.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

هل يصح التبعيض في التوبة

أقسام التائبين

مراتب التوبة

عدم الثقة بالاستقامة لا يمنع من التوبة

علاج الإصرار على الذنوب

الإنابة

المحاسبة والمراقبة

المعنى الظاهر للمحاسبة والمراقبة

حاسبوا انفسكم قبل ان تحاسبوا

 

 

فصل

(هل يصح التبعيض في التوبة)

اعلم ان التوبة عن بعض الذنوب دون بعض ممكن ويصح، بشرط إلا تكون الذنوب التي يتوب عنها مخالفة بالنوع للذنوب التي لا يتوب عنها، كأن يتوب عن الكبائر دون الصغائر، أو عن القتل والظلم ومظالم العباد دون بعض حقوق الله، أو عن شرب الخمر دون الزنا أو بالعكس، أو عن شرب الخمر دون أكل أموال الناس بالباطل خيانة وتلبيساً أو غصباً أو قهراً، أو عن بعض الصغائر دون بعض الكبائر. كالذي يتوب عن الغيبة مع اصراره على شرب الخمر. والدليل على إمكان ذلك وصحته: ان العبد إذا علم ان الكبائر اعظم اثماً عند الله واجلب لسخط الله ومقته والصغائر اقرب إلى تطرق العفو إليها، فلا يبعد ان يتوب عن الاعظم دون الاصغر، وكذا إذا تصور ان بعض الكبائر اشد واغلظ عند الله من بعض، فلا يبعد ان يتوب عن الاغلظ دون الاخف، وقد تكون ضراوة أحد بنوع معصية شديدة، فلا يقدر على الصبر عنها، وتكون ضراوته بنوع آخر منها اقل، فيمكنه الترك بسهولة، فيتوب عنه دون الأول، وان كان الأول اغلظ واشد اثماً، كالذي شهوته بالخمر اشد من شهوته بالغيبة، فيترك الغيبة ويتوب عنها دون الخمر، فالتوبة عن بعض المعاصي دون بعض مع اختلافهما نوعاً بأي نحو كان ممكن وصحيح، ومعها يندفع عنه اثم ما تاب عنه، ويكتب عليه اثم ما لم يتب عنه، بل ربما كان اكثر ما وقع من التوبة من هذا القبيل، إذ كثر التائبون في الاعصار الخالية والقرون الماضية، ولم يكن أحد منهم معصوماً، فيكون كل منهم جازاً بأنه يصدر عنه معصية البتة. ويدل على الصحة قوله (ع): " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " حيث لم يقل: التائب من الذنوب. نعم التوبة عن بعض الذنوب دون بعض مع تماثلهما غير صحيح وغير معقول، لاستوائهما في حق الشهوة وحق التعرض لسخط الله، فلا معنى للتوبة عن اخذ الخبز الحرام، أو عن أخذ الدرهم الحرام دون الدينار الحرام أو عن ترك صلاة الظهر دون العصر، إذ لو كان ذلك صحيحاً لصح أن يتوب عن أخذ هذا الخبز دون ذلك الخبز، أو عن أخذ هذا الدرهم دون ذلك الدرهم... وهكذا. والحاصل: ان التوبة عن بعض الذنوب دون بعض مع تفاوتهما في العقاب واقتضاء الشهوة صحيح، ومع تماثلهما فيهما غير معقول. ومن العلماء من قال: إن التوبة عن البعض دون البعض لا تصح مطلقاً، واستدل على ذلك بأن التوبة عبارة عن الندم، وإنما يندم على السرقة ـ مثلاً ـ لكونها معصية لا لكونها سرقة، ولا يعقل أن يندم عليها دون الزنا ان كان توجعه لأجل المعصية، إذ العلة شاملة لهما، لان من يتوجع على قتل ولده بالسيف يتوجع على قتله بالسكين، لان التوجع هو بفوات المحبوب، ساء كان بالسيف أو بالسكين، وكذلك توجع التائب انما هو لفوات المحبوب بالمعصية، سواء عصى بالسرقة أو بالزنا، وجوابه قد ظهر مما ذكرناه.

فصل

(أقسام التائبين)

التائبون بين من سكت نفسه عن الشروع إلى الذنوب فلا يحوم حومها، وبين من بقى في نفسه الشروع إليها والرغبة فيها وهو يجاهدها ويمنعها: والأول بيّن من سكون النزوع وبطلانه فيه لأجل قوة اليقين وصدق المجاهدة، ومن سكونه وانقطاعه بفتور في نفس الشهوة فقط: والأول من الأول أفضل من الثاني، والثاني منه أدون من الثاني، والوجه ظاهر. وأيضاً التائبون بين من نسى الذنب من دون اشتغال بالتفكر فيه، وبين من جعله نصب عينيه ولا يزال يتفكر فيه ويحترق ندماً عليه. ولا ريب في أن التذكر والاحتراق بالنظر إلى المبتدي ومن يخاف عليه العود أفضل، لأنه يصده عنه، والنسيان بالنظر إلى المنتهى السالك والواصل إلى مرتبة الحب والإنس الواثق من نفسه انه لا يعود أفضل، لأنه شغل مانع عن سلوك الطريق، وحاجب من الحضور بلا فائدة. ولا ينافيه بكاء الأنبياء وتناجيهم من الذنوب، لانهم قد ينزلون في أقوالهم وأفعالهم إلى الدرجات اللائقة بالامة، فانهم بعثوا لارشادهم، فعليهم التلبس بما ينتفع الامة بمشاهدته، وإن كان نازلا عن ذروة مقامهم. ولذا قال رسول الله (ص): " أما إني لا أنسى، ولكن انسى لأشرع "[1]. ولا تعجب من هذا، فان الأمم في كنف شفقة الأنبياء كالصبيان في كنف شفقة الآباء، وكالمواشي في كنف الرعاة، والاب إذا أراد أن يستنطق ولده الصغير ينزل إلى درجة نطق الصبي، والراعي لشاة أو طائر يصوت به رغاء أو صفيراً شبيهاً بالبهيمة والطائر، تلطفاً في تعليمه.

فصل

(مراتب التوبة)

اعلم أن التائب اما يتوب عن المعاصي كلها ويستقيم على التوبة إلى آخر عمره، فيتدارك ما فرط، ولا يعود إلى ذنوبه، ولا يصدر عنه معصية إلا الزلات التي لا يخلو عنها غير المعصومين، وهذه التوبة هي التوبة النصوح، والنفس التي صاحبها هي النفس المطمئنة التي ترجع إلى ربها راضية مرضية، أو يتوب عن كبائر المعاصي والفواحش ويستقيم على امهات الطاعات، إلا أنه ليس ينفك عن ذنوب تصدر عنه في مجاري أحواله غفلة وسهوة وهفوة، لا عن محض العمد وتجريد القصد، وإذا أقدم على ذنب لام نفسه وندم وتأسف وجدد عزمه على ألا يعود إلى مثله، ويشمر للاحتراز عن أسبابه التي تؤدي إليه، والنفس التي هذه مرتبتها هي النفس اللوامة التي خيرها يغلب على شرها، ولها حسن الوعد من الله ـ تعالى ـ بقوله:

" الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة "[2].

والى مثلها الإشارة بقوله (ص): " خياركم كل مفتن تواب ". وفي خبر آخر: " المؤمن كالسنبلة، يفيء احياناً ويميل احياناً ". وفي خبر آخر: " لا بد للمؤمن من ذنب يأتيه الفينة بعد الفينة "[3]: أي الحين بعد الحين. وكل ذلك شاهد صدق على ان هذا القدر من الذنوب لا ينقض التوبة ولا يلحق صاحبه بدرجة المصرين، ومن يؤيس مثل هذا عن النجاة ووصوله إلى درجة التائبين فهو ناقص، ومثله مثل الطبيب الذي يؤيس الصحيح من دوام الصحة بما يتناوله من الفواكه مرة أو مرتين، ومثل الفقيه الذي يؤيس المتفقه عن ينل درجة الفقهاء بفتوره عن التكرار في اوقات نادرة. ولا ريب في نقضانه. فالعالم حق العالم هو الذي لا يؤيس الخلق من درجات السعادات بما يتفق لهم من الفترات ومقارفة السيئات المختطفات. إذ امثال الفترات وما يصدر عن السهو والغفلات لا يفسد النفس ولا يبطلها بحيث لا يقبل الاصلاح، أو يتوب ويستمر على الاستقامة مدة ثم تغلبه الشهوة في بعض الذنوب، فيقدم عليه عمداً وقصدا، لعجزه عن قهر الشهوة وقمعها، إلا أنه مع ذلك مواظب على الطاعات، وتارك لأكثر الذنوب مع القدرة والشهوة، وإنما قهره بعض الشهوات بحيث يغفل عند هيجانها ويرتكب مقتضاها من دون مجاهدة وندامة، وعند قضاء هذه الشهوة والفراغ عنها يتندم، ويقول سأتوب عنها، لكنه يسول نفسه ويسوف توبته يوماً بعد يوم، والنفس التي هذه درجتها هي التي تسمى النفس المسولة المسؤول صاحبها، واليها الإشارة بقوله ـ تعالى ـ:

" وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً "[4].

فنجاتها من حيث مواظبته على الطاعات وكراهته لما يتعاطاه مرجو، فعسى الله أن يتوب عليها، ولكن يخاف عليها من حيث تسويفها وتأخيرها، فربما اختطفها الموت قبل التوبة، ويقع أمرها في المشيئة، فيدخل في زمرة السعداء، أو يسلك في سلك الاشقياء، أو يتوب ويجري مدة على الاستقامة، ثم يعود إلى الذنوب عمداً وقصداً، من غير أن يحدث نفسه بالتوبة، ومن غير أن يتأسف ويتندم، بل ينهمك انهماك الغافل في الذنوب واتباع الشهوات وهذا معدود من المصرين، ونفسه محسوبة من النفوس الامارة بالسوء الفرارة من الخير، ومثله إن مات على التوحيد وختم له بالحسنى وغلبت طاعاته على سيئاته كان من أهل الجنة، وإن ختم له بالسوء كان من أهل النار، وإن مات على التوحيد ولكن ترجحت سيئاته على حسناته فأمره إلى الله، ولعله يعذب في النار مدة بقدر زيادة سيئاته على حسناته، ثم يخلص منه بعميم لطفه.

فصل

(عدم الثقة بالاستقامة لا يمنع من التوبة)

اعلم أن من تاب ولا يثق من نفسه الاستقامة على التوبة فلا ينبغي أن يمنعه ذلك عن التوبة، علماً منه أنه لا فائدة فيه فان ذلك من غرور الشيطان، ومن أين له هذا العلم، فلعله يموت تائباً قبل أن يعود إلى الذنب.

وأما الخوف من العود، فليتداركه بتجريد القصد وصدق العزم، فان وفى به فقد نال مطلبه، والا فقد غفرت ذنوبه السابقة كلها وتخلص منها، وليس عليه إلا هذا الذنب الذي أحدثه الآن. وهذا من الفوائد العظيمة والأرباح الجسيمة، فلا يمنعك خوف العود من التوبة فانك من التوبة أبداً بين احدى الحسنيين: ـ إحداهما العظمى: وهي غفران الذنوب السابقة وعدم العود إلى ذنبه في الاستقبال. ـ وثانيهما ـ وهي الصغرى: غفران الذنوب الماضية، وإن لم يمنع العود إلى الذنب في المستقبل. ثم إذا عاد إلى الذنب ينبغي أن يتوب عنه دفعة، ويتبعه بحسنة لتمحوها، فيكون ممن خلط عملا صالحاً وآخر سيئاً. والحسنات المكفرة للذنوب إما متعلقة بالقلب: وهي الندم، والتضرع إلى الله والتذلل له، وإضمار الخير للمسلمين، والعزم على الطاعات، أو باللسان: وهي الاعتراف بالظلم والاساءة، وكثرة الاستغفار، أو بالجوارح: وهي أنواع الطاعات والصدقات. وينبغي ملاحظة المناسبة بين السيئة التي صدرت عنه والحسنة التي يتبعها لتمحوها. وفي الخبر: ان الذنب، إذا اتبع بثمانية اعمال كان العفو عنه مرجوا: أربعة من اعمال القلوب، وهي: التوبة أو العزم على التوبة، وحب الاقلاع عن الذنب، وتخوف العقاب عليه، ورجاء المغفرة، وأربعة من أعمال الجوارح وهي: أن تصلي عقب الذنب ركعتين، ثم تستغفر الله ـ تعالى ـ بعدهما سبعين مرة وتقول سبحان الله العظيم وبحمده مائة مرة، ثم تتصدق بصدقة، ثم تصوم يوماً. وفي بعض الأخبار: تسبغ الوضوء وتدخل المسجد وتصلي ركعتين، وفي بعضها: تصلي أربع ركعات. ولا تظنن أن الاستغفار باللسان بدون حل عقدة الاصرار لا فائدة فيه أصلا، بل هو توبة الكذابين، لما ورد من أن المستغفر من الذنب وهو مصر عليه كالمستهزئ بآيات الله، لأن الاستغفار الذي هو توبة الكذابين ولا فائدة فيه أصلا هو الاستغفار بمجرد اللسان وبحكم العادة وعلى سبيل الغفلة، أي ما يكون مجرد حركة اللسان من دون مدخلية للقلب، كما إذا سمع شيئاً مخوفاً، فيقول على الغفلة. استغفر الله، أو نعوذ بالله، من غير شركة للقلب فيه وتأثره منه، وأما إذا إنضاف إليه تضرع القلب وابتهاله في سؤال المغفرة عن صدق ارادة وخلوص رغبة وميل قلبي إلى انقلاعه عن هذا الذنب فهي حسنة في نفسها، وان علم أن نفسه الامارة ستعود إلى هذا الذنب فتصلح هذه الحسنة لأن يدفع بها السيئة، فالاستغفار بالقلب وان خلا عن حل عقدة الاصرار لا يخلو عن الفائدة، وليس وجوده كعدمه. وقد عرف ارباب القلوب بنور البصيرة معرفة قطعية يقينية لا يعتريها ريب وشبهة صدق قوله ـ تعالى ـ:

" فمن يعمل مثقال ذرةٍ خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره "[5].

ولذا جزموا وقطعوا بأنه لا تخلو ذرة من الخير عن اثر كما لا تخلو شعيرة تطرح في الميزان عن أثر، ولو كانت كل شعيرة خالية عن اثر لكان لا يرجح الميزان باجتماع الشعيرات، فميزان الحسنات يترجح بذرات الخيرات إلى ان يثقل فتسل كفة السيئات، فاياك وان تستصغر ذرات الطاعات فلا تأتيها، وتستحقر ذرات المعاصي فلا تتقيها، كالمرأة الخرفاء تكسل عن الغزل تعللا بأنها لا تقدر في كل ساعة إلا على خيط واحد، واي غنى يحصل منه، وما وقع ذلك في الثياب، ولا تدري أن ثياب الدنيا اجتمعت خيطاً خيطا. وان أجسام العالم مع اتساع أقطاره اجتمعت ذرة ذرة، وربما ترتب على عمل قليل ثواب جزيل، فلا ينبغي تحقير شيء من الطاعات. قال الصادق (ع): " إن الله ـ تعالى ـ خبأ ثلاثاً في ثلاث: رضاه في طاعته، فلا تحقروا منها شيئاً فلعل رضاه فيه. وغضبه في معاصيه، فلا تحقروا شيئاً فلعل غضبه فيه. وخبأ ولايته في عباده، فلا تحقروا منهم احداً فلعله ولي الله ". فاذاً الاستغفار بالقلب حسنة لا يضيع اصلا، بل ربما قيل: الاستغفار بمجرد اللسان أيضاً حسنة، إذ حركة اللسان بها غفلة خير من السكوت عنه، فيظهر فضله بالنظر إلى السكوت عنه، وإن كان نقصاً بالاضافة إلى عمل القلب، فينبغي ألا تترك حركة اللسان بالاستغفار، ويجتهد في اضافة حركة القلب إليها، ويتضرع إلى الله أن يشرك القلب مع اللسان في اعتياد الخير.

فصل

(علاج الاصرار على الذنوب)

اعلم أن الطريق إلى تحصيل التوبة، والعلاج لحل عقدة الاصرار على الذنوب: أن يتذكر ما ورد في فصلها ـ كما مر ـ وتذكر قبح الذنوب وشدة العقوبة عليها، وما ورد في الكتاب والسنة من ذم المذنبين والعاصين، ويتأمل في حكايات الأنبياء وأكابر العباد، وما جرى عليهم من المصائب الدنيوية، بسبب تركهم الأولى وارتكابهم بعض صغائر المعاصي، وأن يعلم أن كل ما يصيب العبد في الدنيا من العقوبة والمصائب فهو بسبب معصيته ـ كما دل عليه الأخبار الكثيرة ـ ويتذكر ما ورد من العقوبات على احاد الذنوب: كالخمر، والزنا، والسرقة، والقتل، والكبر، والحسد، والكذب، والغيبة، وأخذ المال الحرام... وغير ذلك من احاد المعاصي مما لا يمكن حصره، ثم يتذكر ضعف نفسه وعجزها عن احتمال عذاب الآخرة وعقوبة الدنيا، ويتذكر خساسة الدنيا وشرف الآخرة، وقرب الموت ولذة المناجاة مع ترك الذنوب، ولا يغتر بعدم الأخذ الحالي. إذ لعله كان من الاملاء والاستدراج. فمن تأمل في جميع ذلك وعلم ذلك على سبيل التحقيق انبعثت نفسه للتوبة، إذ لو لم ينزعج إلى التوبة بعذ ذلك، فهو إما معتوه احمق أو غير معتقد بالمعاد، وينبغي أن يجتهد في قلع أسباب الاصرار من قلبه: اعني الغرور، وحب الدنيا، وحب الجاه، وطول الأمل... وغير ذلك.

فصل

(الانابة)

اعلم أن الإنابة هو الرجوع عن كل شيء مما سوى الله، والاقبال على الله ـ تعالى ـ بالسر والقول والفعل، حتى يكون دائماً في فكره وذكره وطاعته، فهو غاية درجات التوبة وأقصى مراتبها، إذ التوبة هو الرجوع عن الذنب إلى الله والانابة هو الرجوع عن المباحات أيضاً إليه ـ سبحانه ـ، فهو من المقامات العالية والمنازل السامية. قال الله ـ سبحانه ـ:

" وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له "[6]. وقال ـ سبحانه ـ: " وما يتذكر إلا من ينيب "[7]. وقال: " وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيدٍ، هذا ما توعدون لكل أوابٍ حفيظٍ، من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلبٍ منيبٍ، أدخلوها بسلام ذلك يوم الخلود، لهم ما يشاؤن فيها ولدينا مزيد "[8].

وانابة العبد تتم بثلاثة أمور:

الأول ـ أن يتوجه إليه بشراشر باطنه حتى يستغرق قلبه في فكره.

الثاني ـ ألا يكون خالياً عن ذكره وذكر نعمه ومواهبه وذكر أهل حبه وتقربه.

الثالث ـ أن يواظب على طاعاته وعباداته مع خلوص النية.

المحاسبة والمراقة

[تذنيب] ـ اعلم أن المحاسبة والمراقبة قريبة من التوبة في ضديتهما من وجه الاصرار على الذنوب. ومثلها في كونهما من ثمرات الخوف والحب وتعلقهما بقوتي الشهوة والغضب وكونهما من فضائلها، فنحن نشير هنا إلى ما يتعلق بهما من بيان حقيقتهما وفضيلتهما والأعمال التي يتوقف تماميتها عليهما في فصول.

فصل

(المعنى الظاهر للمحاسبة والمراقبة)

[المحاسبة]: أن يعين في كل يوم وليلة وقتاً يحاسب فيه نفسه بموازنة طاعاته ومعاصيه، ليعاتب نفسه، ويقهرها لو وجدها في هذا اليوم والليلة مقصرة في طاعة واجبة، أو مرتكبة لمعصية، ويشكر الله ـ سبحانه ـ لو أتت بجميع الواجبات ولم يصدر منها معصية، ويزيد الشكر لو صدر منها شيء من الخيرات والطاعات المندوبة.

[والمراقبة]: أن يلاحظ ظاهره وباطنه دائماً، حتى لا يقدم على شيء من المعاصي، ولا يترك شيئاً من الواجبات ليتوجه عليه اللوم والندامة وقت المحاسبة. هذا هو المعنى الظاهر للمحاسبة والمراقبة، ويأتي اعتبار أمور وأعمال أخر فيه عرفاً.

فصل

(حاسبوا انفسكم قبل أن تحاسبوا)

اعلم ان الكتاب والسنة واجماع الامة دالة على ثبوت المحاسبة يوم القيامة، وحصول التدقيق والمناقشة في الحساب، والمطالبة بمثاقيل الذر من الأعمال والخطرات واللحظات، قال الله ـ سبحانه ـ:

" ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبةٍ من خردلٍ أتينا بها وكفى بنا حاسبين "[9]. وقال: " يوم يبعثهم الله جميعاً فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شيءٍ شهيد "[10]. وقال: " ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً "[11]. وقال: " يومئذٍ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم، فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرةٍ شراً يره "[12]. وقال: " يوم تجد كل نفسٍ ما عملت من خيرٍ محضراً وما عملت من سوءٍ تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً "[13]. وقال: " ثم توفى كل نفسٍ ما كسبت وهم لا يظلمون "[14]. وقال: " فوربك لنسئلنّهم أجمعين عما كانوا يعملون "[15].

وقال رسول الله (ص): " ما منكم من أحد إلا ويسأله رب العالمين، ليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان ". وورد بطرق متعددة: ان كل أحد في يوم القيامة لا يرفع قدماً عن قدم حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن جسده فيما ابلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه. والآيات والأخبار الواردة في محاسبة الأعمال والسؤال عن القليل والكثير والنقير والقطمير اكثر من أن تحصى، وبازائها أخبار دالة على الأمر بالمحاسبة والمراقبة في الدنيا، والترغيب عليها، وعلى كونها سبباً للنجاة والخلاص عن حساب الآخرة، وخطره ومناقشته. فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب، وطالبها في الانفاس والحركات، وحاسبها في الخطرات واللحظات، ووزن بميزان الشرع أعماله وأقواله: خف في القيامة حسابه وحضر عند السؤال جوابه، وحسن منقلبه ومآبه. ومن لم يحاسب نفسه: دامت حسراته، وطالت في عرصات القيامة وقفاته، وقادته إلى الخزي سيئاته، قال الله ـ سبحانه ـ:

" ولتنظر نفس ما قدمت لغدٍ "[16].

والمراد بهذا النظر: المحاسبة على الأعمال. وقال رسول الله (ص): " حاسبوا انفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا ". وقال الصادق (ع): " إذا اراد احدكم إلا يسأل ربه شيئاً إلا أعطاه فلييأس من الناس كلهم، ولا يكون له رجاء إلا من عند الله ـ تعالى ـ، فإذا علم الله ـ تعالى ـ ذلك من قلبه لم يسأله شيئاً إلا أعطاه، فحاسبوا انفسكم قبل أن تحاسبوا عليها، فان للقيامة خمسين موقفاً، كل موقف مقام أف سنة. ثم تلا:

" في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنةٍ "[17].

وتفريع المحاسبة على الأمر باليأس عن الناس والرجاء من الله، يدل على أن الإنسان إنما يرجو الناس من دون الله في عامة أمره وهو غافل عن ذلك، وأن عامة المحاسبات إنما ترجع إلى ذلك، وذكر الوقوف في مواقف يوم القيامة على الأمر بمحاسبة النفس يدل على أن الوقفات هناك إنما تكون للمحاسبات، فمن حاسب نفسه في الدنيا يوماً فيوماً لم يحتج إلى تلك الوقفات في ذلك اليوم، وقال (ع): " لو لم يكن للحساب مهول إلا حياء العرض على الله ـ تعالى ـ، وفضيحة هتك الستر على المخفيات، لحق للمرء ألا يهبط من رؤوس الجبال، ولا يأوى إلى عمران، ولا يأكل، ولا يشرب، ولا ينام، إلا عن اضطرار متصل بالتلف، ومثل ذلك يفعل من يرى القيامة بأهوالها وشدائدها قائمة في كل نفس، ويعاين بالقلب الوقوف بين يدي الجبار، حينئذ يأخذ نفسه بالمحاسبة، كانه إلى عرصاتها مدعو وفي غمراتها مسؤل، قال الله ـ تعالى ـ :

" وإن كان مثقال حبةٍ من خردلٍ أتينا بها وكفى بنا حاسبين "[18]. "[19].

وقال الكاظم (ع): " ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فان عمل حسنة استزاد الله ـ تعالى ـ، وان عمل سيئة استغفر الله منها وتاب إليه ". وفي بعض الأخبار: ينبغي ان يكون للعاقل أربع ساعات: ساعة يحاسب فيها نفسه....



[1]  الحديث نبوي مروي في إحياء العلوم: 4/38.

[2]  النجم، الآية: 32.

[3]  صححنا النبويات الثلاث على إحياء العلوم: 4/39.

[4]  التوبة، الآية: 103.

[5]  الزلزلة، الآية: 7 ـ 8.

[6]  الزمر: 54.

[7]  المؤمن: 13.

[8]  ق، الآية: 31 ـ 35.

[9]  الأنبياء، الآية: 47.

[10]  المجادلة، الآية: 6.

[11]  الكهف، الآية: 50.

[12] الزلزال، الآية: 6 ـ 8.

[13] آل عمران، الآية: 30.

[14]  البقرة، الآية:281، آل عمران، الآية: 161.

[15] الحجر، الآية: 92.

[16]  الحشر، الآية: 18.

[17]  المعارج، الآية: 4.

[18]  الأنبياء، الآية: 47.

[19]  صححنا الحديث على مصباح الشريعة: باب 85، ص186.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست