.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

تأثير النية على الأعمال

النية روح الأعمال والجزاء بحسبها

عبادة الأحرار والأجراء والعبيد

نية المؤمن خير من العمل

النية غير اختيارية

 

   

فصل

(تأثير النية على الأعمال)

العمل غرضه الباعث، أي باعثه الأول، إما واحد: كالقيام للاكرام، أو للهرب من السبع المتهجم عليه، أو متعدد مع استقلال كل واحد بالباعثية متساوياً أو متفاوتاً: كالتصدق للفقر والقرابة بالنظر إلى من ينتهض فيه كل واحد بانفراده سبباً للاعطاء، أو بدون استقلال واحد لو انفرد، بل المستقل المجموع، كالمثال المذكور بالنظر إلى من يعطي ماله قريبه الفقير ويمتنع عند الانفراد، أي لا يعطيه قريبه الغني، ولا الأجنبي الفقير، أو مع استقلال بعض دون بعض. بأن يكون للثاني تأثير بالاعانة والتسهيل دون البعث والتحصيل، ثم يتعدد الجزاء بتعدد البواعث، إن خيراً فخير! كالدخول في المسجد لزيارة الله، ولانتظار الصلاة، والاعتكاف والانزواء والتجرد للذكر، وترك الذنوب، وملاقاة الأتقياء وإخوانه المؤمنين، واستماع المواعظ واحكام الدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وان شراً فشرك كالقعود فيه للتحدث بالباطل، وملاحظة النساء، والمناظرة للمباهاة والمراآة، وربما كان بعض البواعث خيراً وبعضها شراً: كالتصدق للثواب والرياء، ودخول المسجد لبعض البواعث الأول، وبعض البواعث الثانية، والعمل الذي باعثه من هذا القسم قد ظهر حكمه في باب الاخلاص. ثم باعث العمل المباح ان كان خيراً بجعله عبادة، كالتطيب يوم الجمعة لاقامة السنة، وتعظيم المسجد واليوم، ودفع الأذى بالنتن، والاكل لقوة العبادات، والجماع للولد وتطييب خاطر الزوجة، والترفه بنومة أو دعابة مباحة لرد نشاط الصلاة، وان كان شراً بجعله معصية، كالتطيب للتفاخر باظهار الثروة والتزين للزنا، ولا يؤثر في الحرام، فلا يباح شرب الخمر لموافقة الاقران والاخوان، فالمعاصى لا تتغير موضوعاتها بالنية، بخلاف الطاعات والمباحات، فانها بالنية الصحيحة تصير أقرب القربات، وبالفاسدة تصير اعظم المهلكات، فما اعظم خسران من يغفل عن النية، ويتعاطى الأعمال تعاطي البهائم المهملة على قصد حظوظ النفس أو على السهو والغفلة، وقد كانت غاية سعى السلف ان يكون لهم في كل شيء نية صحيحة، حتى في أكلهم وشربهم ونومهم ودخولهم الخلاء.

ولا ريب في إمكان تصحيح النية في كل مباح، بحيث يترتب عليه الثواب، بل يمكن تصحيح النية في كل نقصان مالي وعرضي، فان من تلف له مال، فان قال: هو في سبيل الله، كان له أجر، وان سرقه أحد اوغصبه يمكن أن ينوي كونه من ذخائر الآخرة، وإذا بلغه اغتياب غيره له فيمكن ان يطيب خاطره بأنه سيحمل عليه سيئاته وينقل إلى ديوانه حسناته، فاياك أن تستحقر شيئاً من نياتك وخطرات قلبك، ولا تقدم على عمل إلا بنية صحيحة، فان لم تحضرك النية توقف، إذ النية لا تدخل تحت الاختيار، وقد قيل: " ان من دعا اخاه إلى طعام بدون رغبة باطنة في اجابته، فان اجابه فعليه وزران: النفاق، وتعريضه اخاه لما يكرهه لو علمه، وان لم يجبه لم يأكل فعليه وزر واحد هو النفاق! ". فلا بد للعبد من خالص النية في كل حركة وسكون، لانه إذا لم يكن كذلك كان غافلاً، والغافلون قد وصفهم الله ـ تعالى ـ فقال:

" إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا "[1].

وصاحب خالص النية صاحب القلب السليم، قال الصادق (ع): " صاحب النية الصادقة صاحب القلب السليم، لأن سلامة القلب من هواجس المحذورات بتخليص النية لله في الأمور كلها، قال الله ـ عز وجل ـ :

" يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم "[2].

ثم النية تبدو من القلب على قدر صفاء المعرفة وتختلف على حسب اختلاف الأوقات في معنى قوته وضعفه، وصاحب النية الخالصة نفسه وهواه مقهورتان تحت سلطان تعظيم الله ـ تعالى ـ والحياء منه، وهو من طبعه وشهوته ومنيته نفسه، في تعب، والناس منه في راحة"[3].

فصل

(النية روح الأعمال، والجزاء بحسبها)

النية روح الأعمال وحقيقتها، والجزاء يكون حقيقة عليها، فان كانت خالصة لوجه الله ـ تعالى ـ كانت ممدوحة، وكان جزاؤها خيراً وثواباً، وان كانت مشوبة بالاغراض الدنيوية كانت مذمومة، وكان جزاؤها شراً وعقاباً، قال الله ـ سبحانه ـ:

" ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه "[4].

والمراد بالارادة: النية، لترادفهما ـ كما تقدم ـ. واوحى الله إلى داود: " يا داود لاتطاول على المريدين، ولو علم أهل محبتي منزلة المريدين عندي لكانوا لهم ارضاً يمشون عليها، يا داود! لئن تخرج مريداً من كربة هو فيها تستعده، كتبتك عندي حميداً، ومن كتبته حميداً لا يكون عليه وحشة ولا فاقة إلى المخلوقين ". وقال رسول الله (ص): " انما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ". وانما قال ذلك حين قيل له: ان بعض المهاجرين إلى الجهاد ليست نيته من تلك الهجرة إلا أخذ الغنائم من الأموال والسبايا أو نيل الصيت عند الاستيلاء، فبين (ص): أن كل أحد ينال في عمله ما يبغيه، ويصل إلى ما ينويه، كائناً ما كان. دنيوياً كان أو أخروياً. وهذا الخبر مما يعده المحدثون من المتواترات وهو اول ما يعلمونه اولادهم، وكانوا يقولون: انه نصف العلم. وقال (ص): " ان الله لا ينظر إلى صوركم واموالكم، وانما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم، وانما ينظر إلى القلوب لانها مظنة النية ". وقال (ص): " ان العبد ليعمل أعمالا حسنة فتصعد بها الملائكة في صحف مختتمة، فتلقى بين يدي الله ـ تعالى ـ، فيقول: القوا هذه الصحيفة، فانه لم يرد بما فيها وجهي، ثم ينادي الملائكة: اكتبوا له كذا وكذا، فيقولون: يا ربنا! انه لم يعمل شيئاً من ذلك. فيقول الله ـ تعالى ـ انه نواه ". وقال (ص): " الناس أربعة: رجل أتاه الله ـ عز وجل ـ علماً ومالاً فهو يعمل بعلمه في ماله، فيقول رجل: لو اتاني الله ـ تعالى ـ مثل ما آتاه لعملت كما يعمل، فهما في الأجر سواء، ورجل آتاه الله مالاً ولم يؤته علماً، فهو يتخبط بجهله في ماله، فيقول رجل: لو آتاني الله مثل ما آتاه لعملت كما يعمل، فهما في الوزر سواء، ألا ترى كيف شاركه بالنية في محاسن عمله ومساويه؟! ". ولما خرج (ص) إلى غزوة تبوك، قال: " ان بالمدينة اقواماً، ما قطعنا وادياً، ولا وطأنا موطئاً يغيظ الكفار، ولا انفقنا نفقة، ولا أصابتنا مخمصة، إلا شاركونا في ذلك وهم في المدينة ". قالوا: وكيف ذلك يا رسول الله، وليسوا معنا؟! فقال: " حسبهم العذر، فشاركونا بحسن النية ". وفي الخبر: ان رجلا من المسلمين قتل في سبيل الله بأيدي بعض الكفار، وكان يدعى بين المسلمين قتيل الحمار، لأنه قاتل رجلا من الكافرين نية أن يأخذ حماره وسلبه، فقتل على ذلك فاضيف إلى نيته. وهاجر رجل إلى الجهاد مع أصحاب النبي (ص)، كانت نيته من المهاجرة ان يأخذ أمرأة كانت في عساكر الكفار ويتزوجها ـ وتسمى أم قيس ـ فاشتهر هذا الرجل عند أصحاب النبي بمهاجر أم قيس ". وفي أخبار كثيرة: " من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة " كما تقدم، وقد ورد: أنه إذا التقى المسلمان بسيفهما. فالقاتل في النار، وكذا المقتول، لأنه أراد قتل صاحبه. وقال (ص): " إذا التقى الصفان نزلت الملائكة تكتب الخلق على مراتبهم: فلان يقاتل للدنيا، فلان يقاتل حمية، فلان يقاتل عصبية، ألا فلا تقولوا قتل فلان في سبيل الله ألا لمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ". وقال (ص): " من تزوج أمرأة على صداق هو لا ينوى اداءه فهو زان، ومن استدان ديناً وهو لا ينوي قضاءه فهو سارق، ومن تطيب لله ـ تعالى ـ جاء يوم القيامة وريحه أطيب من المسك، ومن تطيب لغير الله جاء يوم القيامة وريحه انتن من الجيفة "[5]، وكل ذلك مجازاة على حسب النية. وقال الصادق (ع): " ان العبد المؤمن الفقير ليقول: يارب! ارزقني حتى أفعل كذا وكذا من البر ووجوه الخير، فإذا علم الله ـ عز وجل ـ ذلك منه بصدق النية كتب له من الأجر مثل ما يكتب له لو عمله، إن الله واسع كريم ". وسئل (ع) عن حد العبادة التي إذا فعلها فاعلها كان مؤديا، فقال: " حسن النية بالطاعة ". وقال (ع): " وإنما خلد أهل النار في النار لأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا الله ـ تعالى ـ أبدا، وإنما خلد أهل الجنة في الجنة لأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبدا، فبالنيات خلد هؤلاء وهؤلاء، ثم تلا قوله ـ تعالى ـ.

" قل كل يعمل على شاكلته "[6]

قال: على نيته "[7]. وأمثال هذه الأخبار وأكثر من أن تحصى. وأي شبهة في أن عماد الأعمال النيات، والعمل مفتقر إلى النية ليصير خيرا، والنية في نفسها خير وان تعذر العمل، وعون الله ـ تعالى ـ للعبد على قدر النية، فمن تمت نيته تم عون الله له، وإن نقصت نقص بقدره، فرب عمل صغير تعظمه النية، ورب عمل كبير تصغره النية، ولذلك كان السلف يتعلمون النية للعمل كما يتعلمون العمل، ونقل: " أن بعض المريدين كان يطوف على العلماء ويقول. من يدلني على عمل لا ازال فيه عاملا لله ـ تعالى ـ، فاني لا احب أن تأتي علي ساعة من ليل أو نهار إلا وأنا عامل من عمال الله ـ تعالى ـ. فقال له بعض العلماء: أنت قد وجدت حاجتك، فاعمل الخير ما استطعت، فإذا فترت أو تركته فهم بعمله، إذ من هم بعمل الخير كمن يعمل به ". ثم السر في مجازاة الأعمال على حسب النية، وكون النية حقيقة العمل وعمادا وروحاً له: ان العمل من حيث هو عمل لا فائدة فيه، وانما فائدته للأثر الذي يصل منه إلى النفس من النورانية والصفاء، ولا يزال يتكرر وصول هذا الأثر من الأعمال إليها حتى تحصل لها غاية الضياء والصفاء فيحصل لها التجرد التام وينخرط في سلك الملائكة. ولا ريب في أن وصول هذا الأثر من الأعمال انما هو مع صحة النية وخلوصها، وكونها لله ـ سبحانه ـ من دون شوب الاغراض، بل التأمل يعطي ان هذا الاثر انما هو حقيقة من محض النية، وان كانت حادثة لأجل العمل.

فصل

(عبادة الاحرار والاجراء والعبيد)

قد ظهر مما ذكر: أنه لا يحسب من عبادة الله ولا يعد من طاعة الله بحيث يترتب عليه الأجر في الآخرة إلا ما يراد التقرب إلى الله والدار والآخرة، أي يراد به وجه الله من حيث هو، من دون غرض آخر من الأغراض الدنيوية، أو يراد به التوصل إلى ثوابه، أو الخلاص من عقابه، فمن أراد بعبادته محض وجه الله، واخلصها له لكونه أهلا للعبادة، ولمحبته له لما عرفه بجلاله وجماله وعظمته ولطف فعاله، فاحبه واشتاق إليه، ولا يريد سواه، ولا يبتهج بغير حبه وانسه والاستغراق في لجة شهوده، فيفرح بعبادته وتوجيه قلبه إليه بطاعته. فجزاؤه أن يحبه الله ويجتبيه، ويقربه إلى نفسه وبدنه قرباً معنوياً ودنوا روحانياً، كما قال في حق بعض من هذا صفته:

" وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب "[8].

والى هذه المرتبة أشار أمير المؤمنين (ع) بقوله: " إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك، ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك ".

وأما من غرضه نيل الثواب والخلاص من العقاب، نظراً إلى انه لم يعرف من الله سوى كونه إلهاً صانعاً للعالم قادراً قاهرا عالما، وان له جنة ينعم بها المطيعين، ونارا يعذب بها العاصين، فعبده ليفوز بجنته أو يتخلص من ناره: فجزاءه بمقتضى نيته ان يدخله جنته، وينجيه من ناره، لأن جزاء الأعمال على حسب النيات، كما اخبر الله ـ تعالى ـ عنه في غير موضع من كتابه، فان لكل امرئ ما نوى، ولا تصغ إلى قول من ذهب إلى بطلان العبادة إذا قصد بفعلها الثواب أو الخلاص من العقاب زعماً منه أن هذا القصد مناف للإخلاص الذي هو ارادة وجه الله وحده، وان من قصد ذلك إنما قصد جلب النفع إلى نفسه، ودفع الضرر عنها، لا وجه الله ـ سبحانه ـ، فان هذا قول من لا معرفة له بحقائق التكاليف ومراتب الناس فيها بل ولا معرفة له بمعنى النية وحقيقتها، فان حقيقة النية عبارة عن انبعاث النفس وميلها وتوجهها إلى ما فيه غرضها وطلبها، إما عاجلا أو آجلا، لا مجرد قول المنادي عند العبادة: افعل كذا قربة إلى الله ومجرد تصور هذا القول بخاطره وملاحظته بقلبه وإن لم يكن لنفسه انبعاث إلى التقرب، هيهات هيهات! إنما هذا تحريك لسان وحديث نفس، وما ذلك إلا كقول الشبعان: اشتهي هذا الطعام، قاصدا حصول الاشتهاء، وهذا الانبعاث إذا لم يكن حاصلا للنفس لا يمكنها اختراعه واكتسابه بمجرد القول والتصور، واكثر الناس تتعذر منهم العبادة ابتغاء لوجه الله وتقرباً إليه، لانهم لا يعرفون من الله ـ تعالى ـ إلا المرجو والمخوف، فغاية مرتبتهم ان يتذكروا النار ويحذروا أنفسهم عقابها، ويتذكروا الجنة ويرغبوا أنفسهم ثوابها، وخصوصاً من كان ملتفتاً إلى الدنيا، فانه قلما تنبعث له داعية إلى فعل الخيرات لينال بها ثواب الآخرة، فضلا عن عبادته على نية اجلال الله ـ تعالى ـ لاستحقاقه الطاعة والعبودية، فانه قل من يفهمها فضلا عمن يتعاطاها، فلو كلف بها لكان تكليفاً بما لا يطاق، وليس معنى الإخلاص في العبادة إلا عدم كونها مشوبة بشوائب الدنيا والحظوظ العاجلة للنفس، كمدح الناس، ونيل المال، والخلاص من النفقة لعتق العبد ونحو ذلك، وظاهر انه لا تنافيه ارادة الجنة والخلاص من النار بما وعد في الآخرة، وان كان من جنس المألوف في الدنيا، ولو كان مثل هذه النيات مفسدة للعبادات لكان الترغيب والترهيب والوعد والوعيد عبثاً، إذ كل ما وعد به الجنة واوعد عليه النار مما رغب ووعد به ورهب واوعد عليه. وما ورد في الترغيب والترهيب والوعد والوعيد من الآيات والأخبار اكثر من ان يحصى، قال الله ـ سبحانه ـ :

" ويدعوننا رغباً ورهباً "[9]

ثم كيف يمكن للعبد الضعيف الذليل المهين الذي لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياتاً ولا شيئاً مما ينفعه ويؤذيه، أن يستغني عن جلب النفع لنفسه أو دفع الضرر عنها من مولاه. ومن تأمل يجد أن القائل ببطلان العبادة باحدى النيتين ترجع نيته الصحيحة في عبادته إلى إحداهما وهو لا يشعر به.

ومما يدل صريحاً على ما ذكرناه قول الصادق (ع): " العباد ثلاثة: قوم عبدوا الله ـ عز وجل ـ خوفاً، فتلك عبادة العبيد. وقوم عبدوا الله ـ تبارك وتعالى ـ طلب الثواب، فتلك عبادة الاجراء. وقوم عبدوا الله ـ عز وجل ـ حباً له، فتلك عبادة الاحرار، وهي افضل العبادة "[10]. وهذا يدل على ان العبادة على الوجهين الاولين لا تخلو من فضل أيضا، فضلا عن أن تكون صحيحة. نعم، لا ريب في أن العبادة على الوجه الأخير لا نسبة لمنزلتها ودرجتها إلى درجة العبادة على الوجهين الأولين، فان من تنعم بلقاء الله والنظر إلى وجهه الكريم، يسخر ممن يلتفت إلى وجه الحور العين كما يسخر المتنعم بالنظر إلى وجه الحور العين بالملتفت إلى الصور المصنوعة من الطين، وكما يسخر المتنعم بالنظر إلى وجوه النساء الجميلة بالخنفساء التي تعرض عن النظر إلى وجوههن وتلتفت إلى صاحبتها وتألف بها، بل هذه أمثلة أوردناها من باب الاضطرار، إذ التفاوت بين جمال الحضرة الربوبية وجمال الحور العين أو النسوان الجميلة اعظم كثيرا من التفاوت بين جمال الحور العين والصور المصنوعة من الطين وبين جمال النسوان الجميلة والخنفساء، كيف والتفاوت في الثاني متناه وفي الأول غير متناه، واي نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي؟

فصل

(نية المؤمن خير من العمل)

لما عرفت ان النية روح العمل وحقيقته، وتوقف نفع العمل عليها دون العكس، وكون الغرض الأصلي من العمل تأثير القلب بالميل إلى الله ـ تعالى ـ وتوقفه على النية، فهي خير من العمل، بمعنى أن العمل إذا حلل إلى جزئيه يكون جزؤه القلبي ـ اعني النية ـ خيرا من جزئه الجسماني ـ اعني ما يصدر من الجوارح ـ، والثواب المترتب عليه اكثر من الثواب المترتب عليه، ولذا قال الله ـ سبحانه ـ :

" لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم "[11].

فان المقصود من اراقة دم القربان ميل القلب عن حب الدنيا، وبذلها ايثارا لوجه الله، دون مجرد الدم واللحم، وميل القلب انما يحصل عند جزم النية والهم، وان عاق عن العمل عائق، (فلن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم)، والتقوى صفة القلب، ولذا ترى ان المجامع امرأته على قصد انها غيرها آثم، بخلاف المجامع غيرها على أنها امرأته، ولذا ورد: أن من هم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة، لان هم القلب هو ميله إلى الخير وانصرافه عن الهوى، وهو غاية الأعمال والحسنة، وانما الاتمام بالعمل يزيدها تأكيدا. وبما ذكر ظهر معنى الحديث المشهور: " نية المؤمن خير من عمله، ونية الكافر شر من عمله ". وكل عامل يعمل على نيته.

وحاصله: أن كل طاعة تتضمن نية وعملا، وكل منهما من جملة الخيرات، وله أثر في المقصود، وتكون النية خيرا من العمل وأثرها اكثر من اثره. والغرض: أن للمؤمن اختيارا في النية وفي العمل، فهما عملان، والنية من الجملة خيرهما، أي النية التي هي جزء من طاعته خير من عمله الذي هو جزؤها الآخر.

فان قيل: ما ذكرت لا يفيد ازيد من ان العمل إذا كان مع النية يكون كل من العمل والنية خيرا وذا ثواب. وإذا كان بدونها لا يكون خيرا ولا يكون له ثواب، والمقصود كون النية خيرا من العمل في الصورة الأولى وكون ثوابها اعظم، ولم يظهر وجه الخيرية مما ذكرت.

قلت: ذلك وان ظهر اجمالا، لا انه لابد لتوضيحه لتظهر جلية الحال، فنقول:

الوجه في كون النية خيرا من العمل وراجحة عليه في الثواب: انه لا ريب في ان المقصود من الطاعات شفاء النفس وسعادتها في الآخرة وتنعمها بلقاء الله ـ سبحانه ـ، والوصول إلى اللقاء موقوف على معرفة الله وحبه وانسه، وهي موقوفة على دوام الفكر والذكر الموجبين لانقطاع النفس من شهوات الدنيا وتوجهها إلى الله ـ سبحانه ـ، فإذا حصل بمجرد المعرفة الحاصلة من الفكر ميل وتوجه إلى الله ـ تعالى ـ كان ضعيفاً غير راسخ، وانما يترسخ ويتأكد بالمواظبة على أعمال الطاعات وترك المعاصي بالجوارح، لأن بين النفس وبين الجوارح علاقة يتأثر لأجلها كل واحد منها عن الأخر، فيرى أن العضو إذا أصابته جراحة تتألم بها النفس، وأن النفس إذا تألمت بعلمها بموت عزيز أو بهجوم أمر مخوف تأثرت الأعضاء وارتعدت الفرائص، فالطاعات التي هي فعل الجوارح إنما شرعت للتوصل بها إلى صفة النفس ـ اعني التوجه والميل إلى الله سبحانه ـ، فالنفس هو الأصل والمتبوع والأمير، والجوارح كالخدم والأتباع، وصفات القلب هي المقصودة ذاتها، وافعال الجوارح هي المطلوبة بالعرض، لكونها مؤكدة وموجبة لرسوخ النفس ـ اعني الميل والنية والتوجه ـ ولا ريب في أن ما هو المقصود بالذات خير مما هو مقصود بالعرض، وثوابه أعظم من ثوابه.

ومن المعاني الصحيحة للحديث: أن المؤمن بمقتضى ايمانه ينوي خيرات كثيرة لا يوفق لعملها، إما لعدم تمكنه من الوصول إلى أسبابها، أو لعدم مساعدة الوقت على عملها. أو لممانعة رذيلة نفسانية عنها بعد الوصول إلى اسبابها، كالذي ينوي إن آتاه الله مالا ينفقه في سبيله، ثم لما آتاه يمنعه البخل عن الأنفاق، فهذا نيته خيرا من عمله، وايضاً المؤمن ينوي دائماً أن تقع عباداته على احسن الوجوه، لأن ايمانه يقتضي ذلك. ثم إذا اشتغل بها لا يتيسر له ذلك. ولا يأتي بها كما يريد، فما ينويه دائماً خير مما يعمل به في كل عبادة. وإلى هذا أشار الباقر (ع): " نية المؤمن خير من عمله، وذلك لأنه ينوي الخير ما لا يدركه، ونية الكافر شر من علمه، وذلك لأن الكافر ينوي الشر ويأمل من الشر ما لا يدركه ". وقيل للصادق (ع): سمعتك تقول: نية المؤمن خير من عمله، فكيف تكون النية خيراً من العمل؟ قال (ع): "لأن العمل إنما كان رياء للمخلوقين، والنية خالصة لرب العالمين، فيعطي ـ عز وجل ـ على النية ما لا يعطي على العمل " ثم قال: "إن العبد لينوي من نهاره أن يصلي بالليل فتغلبه عينه فينام، فيثبت الله له صلاته وتكتب نفسه تسبيحاً ويجعل نومه صدقة ". وبعض الأخبار المتقدمة يعضد ذلك ويؤكده أيضا. وقيل: معنى الحديث: " إن النية بمجردها خير من العمل بمجرده بلا نية ". وفيه: أن العمل بدون النية لا يتصف بالخيرية أصلاً. فلا معنى للترجيح في الخيرية، وقيل: سبب الترجيح: " إن النية سر لا يطلع عليه إلا الله، والعمل ظاهر، وفعل السر أفضل ". وهذا وإن كان في نفسه صحيحاً، إلا أنه ليس مراداً من الحديث، لأنه لو نوى أحد أن يذكر الله ـ تعالى ـ بقلبه أو يتفكر في مصالح المؤمنين، كانت نيته بمقتضى عموم الحديث خيراً من العمل الذي هو الذكر والتفكر، مع اشتراك النية والعمل في السرية، وبداهة كون الذكر والتفكر خيراً من نيتهما.

فصل

(النية غير اختيارية)

النية غير داخلة تحت الاختيار، وذلك لما عرفت من أنها انبعاث النفس وتوجهها وميلها إلى ملائم ظهر لها أن فيه غرضها إما عاجلاً أو آجلاً، وهذا الميل إذا لم يكن حاصلاً للنفس لم يكن اختراعه واكتسابه بمجرد الاخطار بالبال والاجراء على اللسان، بل ذلك كقول الشبعان: نويت أن اشتهي الطعام وأميل إليه، أو قول الفارغ: نويت أن أعشق فلاناً وأحبه، فلا طريق إلى اكتساب صرف القلب إلى الشيء وميله إليه وتوجهه نحوه، إلا باكتساب اسبابه، وذلك مما قد يقدر عليه وقد لا يقدر عليه، وإنما قد تنبعث النفس إلى الفعل اجابة للغرض الباعث، الموافق للنفس الملائم لها، وما لم يعتقد الإنسان ان غرضه منوط بفعل من الافعال فلا يتوجه قصده نحوه وذلك مما لا يقدر على اعتقاده دائماً، وإذا اعتقد فانما يتوجه القلب إذا كان فارغاً غير مصروف عنه بغرض شاغل أقوى منه، وذلك لا يمكن في كل وقت، والدواعي والصوارف لها أسباب كثيرة بها، تجتمع وتختلف ذلك بالاشخاص والأحوال والأعمال، فإذا غلبت شهوة النكاح ولم يعتقد غرضاً صحيحاً في الولد لم يمكنه أن يتزوج على نية الولد، بل لا يمكن إلا على نية قضاء الشهوة، إذ النية اجابة الباعث، ولا باعث إلا الشهوة، فكيف ينوي الولد، ولذا كان أهل السلوك من السلف كثيراً ما يمتنعون عن جملة من الطاعات إذا لم تحضرهم النية، وكانوا يقولون: ليس تحضرني نية، وذلك لعلمهم بأن النية روح الأعمال وقوامها وأن العمل بغير نية صادقة رياء وتكلف وسبب مقت لا سبب قرب وروى: " أنه اتى الصادق (ع) مولى له، فسلم عليه وجلس، فلما انصرف (ع) انصرف معه الرجل، فلما انتهى إلى باب داره دخل وترك الرجل، فقال له ابنه إسماعيل: يا أبه! ألا كنت عرضت عليه الدخول؟ فقال: لم يكن من شأني إدخاله، قال: فهو لم يكن يدخل قال: يا بني! إني اكره أن يكتبني الله عراضاً ".



[1]  الفرقان، الآية: 44.

[2]  الشعراء، الآية: 88 ـ 89.

[3]  هذا بعض الحديث المذكور في مصباح الشريعة ـ الباب الرابع ص135 ـ، وفي البحار ـ الجزء الثاني من المجلد الخامس عشر، باب النية وشرائطها ومراتبها، ص77. ط امين الضرب ـ. لكن المذكور في البحار فيه اختلاف يسير عما في المصباح، فصححناه على البحار، لكون المذكور في البحار اصح مما في المصباح.

[4]  الانعام، الآية: 52.

[5]  صححنا النبويات  كلها على إحياء العلوم: 4/310، 311، 317، باب فضيلة النية.

[6]  الإسراء، الآية: 84.

[7]  صححنا الأخبار كلها على أصول الكافي ـ الجزء الثاني، باب النية.

[8]  ص، الآية: 25، 40.

[9]  الأنبياء، الآية: 90.

[10]  صححنا الرواية على أصول الكافي: الجزء الثاني، باب العبادة.

[11]  الحج، الآية: 37.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست