.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

علاج طول الأمل

قصر الأمل

اختلاف الناس في طول الأمل

ذكر الموت مقصر للأمل

العجب ممن ينسى الموت

الموت أعظم الدواهي

مراتب الناس في ذكر الموت

المبادرات إلى الحسنات

العصيان

الوقاحة

الإصرار على المعصية

 

 

فصل

(علاج طول الأمل)

لما عرفت ان طول الأمل منشأه الجهل وحب الدنيا، فينبغي أن يدفع الجهل بالفكر الصافي من شوائب العمى، وبسماع الوعظ من النفوس الطاهرة، فان من تفكر يعلم ان الموت اقرب إليه من كل شيء، وانه لا بد ان تحمل جنازته ويدفن في قبره، ولعل اللبن الذي يغطى به لحده قد ضرب وفرغ منه، ولعل اكفانه قد خرجت من عند القصار وهو لا يدري به. واما حب الدنيا فينبغي ان يدفع من القلب بالتأمل في حقارة الدنيا ونفاسة الآخرة، وما ورد في الأخبار من الذم والعقاب في حب الدنيا والرغبة إليها، ومن المدح والثواب على تركها والزهد عنها، وقد تقدم ما يكفي لهذا البيان. وينبغي ـ أيضاً ـ ان يتذكر ما ورد في مدح ضد طول الأمل ـ اعني قصر الأمل كما يأتي ـ وما ورد في ذم طول الأمل، كقوله (ص): " أن اشد ما اخاف عليكم خصلتان: اتباع الهوى، وطول الأمل. فأما اتباع الهوى فانه يصد عن الحق، واما طول الأمل فانه الحب للدنيا ـ ثم قال ـ: ان الله يعطي الدنيا من يحب ويبغض وإذا احب عبداً أعطاه الإيمان، إلا ان للدين أبناء وللدنيا أبناء، فكونوا من أبناء الدين ولا تكونوا من أبناء الدنيا. إلا ان الدنيا قد ارتحلت مولية، إلا ان الآخرة قد انت مقبلة، إلا وانكم في يوم عمل ليس فيه حساب، إلا وانكم يوشك أن تكونوا في يوم حساب ليس فيه عمل "[1]. وقوله (ص): " نجا أول هذه الامة باليقين والزهد، ويهلك آخر هذه الامة بالبخل والامل ". وقول أمير المؤمنين (ع): " ما أطال عبد الأمل أساء الأمل ".

فصل

(قصل الأمل)

ضد طول الأمل قصره، وهو من شعار المؤمنين ودثار الموقنين، ولذا ورد في الأمر به والنهي عن ضده ما ورد، قال رسول الله (ص): " إذا اصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح، وخذ من دنياك لآخرتك، ومن حياتك لموتك، ومن صحتك لسقمك، فانك لا تدري ما سمك غداً ". وقال (ص) بعد ما سمع أن اسامة اشترى وليدة بمائة دينار إلى شهر: " ان اسامة لطويل الأمل والذي نفسي بيده! ما طرفت عيناي إلا ظننت أن شفري لا يلتقيان حتى يقبض الله روحي، ولا رفعت طرفي فظننت اني واضعه حتى اقبض، ولا لقمت لقمة إلا ظننت اني لا أسيغها حتى أغص بها من الموت "، ثم قال: " يا بني آدم! إن كنتم تعقلون فعدوا انفسكم من الموتى، والذي نفسي بيده! أن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين ". وروى: " انه (ص) قد اطلع ذات عشية إلى الناس، فقال: ايها الناس! اما تستحيون من الله تعالى؟ قالوا: وما ذاك يا رسول الله! قال: تجمعون مالا تأكلون، وتأملون مالا تدركون، وتبنون ما لا تسكنون ". وقال (ص): " اكلكم يحب ان يدخل الجنة؟ قالوا: نعم يا رسوله الله! قال: قصروا من الأمل، واجعلوا آجالكم بين ابصاركم، واستحيوا من الله حق الحياء ". وكان (ص) يقول في دعائه: " اللهم إني اعوذ بك من دنيا تمنع خير الآخرة، واعوذ بك من حياة تمنع خير الممات، واعوذ بك من امل يمنع خير العمل ". وكان (ص) يتيمم مع القدرة على الماء قبل مضي ساعة، ويقول لعلي لا ابلغه. وقال عيسى (ع): " لا تهتموا برزق غد، فان لم يكن غداً من آجالكم فتأتي أرزاقكم مع آجالكم، وان لم يكن غداً من آجالكم فلا تهتموا لأرزاق غيركم ".

فصل

(اختلاف الناس في طول الأمل)

الناس في طول الأمل وقصره مختلفون: (فمنهم) من يأمل البقاء ويشتهيه أبداً، كما قال الله ـ سبحانه ـ:

" يود أحدهم لو يعمر ألف سنةٍ "[2].

وهو الذي أنغمر في الدنيا وخاض في لذاتها، وليس له من الآخرة نصيب. (ومنهم) من يأمل البقاء إلى اقصى مدة العمر الذي يتصور لأهل عصره، وهو الذي يحب الدنيا حباً شديداً، ويشتغل بجمع ما يمكنه في هذه المدة، وربما يجتهد جمع الازيد منه. (ومنهم) من يأمل اقل من ذلك إلى ان ينتهي إلى من لا يأمل ازيد من سنة، فلا يستغل بتدبير ما وراءها، ولا يقدر لنفسه وجوده في عام قابل، فان بلغه حمد الله على ذلك، ومثله يستعد في الصيف للشتاء وفي الشتاء للصيف، وإذا جمع ما يكفيه السنة اشتغل بالعبادة. (ومنهم) من يأمل أقل من السنة إلى ان ينتهي إلى من لا يأمل ازيد من يوم وليلة، فلا يستعد إلا لنهاره دون غده، (ومنهم) من يكون الموت نصب عينيه، كأنه واقع به وهو ينتظره، ومثله يصلي دائماً صلاة المودعين. وروي: " أن النبي (ص) سأل بعض الصحابة عن حقيقة ايمانه، قال: ما خطوت خطوة إلا ظننت اني لا اتبعها اخرى ". وكان بعضهم إذا يصلي يلتفت يميناً وشمالا، ولما قيل له: ما هذا الالتفات؟ قال: " انتظر ملك الموت من أي جهة يأتيني ".

ثم اكثر الخلق ـ (لا) سيما في امثال زماننا ـ قد غلبهم طول الأمل، بحيث لا يامل اقل من اقصى مدة السن، وقل فيهم من قصر امله، والعجب انه كلما يزداد السن يزداد طول الأمل، وفي عصرنا اكثر المشايخ والمعمرين حرصهم وطول املهم اكثر من الشبان، ومن هنا قال رسول الله (ص): " يشيب ابن آدم وتشب فيه خصلتان: الحرص، وطول الأمل ". وقال (ص): " حب الشيخ شاب في طلب الدنيا، وان التقت ترقوتاه من الكبر، إلا الذين اتقوا، وقليل ما هم".

ثم يعرف طول الأمل وقصره بالأعمال: فمن اعتنى بجمع أسباب لا يحتاج إليها في سنة فهو طويل الأمل، وكذلك من انتشرت اموره، بأن يكون له مع الناس معاملات ومحاسبات إلى مدة معينة، كالسنة وازيد منها، وكان عليه ديون من الناس كذلك، ومع ذلك لم يكن مضطرباً ولا خائفاً فهو طويل الأمل. فعلامة قصر الأمل: أن يجمع أمره بحيث لا يكون عليه من الناس شيء، ولا يسعى لطلب قوت الزائد على أربعين يوماً، ويصرف اوقاته في الطاعة والعبادة، ويرى نفسه كمسافر يجتهد في تحصيل الزاد.

فصل

(ذكر الموت مقصر للامل)

ذكر الموت يقصر الأمل ويدفع طوله، ويوجب التجافي عن دار الغرور والاستعداد لدار الخلود، ولذا ورد في فضيلته والترغيب فيه أخبار كثيرة، قال رسول الله (ص): " اكثروا ذكر هادم اللذات " قيل وما هو يا رسول الله؟! قال: " الموت، فما ذكره عبد على الحقيقة في منعة إلا ضاقت عليه الدنيا، ولا في شدة إلا اتسعت عليه ". وقال (ص): تحفة المؤمن الموت ". وقال (ص): " الموت كفارة لكل مسلم ". وقيل له (ص) أهل يحشر مع الشهداء أحد؟ قال: " نعم! من يذكر الموت في اليوم والليلة عشرين مرة ". وقال (ص): " اكثروا من ذكر الموت، فانه يمحص الذنوب، ويزهد في الدنيا ". وقال (ص) " كفى بالموت واعظاً ". وقال (ص): الموت الموت، إلا ولا بد من الموت، جاء الموت بما فيه، جاء بالروح والراحة والكرة المباركة إلى جنة عالية لاهل دار الخلود الذين كان لها سعيهم وفيها رغبتهم ". وقال (ص): " إذا استحقت ولاية الله والسعادة، جاء الاجل بين العينين وذهب الأمل وراء الظهر وإذا استحقت ولاية الشيطان والشقاوة، جاء الأمل بين العينين وذهب الاجل وراء الظهر ". وذكر عنده (ص) رجل، فاحسنوا الثناء عليه، فقال (ص): " كيف ذكر صاحبكم للموت؟ " قالوا. ما كنا نكاد نسمعه يذكر الموت، قال: " فان صاحبكم ليس هنالك ". وسئل: أي المؤمنين أكيس واكرم؟ فقال: " اكثرهم ذكراً لموت، واشدهم استعداداً له، اولئك هم الاكياس، ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة ". وقال الباقر (ع): " اكثروا ذكر الموت، فانه لم يكثر ذكره إنسان إلا زهد في الدنيا ". وقال الصادق (ع): " إذا انت حملت جنازة فكن كأنك انت المحمول وكأنك سألت ربك الرجوع إلى الدنيا ففعل، فانظر ماذا تستأنف ". ثم قال (ع): " عجباً لقوم حبس أولهم عن آخرهم، ثم نودي فيهم بالرحيل وهم يلعبون ". وقال (ع) ـ لأبي بصير ـ بعد ما شكى إليه الوسواس ـ: " اذكر يا ابا محمد تقطع أوصالك في قبرك، ورجوع احبائك عنك إذا دفنوك في حفرتك، وخروج بنات الماء من منخريك، واكل الدود لحمك، فان ذلك يسلي عليك ما أنت فيه "، قال أبو بصير: فوالله! ما ذكرته إلا سلى عنى ما انا فيه من هم الدنيا. وقال (ع): " من كان كفنه معه في بيته لم يكتب من الغافلين، وكان ما جوراً كلما نظر إليه "[3]. وقال (ع): " ذكر الموت يميت الشهوات في النفس، ويقلع منابت الغفلة، ويقوى القلب بمواعد الله، ويرق الطبع، ويكسر اعلام الهوى، ويطفي نار الحرص، ويحقر الدنيا، وهو معنى ما قال النبي (ص): (فكر ساعة خير من عبادة سنة). وذلك عندما يحل أطناب خيام الدنيا ويشدها في الآخرة، ولا ينكر نزول الرحمة عند ذكر الموت بهذه الصفة، ومن لا يعتبر بالموت، وقلة حيلته، وكثرة عجزه، وطول مقامه في القبر، وتحيره في القيامة: فلا خير فيه. وقال النبي (ص): (اكثروا ذكر هادم اللذات...) ثم ذكر تمام الحديث كما مر... ثم قال (ع): والموت أول منزل من منازل الآخرة وآخر منزل من منازل الدنيا، فطوبى لمن اكرم عند النزول بأولها، وطوبى لمن حسن مشايعته في آخرها، والموت أقرب الأشياء من بني آدم، وهو بعده أبعد، فما أجرأ الإنسان على نفسه، وما اضعفه من خلق، وفي الموت نجاة المخلصين وهلاك المجرمين، ولذلك اشتاق من اشتاق إلى الموت وكره من كره، قال النبي (ص): (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه) "[4].

فصل

(العجب ممن ينسى الموت)

عجباً لقوم نسوا الموت وغفلوا عنه، وهو اظهر اليقينيات والقطعيات في العالم، واسرع الأشياء إلى بني آدم، قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ:

" أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروجٍ مشيدةٍ "[5]. وقال ـ سبحانه ـ: " كل نفسٍ ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور "[6].

وقال الصادق (ع): " ما خلق الله يقيناً لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت ". وقال أمير المؤمنين (ع): " ما انزل الموت حق منزلته من عد غداً من اجله ". وقال (ع): " لو رأى العبد أجله وسرعته إليه، لأبغض العمل من الدنيا ". وقال الصادق (ع): " ما من أهل بيت شعر ولا وبر إلا وملك الموت يتصفحه كل يوم خمس مرات ". وقد تقدمت أخبار اخر في هذا المعنى.

فصل

(الموت أعظم الدواهي)

اعلم أن الموت داهية من الدواهي العظمى، ومن كل داهية اشد وادهى، وهو من الاخطار العظيمة والأهوال الجسيمة، فمن علم أن الموت مصرعه والتراب مضجعه، والقبر مقره وبطن الأرض مستقره، والدود أنيسه والعقارب والحيات جليسه، فجدير أن تطول حسرته وتدوم عبرته، وتنحصر فيه فكرته وتعظم بليته، وتشتد لأجله رزيته، ويرى نفسه في أصحاب القبور ويعدها من الاموات. إذ كل ما هو آت قريب، والبعيد ما ليس بآت، وحقيق ألا يكون ذكره وفكره وغمه وهمه وقوله وفعله وسعيه وجده إلا فيه وله، قال رسول الله (ص): " لو أن البهائم يعلمون ما تعلمون ما اكلتم منها سميناً ". وقال (ص) لقوم يتحدثون ويضحكون: " اذكروا الموت، أما والذي نفسي بيده! لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيراً ". ومر (ص) بمجلس قد استعلاه الضحك، فقال: " شوبوا مجلسكم بذكر مكدر اللذات ". قالوا: وما مكدر اللذات؟ قال: " الموت ". ثم غفلة الناس عن الموت لقلة فكرهم فيه وذكرهم له، ومن يذكره ليس يذكره بقلب فارغ، بل بقلب مشغول بشهوات الدنيا وعلائقها، فلا ينفع ذكره في قلبه، فالطريق فيه: أن يفرغ القلب عن كل شيء إلا عن ذكر الموت الذي بين يديه، كالذي يريد ان يسافر إلى بلد بعيد ما بينهما مفازة مخطرة، أو بحر عظيم لا بد أن يركبه، فانه لا يتفكر إلا فيه، ومن تفكر في الموت بهذا الطريق وتكرر منه ذلك، لأثر ذكره في قلبه، وعند ذلك يقل فرحه وسروره بالدنيا، وتنزجر نفسه عنها، وينكسر قلبه، ويستعد لأجله. وأوقع طريق فيه: أن يكثر ذكر أقرانه الذين مضوا قبله، ونقلوا من انس العشرة إلى وحشة الوحدة. ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، ومن ملاعبة الجواري والغلمان إلى مصاحبة الهوام والديدان، ويتذكر مصرعهم تحت التراب، ويتذكر صورهم في مناصبهم وأحوالهم، ثم يتفكر كيف محى التراب الان حسن صورتهم، وكيف تبددت أجزاؤهم في قبورهم، وكيف أرملوا نساؤهم وأيتموا أولادهم وضيعوا أموالهم وخلت منهم مساكنهم ومجالسهم وانقطعت أثارهم واوحشت ديارهم، فمهما تذكر رجلا رجلا، وفصل في قلبه حاله وكيفية حياته، وتوهم صورته، وتذكر نشاطه وأمله في العيش والبقاء، ونسيانه للموت، وانخداعه بمؤثثات الأسباب. وركونه إلى القوة والشباب، وميله إلى الضحك واللهو، وغفلته عما بين يديه من الموت الذريع والهلاك السريع، وانه كيف كان يتردد والآن قد تهدمت رجلاه ومفاصله، وكيف كان ينطق وقد أكل الدود لسانه، وكيف كان يضحك وقد أكل التراب أسنانه، وكيف دبر لنفسه الأمور وجمع من حطام الدنيا مالا يتفق احتياجه إليه على مر الاعوام والشهور وكر الازمنة والدهور. ثم يتأمل أنه مثلهم، وغفلته كغفلتهم، وسيصير حاله في القبر كحالهم، فملازمة هذه الافكار وامثالها، مع دخول المقابر وتشييع الجنائز ومشاهدة المرضى، تجدد ذكر الموت في قلبه، حتى يغلب عليه بحيث يصير الموت نصب عينيه، وعند ذلك ربما يستعد له ويتجافى عن دار الغرور، واما الذكر بظاهر القلب وعذبة اللسان فقليل الجدوى في التنبيه والايقاظ. ومهما طاب قلبه بشيء من أسباب الدنيا، فينبغي أن يتذكر في الحال أنه لا بد من مفارقته. كما نقل: أن بعض الأكابر نظر إلى داره فاعجبه حسنها، فبكى وقال: والله لو لا الموت لكنت بها مسروراً.

فصل

(مراتب الناس في ذكر الموت)

الناس بين منهمك في الدنيا خائض في لذاتها وشهواتها، وبين تائب مبتدئ، وعارف منتهى.

(فالاول): لا يذكر الموت، وإن ذكره فيذكره ليذمه لصده عما يحبه من الدنيا، وهو الذي يفر منه، وقال الله ـ تعالى ـ فيه:

" قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم..." الآية[7].

وهذا يزيده ذكر الموت بعداً من الله، إلا إذا استفاد منه التجافي عن الدنيا، ويتنغص عليه نعيمه، ويتكدر صفو لذته، وحينئذ ينفعه، لأن كل ما يكدر على الإنسان اللذات فهو من أسباب نجاته.

(والثاني): يكثر ذكر الموت لينبعث من قلبه الخوف والخشية، فيفي بتمام التوبة، وربما يكرهه خيفة من أن يختطفه قبل الاستعداد وتهيئة الزاد وتمام التوبة، وهو معذور في كراهة الموت، ولا يدخل تحت قوله (ص): " من كره لقاء الله كره الله لقاءه "، لان هذا ليس يكره الموت ولقاء الله، وإنما يخاف فوت لقاء الله لقصوره وتقصيره، وهو الذي يتأخر عن لقاء الحبيب مشتغلا بالاستعداد للقائه على وجه يرضاه، فلا يعد كارهاً للقائه. وعلامة هذا: أن يكون دائم الاستعداد للموت لا شغل له سواه، وإن لم يكن مسعداً له عاملا بما ينفعه في الآخرة التحق بالاول.

(واما الثالث): فانه يذكر الموت دائماً، لانه موعد للقاء حبيبه، والمحب لا ينسى قط موعد لقاء الحبيب، وهذا في غالب الأمر يستبطئ مجيء الموت ويحب مجيئه، ليتخلص من دار العاصين وينتقل إلى جوار رب العالمين، كما روي: " أن حذيفة لما حضرته الوفاة قال: حبيب جاء على فاقة لا أفلح من رده، اللهم إن كنت تعلم أن الفقر أحب إلي من الغنى، والسقم احب إلي من الصحة، والموت أحب إلي من الحياة، فسهل علي الموت حتى ألقاك ". وأعلى رتبة منه: من يفوض أمره إلى الله، ولا يختار لنفسه شيئاً: من الموت أو الحياة، والفقر والغنى، والمرض والصحة، بل يكون أحب الأشياء إليه احبها إلى مولاه، وهذا قد انتهى بفرط الحب والولاء إلى درجة التسليم والرضا، وهو الغاية والانتهاء.

تتميم

(المبادرة إلى الحسنات)

من علامات قصر الأمل وذكر الموت: المبادرة إلى الحسنات واشتياق الخيرات، ولذا ورد فيه الترغيب والحذر عن آفة التأخير، قال رسول الله (ص): " اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك " وقال (ص): " من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل. ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة "[8]. وكان (ص) إذا احس من اصحابه غفلة وغره، نادى فيهم بصوت عال: " اتتكم المنية، إما بشقاوة أو بسعادة ". وروى: أنه ما من صباح ولا مساء إلا ومناد ينادي: أيها الناس! الرحيل الرحيل!. وقال بعض الأكابر: التؤدة في كل شيء خير، إلا في أعمال الآخرة.

ومنها:

العصيان

ولا ريب في كونه من رذائل قوتي الغضب والشهوة معاً، لأن بعض أنواعه من رذائل إحداهما من جانب الإفراط أو التفريط، أو من باب ردائتها، وبعض آخر من أنواعه من رذائل الأخرى. وضده (التقوى والورع)، وبالمعنى الاعم: الاجتناب عن مطلق المعصية خوفاً من سخط الله، وقد تقدم ما ورد في فضيلتهما. فتذكر.

ومنها

الوقاحة

وهو عدم مبالاة النفس، وعدم انفعالها من ارتكاب المحرمات الشرعية العقلية أو العرفية، وكونه من رداءة قوتي الغضب والشهوة ظاهر.

وضدها (الحياء)، وهو انحصار النفس وانفعالها من ارتكاب المحرمات الشرعية والعقلية والعادية حذراً من الذم واللوم، وهو أعم من التقوى إذ التقوى اجتناب المعاصي الشرعية، والحياء يعم ذلك واجتناب ما يقبحه العقل والعرف أيضاً، فهو من شرائف الصفات النفسية، ولذا ورد في فضله ما ورد، قال الصادق (ع): " الحياء من الايمان، والإيمان في الجنة ". وقال (ع): " الحياء والعفاف والعي ـ أعني عي اللسان لا عي القلب ـ من الإيمان ". وقال (ع): " الحياء والإيمان مقرونان في قرن، فإذا ذهب أحدهما تبعه صاحبه ". وقال (ع): " لا ايمان لم لا حياء له ". ثم حقيقة الحياء ـ كما عرفت ـ هو الانفعال عن ارتكاب ما يذم شرعاً أو عقلا أو عرفاً، فالانفعال عن غير ذلك حمق، فان الانفعال عن تحقيق أحكام الدين أو الخمود عما ينبغي شرعاً وعقلا لا يعد حياء بل حمقاً، ولذا قال رسول الله (ص): " الحياء حياءان: حياء عقل وحياء حمق، فحياء العقل هو العلم وحياء الحمق هو الجهل "[9].

ومنها:

الاصرار على المعصية

رجوع رذيلة الاصرار إلى أي القوى وذمها ـ ضد الاصرار التوبة وتعريفها ـ هل يشترط في التوبة القدرة على الذنب السابق؟ ـ وجوب التوبة ـ تحقيق في وجوبها ـ عموم وجوبها ـ لا بد من العمل بعدها ـ فضيلتها ـ قبولها ـ طريقة التوبة من المعاصي ـ تكفير الصغائر ومعنى الكبائر ـ الصغائر قد تكون كبائر ـ شروط كمال التوبة ـ هل يصح التبعيض فيها؟ ـ أقسام التائبين ـ مراتب التوبة ـ عدم الثقة بالاستقامة لا يمنع من التوبة ـ علاج الاصرار على الذنوب ـ الانابة ـ المحاسبة والمراقبة ـ المعنى الظاهر لهما ـ حاسبوا انفسكم قبل ان تحاسبوا ـ مقامات مرابطة الفعل للنفس.

وهو إما ناشئ من رداءة احدى القوتين وخروجها عن إطاعة العاقلة، أو عن رداءتهما معاً، فيكون من رذائل القوتين، وكل ما يدل على ذم مطلق المعصية أو على ذم خصوص افرادها المعينة يدل على ذم الاصرار على المعصية بطريق اولى وأوكد. والأخبار الواردة في ذم خصوص افراد المعاصي ربما يظفر بجملة منها في هذا الكتاب عند ذكر كل معصية، وأما الأخبار الواردة في ذم مطلق الذنب والمعصية فكثيرة جداً، كقول النبي (ص): " ما من يوم طلع فجره ولا ليلة غاب شفقها إلا وملكان يناديان باربعة اصوات، يقول أحدهما: يا ليت هذا الخلق لم يخلقوا، ويقول الآخر: يا ليتهم إذ خلقوا علموا لماذا خلقوا، فيقول الآخر: فياليتهم إذ لم يعلموا لماذا خلقوا عملوا بما علموا، فيقول الآخر: فياليتهم إذ لم يعملوا بما علموا تابوا مما عملوا. واعلموا أن العبد ليحبس على ذنب من ذنوبه مائة عام، وأنه لينظر إلى أزواجه في الجنة يتنعمن ". وقال أمير المؤمنين (ع): " لا تبدين عن واضحة وقد عمتك الأعمال الفاضحة، ولا تأمن البيات وقد عملت السيئات ". وقال الباقر (ع): " إن الله قضى قضاء حتماً ألا ينعم على العبد بنعمة فيسلبها إياه حتى يحدث العبد ذنباً يستحق بذلك النقمة ". وقال (ع): " ما من شيء أفسد للقلب من خطيئته، إن القلب ليواقع الخطيئة، فما يزال به حتى يغلب عليه، فيصير أعلاه أسفله ". وقال (ع): " إن العبد ليذنب الذنب فيؤوى عنه الرزق ". وقال الصادق (ع): " يقول الله ـ تعالى ـ: إن أدنى ما اصنع بالعبد إذا آثر شهوته على طاعتي أن احرمه لذيذ مناجاتي ". وقال (ع): " من هم بسيئة فلا يعملها، فانه ربما عمل العبد السيئة فيراه الرب ـ تعالى ـ فيقول: وعزتي وجلالي! لا أغفر لك بعد ذلك أبداً ". وقال (ع): " أما إنه ليس من عرق يضرب، ولا نكبة ولا صداع ولا مرض، إلا بذنب، وذلك قول الله ـ عز وجل ـ في كتابه:

" وما أصابكم من مصيبةٍ فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثيرٍ "[10].

قال (ع): وما يعفو الله اكثر مما يؤاخذ به ". وقال (ع): إن الرجل يذنب الذنب فيحرم صلاة الليل، وان العمل السيئ أسرع في صاحبه من السكين في اللحم ". وقال الكاظم (ع): " حق على الله ألا يعصى في دار إلا اضحاها المشمس حتى يطهرها "[11].

والأخبار في هذا المعنى أكثر من أن تحصى، ولا يتوهم أحد أنه يمكن ألا يصل إليه أثر الذنب ووباله، فان هذا محال. فانه لم يتجاوز عن الأنبياء في تركهم الأولى، فكيف يتجاوز عن غيرهم في كبائر المعاصي. نعم، كانت سعادتهم في أن عوجلوا بالعقوبة ولم يؤخروا إلى الآخرة، والأشقياء يمهلون ليزدادوا إثماً، ويعذبوا في الآخرة عذاباً اكبر واشد، أما سمعت أن أباك آدم قد اخرج من الجنة بتركه الأولى؟ حتى روى: " أنه لما أكل الشجرة تطايرت الحلل عن جسده وبدت عورته، وجاء جبرئيل (ع) وأخذ التاج من رأسه وخلى الاكليل عن جنبيه، ونودي من فوق العرش: اهبطا من جواري، فان لا يجاورني من عصاني، فالتفت آدم إلى حواء باكياً، وقال: هذا أول شؤم المعصية، أخرجنا من جوار الحبيب ". وروى: " انه ـ تعالى ـ قال: يا آدم! أي جار كنت لك؟ قال: نعم الجار يا رب! قال: يا آدم! اخرج من جواري وضع عن رأسك تاج كرامتي، فانه لا يجاورني من عصاني ". وقد روى: " ان آدم بكى على ذنبه مائتي سنة، حتى قبل الله توبته وتجاوز عما ارتكبه من ترك الأولى ". فان كانت مؤاخذته في نهى تنزيه مع حبيبه وصفيه هكذا، فكيف معاملته مع الغير في ذنوب لا تحصى.



[1]  صححنا الحديث على إحياء العلوم: 4/384، وهو يرويه عن علي (ع) عن النبي (ص)، ولكن في كنز العمال: 2/169، يرويه: انه من كلام علي (ع) نفسه، مع اختلاف يسير عن عبارة الاحياء، وعبارة الكنز أبلغ وأرصن، وفيه كلمة (الآخرة) بدل (الدين)، ونفس الكلام مع اختلاف يسير أيضاً (وهو أبلغ وأعلى من العبارتين)، مروي في نهج البلاغة: رقم41 من باب الخطب، فراجع.

[2] البقرة، الآية: 96.

[3] صححنا اكثر الأحاديث على الوسائل ـ ج1:الباب 23 من أبواب الاستحضار في كتاب الطهارة ـ، وعلى إحياء العلوم: 4/283.

[4]  صححنا الحديث على مصباح الشريعة: الباب 84.

[5]  النساء، الآية: 77.

[6]  آل عمران، الآية: 185.

[7]  الجمعة، الآية: 8.

[8]  صححنا الحديث على إحياء العلوم: 4/390. وفي نسخ الكتاب (أولج ومن أولج).

[9]  صححنا الأحاديث هنا على أصول الكافي (باب الحياء).

[10]  الشورى، الآية: 30.

[11]  صححنا الأحاديث هنا على أصول الكافي (باب الذنوب).

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست