.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

فضيلة التوبة

قبول التوبة

طرق التوبة عن المعاصي

تكفير الصغائر ومعنى الكبائر

الصغائر قد تكون كبائر

شروط كمال التوبة

 

 

فصل

(فضيلة التوبة)

اعلم أن التوبة أول مقامات الدين، ورأس مال السالكين، ومفتاح استقامة السائلين، ومطلع التقرب إلى رب العالمين، ومدحها عظيم، وفضلها جسيم، قال الله ـ تعالى ـ:

" إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين "[1].

وقال رسول الله (ص): " التائب حبيب الله، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ". وقال الباقر (ع): " إن الله ـ تعالى ـ أشد فرحاً بتوبة عبده من رجل أضل راحلته وزاده في ليلة ظلماء فوجدها، فالله اشد فرحاً بتوبة عبده من ذلك الرجل براحلته حين وجدها ". وقال (ع): " التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمقيم على الذنب وهو مستغفر منه كالمستهزئ ". وقال الصادق (ع): " إن الله يحب من عباده المفتن التواب ": يعني كثير الذنب كثير التوبة. وقال (ع): " إذا تاب العبد توبة نصوحا، أحبه الله فستر عليه " فقلت: وكيف يستر عليه؟ قال: " ينسى ملكيه ما كانا يكتبان عليه، ويوحى إلى جوارحه وإلى بقاع الأرض أن اكتمي عليه ذنوبه، فيلقى الله ـ عز وجل ـ حين يلقاه وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب ". وقال الصادق (ع): " إن الله ـ عز وجل ـ اعطى التائبين ثلاث خصال لو اعطى خصلة منها جميع أهل السماوات والأرض لنجوا بها: قوله ـ عز وجل ـ :

إن الله يحب التوابين... " إلى آخره[2]، وقوله: " الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً فاغفر للذين تابوا ـ إلى قوله ـ وذلك هو الفوز العظيم "[3]. وقوله: " والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً، يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد في مهاناً، إلا من تاب وآمن ـ إلى قوله ـ وكان الله غفوراً رحيماً "[4].

وقال أبو الحسن (ع): " أحب العباد إلى الله المنيبون التوابون ".

فصل

(قبول التوبة)

التوبة المستجمعة لشرائطها مقبولة بالاجماع، ويدل عليه قوله ـ تعالى ـ:

 " هو الذي يقبل التوبة عن عباد "[5]. وقوله ـ تعالى ـ : " غافر الذنب وقابل التوب "[6]. وقول ـ تعالى ـ : " ومن يعمل سوأ أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً "[7].

وقول النبي (ص): " إن الله ـ تعالى ـ يبسط يدهُ بالتوبة لمسيء الليل إلى النهار ولمسيء النهار إلى الليل حتى تطلع الشمس من مغربها ". وبسط اليد كناية عن طلب التوبة، وطالب التوبة يقبله البتة. وقوله (ص): " إن الحسنات يذهبن السيئات، كما يذهب الماء الوسخ ". وقوله (ص): " لو عملتم الخطايا حتى تبلغ السماء ثم ندمتم، لتاب الله عليكم ". وقوله (ص): " إن العبد ليذنب الذنب فيدخل في الجنة ". قيل: كيف يا رسول الله؟! قال: " يكون نصب عينيه تائباً منه فاراً حتى يدخل الجنة ". وقوله (ص): " كفارة الذنب الندامة ". وقوله (ص): " من تاب قبل موته بسنة قبل الله توبته. ثم قال: إن السنة الكثير، من تاب قبل موته بشهر قبل الله توبته. وقال: إن الشهر الكثير، من تاب قبل موته بجمعة قبل الله توبته. ثم قال: إن الجمعة لكثير، من تاب قبل موته بيوم قبل الله توبته. ثم قال: إن يوماً لكثير، من تاب قبل أن يعاين ملك الموت قبل الله توبته " وقال الباقر (ص) لمحمد بن مسلم: " ذنوب المؤمن إذا تاب منها مغفورة له، فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة والمغفرة، أما والله إنها ليست إلا لأهل الإيمان ".فقال له: فان عاد بعد التوبة والاستغفار من الذنوب وعاد في التوبة؟ قال: " يا محمد بن مسلم! أترى العبد المؤمن يندم على ذنبه ويستغفر منه ويتوب ثم لا يقبل الله توبته؟ ". قال فانه فعل ذلك مراراً، يذنب ثم يتوب ويستغفر، فقال: " كلما عاد المؤمن بالاستغفار والتوبة عاد الله عليه بالمغفرة، وإن الله غفور رحيم يقبل التوبة ويعفو عن السيئات، فاياك أن تقنط المؤمن من رحمة الله ". وقوله (ع): " إذا بلغت النفس هذه ـ وأهوى بيده إلى حلقه ـ لم تكن للعالم توبة، وكانت للجاهل توبة ". وقوله (ع): " إن آدم (ص) قال: يارب! سلطت علي الشيطان، وأجريته منى مجرى الدم، فاجعل لي شيئاً، فقال: يا آدم! جعلت لك: إن من هم من ذريتك بسيئة لم تكتب عليه، فان عملها كتبت عليه سيئة ومن هم منهم بحسنة، فان لم يعملها كتبت له حسنة، فان هو عملها كتبت له عشراً، قال: يا رب! زدني، قال جعلت لك: إن من عمل منهم سيئة ثم استغفر غفرت له، قال: يارب! زدني، قال: جعلت لهم التوبة، وبسطت لهم التوبة حتى تبلغ النفس هذه، قال: يارب! حسبي " وقول الصادق (ع): " إن الرجل ليذنب الذنب فيدخله الله به الجنة "، قيل: يدخله الله بالذنب الجنة؟ قال: " نعم! إنه ليذنب فلا يزال منه خائفاً ماقتاً لنفسه، فيرحمه الله فيدخله الجنة ". وقوله (ع): " العبد المؤمن إذا أذنب ذنباً أجّله الله سبع ساعات، فان استغفر الله لم يكتب عليه شيء، وإن مضت الساعات ولم يستغفر كتبت عليه سيئة، وان المؤمن ليذكر ذنبه بعد عشرين سنة حتى يستغفر ربه فيغفر له، وإن الكافر لينسى من ساعته ". وقوله (ع): " ما من مؤمن يقارف في يومه وليلته أربعين كبيرة فيقول وهو نادم: استغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم بديع السماوات والأرض ذا الجلال والاكرام وأسأله أن يصلى على محمد وآل وحمد وان يتوب علي، إلا غفرها الله له، ولا خير فيمن يقارف في يومه اكثر من اربعين كبيرة "[8].

وروى: " إن الله ـ تعالى ـ لما لعن إبليس سأله النظرة، فانظره إلى يوم القيامة، فقال: وعزتك لاخرحت من قلب ابن آدم ما دام فيه الروح، فقال الله ـ تعالى: بعزتي لاحجبت عنه التوبة ما دام في الروح ". وورد في الاسرائيليات: " أن شاباً عبد الله عشرين سنة، ثم عصاه عشرين سنة، ثم نظر في المرآة، فرأى الشيب في لحيته، فساءه ذلك، فقال: إلهي اطعتك عشرين سنة ثم عصيتك عشرين سنة فان رجعت إليك أتقبلني؟ فسمع قائلاً يقول: أجبتنا فاجبناك، فتركتنا فتركناك، وعصيتنا فامهلناك، فان رجعت الينا قبلناك ". والأخبار والآثار في هذا المعنى اكثر من أن تحصى، وفي بعض الأخبار المتقدمة دلالة عليه أيضا.

ثم الناظر بنور البصيرة لا يحتاج في هذا المعنى إلى بيان، إذ يعلم أن التوبة توجب سلامة القلب، وكل قلب سليم مقبول عند الله ومتنعم في الآخرة في جوار الله، ويعلم ان القلب خلق في الأصل سليماً صافياً، إذ كل مولود يولد على الفطرة، وإنما مرض واسود بامراض الذنوب وظلماتها، ودواء التوبة يزيل هذه الأمراض، ونور الحسنات يمحو هذه الظلمات، ولا طاقة لظلام المعاصي مع نور الحسنات، كما لا طاقة لظلام الليل مع نور النهار، ولكدورة الوسخ مع بياض الصابون والماء الحار، نعم إذا تراكمت الذنوب بحيث صار ريناً وطبعاً، وافسدت القلب بحيث لا يقبل الصفاء والنورانية بعد ذلك، فمثل هذا القلب لا تفيده التوبة، بمعنى انه لا يرجع ولا يتوب، وإن قال باللسان تبت، إذ اوساخ الذنوب غاصت في تجاويفه وتراكمت فيه بحيث لا يقبل التطهير، ولو بولغ فيه أدى إلى انخراق القلب وهلاكه، لصيرورة الاوساخ جزءاً من جوهره، كما أن الثوب الذي غاص الوسخ في تجاويفه وخلله وتراكم فيه، لو بولغ في تطهيره بالماء والصابون أدى ذلك إلى انخراقه. وهذا حال اكثر الخلق المقبلين على الدنيا المعرضين عن الله فانهم لا يرجعون ولا يتوبون لصيرورة ذمائم الأخلاق ورذائلها ملكات راسخة في نفوسهم وغاصت اوساخها في تجاويف قلوبهم، بحيث لا يتنبهون ولا يتيقظون حتى يقصدوا التوبة، ولو قصدوها فانما هو بمجرد اللسان، والقلب غافل خال عن الإيمان، بل تتعذر عليه التوبة لبطلان حقيقتها.

فصل

(طريق التوبة عن المعاصي)

اعلم ان ما عنه التوبة هي الذنوب التي علمت تفاصيلها في هذا الكتاب وهي ـ كما ذكرناها ـ لا تخلو عن الصفات والافعال الشيطانية المتعلقة بالوهم، والصفات والافعال السبعية المتعلقة بالقوة السبعية، والصفات والافعال البهيمية المتعلقة بالقوة البهيمية. ومن حيث تعلق التوبة بها وكيفية الخروج عنها ينقسم إلى أقسام ثلاثة:

أحدها ـ ترك الطاعات الواجبة: من الصلاة، والصوم، والزكاة، والخمس والكفارة وغيرها. وطريق التوبة عنها: أن يجهتد في قضائها بقدر الامكان.

وثانيا ـ المحرمات التي بين العبد وبين الله، اعني المنهيات التي هي حقوق الله: كشرب الخمر، وضرب المزامير، والكذب، والزنا بغير ذات بعل. وطريق التوبة عنها: أن يندم عليها، ويوطن قلبه على ترك العود إلى مثلها أبداً.

وثالثها ـ الذنوب التي بينه وبين العباد، وهي المعبر عنها بحقوق الناس، والأمر فيها أصعب وأشكل، وهي إما في المال، أو في النفس، أو في العرض، أو في الحرمة، أو الدين:

فما كان في (المال): يجب عليه أن يرده إلى صاحبه إن أمكنه، فان عجز عن ذلك لعدم أو فقر، وجب أن يستحل منه، وإن لم يحله أو عجز عن الايصال لغيبة الرجل غيبة منقطعة أو موته وعدم بقاء وارث له، فليتصدق عنه إن أمكنه. والا فعليه بالتضرع والابتهال إلى الله أن يرضيه عنه يوم القيامة، وعليه بتكثير حسناته وتكثير الاستغفار له، ليكون يوم القيامة عوضاً عن حقه، إذ كل من له حق على غيره لا بد أن يأخذ يوم القيامة عوضاً عن حقه، اما بعض طاعاته أو بتحمل هذا الغير بعض سيئاته.

وما كان في (النفس): فان كانت جناية جرت عليه خطأ وجب أن يعطى الدية، وان كان عمداً وجب عليه أن يمكن المجني عليه أو اولياءه مع هلاكه من القصاص حتى يقتص منه، أو يجعل في حل، وان عجز عن ذلك فعليه بكثرة إعتاق الرقاب. لأن ذلك نوع إحياء وايجاد لا يقدر الإنسان على اكثر منه، فيقابل به الاعدام والامانة، وعليه الرجوع أيضاً إلى الله بالتضرع والابتهال أن يرضيه عنه يوم القيامة.

وما كان في (العرض): بأن شتمه، أو قذفه، أو بهته، أو اغتابه، فحقه أن يكذب نفسه عند من قال ذلك لديه، ويستحل من صاحبه مع الامكان، إن لم يخف تهديده وزيادة غيظه وهيجان فتنته من اظهاره، فان خاف ذلك، فليكثر الاستغفار له، ويبتهل إلى الله أن يرضيه عنه يوم القيامة.

وما كان في (الحرمة): بأن خان مسلماً في اهله وولده أو نحوهما، فلا وجه للاستحلال، إذ اظهار ذلك يورث الغيظ والفتنة، لأن من له شوب الرجولية لا يمكن أن يحل من خان في حرمته ووطأ زوجته، كيف ولو أحله ورضى بذلك كان فيه عرق من الدياثة، فاللازم لمثله أن يكثر التضرع والابتهال إلى الله المتعال، ويواظب على الطاعات والخيرات الكثيرة لمن خانه في مقابلة خيانته، وإن كان حياً فليفرحه بالاحسان والانعام وبذل الأموال، ويكرمه بالخدمة وقضاء الحوائج، ويسعى في مهماته واغراضه، ويتلطف به، ويظهر من حبه والشفقة عليه ما يستميل به قلبه، فإذا طاب قلبه بكثرة تودده وتلطفه، فربما سمحت نفسه في القيامة بالاحلال، فان أبى أن يكون إنعامه وتلطفه من جملة حسناته التي يمكن أن يجبر بها في القيامة خيانته، فان كل ظلم وايذاء وحق من حقوق العباد إذا لم يحل صاحبه يوم القيامة يقتص من الظالم في يوم القيامة بالحكم العدل القهري بأخذ العوض، سواء رضى الظالم ام لا، وسواء امتنع صاحب الحق عن القبول والابراء أم لا، كما أنه يحكم في الدنيا على من اتلف مال غيره باعطاء المثل، ويقهر على ذلك، ويحكم على هذا الغير بقبوله، ويجبر عليه إن امتنع عن الابراء وعن القبول، فكذلك يحكم أحكم الحاكمين وأعدل العادلين في محكمة القيامة، فيقتص من كل ظالم موذ بأخذ حسناته ووضعها في موازين ارباب المظالم، فان لم تف بها حسناته، حمل من سيئات أرباب المظالم، فيهلك المسكين بسيئات غيره. وبذلك يعلم: أنه لا خلاص لأحد في القيامة إلا برجحان ميزان الحسنات على ميزان السيئات، ومع الرجحان ـ ولو بقدر مثقال ـ تحصل النجاة، فيجب على كل معتقد بيوم الحساب أن يسعى في تكثير الحسنات وتقليل السيئات، حتى لا ترجح سيئاته يوم القيامة على حسناته ولو بمثقال فيكون من الهالكين، وعلى كل حال لا يغفل عن التضرع والابتهال في الليل والنهار إلى الله ـ سبحانه ـ، لعله بعميم لطفه لا يفضحه يوم تبلى السرائر، ويرضى خصمه بخفي ألطافه.

وما كان في (الدين): بأن نسب مسلماً إلى الكفر أو الضلالة أو البدعة. فليكذب نفسه بين يدي من قال ذلك عنده، ويستحل من صاحبه مع الامكان، وبدونه فليستغفر له ويكثر الابتهال إلى الله ليرضيه عنه يوم القيامة.

ومجمل ما يلزم في التوبة عن حقوق الناس: ارضاء الخصوم مع الامكان، وبدونه التصدق وتكثير الحسنات والاستغفار، والرجوع إلى الله بالتضرع والابتهال، وليرضيهم عنه يوم القيامة، ويكون ذلك بمشية الله، فلعله إذا علم الصدق من قلب عبده، ووجد ذله وانكساره، ترحم عليه وأرضى خصماءه من خزانة فضله، فلا ينبغي لأحد أن ييأس من روح الله.

فصل

(تكفير الصغائر ومعنى الكبائر)

اعلم ان صاحب الشرع قسم الذنوب إلى كبيرة وصغيرة، وحكم بأن اجتناب الكبائر يكفر الصغائر، وأن الصلوات الخمس لا تكفر الكبائر وتكفر الصغائر، قال الله ـ تعالى ـ:

" إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم "[9]. وقال: " الذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش إلا اللمم "[10].

وقال رسول الله (ص): " الصلوات الخمس والجمعة تكفر ما بينهن ان اجتنبت الكبائر " واجتناب الكبيرة انما يكفر الصغيرة إذا اجتنبها مع القدرة والارادة، كمن يتمكن من امرأة ومن مواقعتها فيكف نفسه عن الوقاع ويقتصر على نظر ولمس، فان مجاهدته نفسه في الكف عن الوقاع أشد تأثيراً في تنوير قلبه من اقدامه على النظر في اظلامه، فهذا معنى تكفيره، فان كان امتناعه لعجز أو خوف أو نحو ذلك، فلا يصلح للتكفير، فكذلك من لا يشتهي الخمر بطبعه ولو ابيح له لما شربه. فاجتنابه لا يكفر عن الصغائر التي هي من مقدماته كسماع الملاهي والأوتار ومثله.

ثم الكبيرة من حيث اللفظ مبهم ليس له موضوع خاص في اللغة ولا في الشرع والعرف، لأن الكبير والصغير من المصافات، وما من ذنب إلا وهو كبير بالاضافة إلى ما دونه، وصغير بالاضافة إلى ما فوقه. وقد اختلف العلماء في تعيين الكبائر اختلافاً لا يكاد يرجى زواله، واختلفت الروايات فيها أيضا.

والأظهر بالنظر إلى الروايات وإلى الجمع بينها كون الكبيرة عبارة عما توعد بالنار على فعله أو ما ورد في نص الكتاب النهي عنه، ويعني بوصفه بالكبيرة: ان العقوبة بالنار عظيمة، أو أن تخصيصه بالذكر في القرآن يدل على عظمه. ويمكن ان يقال: ان الشرع لم يعينها، وابهمها ليكون العبد على وجل منها، فيجتنبون جميع الذنوب، كما أبهم ليلة القدر ليعظم جد الناس في طلبها، وواظبوا في ليال متعددة على العبادات، وكما ابهم الاسم الاعظم ليواظبوا على جميع اسماء الله. والحاصل: أن كل ما لا يتعلق به حكم الدنيا جاز أن يتطرق إليه الابهام، والكبيرة على الخصوص لا حكم لها في الدنيا من حيث انها كبيرة، فأن موجبات الحدود معلومة بأساميها، وانما حكم الكبيرة ان اجتنابها يكفر الصغائر وان الصلوات الخمس لا تكفرها، وهذا أمر يتعلق بالآخرة، والابهام أليق به، حتى يكون الناس على وجل وحذر، فلا يتجرؤن على الصغائر اعتماداً على الصلوات الخمس واجتناب الكبائر.

فصل

(الصغائر قد تكون كبائر)

اعلم أن الصغيرة قد تكبر بأسباب:

احدها ـ الاصرار والمواظبة، ولذلك قال الصادق (ع): " لا صغيرة مع الاصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار ". والسر فيه: أن الصغيرة لقلة تأثرها لا تؤثر في القلب باظلامه مرة أو مرتين، ولكن إذا تكررت وتراكمت آثارها الضعيفة صارت قوية وأثرت على التدريج في القلب، وذلك كما أن قطرات من الماء تقع على الحجر على توال فتؤثر فيه، وذلك القدر من الماء لو صب عليه دفعة لم يؤثر، ولذلك قال رسول الله (ص): " خير الأعمال أدومها، وإن قل". وإذا كان النافع هو الطاعة الدائمة وإن قلت، فكذلك الضار هو السيئة الدائمة وإن قلت. ثم معرفة الاصرار موكول إلى العرف، قال الباقر (ع) ـ في قوله ـ تعالى ـ:

(ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون)[11]:

" الاصرار: أن يذنب الذنب، فلا يستغفر ولا يحدث نفسه بتوبة، فذلك الاصرار ".

وثانيها ـ استصغار الذنب، فان العبد كلما استعظمه من نفسه صغر عند الله، وكلما استصغره كبر عند الله، لأن استعظامه يصدر عن نفور القلب عنه وكراهته له، وذلك النفور يمنع من شدة تأثره به، واستصغاره يصدر عن الالف به، وذلك يوجب شدة الاثر في القلب، والقلب هو المطلوب تنويره بالطاعات والمحذور تسويده بالسيئات، ولذلك لا يؤاخذ بما يجري عليه في الغفلة، لعدم تأثره به. ولذلك ورد في الخبر: " أن المؤمن يرى ذنبه كالجبل فوقه يخاف أن يقع عليه، والمنافق يرى ذنبه كذباب مر على أنفه فاطاره ". وقال رسول الله (ص): " اتقوا المحقرات من الذنوب، فانها لا تغفر "، قيل: وما المحقرات؟ قال: الرجل يذنب الذنب، فيقول طوبى لي لو لم يكن غير ذلك ". وروى: " انه (ص) نزل بارض قرعاء، فقال لأصحابه: ائتونا بالحطب، فقالوا: يا رسول الله! نحن بأرض قرعاء ما بها من حطب، قال: فليأت كل إنسان بما قدر عليه. فجاؤا به حتى رموا بين يديه بعضه على بعض، فقال (ص): هكذا تجتمع الذنوب، إياك والمحقرات من الذنوب فان لكل شيء طالباً، ألا وإن طالبها يكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في امام مبين ". وقال أمير المؤمنين (ع): " لا تصغر ما ينفع يوم القيامة، ولا تصغر ما يضر يوم القيامة، فكونوا فيما أخبركم الله كمن عاين ". وقال الباقر (ع): " اتقوا المحقرات من الذنوب فان لها طالباً، يقول أحدكم: أذنب واستغفر الله. إن الله ـ تعالى ـ يقول:

" ونكتب ما قدموا آثارهم وكل شيءٍ أحصيناه في إمامٍ مبين "[12]. وقال ـ عز وجل ـ: " إنها إن تك مثقال حبةٍ من خردل فتكن في صخرةٍ أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير "[13].
وقال الصادق (ع): " إن الله يحب العبد أن يطلب إليه في الجرم العظيم، ويبغض العبد أن يستخف بالجرم اليسير ". وقال الكاظم (ع): " لا تستكثروا كثير الخير ولا تستقلوا قليل الذنوب، فان قليل الذنوب يجتمع حتى يكون كثيراً، وخافوا الله في السر حتى تعطوا من انفسكم النصف "[14]. والسر في عظم من عصى به رأى الصغير كبيراً، وقد أوحى الله إلى بعض أنبيائه: " لا تنظر إلى قلة الهدية وانظر إلى عظم مهديها، ولا تنظر إلى صغر الخطيئة وانظر إلى كبرياء من واجهته بها ". ولذلك قال بعض الصحابة للتابعين: " إنكم تعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر، وكنا نعدها على عهد رسول الله من الموبقات ". إذ كانت معرفة الصحابة بجلال الله أتم، فكانت الصغائر عندهم بالاضافة إلى جلال الله كبائر.

وثالثها ـ أن يأتي بالصغائر ولا يبالي بفعلها، اغتراراً بستر الله عليه، وحلمه عنه، وامهاله إياه، ولا يعلم أنه انما يمهل مقتاً ليزاد بالامهال اثماً، فتزهق أنفسهم وهم كافرون، فمن ظن أن تمكنه من المعاصي عناية من الله به، فهو جاهل بمكامن الغرور، وآمن من مكر الله الذي لا يأمن منه إلا الكافرون.

ورابعها ـ السرور بالصغيرة واعتداد التمكن من ذلك نعمة، والغفلة عن كونها نقمة وسبب الشقاوة، فكلما غلبت حلاوة الصغيرة عند العبد كبرت وعظم أثرها في تسويد قلبه، فمن مزق عرض مسلم وفضحه وخجله، أو غبنه في ماله في المعاملة ثم فرح به، ويقول: أما رأيتني كيف مزقت عرضه؟ وكيف فضحته؟ وكيف روجت عليه الزيف؟ كانت معصيته أشد مما إذا لم يفرح بذلك وتأسف عليه، إذ الذنوب مهلكات، وإذا ابتلى بها العبد فينبغي أن يتأسف من حيث ان العدو ـ اعني الشيطان ـ ظفر به وغلب عليه، لا أن يفرح بغلبة العدو عليه، فالمريض الذي يفرح بانكسار انائه الذي فيه داؤه لتخلصه من ألم شربه. لا يرجى شفاؤه.

وخامسها ـ أن يذنب ويظهر ذنبه بان يذكره بعد اتيانه، أو ياتي به في مشهد غيره، فان ذلك خيانة منه على الله الذي اسدله عليه، وتحريك الرغبة والشر فيمن اسمعه ذنبه أو اشهده فعله، فهما خيانتان انضمتا إلى خيانته فتغلظت به، فان انضاف إلى ذلك الترغيب للغير فيه والحمل عليه وتهيئة الأسباب له صارت خيانته رابعة، وتفاحش الأمر. وهذا لان من صفات الله انه يظهر الجميل ويستر القبيح ولا يهتك الستر، فالاظهار كفران لهذه النعمة، قال رسول الله (ص): " المستتر بالحسنة تعدل سبعين حسنة، والمذيع بالسيئة مخذول، والمستتر بها مغفور له ". وقال الصادق (ع): " من جاءنا يلتمس الفقه والقرآن وتفسيره فدعوه ومن جاءنا يبدي عورة قد سترها الله فنحوه ".

وسادسها ـ ان يكون الآتي بالصغيرة عالماً يقتدي به الناس، فإذا فعله بحضرة الناس أو بحيث اطلعوا عليه، كبر ذنبه، وذلك كلبسه الذهب والابريسم، واخذه مال الشبهة، واطلاقه اللسان في اعراض الناس، ونحو ذلك. فهذه ذنوب يقتدي العالم فيها ويتبع عليها، فيموت ويبقى شره مستطيراً في العالم، فطوبى لمن إذا مات ماتت معه ذنوبه، وفي الخبر: " من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص من اوزارهم شيء " قال الله ـ تعالى ـ :

" ونكتب ما قدموا وآثارهم "[15]

والآثار: ما يلحق الأعمال بعد انقضاء العمل. فعلى العالم وظيفتان: ـ إحداهما ـ ترك الذنب، والأخرى ـ اخفاؤه، وكما تتضاعف اوزار العالم على السيئات إذا اتبع فيها، فكذلك يتضاعف ثوابه على الحسنات إذا اتبع.

فصل

(شروط كمال التوبة)

يشترط في تمام التوبة وكمالها بعد تدارك كل معصية بما مر: من طول الندم، وقضاء العبادات، والخروج عن مظالم العباد، وطول البكاء والحزن والحسرة، واسكاب الدموع، وتقليل الاكل، وارتياض النفس، ليذوب عن بدنه كل لحم نبت من الاغذية المحرمة والمشتبهة، قال أمير المؤمنين (ع) لمن قال بحضرته: استغفر الله: " ثكلتك أمك! أتدرى ما الاستغفار؟ ان الاستغفار درجة العليين، وهو اسم واقع على ستة معان: اولها: الندم على ما مضى، والثاني: العزم على ترك العود عليه أبدا، والثالث: ان تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله املس ليس عليك تبعة، والرابع: ان تعمد إلى كل فريضة عليك ضيعتها تؤديا حقها، والخامس: ان تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالاحزان حتى يلصق الجلد بالعظم وينشأ منهما لحم جديد، والسادس: ان تذيق الجسم الم الطاعة كما اذقته حلاوة المعصية فعند ذلك تقول: استغفر الله ".


[1]  البقرة، الآية: 222.

[2]  البقرة، الآية: 222.

[3]  المؤمن، الآية: 7 ـ 9.

[4]  الفرقان، الآية: 68 ـ 70.

[5]  الشورى، الآية: 25.

[6]  المؤمن، الآية: 3.

[7]  النساء، الآية: 109.

[8]  صححنا الأحاديث الواردة في هذا الباب على أصول الكافي: باب الاعتراف بالذنوب، وباب من يهم بالحسنة أو السيئة، وباب التوبة، وباب الاستغفار من الذنوب، وباب فيما اعطى الله ـ عز وجل ـ آدم وقت التوبة.

[9]  النساء، الآية: 30.

[10]  النجم، الآية: 32.

[11]  آل عمران، الآية: 135.

[12]  يس، الآية: 12.

[13]  لقمات: الآية: 16.

[14]  صححنا الأحاديث كلها على أصول الكافي (باب التوبة، وباب تفسير الذنوب).

[15]  يس، الآية: 12.

 

 

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست