.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

التوبة وتعريفها

هل يشترط في التوبة القدرة على الذنب السابق؟

وجوب التوبة

تحقيق في وجوب التوبة

عموم وجوب التوبة

تذنيب

لابد من العمل بعد التوبة

 

 

فصل

(التوبة وتعريفها)

ضد الاصرار (التوبة)، وهي الرجوع من الذنب القولي والفعلي والفكري، وبعبارة اخرى: هي تنزيه القلب عن الذنب والرجوع من البعد إلى القرب، وبعبارة أخرى: ترك المعاصي في الحال والعزم على تركها في الاستقبال وتدارك ما سبق من التقصير. وكما ان الاصرار على العصيان من رذائل قوتي الغضب والشهوة، فالرجوع عنه وتركه من فضائلهما، بمعنى أن العزم على ترك كل معصية يكون من عمل كليهما أو إحداهما، ومن فعل النفس باعانتهما وانقيادهما للعاقلة، وان كان الباعث على الرجوع وتهيج النفس والقوتين على مباشرة الرجوع والترك هو معرفة عظم ضرر الذنوب، وكونها حجاباً بين العبد وبين المحبوب، ويمكن ان يقال: إن التوبة هو الرجوع عن الذنب، وهو من ثمرات الخوف والحب. فان مقتضى الحب أن يمتثل مراد المحبوب ولا يعصى في شيء مما يريده ويطلب من المحب، فتكون من فضائل القوتين أيضاً. ويمكن أن يقال: إن التوبة عبارة عن مجموع العلم بضرر الذنوب، وكونها حجاباً بينه وبين الله، والندم الحاصل منه، والقصد المتعلق بالترك حالا واستقبالا، والتلاقي للماضي والندم، والقصد بالترك والتلافي من فعل القوتين أو فعل النفس بوساطة القوتين وانقيادهما للعاقلة، والعلم المذكور من العاقلة، فتكون التوبة من فضائل القوى الثلاث.

وتوضيح حقيقة التوبة: أنه إذا علم العبد علماً يقينياً أن ما صدر عنه من الذنوب حائلة بينه وبين محابه. ثار من هذا العلم تألم القلب بسبب فوات المحبوب، وصار متأسفاً على ما صدر عنه من الذنوب، سواء كانت أفعالا أو تروكا للطاعات. ويسمى تألمه ـ بسبب فعله أو تركه المفوت لمحبوبه ـ ندماً. وإذا غلب هذا الندم على القلب، انبعثت منه حالة اخرى تسمى ارادة وقصداً إلى فعل له تعلق بالحال بترك الذنب الذي كان ملابساً له، وبالاستقبال بعزمه على ترك الذنب المفوت لمحبوبه إلى آخر عمره. وبالماضي بتلاقيه ما فات بالجبر والقضاء. فالعلم ـ أعني اليقين بكون الذنوب سموماً مهلكة ـ هو الأول، وهو مطلع البواقي، إذ مهما اشرق نور هذا اليقين على القلب أثمر نار الندم على الذنب، فيتألم به القلب، حيث ينظر باشراق نور الإيمان واليقين أنه صار محجوباً عن محبوبه، كمن يشرق عليه نور الشمس وقد كان في ظلمة، فيسطع النور عليه بانقشاع سحاب أو انحسار حجاب، فيرى محبوبه قد اشرف على الهلاك. فتشتعل نيران الحب في قلبه، وتنبعث بتلك النيران رادته للانتهاض للتدارك. فالعلم، والندم، والقصد المتعلق بالترك في الحال والاستقبال والتلافي للماضي: ثلاثة معان مترتبة في الحصول، يطلق اسم (التوبة) على مجموعها. وربما اطلقت التوبة على مجرد الندم، وجعل العلم كالسابق والمقدمة، والترك كالثمرة والتابع للمتأخر، وإلى هذا الاعتبار يسير قوله (ص): " الندم توبة ".إذ لا يخلو الندم عن علم أوجبه واثمره، أو عن عزم يتبعه ويتلوه، فيكون الندم محفوفاً بطرفيه، اعني ثمرته ومثمره. وبهذا الاعتبار قيل في حدها: إنها ذوبان الحشا لما سبق من الخطأ، أو نار في القلب تلتهب وصدع في الكبد لا ينشعب، وربما اطلقت على مجرد ترك الذنوب حالا والعزم على تركها استقبالا، وبهذا الاعتبار قيل في حدها، إنها خلع لباس الجفاء ونشر بساط الوفاء، وإنها تبديل الحركات المذمومة بالحركات المحمودة، أو إنها ترك اختيار الذنب حالا وتوطين القلب وتجريد العزم على عدم العود استقبالا. وعلى هذا لا يكون الندم داخلا في حقيقة التوبة، وقد صرح بعض الاعاظم بخروجه عنها، محتجاً بأن الندم ـ وهو تألم القلب وحزنه على الذنب ـ غير مقدور، ولذا ترى تقع الندامة على أمور في قلبه وهو يريد ألا يكون ذلك فلا يكون الندم مقدوراً، وانما المقدور تحصيل أسبابه، أعني الإيمان والعلم بفوات المحبوب وتحقيقهما في قلبه. وعلى هذا فلا يكون الندم من التوبة، إذ التوبة مقدورة للعبد ومأمور بها، فاللازم فيها التندم دون الندم. وغير خفي بأن الندم كغيره من صفات النفس، فان أمكن إزالة الصفات النفسية وكسبها فالندم كذلك، والا لزم بطلان علم الأخلاق بالكلية، وأيضاً إذا امكن تحصيل سبب الندامة ـ اعني العلم بفوات المحبوب ـ لزم ترتب المسبب ـ أعني الندامة عليه ـ فما معنى عدم كونه مقدوراً، فالندامة في الازالة والتحصيل لا يكون اصعب من كثير من الأخلاق النفسية. وبعضهم يعد ما عدا التندم من شرائط التوبة، قال: " وأما الندم ـ اعني تألم القلب على الذنب الذي هو روح التوبة ـ فغير مقدور، وهو التوبة حقيقة، وانما المقدور تحصيل أسبابه من العلم والإيمان وتحقيقهما في قلبه " انتهى. وفيه ما لا يخفى بعلاوة ما سبق، قال الصادق (ع): " التوبة حبل الله ومدد عنايته، ولا بد للعبد من مداومة التوبة على كل حال، وكل فرقة من العباد لهم توبة، فتوبة الأنبياء من اضطراب السر وتوبة الاولياء من تلوين الخطرات، وتوبة الاصفياء من التنفيس، وتوبة الخاص من الاشتغال بغير الله، وتوبة العام من الذنوب، ولكل واحد منهم معرفة وعلم في أصول توبته ومنتهى أمره، وذلك يطول شرحه هنا.

وأما توبة العام، فان يغسل باطنه من الذنوب بماء الحسرة. والاعتراف بجنايته دائماً، واعتقاد الندم على ما مضى، والخوف على ما بقي من عمره، ولا يستصغر ذنوبه فيحمله ذلك إلى الكسل، ويديم البكاء والاسف على ما فاته من طاعة الله، ويحبس نفسه عن الشهوات، ويستغيث إلى الله ـ تعالى ـ ليحفظه على وفاء توبته ويعصمه عن العود إلى ما سلف، ويروض نفسه في ميدان الجهاد والعبادة، ويقضي عن الفوائت من الفرائض، ويرد المظالم، ويعتزل قرناء السوء، ويسهر ليله ويظمأ نهاره، ويتفكر دائماً في عاقبته، ويستعين بالله سائلا منه الاستقامة في سرائه وضرائه، ويثبت عند المحن والبلاء كيلا يسقط عن ردجة التوابين، فان في ذلك طهارة من ذنوبه، وزيادة في عمله، ورفعة في درجاته. قال الله ـ عز وجل ـ:

فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين "[1] "[2].

تتمة

(هل يشترط في التوبة القدرة على الذنب السابق؟)

التوبة انما تكون عن ذنب سبق مثله، (أما)[3] ترك ذنب لم يسبق مثله حالا والعزم على تركه استقبالا لا يسمى توبة، بل يسمى تقوى، ويسمى صاحبه متقياً لا تائباً، ولذا يصح القول بأن النبي (ص) كان متقياً عن الكفر، ولا يصح القول بأنه كان تائباً عنه. ثم المراد بالمثل السابق أعم من أن يكون مثلا في الصورة أو المنزلة، فالشيخ الهم الذي سبق منه الزنا وقطع الطريق، ولم يقدر الساعة على فعلهما، إذا أراد التوبة عنهما ينبغي أن يتوب عما يماثلهما منزلة ودرجة، كالقذف والسرقة وامثالهما، إذ لا معنى للتوبة عما يماثلهما صورة ـ اعني نفس الزنا وقطع الطريق ـ مع عدم قدرته عليهما، ولو لم يكن التوبة عما يماثل الشيء في المنزلة والدرجة توبة عن هذا الشيء، لزم أن يكون باب التوبة مسدوداً بالنسبة إلى مثل الشيخ الهم وكل من صدر منه معصية والآن لا يقدر عليها، وهو باطل، لانفتاح باب التوبة إلى الموت، ولما ذكر، قال بعض المشايخ في حد التوبة: " إنها ترك اختيار ذنب سبق مثله منزلة لا صورة، تعظيماً لله وحذراً من سخطه ". فقوله: " سبق مثله " احتراز عن ترك ذنب لم يسبق مثله، فانه لا يسمى توبة بل تقوى، وقوله: " منزلة لا صورة " لادخال التوبة عما سبق ولا يقدر الآن على فعله، وعلى هذا فتوبة العنين عن النظر واللمس وأمثال ذلك يكون توبة عن الزنا الذي قارفه قبل طريان العنة، والظاهر أن بناء ذلك على دلالة توبته عما يقدر عليه الان، على أنه لو كان قادراً على الزنا لتركه أيضاً، لاشعاره بأن توبته صدرت عن معرفة ويقين بضرر الزنا الذي قارفه قبل طريان العنة، فلو كان قادراً عليه لتركه أيضاً.

قال أبو حامد الغزالي: " إن قلت: هل تصح توبة العنين من الزنا الذي قارفه قبل طريان العنة؟ قلت: لا! لأن التوبة عبارة عن ندم يبعث العزم على الترك فيما يقدر على فعله وما لا يقدر على فعله، فقد انعدم بنفسه لا بتركه إياه "، ثم قال: " ولكني أقول: لو طرأ عليه بعد العنة كشف ومعرفة تحقق به ضرر الزنا الذي قارفه، وثار منه احتراق وتحسر وندم، بحيث لو كانت شهوة الوقاع باقية لكانت حرقة الندم تقمع تلك الشهوة وتغلبها، فاني ارجو أن يكون ذلك مكفراً لذنبه ومباحاً عنه سيئته، إذ لا خلاف في أنه لو تاب قبل طريان العنة ومات عقيب التوبة كان من التائبين وان لم تطرأ عليه حالة تتهيج فيها الشهوة وتتيسر أسباب قضاء الشهوة، ولكنه تائب باعتبار أن ندمه بلغ مبلغاً أوجب صرف قصده عن الزنا لو ظهر قصده، فاذن لا يستحيل أن تبلغ قوة الندم في حق العنين هذا المبلغ إلا أنه لا يعرفه من نفسه، فان كل من لا يشتهي شيئاً يقدر نفسه قادراً على تركه بأدنى خوف، والله مطلع على ضميره وعلى مقدار ندمه، فعساه يقبله منه، بل الظاهر انه يقبله. والحقيقة في هذا كله ترجع إلى أن ظلمة المعصية تنمحي عن القلب بشيئين: ـ أحدهما ـ حرقة الندم، و ـ الآخر ـ شدة المجاهدة بالترك في المستقبل، وقد امتنعت المجاهدة بزوال الشهوة، ولكن ليس محالا أن يقوى الندم بحيث يقوى على محوها دون المجاهدة، ولولا هذا لقلنا: ان التوبة لا تقبل ما لم يعش التائب بعد التوبة مدة يجاهد نفسه في عين تلك الشهوة مرات كثيرة، وذلك مما يدل ظاهر الشرع على اشتراطه ".

فصل

(وجوب التوبة)

التوبة عن الذنوب بأسرها واجبة: بالاجماع، والنقل، والعقل:

أما الاجماع ـ فلا ريب في انعقاده. وأما النقل ـ فكقوله ـ تعالى ـ :

" وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون "[4]. وقوله ـ تعالى ـ: " يأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبةً نصوحاً عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم "[5].

ومعنى النصوح: الخالص لله خالياً عن شوائب الاغراض، من مال أو جاه أو خوف من سلطان أو عدم أسباب، والأمر للوجوب، فتكون التوبة واجبة بمقتضى الآيتين.

وأما العقل ـ فهو أن من علم معنى الوجوب ومعنى التوبة فلا يشك في ثبوته لها. (بيان ذلك): أن معنى الواجب وحقيقته هو ما يتوقف عليه الوصول إلى سعادة الابد والنجاة من هلاك السرمد، ولولا تعلق السعادة والشقاوة بفعل الشيء وتركه لم يكن معنى لوجوبه، فالواجب ما هو وسيلة وذريعة إلى سعادة الأبد. ولا ريب في أنه لا سعادة في دار البقاء إلا في لقاء الله والإنس به، فكل من كان محجوبا عن اللقاء والوصال محروماً عن مشاهدة الجلال والجمال، فهو شقي لا محالة، محترق بنار الفراق ونار جهنم. ثم لا مبعد عن لقاء الله إلا اتباع الشهوات النفسية والغضب والإنس بهذا العالم الفاني، والاكباب على حب ما لا بد من مفارقته قطعاً، ويعبر عن ذلك بالذنوب. ولا مقرب من لقاء الله إلا قطع علاقة القلب من زخرف هذا العالم.والاقبال بالكلية على الله، طلباً للانس به بدوام الذكر، والمحبة له بدوام الفكر في عظمته وجلاله وجماله على قدر طاقته، ولا ريب في أن الانصراف عن طريق البعد الذي هو الشقاوة واجب للوصول إلى القرب الذي هو السعادة، ولا يتم ذلك إلا بالتوبة التي عبارة عن العلم والندم والعزم، ولا يتم الواجب إلا به، فهو واجب، فالتوبة واجبة قطعاً.

تذنيب

(تحقيق في وجوب التوبة)

كيف لا تكون التوبة عن المعاصي واجبة، مع أن العلم بضرورة المعاصي وكونها مهلكة من اجزاء الإيمان ووجوب الإيمان ومما لا ريب فيه، والعالم بهذا العلم إذا لم يعمل به فكما لا يعلمه أو ينكره فلا يكون له هذا الجزء من الإيمان، لان كل علم يراد ليكون باعثاً على العمل، فلا يقع التفصي عن عهدته ما لم يصير باعثاً، فالعلم بضرر الذنوب إنما اريد ليكون باعثاً على تركها، فمن لم يتركها فهو فاقد لهذا الجزء من الإيمان، وهو المراد بقول النبي (ص): " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن "، وما اراد به نفي الإيمان بالله ووحدانيته وصفاته وكتبه ورسله، فان ذلك لا ينافي الزنا والمعاصي، وإنما أراد به نفي الإيمان بالله لكون الزنا مبعداً عن الله وموجباً لسخطه، وليس الإيمان باباً واحداً، بل هو ـ كما ورد ـ نيف وسبعون باباً، أعلاها الشهادتان وأدناها اماطة الأذى عن الطريق، ومثاله قول القائل: ليس الإنسان موجوداً واحداً، بل هو نيف وسبعون موجوداً، أعلاها الروح والقلب وادناها اماطة الأذى عن البشرة، بأن يكون مقصوص الشارب مقلوم الأظفار نقي البشرة عن الخبث، حتى يتميز عن البهائم المرسلة المتلوثة بارواثها، المستكرهة الصور بطول مخالبها واظفارها، فالايمان كالإنسان، وفقد الشهادتين كفقد الروح الذي يوجب البطلان بالكلية، والذي ليس له إلا شهادة التوحيد والرسالة ويترك سائر اجزائه من الأعمال، فهو كإنسان مقطوع الاطراف مفقوء العينين، فاقد لجميع اعضائه الظاهرة والباطنة، إلا أصل الروح. وكما أن من هذا حاله قريب من الموت ومزايلة الروح الضعيفة المنفردة التي تخلفت عنها الاعضاء التي تمدها وتقويها، فكذلك من ليس له إلا أصل الإيمان وهو مقصر في الأعمال، قريب من أن تنقلع شجرة ايمانه إذا صدمتها الرياح العاصفة المحركة للايمان في مقدمة قدوم ملك الموت ووروده، فكل إيمان لم يثبت في النفس اصله ولم تنتشر في الأعمال فروعه، لم يثبت على عواصف الاهوال عند ظهور ناصية ملك الموت وخيف عليه سوء الخاتمة، فالمحجوب عن الإيمان الذي هو شعب وفروع سيحجب في الخاتمة عن الإيمان الذي هو اصل، كما أن الشخص الفاقد لجميع الاطراف التي هي فروع ليساق إلى الموت المعدم للروح التي هي أصل، فلا بقاء للاصل دون الفرع، ولا وجود للفرع دون الاصل، ولا فرق بين الاصل والفرع إلا في شيء واحد، وهو أن وجود الفرع وبقاءه جميعاً يستدعى وجود الاصل، وأما وجود الأصل فلا يستدعي وجود الفرع، ولكن بقاءه يستدعي وجود الفرع، فبقاء الأصل بالفرع ووجود الفرع بالأصل، فمساواة العاصي والمطيع في اسم المؤمن كمساواة شجرة القرع وشجرة الصنوبر في اسم الشجرة، وإنما يظهر الفرق إذا عصفت الرياح القوية، فعند ذلك تنقطع أصول شجرة القرع وتتناثر أوراقها، وتبقى شجرة الصنوبر ثابتة على اصلها وفرعها. ومثل العاصي الذي لا يخاف الخلود في النار لأجل معصيته اتكالا على ايمانه بالتوحيد والرسالة، كمثل الصحيح الذي يأكل الأغذية المضرة والسمومات ولا يخاف الموت اتكالاً على صحته، فكما يؤدي صحة هذا الصحيح بتناوله السمومات والأغذية إلى المرض والمرض إلى الموت، فكذلك تؤدى ذنوب العاصي إلى سوء الخاتمة وسوء الخاتمة إلى الخلود في النار، فالمعاصي للايمان كالسمومات والمأكولات المضرة للابدان، فكما أن مضرة السمومات لا تزال تجتمع في الباطن حتى تغير مزاج الاخلاط وهو لا يشعر بها إلى أن يفسد المزاج فيمرض دفعة ثم يموت دفعة، فكذلك آثار المعاصي لا تزال تتراكم في النفس حتى يفسد مزاجها فيسلب عنها اصل الإيمان، فالخائف من الموت في هذه النشأة القصيرة إذا وجب عليه ترك السموم وما يضره من مأكولات، فالخائف من هلاك الابد اولى بأن يجب عليه ترك الذنوب، ومن تناول السم وندم إذا وجب عليه أن يتقيأ ويرجع عن تناوله باخراجه عن المعدة، فمتناول سموم الإيمان وهي الذنوب أولى بأن يجب عليه الرجوع عنها بالتدارك الممكن ما دام مهلة التدارك.

فالبدار البدار معاشر اخواني إلى التوبة! قبل أن تعمل سموم الذنوب بروح ايمانكم عملاً لا ينفع بعده الاحتماء، ويخرج الأمر فيه عن ايدي اطباء القلوب، فلا ينفع حينئذ وعظ الواعظين ونصح الناصحين، وتحق عليكم كلمة العذاب، وتدخلدون تحت عموم قوله ـ تعالى ـ:

 " وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون "[6]. وقوله تعالى: " ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة "[7]. وغير ذلك من الآيات.

ثم مقتضى الأدلة المذكورة: كون التوبة واجبة على الفور، فيجب على كل مسلم أن يتوب عن ذنوبه فوراً، ولا يجوز له التأخير. قال لقمات لابنه: " يا بني! لا تؤخر التوبة، فان الموت يأتي بغتة ". ومن ترك المبادرة إلى التوبة بالتسويف كان بين خطرين عظيمين: ـ أحدهما ـ أن تتراكم الظلمة على قلبه من المعاصي حتى يصير ديناً وطبعاً فلا يقبل المحو ـ والثاني ـ أن يعاجله المرض أو الموت فلا يجد مهلة للاشتغال بالمحو. ولذلك ورد: أن اكثر صياح أهل النار من التسويف، فما هلك من هلك إلا بالتسويف.

فصل

(عموم وجوب التوبة)

وجوب التوبة يعم الاشخاص والأحوال، فلا ينبغي أن ينفك عنه أحد في حالة، قال الله ـ تعالى ـ:

" وتوبوا إلى الله جميعاً "[8].

وهو يعم الكل في الكل. ومما يدل على وجوبها على الكل: أن كل فرد من أفراد الناس إذا بلغ سن التمييز والتكليف قام القتال والنزاع في مملكة بدنه، بين الشهوات جنود الشياطين، وبين العقول احزاب الملائكة، إذ لا تكمل غريزة العقل في أحد إلا بعد كمال غريزة الشهوة والغضب وسائر الصفات المذمومة، وإذا قام القتال بينهما لا بد بحكم العقل والشرع أن يغلب جنود الله على جنود الشيطان، بقمعها بكسر الشهوات، ورد النفس على سبيل القهر والغلبة على الصفات المحمودة والعبادات، ولا معنى لوجوب التوبة إلا هذا. ومما يدل على وجوبها على الدوام وفي كل حال هو أن كل عبد لا يخلو عن معصية بجوارحه، فان خلا في بعض الأحوال عن معصية الجوارح فلا يخلوا عن رذائل النفس والهم بالذنوب بالقلب، فان خلا عن ذلك أيضاً فلا يخلو عن وسوسة الشيطان بايراد الخواطر المتفرقة المذهلة عن ذكر الله، فان خلا عنه فلا يخلو عن غفلة وقصور في العلم بالله وبصفاته وآثاره، وكل ذلك نقص يجب الرجوع عنه وهو معنى التوبة.

ولعدم خلو أحد من الخلق من نوع هذا النقص وأصله في حالة، وان تفاوتوا في المقادير، يلزم وجوب التوبة على كل عبد في كل حالة، ولو خلا عن التوبة عن جميع الذنوب في لحظة واختطفه الموت، لزم خروج روحه بلا توبة، لعدم انفكاكه قبل موته ولو بلحظة عن فرد من المعاصي المذكورة، فالتوبة واجبة على كل عبد سالك في كل نفس من أنفاسه، قال بعض العرفاء[9]: " لو لم يبك العاقل فيما بقى من عمره إلا على فوت ما مضى من عمره في غير طاعة الله، لكان حقيقاً أن يخزيه[10] ذلك إلى الممات، فكيف من يستقبل ما بقى من عمره بمثل ما مضى من جهله ". ومن عرف قدر العمر وفائدته، وما يكتسب به من سعادة الأبد، يعلم أن ما يضيع منه في المعصية وغير التوبة أي حسرة وندامة يترتب عليه، فان العاقل إذا ملك جوهرة نفيسة، فان ضاعت منه بغير فائدة بكى عليها لا محالة، وإن ضاعت منه وصار ضياعها سبب هلاكه كان بكاؤه منه أشد، وكل نفس من العمر جوهرة نفيسة لا عوض لها، لايصالها العبد إلى سعادة الأبد وانقاذها اياه من شقاوة السرمد، وأي جوهر انفس من هذا، فمن ضيعها في الغفلة خسر خسراناً مبيناً، ومن صرفها في معصية فقد هلك هلاكا أبدياً. وقد قيل: إن لله ـ تعالى ـ إلى عبده سرين يسرهما إليه على سبيل الالهام. ـ أحدهما ـ إذا خرج من بطن امه يقول له: عبدي! قد اخرجتك إلى الدنيا طاهراً لطيفاً، واستودعتك عمرك وائتمنتك عليه، فانظر كيف تحفظ الأمانة، وانظر كيف تلقاني. ـ والثاني ـ عند خروج روحه يقول: عبدي! ماذا صنعت في امانتي عندك، هل حفظتها حتى تلقاني على العهد فالقاك على الوفاء؟ أو اضعتها فألقاك بالمطالبة والعقاب؟. واليه الإشارة بقوله ـ تعالى ـ:

" أوفوا بعهدي أوف بعهدكم "[11]. وبقوله ـ تعالى ـ: " والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون"[12].

وقد روى: أن ملك الموت إذا ظهر للعبد عند موته أعلمه أنه قد بقى من عمرك ساعة لا تستأخر عنها طرفة عين، فيبدو للعبد من الحزن والحسرة والأسف ما لو كانت له الدنيا بحذافيرها لاعطاها بدل أن يضم إلى تلك الساعة ساعة اخرى ليتدارك فيها تفريطه، ولا يجد إليها سبيلاً، وقد روى ـ أيضاً ـ: أنه إذا كشف الغطاء للعبد قال لملك الموت: أخرني يوماً اعتذر فيه إلى ربي واتوب، واتزود صالحاً لنفسي، فيقول: فنيت الأيام فلا يوم، فيقول: أخرني ساعة، فيقول: فنيت الساعات فلا ساعة، فيغلق عليه باب التوبة، فيغرغر بروحه، وتتردد انفاسه في شراسيفه، ويتجرع غصة اليأس عن التدارك، وحسرة الندامة على تضييع العمر، فيضطرب اصل ايمانه في صدمات تلك الأهوال، فإذا زهقت نفسه، فان سبقت له من الله الحسنى خرجت روحه على التوحيد، وذلك حسن الخاتمة، وإن سبق له القضاء بالشقوة ـ والعياذ بالله ـ خرجت روحه على الشك والاضطراب، وذلك سوء الخاتمة.

تذنيب

التوبة عن بعض المعاصي المذكورة ـ أعني المحرمات وترك الواجبات ـ واحب بفتوى الشرع، بمعنى أن التارك لهذه التوبة والمرتكب لهذه المعاصي يكون معذباً بالنار، وهذا الوجوب يشترك فيه كافة الخلق، وتكليف الجميع به لا يوجب فساداً في النظام الكلى. وأما التوبة عن بعض آخر منها، كالخواطر والهمم الطارية على القلب والقصور عن معرفة كنه جلال الله وعظمته وامثال ذلك، فليس واجباً بهذا المعنى، لمنافاته انتظام العالم. إذ لو كلف الخلق كلهم أن يتقوا الله حق تقاته، لتركوا المعائش ورفضوا الدنيا بالكلية، وذلك يؤدي إلى بطلان التقوى رأساً، لأنه إن فسدت المعايش لم يتفرغ أحد للتقوى. فالتوبة عن كل ما هو المرجوح ليست واجبة بهذا الاعتبار. بل هي واجبة بمعنى آخر، وهو ما لا بد منه للوصول به إلى غاية القرب إلى الله، وإلى المقام المحمود والدرجات العالية، فمن رضى باصل النجاة وقنع به لم تكن هذه التوبة واجبة عليه، من طلب الوصول إلى ما ذكر وجبت عليه هذا التوبة وجوباً شرطياً، بمعنى توقف مطلوبه عليه، كما جرت عليه طوائف الأنبياء والأولياء واكابر العرفاء والعلماء، ولأجله رفضوا لذات الدنيا بالكلية. وعلى هذا فما ورد من استغفار الأنبياء والأوصياء وتوبتهم إنما هو من ترك دوام الذكر وغفلتهم عن مقام الشهود والاستغراق لأجل اشتغالهم بالمباحات، لا عن ذنوب كذنوبنا، لتعاليهم وتقدسهم عن ذلك. قال الصادق (ع): " إن رسول الله (ص) كان يتوب إلى الله ويستغفره في كل يوم مائة مرة من غير ذنب، ان الله ـ تعالى ـ يخص اولياءه بالمصائب، وليأجرهم عليها من غير ذنب كذنوبنا، فان ذنب كل أحد إنما هو بحسب قدره ومنزلته عند الله ". وبمضمونه أخبار أخر.

فصل

(لابد من العمل بعد التوبة)

لا يكفي في تدارك الشهوات والتوبة عن الذنوب مجرد تركها في المستقبل، بل لا بد من محو آثارها التي انطبعت في جوهر النفس بنور الطاعات، إذ كل شهوة ومعصية صدرت من الإنسان ارتفعت منها ظلمة إلى قلبه، كما ترتفع من نفس الإنسان ظلمة إلى وجه المرآة الصقيلة، فان تراكمت ظلمة الشهوات والمعاصي صارت رينا، كما يصير بخار النفس في وجه المرآة عند تراكمه خبثاً، كما قال ـ تعالى ـ:

" كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون "[13].

فإذا تراكم الرين صار طبعاً، فيطبع على قلبه، كما أن الخبث في وجه المرآة إذا تراكم وطال زمانه غاص في جرم الحديد وافسده، وصار بحيث لا يقبل التصقيل بعده، فالتائب من الذنوب لا بد له من محو تلك الآثار التي انطبعت منها في نفسه، ولا يكفي مجرد تركها في المستقبل، كما لا يكفي في تصقيل المرآة وظهور الصور فيها قطع الانفاس والبخارات المسودّة لوجهها في المستقبل، ما لم يشتغل بمحو ما انطبع فيها من الآثار، وكما ترتفع إلى النفس ظلمة من المعاصي والشهوات فتظلمها، فكذلك يرتفع نور من الطاعات وترك الشهوات فينورها، ولهذا النور تنمحي ظلمة المعاصي والشهوات، واليه الإشارة بقوله (ص): " اتبع السيئة الحسنة تمحها ". فاذن لا يستغني العبد في حال من أحواله من محو آثار السيئات عن قلبه بمباشرة حسنات تضاد آثارها آثار تلك السيئات، بمعنى أن تكون الحسنة التي ترتكب لمحو السيئة مناسبة لتلك السيئة، لقوله (ص): " اتق الله حيث كنت ": ولأن المرض يعالج بضده، فكل ظلمة ارتفعت إلى القلب، فلا يمحوها إلا نور يرتفع إليه من حسنة تضادها، إذ الضد إنما يرتفع بالضد، فيكفر سماع الملاهي بسماع القرآن وبحضور مجالس الذكر، ويكفر القعود في المسجد جنباً بالعبادة فيه، ويكفر مس المصحف محدثاً باكرامه وتقبيله وكثرة قراءته، ويكفر شرب الخمر بالتصدق لكل شراب حلال هو أحب إليه... إلى غير ذلك. وليس ذلك ـ أي ايقاع المناسبة ـ شرطاً في المحو، فقد روى: " أن رجلاً قال لرسول الله (ص): إني عالجت امرأة فاصبت منها كل شيء إلا المسيس، فاقض عليّ بحكم الله، فقال: أما صليت معنا؟ قال: بلى! فقال: إن الحسنات يذهبن السيئات ".

وينبغي أن تكون التوبة عن قرب عهد بالخطيئة، بأن يتندم عليها ويمحو آثارا قبل أن يتراكم الرين على القلب فلا يقبل المحو، قال الله ـ تعالى ـ:

" إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب "[14]. أي عن قرب عد بعمل السوء. وقال: " وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الان "[15].

قال الصادق (ع): " ذلك إذا عاين أمر الآخرة ". وقد ورد مثله عن رسول الله (ص) أيضاً.


[1]  العنكبوت، الآية: 3.

[2]  صححنا هذه الرواية على (مصباح الشريعة: الباب 80).

[3]  وفي النسخ (أو) بدل (أما)، والصحيح ما اثبتناه.

[4]  النور، الآية: 31.

[5]  التحريم، الآية: 8.

[6]  يس، الآية: 9.

[7]  البقرة، الآية: 7.

[8]  النور، الآية: 31.

[9]  هو أبو سليمان الدراني فيما نقل عنه في أحياء العلوم: 4/10.

[10]  في نسخ جامع السعادات (يجزيه).

[11]  البقرة، الآية: 40.

[12]  المؤمنون، الآية: 8. المعارج، الآية: 32.

[13]  المطففين، الآية: 14.

[14]  النساء، الآية: 16.

[15]  النساء، الآية: 17.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست