما ينبغي عند الطواف)

وينبغي عند الطواف ان يمتلئ قلبه من التعظيم والمحبة والخوف والرجاء، ويعلم انه في الطواف متشبه بالملائكة المقربين الطائفين حول العرش، وليعلم ان المقصود طواف قلبه بذكر رب البيت، دون مجرد طواف جسمه بالبيت، فليبتديء الذكر به ويختم به، كما يبتدأ الطواف من البيت ويختم بالبيت، فروح الطواف وحقيقتة هو طواف القلب بحضرة الربوبية والبيت مثال ظاهر في عالم الشهادة لتلك الحضرة التي لا تشاهد بالبصر، وهو عالم الغيب وعالم الملك والشهادة، مدرجة إلى عالم الغيب والملكوت لمن فتح له الباب. وما ورد من ان البيت المعمور في السماوات بازاء الكعبة، وان طواف الملائكة بها كطواف الانس بهذا البيت، ربما كان اشارة إلى ما ذكرناه من المماثلة، ولما قصرت رتبة الاكثرين عن مثل ذلك الطواف، أمروا بالتشبه بهم بقدر الامكان، ووعدوا بأن من تشبه بقوم فهو منهم.

فصل

(ما ينبغي عند إستلام الحجر)

ينبغي أن يتذكر عند استلام الحجر الأسود، أنه بمنزلة يمين الله في أرضه، وفيه مواثيق العباد. قال رسول الله (ص): " استلموا الركن، فانه يمين الله في خلقه، يصافح بها خلقه مصافحة العبد أو الدخيل، ويشهد لمن استلمه بالموافاة "، ومراده (ص) بالركن: الحجر الأسود، لأنه موضوع فيه، وإنما شبه باليمين، لأنه واسطة بين الله وبين عباده في النيل والوصول والتحبب والرضا، كاليمين حين التصافح. وقال الصادق (ع): " إن الله تبارك وتعالى لما أخذ مواثيق العباد، أمر الحجر فالقمها، فلذلك يقال: امانتي اديتها، وميثاقي عاهدته، لتشهد لي بالموافاة ". وقال (ع): " الركن اليماني باب من أبواب الجنة، لم يغلقه الله منذ فتحه ". وقال (ع): " الركن اليماني بابنا الذي يدخل منه الجنة، وفيه نهر من الجنة تلقى فيه أعمال العباد "، قيل: انما شبه بباب الجنة، لأن إستلامه وسيلة إلى وصولها، وبالنهر، لأنه تغسل به الذنوب. ثم لتكن النية في الاستلام والالتصاق بالمستجار، بل الممارسة لكل جزء من البيت، طلب القرب حباً وشوقاً للبيت ولرب البيت، وتمسكا وتبركاً بالممارسة، ورجاء للتحصن عن النار في كل جزء لا في البيت، ولتكن نيته في التعلق بأستار البيت الالحاح في طلب المغفرة وسؤال الامان، كالمقصر المتعلق بثياب من قصر في حقه، المتضرع إليه في عفوه عنه، المظهر له أنه لا ملجأ منه إلا إليه، ولا مفزع إلا عفوه وكرمه، وأنه لا يفارق ذيله حتى يعفو عنه، ويعطيه الامان في المستقبل.

فصل

(السعي)

السعي بين الصفا والمروة في فناء البيت، يضاهي تردد العبد بفناء دار الملك، جائياً وذاهبا مرة بعد اخرى، إظهاراً للخلوص في الخدمة، ورجاء للملاحظة بعين الرحمة، كالذي دخل على الملك وخرج، وهو لا يدري ما الذي يقضي به الملك في حقه من قبول أورد، فلا يزال يتردد على فناء الدار مرة بعد اخرى، يرجو أن يرحمه في الثانية إن لم يرحمه في الأولى، وليتذكر عند تردده التردد بين الكفتين، ناظراً إلى الرجحان والنقصان، مردداً بين العذاب والغفران.

فصل

(ما ينبغي عند الوقوف بعرفات)

وأما الوقوف بعرفات، فليتذكر بما يرى من ازدحام الخلق، وارتفاع الأصوات، واختلاف اللغات، واتباع الفرق أئمتهم في التردد على المشاعر: عرصات يوم القيامة وأهوالها، وانتشار الخلائق فيها حيارى، واجتماع الأمم مع الأنبياء والائمة، واقتفاء كل أمة نبيهم، وطمعهم في شفاعته لهم، وتحيرهم في ذلك الصعيد الواحد بين الرد والقبول. وإذا تذكر ذلك، فليتضرع إلى الله تعالى ويبتهل إليه، ليقبل حجه ويحشره في زمرة الفائزين المرحومين. وينبغي ان يحقق رجاءه، إذ اليوم شريف والموقف عظيم، والنفوس من أقطار الأرض فيه مجتمعة، والقلوب إلى الله سبحانه منقطعة، والهمم على الدعاء والسؤال متظاهرة، وبواطن العباد على التضرع والابتهال متعارفة، وايديهم إلى حضرة الربوبية مرتفعة، وابصارهم إلى باب فيضه شاخصة، واعناقهم إلى عظيم لطفه وبره ممتدة، ولا يمكن ان يخلو الموقف عن الأخيار والصالحين، وارباب القلوب والمتقين، بل الظاهر حضور طبقات الابدال وأوتاد الأرض فيه، فلا تستبعدون ان تصل الرحمة من ذي الجلال بواسطة القلوب العزيزة والنفوس القادسة الشريفة إلى كافة الخليقة، ولا تظنن انه يخيب آمال الجميع، ويضيع سعيهم، ولا يرحم غربتهم وانقطاعهم عن الاهل والاوطان، فان بحر الرحمة اوسع من أن يظن به في مثل هذه الحالة، ولذا ورد: أنه من أعظم الذنوب ان يحضر عرفات ويظن ان الله لم يغفر له.

فصل

(المشعر)

وإذا فاض من عرفات ودخل المشعر، فليتذكر عند دخوله فيه: ان الله سبحانه قد أذن له في دخول حرمه بعد ان كان خارجاً عنه، إذ المشعر من جملة الحرم، وعرفات خارجة عنه، فليتفاءل من دخول الحرم، بعد خروجه عنه، بأن الله سبحانه قربه إليه وكساه خلع القبول، وأجاره وآمنه من العذاب والبعد، وجعله من أهل الجنة والقرب.

فصل

(ما ينبغي عند الرمي والذبح)

وإذا ورد منى، وتوجه إلى رمى الجمار، فليقصد به الانقياد والامتثال، اظهاراً للرق والعبودية، وتشبيهاً بالخليل الجليل (ع)، حيث عرض له إبليس اللعين في هذا الموضع ليفسد حجه، فأمره الله تعالى ان يرميه بالحجارة طرداً له وقطعاً لأصله. وينبغي ان يقصد انه يرمي الحصا إلى وجه الشيطان ويقصم به ظهره، ويرغم به انفه، إذ امتثال أمر الله تعالى تعظيماً له يقصم ظهر اللعين ويرغم انفه. وإذا ذبح الهدي، فليستحضر ان الذبح اشارة إلى انه بسبب الحج قد غلب على الشيطان والنفس الامارة وقتلهما، وبذلك استحق الرحمة والغفران، ولذا ورد: انه يعتق بكل جزء من الهدي جزء من النار. فليجتهد في التوبة والرجوع عما كان عليه قبل ذلك من الأعمال القبيحة، حتى يصير حاله احسن من سابقه، ليصدق عليه إذلاله الشطيان والنفس الامارة في الجملة، ولا يكون في عمله من الكاذبين. ولذلك ورد: ان علامة قبول الحج: أن يصير حاله بعد الحج أحسن مما كان عليه قبله. وفي الخبر: أن علامة قبول الحج ترك ما كان عليه من المعاصى، وأن يستبدل باخوانه البطالين اخوانا صالحين، وبمجالس اللهو والغفلة مجالس الذكر واليقظة.

تتميم

(أسرار الحج)

قد ورد عن مولانا الصادق (ع) خبر يتضمن عمدة أسرار الحج ودقائقه، فلنذكره تيمنا بكلماته الشريفة:

قال (ع): " إذا أردت الحج، فجرد قلبك لله عز وجل، من قبل عزمك، من كل شغل شاغل وحجب كل حاجب، وفوض امورك كلها إلى خالقك، وتوكل عليه في جميع ما يظهر من حركاتك وسكناتك، وسلم لقضائه وحكمه وقدره، وودع الدنيا والراحة والخلق، واخرج من حقوق يلزمك من جهة المخلوقين، ولا تعتمد على زادك وراحلتك واصحابك وقوتك وشبابك ومالك، مخافة ان يصير ذلك عدوا ووبالا، فان من ادعى رضا الله، واعتمد على شيء ما سواه، صيره عليه عدواً ووبالا، ليعلم أنه ليس له قوة ولا حيلة ولا لاحد إلا بعصمة الله تعالى وتوفيقه، واستعد استعداد من لا يرجو الرجوع، واحسن الصحبة، وراع اوقات فرائض الله تعالى وسنن نبيه (ص)، وما يجب عليك من الأدب، والاحتمال، والصبر، والشكر، والشفقة، والسخاوة، وإيثار الزاد على دوام الأوقات، ثم اغسل بماء التوبة الخالصة ذنوبك، والبس كسوة الصدق والصفاء والخضوع والخشوع، واحرم من كل شيء يمنعك عن ذكر الله عز وجل ويحجبك عن طاعته، ولب بمعنى إجابة صافية خالصة زاكية لله عز وجل في دعوتك له، متمسكاً بالعروة الوثقى، وطف بقلبك مع الملائكة حول العرش كطوافك مع المسلمين بنفسك حول البيت. وهرول هرولة فراً من هواك، وتبرأ من جميع حولك وقوتك، واخرج من غفلتك وزلاتك بخروجك إلى منى، ولا تتضمن ما لا يحل لك ولا تستحقه، واعترف بالخطأ بالعرفات، وجدد عهدك عند الله تعالى بوحدانيته، وتقرب إليه، واتقه بمزدلفة، واصعد بروحك إلى الملأ الأعلى بصعودك على الجبل، واذبح حنجرة الهوى والطمع عند الذبيحة، وارم الشهوات والخساسة والدناءة والافعال الذميمة عند رمي الجمرات، وأحلق العيوب الظاهرة والباطنة بحلق شعرك، وادخل في امان الله وكنفه وستره وكلاءته من متابعة مرادك بدخول الحرم، وزر البيت متحققا لتعظيم صاحبه ومعرفته وجلاله، واستلم الحجر رضى بقسمته وخضوعا لعظمته، وودع ما سواه بطواف الوداع، وصف روحك وسرك للقاء الله تعالى يوم تلقاه بوقوفك على الصفا، وكن ذا مرة من الله بفناء أوصافك عند المروة، واستقم على شروط حجتك، ووفاء عهدك الذي عاهدت ربك، واوجبت له إلى يوم القيامة، واعلم بأن الله لم يفترض الحج، ولم يخصه من جميع الطاعات بالاضافة إلى نفسه بقوله تعالى:

" ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً "[2]

ولا شرع نبيه (ص) سنة في خلال المناسك على ترتيب ما شرعه، إلا للاستعداد والاشارة إلى الموت والقبر والبعث والقيامة، وفضل بيان السبق من دخول الجنة أهلها ودخول النار اهلها، بمشاهدة مناسك الحج من أولها إلى أخرها، لاولى الالباب وأولي النهى "[3].

خاتمة

(زيارة المشاهد)

في الإشارة إلى بعض الأمور الباطنة المتعلقة بزيارة المشاهد.

اعلم ان النفوس القوية القدسية، لا سيما نفوس الأنبياء والأئمة (ع)، إذا نفضوا أبدانهم الشريفة، وتجردوا عنها، وصعدوا إلى عالم التجرد، وكانوا في غاية الاحاطة والاستيلاء على هذا العالم، فامور هذا العالم، عندهم ظاهرة منكشفة، ولهم القوة والتمكن على التأثير والتصرف في مواد هذا العالم، فكل من يحضر مقابرهم لزيارتهم يطلعون عليه، لا سيما ومقابرهم مشاهد أرواحهم المقدسة العلية، ومحال حضور أشباحهم البرزخية النورية، فانهم هناك يشهدون،

" بل أحياء عند ربهم يرزقون "[4].

وبما آتاهم الله من فضله فرحون، فلهم تمام العلم والاطلاع بزائري قبورهم، وحاضري مراقدهم، وما يصدر عنهم من السؤال والتوسل والا ستشفاع والتضرع، فتهب عليهم نسمات ألطافهم، وتفيض عليهم من رشحات أنوارهم، ويشفعون إلى الله في قضاء حوائجهم، وانجاح مقاصدهم، وغفران ذنوبهم، وكشف كروبهم. فهذا هو السر في تأكد استحباب زيارة النبي والائمة ـ عليهم السلام ـ، مع ما فيه من صلتهم وبرهم واجابتهم، وإدخال السرور عليهم، وتجدد عهد ولايتهم، واحياء امرهم، وإعلاء كلمتهم، وتنكيت أعدائهم. وكل واحد من هذه الأمور مما لا يخفى عظيم اجره وجزيل ثوابه. وكيف لا تكون زيارتهم أقرب القربات، وأشرف الطاعات، مع ان زيارة المؤمن ـ من جهة كونه مؤمنا فحسب ـ عظيم الأجر جزيل الثواب، وقد ورد به الحث والتوكيد والترغيب الشديد من الشريعة الطاهرة، ولذلك كثر تردد الاحياء إلى قبور أمواتهم للزيارة، وتعارف ذلك بينهم، حتى صارت لهم سنة طبيعية، وايضا قد ثبت وتقرر جلالة قدر المؤمن عند الله، وثواب صلته وبره وادخال السرور عليه. وإذا كان الحال في المؤمن من حيث إنه مؤمن، فما ظنك بمن عصمه الله من الخطأ، وطهره من الرجس، وبعثه الله إلى الخلائق أجمعين، وجعله حجة على العالمين، وارتضاه إماماً للمؤمنين، وقدوة للمسمين، ولأجله خلق السماوات والارضين، وجعله صراطه وسبيله، وعينه ودليله، وبابه الذي يؤتى منه، ونوره الذي يستضاء به، وأمينه على بلاده، وحبله المتصل بينه وبين عباده، من رسل وانبياء وأئمة واولياء.

ثم، الأخبار الواردة في فضيلة زيارة النبي والائمة ـ عليهم السلام ـ مما لا تحصى كثرة. قال رسول الله (ص): " من زار قبري بعد موتي، كان كمن هاجر الي في حياتي، فان لم تستطيعوا فابعثوا الي بالسلام، فانه يبلغني ". وقال (ص) للأمير المؤمنين (ع): " يا أبا الحسن، إن الله تعالى جعل قبرك وقبر ولدك بقاعا من بقاع الجنة، وعرصة من عرصاتها، وإن الله جعل قلوب نجباء من خلقه، وصفوة من عباده، تحن اليكم، وتحتمل المذلة والاذى فيكم، فيعمرون قبوركم، ويكثرون زيارتها، تقربا منهم إلى الله، ومودة منهم لرسوله، أولئك يا علي المخصوصون بشفاعتي، والواردون حوضي، وهم زواري وجيراني غداً في الجنة. يا علي، من عمر قبورهم وتعاهدها فكأنما أعان سليمان بن داود على بناء بيت المقدس، ومن زار قبوركم عدل ذلك سبعين حجة بعد حجة الإسلام، وخرج من ذنوبه حتى يرجع من زيارتكم كيوم ولدته امه. فابشر، وبشر أولياءك ومحبيك من النعيم وقرة العين، بما لا عين رأت، ولا اذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولكن حثالة من الناس يعيرون زوار قبوركم، كما تعير الزانية بزناها، أولئك شرار امتي، لا تنالهم شفاعتي، ولا يردون حوضي "[5]. وقال الصادق (ع): " لو ان احدكم حج دهره، ثم لم يزر الحسين بن علي (ع)، لكان تاركا حقا من حقوق رسول الله (ص)، لان حق الحسين (ع) فريضة من الله واجبة على كل مسلم ". وقال الرضا (ع): " ان لكل إمام عهداً في عنق اوليائه وشيعته، وإن من تمام الوفاء بالعهد وحسن الأداء زيارة قبورهم، فمن زارهم رغبة في زيارتهم، وتصديقا بما رغبوا فيه كان أئمته شفعاءه يوم القيامة ". والأخبار في فضل زيارة النبي والائمة المعصومين، لا سيما زيارة سيد الشهداء وابي الحسن الرضا ـ عليهم افضل التحية والثناء ـ، وفضل زيارتهما على الحج والعمرة والجهاد، اكثر من ان تحصى، وهي مذكورة في كتب المزار لاصحابنا، فلا حاجة إلى ايرادها هنا.

فصل

(ما ينبغي للزائر عند دخول المدنية المنورة)

واذا عرفت فضل زيارتهم وسرها، وعظم قدرهم وجلالة شأنهم، فينبغي أن تكثر التواضع والتخضع والانكسار عند الدخول في بلادهم، ومراقدهم المنورة، ومشاهدهم المكرمة، وتستحضر في قلبك عظمتهم وجلالهم، وتعرف عظيم حقهم، وغاية جدهم وسعيهم في ارشاد الناس وإعلاء كلمة الله.

فإذا قربت المدينة المنورة، ووقع بصرك على حيطانها، تذكر أنها البلدة التي اختارها الله لنبيه (ص)، وجعل إليها هجرته، وانها البلدة التي فيها شرع فرائض ربه وسننه، وجاهد عدوه، واظهر بها دينه، ولم يزل قاطنا بها إلى ان توفاه الله، وجعل تربته فيها.

ثم مثل في نفسك اقدام رسول الله (ص) عند تردداتك فيها، وتذكر أنه ما من موضع قدم تطأه إلا وهو موضع قدمه العزيز، فلا تضع قدمك عليه إلا على سكينة ووجل، وكن متذكراً لمشيه وتخطيه في سككها، وتصور سكينته ووقاره، وخشوعه وتواضعه لعظمة ربه، وما استودع الله في قلبه من عظيم معرفته ورفعة ذكره، حتى قرنه بذكر نفسه، وانزل عليه كلامه العزيز، واهبط عليه روح الامين وسائر ملائكته المقربين، واحبط عمل من هتك حرمته، ولو برفع صوته فوق صوته. ثم تذكر ما من الله به على الذين ادركوا صحبته، وسعدوا بمشاهدته واستماع كلامه، واعظم تأسفك على ما فاتك من صحبته، وتضرع إلى الله ألا تفوتك صحبته في الآخرة، ولتعظم رجاءك في ذلك، بعد ان رزقك الله الإيمان، واشخصك من ارضك لأجل زيارته، محبة له، وتشوقاً إليه.

ثم إذا دخلت مسجده، فتذكر أن اول موضع اقيمت في فرائض الله تلك العرصة، وانها تضمنت افضل خلق الله حياً وميتاً، فارج الله غاية الرجاء أن يرحمك بدخولك اياه خاشعاً معظما، وما أجدر ذلك المكان بان يستدعي الخضوع من قلب كل مؤمن.

ثم إذا أتيته للزيارة، فينبغي ان تقف بين يديه خاضعا خاشعا خائفا، وتزوره ميتا كما تزوره حيا، ولا تقرب من قبره إلا كما تقرب من شخصه الكريم لو كان حيا، إذ لا فرق بين ميته وحيه، ولو وجدت التفرقة في قلبك لما كنت مؤمنا، ولتعلم أنه عالم بحضورك وقيامك وزيارتك، وأنه يبلغه سلامك وصلواتك. فمثل صورته الكريمة في خيالك، جالسا على سرير العظمة بحذائك. واحضر عظيم رتبته في قلبك، وقد ورد: أن الله تعالى وكل بقبره ملكا يبلغه سلام من سلم عليه من امته. وهذا في حق من لم يحضر قبره، فكيف بمن فارق الاهل والوطن، وقطع البوادي شوقا إلى لقائه، واكتفى وقنع بمشاهدة مشهده المنور، إذ فاتته مشاهدة طلعته البهية وغرته الكريمة. وقد قال (ص): " من صلى علي مرة، صليت عليه عشراً ". فهذا جزاؤه عليه في الصلاة عليه بلسانه، فكيف بالحضور لزيارته ببدنه؟

وإذا فرغت من زيارته، فأت المنبر وامسحه بيدك، وخذ برمانتيه، وامسح بهما وجهك وعينيك، وتضرع إلى الله، وابتهل إليه، واسأل حاجتك. وتوهم صعود النبي (ص) المنبر، ومثل في قلبك طلعته البهية قائما على المنبر، وقد احدق به المسلمون من المهاجرين والانصار، وهو يحمد الله بافصح الكلمات واللغات ويحث الناس على طاعة الله واسأل الله ألا يفرق في القيامة بينه وبينك، ويجعلك في جواره، ويعطيك منزلا في قرب داره.

فصل

(ما ينبغي للزائر عند دخول النجف وكربلاء)

وإذا دخلت ارض النجف لزيارة أمير المؤمنين وسيد الموصيين (ع)، تذكر انها وادي السلام، ومجمع أرواح المؤمنين، وقد شرفها الله وجعلها اشرف البقاع، وجنة المؤمنين، فما من مؤمن خالص إلا وبعد الموت تأتى روحه إليها، ويتنعم فيها مع سائر المؤمنين، إلى ان يدخلوا دار كرامته العظمى في القيامة الكبرى. وقد اكد شرافتها وعظم قدرها، بأن جعلها مدفن وصي رسوله، بعد ان كانت مدفن آدم أبى البشر، ونوح شيخ المرسلين (ع). فاسأل الله ان يأتي بروحك اليها، ويدخلك في زمرة المؤمنين، ويجعلها محل دفنك، لتنال شفاعة مولاك (ع)، ولا يحشرك مع الكفار والعصاة في وادي برهوت.

وإذا أتيت لزيارته، تذكر عظيم مرتبته عند الله وعند رسوله، وراع الآداب التي ذكرناها في زيارة رسول الله (ص).

وإذا أردت أرض كربلاء، لزيارة سيد الشهداء (ع)، فتذكر ان هذه الأرض هي التي قتل فيها سبط الرسول واولاده واقاربه واجناده، واسرت فيها أهاليه وأهل بيته، فجدد الحزن على قلبك، وادخلها أشعث اغبر، منكسر الحال، محزون القلب، كئيباً حزيناً باكيا، واحضر في قلبك حرمة هذه الأرض وشرافتها، فانها الأرض التي في تربتها الشفاء، ولا يرد فيها الدعاء وقد يجعلها الله يوم القيامة ارفع بقاع الجنة، فتردد فيها على سكينة ووجل.

ثم إذا دخلت الحائر للزيارة، ووقع بصرك على ضريحه المنور، ثم على ضريح اصحابه المستشهدين معه، المجتمعين في موضع واحد في جواره، فمثل في قلبك اشخاصهم، وتذكر وقائعهم وما جرى عليهم من البلايا والمحن، واحضر في نفسك ابا عبد الله الحسين (ع) واقفا في عرصة كربلاء، ويأتي اصحابه واحداً واحداً يستأذن منه للجهاد، قائلا: السلام عليك يا ابا عبد الله! وهو يأذن له، ويلقى نفسه في الميدان على الجم الغفير، فيقتل في سبيله، وإذا أيس من حياته، ينادي بأعلى صوته: ادركني يا ابا عبد الله! وهو (ع) يسرع إليه كالصقر المنقض، ويأخذ جثته من الميدان، ويلحقه بسائر إخوانه الشهداء. فمثل في نفسك امثال ذلك، وجدد عليهم الحزن والبكاء، وتمن كونك معهم في تلك العرصة، وقل: يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيما!

ثم راع الآداب الباطنة لزيارته (ع)، وقس على ذلك زيارة كل واحد من الائمة (ع)، فانه ينبغي لك ان تستحضر، عند حضورك كل واحد منهم، جلالة شأنه، وعظمة قدره، وعظيم حقه، وتتذكر ما يناسب حاله، وما جرى عليه، ثم تستشعر في قلبك ما يترتب عليه، من التعظيم، والاجلال، والخوف، والحزن، والفرح، وامثال ذلك.

هذا آخر كتاب (جامع السعادات) والحمد لله على اتمامه، واسأل الله ان يجعلنا من العاملين به، وينفع به جميع عباده السالكين إليه. وقد وقع الفراغ من جمعه وتأليفه، في سلخ شهر ذي القعدة الحرام سنة ست وتسعين ومائة بعد الألف من الهجرة النبوية، على مهاجرها ألف ألف سلام وتحية.

هذا آخر ما كتبه المنصف (قدس سره)


[1]  الحج، الآية: 27.

[2]  آل عمران، الآية: 97.

[3]  صححنا الحديث على (مصباح الشريعة): الباب21.

[4]  آل عمران، الآية: 169.

[5]  صححنا الحديث على (مستدرك الوسائل): 2/195ـ 196، كتاب الحج، 10، أبواب المزار وما يناسبه.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست