.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

مقامات مرابطة العقل للنفس وهي اربع مقامات

المشارطة

المراقبة

المحاسبة

معاتبة النفس

الغفلة

الغفلة موجبة للحرمان

ضد الغفلة النية

 

 

فصل

(مقامات مرابطة العقل للنفس)

اعلم ان العقل بمنزلة تاجر في طريق الآخرة، ورأس ماله العمر، وقد استعان في تجارته هذه بالنفس، فهي بمنزلة شريكه أو غلامه الذي يتجر في ماله، وربح هذه التجارة تحصيل الأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة الموصلة إلى نعيم الأبد وسعادة السرمد. وخسرانها المعاصي والسيئات المؤدية إلى العذاب المقيم في دركات الجحيم، أو نقول: رأس مال العبد في دينه الفرائض، وربحه النوافل والفضائل، وخسرانه المعاصي، وموسم هذه التجارة مدة العمر، وكما ان التاجر يشارط شريكه اولاً، ويراقبه ثانياً، ويحاسبه ثالثاً، وإن قصر في التجارة ـ بالخيانة والخسران وتضييع رأس المال ـ يعاتبه ويعاقبه ويأخذ منه الغرامة، كذلك العقل يحتاج في مشاركة النفس إلى ان يرتكب هذه الأعمال، ومجموع هذه الأعمال يسمى بـ(المحاسبة والمراقبة) تسمية الكل باسم بعض أجزائه، وقد يسمى (مرابطة) أيضاً.

فأول الأعمال في المرابطة (المشارطة): وهي أن يشارط النفس ويأخذ منها العهد والميثاق في كل يوم وليلة مرة ألا يرتكب المعاصي، ولا يصدر منها شيء يوجب سخط الله. ولا يقصر في شيء من الطاعات الواجبة، ولا يترك ما تيسر له من الخيرات والنوافل. والأولى أن يكون ذلك بعد الفراغ عن فريضة الصبح وتعقيباتها، فيخاطب النفس ويقول لها: يا نفس! مالي بضاعة سوى. العمر، ومهما فني فني رأس المال. ووقع اليأس عن التجارة وطلب الربح، وهذا اليوم الجديد، وقد أمهلني الله فيه بعظيم لطفه، ولو توفاني لكنت أتمنى أن يرجعني إلى الدنيا يوماً واحداً لأعمل صالحاً، فاحسبي أنك توفيت ثم رددت، فاياك أن تضيعي هذا اليوم، فان كل نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة لا عوض لها، يمكن أن يشترى بها كنزاً من الكنوز لا يتناهى نعيمها أبد الآباد. ويتذكر ما ورد في بعض الأخبار: من أن كل عبد خلقت له بازاء كل يوم وليلة من عمره أربع وعشرون خزانة مصفوفة فإذا مات تفتح له هذه الخزائن، ويشاهد كل واحد منها ويدخلها، فإذا فتحت له خزانة خلقت بازاء الساعة التي أطاع الله فيها، يراها مملوة نوراً من حسناته التي عملها في تلك الساعة، فيناله من الفرح والاستبشار بمشاهدة تلك الأنوار التي هي وسائل عند الملك الجبار ما لو وزع على أهل النار لأدهشهم ذلك الفرح عن الاحساس بألم النار، وإذا فتحت له خزانة خلقت بأزاء الساعة التي عصى الله فيها، يراها سوداء مظلمة يفوح نتنها ويغشا ظلامها، فيناله من الهول والفزع ما لو قسم على أهل الجنة لينغص عليهم نعيمها، فإذا فتحت له خزانة بازاء الساعة التي نام فيها أو غفل أو اشتغل بشيء من مباحات الدنيا، لم يشاهد فيها ما يسره ولا ما يسوئه، وهكذا يعرض عليه بعدد ساعات عمره الخزائن، وعند ذلك يتحسر العبد على اهماله وتقصيره، ويناله من الغبن ما لا يمكن وصفه، وبعد هذا التذكر يخاطب نفسه ويقول: اجتهدي اليوم في أن تعمري خزائنك، ولا تدعيها فارغة عن كنوزك التي هي أسباب ملكك ولا تركني إلى الكسب والبطالة فيفوتك من درجات العليين ما يدركه غيرك فتدركك الحسرة والغبن يوم القيامة إن دخلت الجنة، إذ ألم الغبن والحسرة وانحطاط الدرجة مع وجود ما فوقها من الدرجات الغير المتناهية التي نال إليها أبناء نوعك مما لا يطاق، ثم يستأنف لها وصية في اعضائه السبعة: أعني العين، والأذن، واللسان، والفرج، والبطن، واليد، والرجل، ويسلمها إليها، لأنها رعايا خادمة لها في التجارة، ولا يتم أعمال هذه التجارة إلا بها، فيوصيها بحفظ هذه الاعضاء عن المعاصي التي تصدر عنها، وبأعمال كل منها فيما خلق لأجله، ثم يوصيها بالاشتغال بوظائف الطاعات التي تتكرر عليه في اليوم والليلة، وبالنوافل والخيرات التي تقدر عليها، وهذه شروط يفتقر إليها كل يوم، لكن إذا اعتادت النفس بتكرر المشارطة والمراقبة بالعمل بها والوفاء بحقها استغنى عن المشارطة فيها، وإن اعتادت بالعمل في بعضها لم تكن حاجة إلى المشارطة فيه، وبقيت الحاجة إليها في الباقي، وكل من يشتغل بشيء من أعمال الدنيا: من ولاية، أو تجارة، أو تدريس أو امثال ذلك: لا يخلو كل يوم منه من مهم جديد، وواقعة حادثة لها حكم جديد، ولله فيها حق، فعليه أن يجدد الاشتراط على نفسه بالاستقامة عليها والانقياد للحق في مجاريها، وينبغي ان يوصيها بالتدبر في عاقبة كل أمر يرتكبه في هذا اليوم والليلة. وهذه الوصية عمدة الوصايا ورأسها، وقد روى: " أن رجلاً أتى النبي (ص) وقال: يا رسول الله اوصني، فقال له: فهل أنت مستوص إن أنا اوصيتك؟ ـ حتى قال له ذلك ثلاثاً، وفي كلها يقول الرجل: نعم يا رسول الله! ـ فقال له رسول الله (ص): إذا هممت بأمر فتدبر عاقبته، فان يك راشداً فامضه، وإن يك غياً فانته " ويظهر من هذا الخبر: أن التأمل في عاقبة كل أمر اعظم ما يحصل به النجاة فينبغي ان يؤكد العهد والميثاق في ذلك عل النفس ويحذرها عن الاهمال، ويعظها كما يوعظ العبد المتمرد الآبق، فان النفس بالطبع متمردة عن الطاعات، مستعصية عن العبودية، ولكن الوعظ والتأديب يؤثر فيها، (وذكر فان الذكرى تنفع المؤمنين) فهذا وما يجري مجراه هو المشارطة، وهو اول مقامات المرابطة.

وثانيها (المراقبة): وهو ان يراقب نفسه عند الخوض في الأعمال، فيلاحظها بالعين الكالئة، فانها إن تركت طغت وفسدت، ثم يراقب الله في كل حركة وسكون، بأن يعلم ان الله ـ تعالى ـ مطلع على الضمائر، عالم بالسرائر، رقيب على أعمال العباد، قائم على كل نفس بما كسبت، وان سر القلب في حقه مكشوف، كما ان ظاهر البشرة للخلق مكشوف، بل اشد من ذلك، قال الله ـ سبحانه ـ:

" إن الله كان عليكم رقيباً "[1]. وقال: " ألم يعلم بأن الله يرى؟ "[2].

وقال رسول الله (ص): " الاحسان ان تعبد الله كأنك تراه، فان لم تكن تراه فانه يراك ". وفي الحديث القدسي: " إنما يسكن جنات عدن، الذين إذا هموا بالمعاصي ذكروا عظمتي فراقبوني، والذين انحنت اصلابهم من خشيتي، وعزتي وجلالي! إني لأهم بعذاب أهل الأرض فإذا نظرت إلى أهل الجوع والعطش من مخافتي صرفت عنهم العذاب ". وحكى: " ان زليخا لما خلت بيوسف، فقامت وغطت وجه صنمها، فقال يوسف. مالك؟ أتستحيين من مراقبة جماد ولا استحيي من مراقبة الملك الجبار؟! ". وهذه المعرفة ـ اعني معرفة اطلاع الله على العباد وأعمالهم وسرائرهم وكونه رقيباً عليهم ـ إذا صارت يقيناً ـ أي خلت عن الشك ـ ثم استولت على القلب سخرت القلب وقهرته على مراعاة جانب الرقيب وصرفت الهمة إليه، والموقنون بهذه المعرفة مراقبتهم على درجتين: ـ إحداهما ـ مراقبة المقربين، وهي مراقبة التعظيم والاجلال، وهي أن يصير القلب مستغرقاً بملاحظة الجلال، ومنكسراً تحت الهيبة، فلا يبقى فيه متسع للالتفات إلى الغير، وهذا هو الذي صار همه هماً واحداً، وكفاه الله سائر الهموم، ـ واخراهما ـ مراقبة الورعين من أصحاب اليمين، وهم قوم غلب عليهم يقين اطلاع الله على ظهورهم وباطنهم، ولكن لا تدهشهم ملاحظة الجلال والجمال، بل بقيت قلوبهم على حد الاعتدال متسعة للالتفات إلى الأحوال والأعمال والمراقبة فيها، وغلب عليهم الحياء من الله، فلا يقدمون ولا يجمحون إلا بعد التثبت ويمتنعون عن كل ما يفتضحون به في القيامة، فانهم يرون الله مطلعاً عليهم، فلا يحتاجون إلى انتظار القيامة. ثم ينبغي للعبد ألا يغفل عن مراقبة نفسه والتضييق عليها في لحظة من حركاتها وسكناتها وخطراتها وأفعالها.

وحالاته لا تخلو عن ثلاثة، لأنه إما أن تكون في طاعة، أو معصية، أو مباح. فمراقبته في الطاعة. بالقربة، والاخلاص، والحضور، والاكمال، وحراستها عن الآفات، ومراعاة الادب. ومراقبته في المعصية: بالتوبة، والندم، والإقلاع، والحياء، والاشتغال بالتكفير. ومراقبته في المباح: بمراعاة الادب، بأن يأكل بعد التسمية، وغسل اليدين، وسائر الآداب المقررة في الشرع للأكل، ويقعد مستقبل القبلة، وينام بعد الوضوء على اليد اليمنى مستقبل القبلة، وبالصبر عند ابتلائه ببلية ومصيبة، وبالشكر عند كل نعمة، ويتذكر شهود المنعم وحضوره، ويكف النفس عن الغضب وسوء الخلق عند حدوث أمر تميل النفس عنده إلى الغضب والتضجر والتكلم بما لا يحسن من الأقوال، فان لكل واحد من أفعاله وأقواله حدوداً لا بد من مراعاتها بدوام المراقبة، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه، وينبغي ألا يخلو عند اشتغاله بالمباحات عن عمل هو الأفضل، كالذكر والفكر وتخليص النية، فان الطعام الذي يتناوله من عجائب صنع الله، فلو تفكر فيه وتدبر في فوائده وحكمه وما فيه من غرائب قدرة الله لكان ذلك أفضل من كثير من أعمال الجوارح، والناس عند الأكل على أقسام: (قسم) ينظرون فيه بعين التبصر والاعتبار، فينظرون في عجائب صنعته وكيفية ارتباط قوام الحيوانات به، وكيفية تقدير الله لأسبابها وخلق الشهوة الباعثة عليها وخلق الآلات المسخرة للشهوة وأمثال ذلك، وهؤلاء هم أولو الألباب. (وقسم) ينظرون فيه بعين المقت والكراهة، ويلاحظون وجه الاضطرار إليها، ويتمنون الإستغناء عنه، وعدم كونهم مقهورين مسخرين بشهوته، وهؤلاء هم الزهاد. (وقسم) يرون فيه خالقه، ويشاهدون في الصنع الصانع، ويترقون منه إلى صفات الخالق، من حيث إن كل معلول اثر من العلة، ورشحة من رشحات ذاته وصفاته، فمشاهدته تذكر العلة، بل التأمل يرشدك إلى أن دلالة كل ذرة ترى من ذرات العالم على ربك وخالقك وايجابها لحضوره عند وظهوره لديك وتوجهه إليك وقربه منك اشد واقوى من دلالة مشاهدتك بدن زيد وصورته وحركاته وسكناته على وجوده وحضوره عندك، وسر ذلك ظاهر واضح. وهؤلاء المشاهدون الصانع في كل مصنوع والخالق في كل مخلوق، هم العرفاء المحبون، إذ المحب إذا رأى صنعة حبيبه وتصنيفه وآثاره وما ينتسب إليه اشتغل قلبه بالمحبوب، وكل ما يتردد العبد فيه وينظر إليه من الموجودات هو صنع الله ـ تعالى ـ، فله في النظر منها إلى الصانع مجال إن فتحت له أبواب الملكوت. (وقسم) ينظرون فيه بعين الحرص والشهوة، وليس نظرهم إلى الطعام إلا من حيث يوافق شهوتهم وتلتذ به ذائقتهم، ولذلك يذمونه لو لم يوافق هواهم، وهؤلاء اكثر أهل الدنيا.

وثالثها ـ أي ثالث مقامات المرابطة وأعمالها ـ هو (المحاسبة) بعد العمل، فان العبد كما يختار وقتاً في أول كل يوم ليشارط فيه النفس على سبيل التوصية بالحق، ينبغي له أن يختار وقتاً في آخر كل يوم ليطالب النفس فيه بما أوصى به، ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها، كما يفعل التجار في آخر كل سنة مع الشركاء. وهذا أمر لازم على كل سالك لطريق الآخرة معتقد للحساب في يوم القيامة. وقد ورد في الأخبار: أن العاقل ينبغي أن يكون له أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يتفكر في صنع الله، وساعة يخلو فيها للمطعم والمشرب. ولذلك كان الصدر الأول من الخائفين ومن تقدمنا من سلفنا الصالحين في غاية السعي والاهتمام في محاسبة النفس، بحيث كانت عندهم من الطاعات الواجبة، وكانوا أشد محاسبة لنفوسهم من سلطان غاشم، ومن شريك شحيح، ويعتقدون أن العبد لا يكون من أهل التقوى والورع حتى يحاسب نفسه اتم من محاسبة شريكه، وأن من لا يحاسب نفسه إما معتوه أحمق أو لا يعتقد بحساب يوم القيامة، إذ العاقل المعتقد به مع اهواله وشدائده وما يوجبه من الخجلة والحياء والافتضاح، إذا علم ان محاسبة النفس في الدنيا تسقطه أو توجب خفته، كيف يجوز له ان يتركها؟.

ثم كيفية المحاسبة بعد العمل: ان يطالب نفسه اولاً بالفرائض التي هي بمنزلة راس ماله، فان ادتها على وجهها شكر الله عليه ورغبها في مثلها، وان فوتتها من اصلها طالبها بالقضاء، وإن ادتها ناقصة كلفها بالجبران بالنوافل، وان ارتكب معصبة اشتغل بعتابها وتعذيبها ومعاقبتها، واستوفى منها ما يتدارك به ما فرط، كما يصنع التاجر بشريكه. وكما انه يفتش في حساب الدنيا عن الحبة والقيراط والنقير والقطمير، فيحفظ مداخل الزيادة والنقصان حتى لا يغبن في شيء منها، كذلك ينبغي ان يفتش من افعال النفس ويضيق عليها، وليتق غائلتها وحيلتها، فانها خداعة مكارة ملبسة. فليطالبها اولاً بتصحيح الجواب عن جميع ما تكلم به طول نهاره، وليتكفل بنفسه من الحساب قبل ان يتولاه غيره في صعيد القيامة، ثم بتصحيح الجواب عن جميع افعاله واحواله: من نظره، وقيامه، وقعوده، ونومه، واكله، وشربه، حتى عن سكوته لم سكت، وعن سكونه لم سكن، وعن خواطره، وافكاره، وصفاته النفسية، واخلاقه القلبية، فان خرجت عن عهدة الجواب عن الجميع، بحيث ادت الحق في الجميع، ولم يترك شيئاً مما يجب عليها ولم ترتكب شيئاً من المعاصي: حصل لها الفراغ من حساب هذا اليوم، ولم يكن شيئاً باقياً عليها، وان ادت الحق في البعض دون البعض، كان قدر ما ادت الحق فيه محسوباً لها، ويبقى غيره باقياً عليها فيثبته عليها، وليكتب على صحيفة قلبه كما يكتب الباقي على شريكه على قلبه وعلى جريدته. ثم النفس غريم يمكن ان تستوفى منها الديون، اما بعضها فبالغرامة والضمان، وبعضها برد عينه، وبعضها بالعقوبة لها على ذلك، ولا يمكن شيء من ذلك إلا بعد تحقق الحساب وتمييز الباقي من الحق الواجب عليه، فإذا حصل ذلك اشتغل بعده بالمطالبة والاستيفاء.

ورابعها ـ وهو آخر مقامات المرابطة ـ (معاتبة النفس) ومعاقبتها على تقصيرها، والمجاهدة بتكليفها الطاعات الشاقة، والزامها الرياضات الشديدة، فانه إذا حاسب نفسه، فوجدها خائنة في الأعمال، مرتكبة للمعاصي، مقصرة في حقوق الله، متوانية بحكم الكسل والبطالة في شيء من الفضائل، فلا ينبغي ان يهملها، إذ لو اهملها سهل عليه مقارفة المعاصي، وانس بها بحيث عسر بعد ذلك فطامها عنها. فينبغي للعاقل ان يعاتبها اولاً ويقول: اف لك يا نفس! اهلكتيني وعن قريب تعذبين في النار مع الشياطين والأشرار، فيا ايتها النفس الأمارة الخبيثة! اما تستحيين وعن عيبك لا تنتهين؟! فما اعظم جهلك وحماقتك! اما تعرفين ان بين يديك الجنة والنار وانت صائرة إلى إحداهما عن قريب؟ فمالك تضحكين وتفرحين وباللهو والعصيان تشتغلين؟ اما علمت ان الموت يأتى بغتة من غير أخبار، وهو اقرب إليك عن كل قريب؟ فمالك لا تستعدين له؟ اما تخافين من جبار السماوات والأرض، ولا تستحيين منه؟ تعصين بحضرته وانت عالمة بأنه مطلع عليك؟ ويحك يا نفس! جرأتك على معصية الله ان كانت لاعتقادك انه لا يراك فما اعظم كفرك، وان كانت مع علمك باطلاعه عليك فما اشد وقاحتك واقل حياؤك، وما اعجبك نفاقك، وكثرة دعاويك الباطلة! فانك تدعين الإيمان بلسانك، وأثر النفاق ظاهر عليك! فتنبهي عن رقدتك وخذي حذرك! لو ان يهودياً اخبرك في الذ اطعمتك بأنه يضرك لصبرت وتركتيه! ولو اخبرك طفل بعقرب في ثوبك نزعتيه! فقول الله وقول انبيائه المؤيدين بالمعجزات وقول الاولياء والحكماء والعلماء اقل تأثيراً عندك من قول يهودي أو طفل؟!... فلا يزال يكرر عليها أمثال هذه المواعظ والتوبيخات والمعاتبات، ثم يعاقبها ويلزمها ما يشق عليها من وظائف العبادات والتصدق بما يحبه، جبراً لما فات منها وتداركا لما فرط فيها، فإذا أكل لقمة مشتبهة ينبغي ان يعاقب البطن بالجوع، وإذا نظر إلى غير محرم يعاقب العين بمنع النظر، وإذا اغتاب مسلماً يعاقب اللسان بالصمت والذكر مدة كثيرة، وكذلك يعاقب كل عضو من اعضائه إذا صدرت منه معصية بمنعه من شهواته، وإذا استخف بصلاة الزم نفسه بصلاة كثيرة بشرائطها وآدابها. وإذا استهان بفقير أعطاه صفو ماله، وهكذا الحال في سائر المعاصي والتقصيرات.

وطريق العلاج في إلزام النفس ـ بعد تقصيرها في العمل على هذه العقوبات وربطها على تلك الطاعات الشاقة والرياضات ـ أمران:

الأول ـ تذكر ما ورد في الأخبار من فضيلة رياضة النفس ومخالفتها، والاجتهاد في الطاعة والعبادة ووظائف الخيرات، قال الصادق (ع): " طوبى لعبد جاهد في الله نفسه وهواه! ومن هزم جند هواه ظفر برضاء الله، ومن جاوز عقله نفسه الامارة بالسوء بالجهد والاستكانة والخضوع على بساط خدمة الله ـ تعالى ـ فقد فاز فوزاً عظيماً، ولا حجاب أظلم وأوحش بين العبد وبين الله ـ تعالى ـ من النفس والهوى، وليس لقتلهما وقطعهما سلاح وآلة مثل الافتقار إلى الله، والخشوع، والجوع والظماء بالنهار، والسهر بالليل، فان مات صاحبه مات شهيداً، وان عاش واستقام اداه عاقبته إلى الرضوان الأكبر، قال الله ـ عز وجل ـ :

" والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين "[3].

وإذا رأيت مجتهداً ابلغ منك في الاجتهاد فوبخ نفسك ولمها وعيرها، تحثيثاً على الازدياد عليه، واجعل لها زماماً من الأمر، وعناناً من النهي، وسقها كالرابض للفارة الذي لا يذهب عليه خطوة من خطواته إلا وقد صح اولها وآخرها، وكان رسول الله (ص) يصلي حتى تورمت قدماه، ويقول: (أفلا أكون عبداً شكوراً)، أراد أن يعتبر به امته. فلا تغفلوا عن الاجتهاد والتعبد والرياضة بحال. ألا وإنك لو وجدت حلاوة عبادة الله، ورأيت بركاتها، واستضأت بنورها، لم تصبر عنها ساعة واحدة ولو قطعت ارباً ارباً، فما أعرض عنها من اعرض إلا بحرمان فوائد السلف من العصمة والتوفيق "[4]. قيل لربيع بن خثيم! مالك لا تنام بالليل؟ قال: " لأني اخاف البيات ". والأخبار الواردة في فضل السعي والاجتهاد ومخالفة النفس والهوى اكثر من أن تحصى.

الثاني ـ مصاحبة أهل السعى، والاجتهاد في العبادة، ومجالسة المجاهدين المرتاضين الذين لا ينفكون ساعة من مشاق الطاعات والعبادات وإلزام نفوسهم على ضروب النكال والعقوبات، فملاحظة احوالهم ومشاهدة أعمالهم أقوى باعث للاقتداء بآثارهم وافعالهم، حتى قال بعضهم: " إذا اعترتني فترة في العبادات، نظرت إلى بعض العبّاد واجتهاده في العبادة فكنت بعد ذلك اعمل اسبوعاً ". إلا أن ذلك غير مرجو في أمثال زماننا، إذ لم يبق في عباد الله من يجتهد في العبادة اجتهاد الاولين، وليس فينا من تقرب عبادته عبادة ادنى رجل من سلفنا الصالحين. فينبغي أن يعدل عن المشاهدة إلى سماع احوالهم، ومطالعة حكاياتهم واخبارهم، ومن لاحظ حكاياتهم وسمع احوالهم واطلع على كيفية اجتهادهم في طاعة الله، يعلم أنهم عباد الله واحباؤه وانهم ملوك الجنة. قال بعض أصحاب أمير المؤمنين ـ عليه الصلاة والسلام ـ: " صلينا خلفه الفجر، فلما سلم انتقل إلى يمينه وعليه كآبة، فمكث حتى طلعت الشمس، ثم قلب يده وقال: والله لقد رأيت أصحاب محمد (ص) وما أرى اليوم شيئاً شبههم، وكانوا يصبحون شعثاً غبرا صفرا، فقد باتوا لله سجداً وقياماً. يتلون كتاب الله ـ عز وجل ـ، ويراوحون بين أقدامهم وجباههم، وكانوا إذا ذكروا الله مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح، وهملت اعينهم حتى تبل ثيابهم، وكأن القوم باتوا غافلين ". وكان اويس القرني يقول في بعض الليالي: " هذه ليلة الركوع " فيحيى الليل كله في ركعة، ويقول في بعضها " هذه ليلة السجود " فيحيى الليل كله في سجدة. وقال ربيع بن خثيم: " أتيت اويساً فوجدته جالساً قد صلى الفجر، فجلست موضعاً، وقلت: لا أشغله عن التسبيح. فمكث مكانه حتى صلى الظهر ولم يقم حتى صلى العصر، ثم جلس موضعه حتى صلى المغرب، ثم ثبت حتى صلى العشاء، ثم ثبت مكانه حتى صلى الصبح، ثم جلس فغلبته عيناه، فقال: اللهم إني أعوذ بك من عين نوامة وبطن لا تشبع ". وروى: " أن رجلاً من العباد كلم امرأة ووضع يده على فخذها. ثم ندم فوضع يده في النار حتى نشت[5] عقوبة لها. وبعضهم نظر إلى امرأة فجعل على نفسه ألا يشرب الماء البارد طول حياته، فكان يشرب الماء الحار لينغص على نفسه العيش. ومر بعضهم بغرفة فقال: متى بنيت هذه الغرفة؟ ثم اقبل على نفسه وقال: تسألين عما لا يعنيك؟! لأعاقبنك بصوم سنة، فصامها ". وروى: " أن ابا طلحة الأنصاري شغل قلبه في الصلاة طين في الحائطة، فتصدق بالحائطة جبراً لما فاته من الحضور في الصلاة ". وكان بعضهم اعتلت احدى قدميه فيصلى على قدم واحدة حتى يصلي الصبح بوضوء العشاء. وكان بعضهم يقول: " ما اخاف من الموت إلا من حيث يحول بينى وبين صلاة الليل ". وحكى رجل: " أنه نزل بعض أهل الله عندنا بالمحصب[6] وكان له أهل وبنات، وفي كل ليل يقوم ويصلى إلى السحر، فإذا كان السحر ينادى بأعلى صوته: ايها الركب المعرسون![7] أكل هذا الليل تنامون فكيف ترحلون؟ فيسمع صوته كل من كان بالمحصب، فيتواثبون بين باك وداع، وقارىء ومتوضئ، وإذا طلع الفجر نادى بأعلى صوته: عند الصباح يحمد القوم السرى "، وهكذا كان عمل عمال الله، وسلوك سالكي طريق الآخرة، وحكاياتهم غير محصورة خارجة عن الاحصاء، اشرنا إلى انموذج منها ليعلم الطالبون كيفية سيرة الرجال في مرابطة النفس ومراقبتها، ويعلمون ان عباد الله ليسوا امثالنا، بل هم قوم آخرون. قال بعض الحكماء: " إن لله عباداً انعم عليهم فعرفوه، وشرح صدورهم فأطاعوه وتوكلوا عليه فسلموا الخلق والأمر إليه، فصارت قلوبهم معادن لصفاء اليقين، وبيوتاً للحكمة، وتوابيت للعظمة، وخزائن للقدرة، فهم بين الخلائق مقبلون ومدبرون، وقلوبهم تجول في الملكوت، وتلوز[8] بحجب العيون، ثم ترجع ومعا طوائف من لطائف الفوائد ما لا يمكن لواصف أن يصفها، فهم في باطن أمورهم كالديباج حسناً، وفي الظاهر مناديل مبذولون لمن أرادهم تواضعاً، وطريقهم لا يبلغ إليها بالتكليف، وإنما هو فضل الله يؤتيه من يشاء ". فعليك يا حبيبي بمطالعة أحوالهم وحكاياتهم، لينبعث نشاطك وتزيد رغبتك، واياك أن تنظر إلى أهل عصرك، ولعمرك! قل في امثال زماننا من يذكرك الله رؤيته، ويعينك في طريق الدين صحبته، فان تطع اكثر من في بلدك وعصرك يضلوك عن سبيل الله.

ومنها:

الغفلة

وهي فتور النفس عن الالتفات والتوجه إلى ما فيه غرضها ومطلبها، إما عاجلاً أو آجلاً. وضدها: النية، وترادفها: الارادة والقصد، وهي انبعاث النفس وميلها وتوجهها إلى ما فيه غرضها ومطلبها حالاً أو مآلاً. والموافق لغرض النفس إن كان خيراً لها وسعادة في الدنيا أو الدين، فالغفلة عنه وعدم انبعاث النفس إلى تحصيله رذيلة، والنقصان والنية له والقصد إليه فضيلة وكمال، وإن كان شراً وشقاوة، فالغفلة عنه وكف النفس منه فضيلة والنية له وارادته رذيلة. ثم باعث النفس على النية أو الغفلة والكف، إن كان من القوة الشهوية كانت النية أو الغفلة متعلقة بها فضيلة أو رذيلة، وإن كان من قوة الغضب كانت النية أو الغفلة متعلقة بهذه القوة كذلك. فالنية والعزم على التزويج متعلقة بالقوة الشهوية، وعلى دفع كافر يؤذي المسلمين متعلقة بقوة الغضب، والنية في العبادات مع انضمام التقرب إليها تسمى اخلاصاً. ثم المتبادر من الموافق للغرض والمطلوب لما كان ما هو كذلك عند العقلاء وارباب البصيرة، فيكون المراد منه ما هو مرغوب ومطلوب في نفس الأمر وما تحصيله خير وسعادة، وبهذا الاعتبار تكون الغفلة باطلاقها مذمومة والنية ممدوحة، فلو ذمت الغفلة باطلاقها ومدحت النية كذلك، كان بهذا الاعتبار. والآيات والأخبار الواردة في ذم الغفلة خارجة بهذا الاعتبار كما وصف الله الغافلين وقال:

" إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا "[9]. وقال: " أولئك هم الغافلون "[10].

[ تنبيه ]: الغفلة بالمعنى المذكور اعم من ان يكون فتور النفس وخمودها عن الانبعاث إلى ما يراه موافقاً للغرض مع الجهل بالموافق والملائم، أو مع العلم به ومع النسيان عنه، أو مع التذكر له، وربما خص في عرف أهل النظر بصورة الذهول وعدم التذكر. ثم الكسالة والبطالة قريب من الغفلة بالمعنى العام، وربما فرق بينهما ببعض الاعتبارات.

تتميم

(الغفلة موجبة للحرمان)

الغفلة والكسالة عما ينبغي تحصيله من أمور الدنيا والدين توجب الحرمان عن سعادة الدارين، وتؤدى إلى شقاوة النشأتين، إذ الاهمال في رعاية أمر المعيشة ومصالحها يؤدى إلى هلاكة الشخص وانقطاع النوع، والغفلة عن اكتساب المعارف والأخلاق الفاضلة وعن اداء الفرائض والنوافل تنجر إلى ابطال غاية الايجاد ـ اعني بلوغ كل شخص إلى كماله المستعد له ـ وهو مع كونه صريح المضادة والمنازعة لخالق العباد يوجب الهلاكة والشقاوة أبد الآباد.

فصل

ضد الغفلة النية ـ تأثير النية على الأعمال ـ النية روح الأعمال والجزاء بحسبها ـ عبادة الاحرار والاجراء والعبيد ـ نية المؤمن من العمل ـ النية غير اختيارية ـ الطريق في تخليص النية.

قد عرفت أن ضد الغفلة النية، وهي انبعاث النفس وتوجهها إلى ما يراه موافقاً لغرضها، وقد عرفت أيضاً ان النية والارادة والقصد عبارات متواردة على معنى واحد، وهي واسطة بين العلم والعمل، إذ ما لم يعلم أمر لم يقصد، وما لم يقصد لم يفعل، فالعلم مقدم على النية وشرطها، والعمل ثمرتها وفرعها، إذ كل فعل وعمل يصدر عن فاعل مختار فانه لا يتم إلا بعلم وشوق وارادة وقدرة. إذ كل إنسان خلق بحيث يوافقه بعض الأمور ويلائم غرضه، ويخالفه بعض الأمور، فاحتاج إلى جلب الموافق ودفع المخالف المنافي، وهو موقوف على ادراك الملائم النافع، والمنافي الضار، إذ ما لم يعرف الشيء لم يعقل طلبه أو الهرب عنه، وهو العلم، وعلى الميل والرغبة والشهوة الباعثة عليه، وهو الشوق، إذ من أدرك الغذاء أو النار لا يكفيه ذلك للتناول والهرب، ما لم يكن شوق إلى التناول والهرب، وعلى القصد والشروع والتوجه إليه، وهو النية، إذ كم مشاهد للطعام راغب فيه شائق إليه لا يريده لكونه مؤذياً أو حراماً أو لعذر آخر، وعلى القدرة المحركة للأعضاء إليه ـ أي إلى جلب الملائم أو دفع المضار ـ وبها يتم الفعل، فهي الجزء الأخير للعلة التامة التي بها يتم فعل الفاعل المختار، فالأعضاء لا تتحرك إلى جانب الفعل ولا توجده إلا بالقدرة، والقدرة تنتظر النية، والنية تنتظر الداعية الباعثة ـ اعني الشوق ـ، والشوق ينتظر العلم أو الظن بكون ما يفعل موافقاً له، فان كان الشوق صادراً عن القوة البهيمية، بأن يكون الفعل مما تقتضيه هذه القوة، كأكل، وشرب، وجماع، وكسب مال، وأمثال ذلك من الالتذاذات الشهوية، كانت النية والقصد أيضاً متعلقة بهذه القوة معدودة من فضائلها أو رذائلها، وإن كان مما تقتضيه القوة السبعية: من دفع مؤذ، أو طلب الاستعلاء، أو تفوق، وامثال ذلك، كانت النية أيضاً متعلقة بهذه القوة معدودة من فضائلهما أو رذائلهما، وقد ظهر بما ذكر: أن المحرك الأول هو الغرض المطلوب ـ أعني المقصود المنوي بعد تعلق العلم به ـ وهو الباعث الأول، وينبعث منه الشوق وهو الباعث الثاني، ويتولد منه القصد والنية وهو الباعث الثالث المحرك للقدرة الباعث لانتهاضها على تحريك الأعضاء إلى جانب العمل.



[1]  النساء، الآية: 1.

[2]  العلق، الآية: 14.

[3]  العنكبوت، الآية: 69.

[4]  الحديث بطوله مروى عن (مصباح الشريعة): باب 81ص184، مع اختلاف يسير هنا، فصححناه عليه كما كان هناك.

[5]  النشيش: صوت غليان الماء

[6]  المحصب ـ بالمهملتين وضم الميم وتشديد الصاد ـ: موضع بمكة على طريق منى، ويسمى (بطحاء).

[7]  النعرس: نزول المسافر آخر الليل للنوم والاستراحة، من قولهم: عرس القوم.

[8]  في القاموس: اللوز ـ بالزاي ـ: الملاذ والملجأ.

[9]  الفرقان، الآية: 44.

[10]  الأعراف، الآية: 178.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست