.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

الوعاظ

أهل العبادة والعمل

المتصوفة

الأغنياء وأرباب الأموال

ضد الغرور الفطانة والعلم والزهد

طول الأمل

 

 

الطائفة الرابعة

(الوعاظ)

والمغترون منهم كثيرون:

(فمنهم) من يتكلم في وعظه في أخلاق النفس وصفات القلب، من الخوف، والرجاء، والتوكل، والرضا، والصبر، والشكر، ونظائرها، ويظن أنه إذا تكلم بهذه الصفات ودعا الخلق إليها صار موصوفاً بها، وهو منفك عنها في الواقع، إلا عن قدر يسير لا ينفك عنه عوام المسلمين، ويزعم ان غرضه اصلاح الخلق دون أمر آخر، ومع ذلك لو أقبل الخلق على أحد من اقرانه وصلحوا على يديه، وكان اقوى منه في الارشاد والاصلاح، لمات غماً وحسداً، ولو اثنى أحد المترددين عليه على بعض اقرانه، لصار أبغض خلق الله إليه.

و (منهم) من اشتغل بالشطح والطامات، وتلفيق كلمات خارجة عن قانون الشرع والعقل، وربما كلف نفسه بالفصاحة والبلاغة، وتصنع التشبيهات والمقدمات، وشغف بطيارات النكت وتسجيع الالفاظ وتلفيقها، طلباً للاعوان والانصار، وشوقاً إلى تكثر البكاء والرقة والتواجد والرغبات في مجلسه، والتذاذاً بتحريك الرؤوس على كلامه والبكاء عليه، وفرحاً بكثرة الأصحاب والمستفيدين والمعتقدين به، وسروراً بالتخصيص بهذه الخاصة من بين سائر الاقران، وربما لم يبال بالكذب في نقل الأخبار والآثار، ظناً منه أنه أوقع في النفوس وأشد تأثيراُ في رقة العوام وتواجدهم. ولا ريب في أن هؤلاء شر الناس، بل شياطين الأنس، ضلوا وأضلوا عن سواء السبيل، إذ الاولون إن لم يصلحوا أنفسهم، فقد أصلحوا غيرهم وصححوا كلامهم ووعظهم، وأما هؤلاء فانهم يصدون عن سبيل الله، ويجرون الخلق إلى الغرور بالله، لان سعيهم في ذكر ما يسر به العامة، ليصلوا به منهم إلى اغراضهم الفاسدة، فلا يزالون يذكرون ما يقوي الرجاء، ويزيدهم جرأة على المعاصي ورغبة في الدنيا، (لا) سيما إذا كان هذا الواعظ أيضاً ممن يرغب إلى الدنيا، ويسر بوصول المال إليه، ويتزين بالثياب الفاخرة والمراكب الفارهة، وغيرهما من زينة الدنيا. فمثله ممن يضل ويكون افساده اكثر من اصلاحه، ومع ذلك يظن انه مروج الشرع والدين ومرشد الضالين، فهو اشد المغرورين والغافلين.

و(منهم) من هذب اخلاقه، وراقب قلبه، وصفاه عن جميع الكدورات، وصغرت الدنيا في عينه، وانقطع طمعه عن الخلق فلم يلتفت إليهم، ودعته الرحمة والشفقة على عباد الله إلى نصحهم واستخلاصهم عن أمراض المعاصي بالوعظ، فلما استقل به وجد الشيطان مجال الفتنة فدعاه إلى الرئاسة دعاء خفياً ـ اخفى من دبيب النملة ـ لا يشعر به، ولم يزل ذلك في قلبه يربو وينمو حتى دعاه إلى التصنع والتزين للخلق: بتحسين الالفاظ والنغمات والحركات والتصنع في الزي والهيئة والشمائل، واقبل الناس إليه يعظمونه ويوقرونه توقيراً يزيد على توقير الملوك، إذ رأوه شافياً لامراضهم بمحض الرحمة والشفقة من غير طمع، فآثروه بأبدانهم وأموالهم، وصاروا له كالخدم والعبيد، فعند ذلك انتشر طبعه وارتاحت نفسه، وذاق لذة يالها من لذة وأصاب من الدنيا شهوة يستحقر معها كل شهوة، فوقع في أعظم لذات الدنيا بعد قطعه بأنه تارك للدنيا، فقد غره الشيطان على ما لا يشعر به. وعلامة ثوران حب الرئاسة في باطنه: أنه لو ظهر من اقرانه من مالت القلوب إلى قبوله، وزاد أثر كلامه في القبول على كلامه، شق ذلك عليه، إذ لولا أن النفس قد استبشرت واستلذت بالرئاسة لكان يغتنم ذلك.

وعلى هذا فينبغي ألا يشتغل أحد بالنصح والوعظ إلا إذا وجد من نفسه أنه ليس له قصد سوى هدايتهم إلى الله ـ تعالى ـ، وكان يسره غاية السرور ظهور من يعينه على ارشادهم أو اهتدائهم من عند أنفسهم، وانقطع طمعه بالكلية عن ثنائهم وأموالهم، واستوى عنده حمدهم وذمهم، ولم يبال بذمهم إذا كان الله يمدحه، ولم يفرح بمدحهم إذا لم يقترن به مدح الله، ونظر إليهم كما ينظر إلى من هو أعلم منه وأورع، حيث لا ينكر عليه ويراه خيراً من نفسه، لدلالة الظاهر على ذلك وجهله بالخاتمة، وإلى البهائم من حيث انقطاع طمعه عن طلب المنزلة في قلوبهم، فانه لا يبالي كيف يراه البهائم، فلا يتزين لها، إذ راعى الماشية إنما غرضه رعايتها ودفع الذب عنها، دون نظر الماشية إليه بعين المدح والثناء.

ثم لو ترقى الواعظ، وعلم بهذه المكيدة من الشيطان، واشتغل بنفسه وترك النصح، أو نصح مع رعاية شرط الصدق والاخلاص، لخيف عليه الاعجاب بنفسه في فراره عن الغرور، فيكون اعجابه بنفسه في الفرار عن الغرور غاية الغرور، وهو المهلك الأعظم من كل ذنب، ولذلك قال الشيطان: " يا ابن آدم! إذا ظننت أنك بعملك تخلص مني فبجهلك قد وقعت في حبائلي ". ثم لو دفع عن نفسه العجب، وعلم أن ذلك من الله ـ تعالى ـ لا منه، وأن مثله لا يقوى على دفع الشيطان عنه إلا بتوفيق الله، وانه ضعيف عاجز لا يقدر على شيء أصلا، فضلا عن دفع الشيطان، لخيف عليه الغرور بفضل الله والثقة بكرمه والامن من مكره، حتى يظن أنه يبقى على هذه الوتيرة في المستقبل. ولا ريب أن الآمن من مكر الله خاسر مغرور، فسبيل النجاة بعد تهذيب النفس وخلوص القصد والانقطاع عن الدنيا ولذاتها، ان يرى ذلك كله من فضل الله، وكان خائفاً على نفسه من سلب حاله في كل لحظة، وغير آمن من مكر الله، وغير غافل عن خطر الخاتمة. وهذا خطر لا محيص عنه وخوف لا نجاة منه، إلا بمجاوزة الصراط والدخول في الجنة، ولذلك لما ظهر الشيطان لبعض الأولياء في وقت النزع ـ وكان قد بقى له نفس ـ قال: (أفلت مني يا فلان!؟)، فقال: (لا! بعد).

فصل

(أهل العبادة والعمل)

والمغرورون منهم فرق كثيرة:

(فمنهم) من غلبت عليه الوسوسة في إزالة النجاسة وفي الوضوء، فيبالغ فيه ولا يرتضي الماء المحكوم بالطهارة في فتوى الشرع، ويقدر الاحتمالات البعيدة الموجبة للنجاسة، وإذا آل الأمر إلى الاكل وأخذ المال قدر الاحتمالات الموجبة للحل، بل ربما أكل الحرام المحض وقدر له محملا بعيدا لحله، ولو انقلب هذا الاحتمال من الماء إلى الطعام لكان أشبه بسيرة أكابر الأولياء. ثم من هؤلاء من يخرج إلى الاسراف في صبه الماء وربما بالغ عند الوضوء في التخليل وضرب احدى يديه على وجهه أو يده الأخرى، ولا يدري هذا المغرور أن هذا العمل ان كان مع اليقين بحصول ما يلزم شرعاً فهو تضييع للعمر الذي هو اعز الأشياء فيما له مندوحة عنه، وان كان بدونه بل يحتاط في التخليل ليحصل الجزم بوصول الماء إلى البشرة، فما باله يتيقن بوصول الماء إلى البشرة في الغسل بدون هذه المبالغة والاحتياط مع أن حصول القطع بايصال الماء إلى البشرة في الغسل ألزم وأوجب. ثم ربما لم يكن له مبالغة واحتياط في الصلاة وسائر العبادات، وانحصر احتياطه ومبالغته بالوضوء، زاعماً أن هذا يكفي لنجاته، فهو مغرور في غاية الغرور.

و (منهم) من اغتر بالصلاة فغلبت عليه الوسوسة في نيتها، فلا يدعه الشيطان حتى يعقد نية صحيحة، بل يشوش عليه حتى تفوته الجماعة أو فضيلة الوقت، وقد يوسوس في التكبير حتى يغير صيغتها لشدة الاحتياط فيه، يفعل ذلك في أول صلاته ثم يغفل في جميع صلاته، ولا يحضر قلبه، ويغتر بذلك، ويظن أنه إذا أتعب نفسه في تصحيح النية فهو على خير. وربما غلبت على بعضهم الوسوسة في دقائق القراءة، واخرج حروف الفاتحة وسائر الأذكار عن مخارجها، فلا يزال يحتاط في التشديدات وتصحيح المخارج والتمييز بين مخارج الحروف المتقاربة، من غير اهتمام فيما عدا ذلك، من حضور القلب والتفكير في معاني الاذكار، ظناً منه أنه إذا صحت القراءة فالصلاة مقبولة، وهذا اقبح أنواع الغرور.

و (منهم) من اغتر بالصوم، وربما صام الأيام الشريفة، بل صام الدهر، ولم يحفظ لسانه عن الغيبة، ولا بطنه عن الحرام عند الافطار، ثم يظن بنفسه الخير، وذلك في غاية الغرور.

و (منهم) من اغتر بالحج، فيخرج إلى الحج من غير خروج عن المظالم وقضاء الديون وطلب الزاد الحلال، ويضيع في الطريق الصلاة، ويعجز عن طهارة الثوب والبدن، ثم يحضر البيت بقلب ملوث برذائل الأخلاق وذمائم الصفات، ومع ذلك يظن انه على خير، فهو في غاية الغرور.

و (منهم) من اغتر بقراءة القرآن، فيهذ هذاً، وربما يختم في اليوم والليلة مرة، فيجري به لسانه، وقلبه مردد في اودية الأماني، وربما اسرع في القراءة غاية السرعة، ويظن ان سرعة اللسان من الكمالات، ويتفاخر على الأمثال والأقران.

و (منهم) من اغتر ببعض النوافل، كصلاة الليل، أو مجرد غسل الجمعة، أو أمثال ذلك، من غير اعتداد بالفرائض، زاعماً أن المواظبة على مجرد هذه النافلة ينجيه في الآخرة، فهو أيضاً من المغرورين.

و (منهم) من تزهد وقنع بالدون من المطعم والملبس والمسكن، ظانا أنه ادرك رتبة الزهاد، ومع ذلك راغب في الرئاسة باشتهاره بالزهد، فهو ترك أهون المهلكين باعظمها، إذ حب الجاه اشد فسادا من حب المال، ولو ترك الجاه وأخذ المال لكان اقرب إلى السلامة، فهو مغرور، إذ ظن أنه من الزهاد، ولم يعرف أن منتهى لذات الدنيا الرئاسة، وهو يحبها، فكيف يكون زاهداً؟

الطائفة السادسة

(المتصوفة)

والمغترون فيهم اكثر من ان يحصى:

(فمنهم) ارباب البوقات، وهم القلندرية الذين لا يعرفون معنى التصوف ولا شيئاً من مراسيم الدين، وصرفوا اوقاتهم في التكدي والسؤال من الناس، ويظنون أنهم تاركون للدنيا مقبلون على الآخرة، مع انهم لو ظفروا بشيء من أمور الدنيا لأخذوه بجميع جوارحهم، فهؤلاء ارذل الناس بوجوه كثيرة لا تخفى.

و (منهم) من اغتر بالزي، والمنطق، ولبس الصوف، واطراق الرأس وادخاله في الجيب، وخفض الصوت، وتنفس الصعداء، وتحريك البدن في الطول والعرض، والسقوط إلى الأرض، (لا) سيما إذا سمعوا كلاماً في الوحدة والعشق، مع عدم اطلاعهم على حقيقة شيء منهما. وربما تجاوز بعضهم من ذلك إلى الرقص والتصفيق، وابداء الشهيق والنهيق، واختراع الاذكار، والتغني بالاشعار... وغير ذلك من الحركات القبيحة والهيئات الشنيعة، ويظن أن العبد بهذه الحركات والأفعال يصل إلى الدرجات العالية، ولم يعلم المغرور أنها تقرب العبد إلى سخط الله وعذابه.

و (منهم) من وقع في الاباحة، وطوى بساط الشرع والاحكام، وترك الفصل بين الحلال والحرام، يتكالب على الحرام والشبهات، ولا يحترز عن أموال الظلمة والسلاطين. وربما قال: المال مال الله والخلق عيال الله، وفهم فيه سواء. وربما قال: ان الله مستغن عن عملي، فأي حاجة إلى أن أتعب نفسي فيه؟ وربما قال: لا وزن لأعمال الجوارح، وإنما النظر إلى القلوب، وقلوبنا والهة إلى حب الله واصلة إلى معرفة الله. وربما خاضوا في الشهوات الدنيوية، وقالوا إنها لا تصدنا عن طريق الله، لقوة نفوسنا وقوة اقدامنا فيها، وانما يحتاج العوام إلى تهذيب النفس بالأعمال البدنية، ونحن مستغنون عنه. فهؤلاء يرفعون درجتهم عن درجة الأنبياء (ع) إذ كانوا يصرحون بأن ارتكاب الأمور المباحة فضلاً عن الخطايا والمعاصي يصدهم عن طريق الله، حتى يبكون سنين متوالية على ترك الراجح وفعل المرجوح، فهم أشد الناس غروراً، وأعظم الخلق حماقة وجهلا.

و (منهم) من يدعي غاية المعرفة واليقين، والوصول إلى درجات المقربين، ومشاهدة المعبود، ومجاورة المقام المحمود، والملازمة في عين الشهود، وتلقف من الطامات كلمات يرددها، ويظن أنه يتكلم عن الوحي ويخبر عن السماء. وينظر إلى العباد والفقهاء والمحدثين وسائر اصناف العلماء بعين الحقارة والازدراء، يقول في العباد: إنهم أجراء مبعوثون، وفي العلماء: انهم بالحديث عن الله لمحجوبون، ويدعي لنفسه من الكرامات ما لا يدعيه نبي ولا ولي، ويدعي كونه واصلا إلى الحق فارغاً عن أعباء التكليف، لاعلماً أحكم ولاعملا هذب، لم يعرف من المعارف إلا أسماء يتفوه بها عند الأغنياء للوصول إلى بعض حطامهم الخبيثة. فهو عند الله من الفجار المنافقين، وعند أرباب القلوب من الحمقى الجاهلين، مع ظنه أنه من المقربين، فهو أشد الغافلين المغرورين.

و (منهم) ملامية يرتكبون قبائح الأعمال وشنائع الافعال الموجبة للبعد عن طريق المروة. ظناً منهم أن هذا موجب لكسر النفس وازالة ذمائم الأخلاق، ولم يعلموا ان هذه الافعال من الذمائم، وقد نهى صاحب الشرع عنه.

و (منهم) اشتغل بالرياضة والمجاهدة، وقطع بعض المنازل، ووصل إلى بعض المقامات على قدر سعيه ومجاهدته، إلا أنه لم يتم سلوكه وانقطع عن سائر المقامات، اما لاعتراض مفسد في اثناء السلوك، أو لوقوعه في الاثناء ظناً منه انه وصل إلى الله ولم يصل بعد، فان لله سبعين حجاباً من نور، ولا يصل السالك إلى حجاب من تلك الحجب في الطريق إلا ويظن انه قد وصل، واليه الإشارة في حكاية الخليل، حيث رأى أول كوكباً فقال: "هذا ربي "، ثم انتقل إلى القمر، ثم عنه إلى الشمس، فانه ليس المراد بالكوكب والقمر والشمس هذه الاجسام المضيئة، فان شأن مثل الخليل أعظم من أن يظن كونها آلهة، بل هذا ينافي شأنه ورتبته، فالمراد بها الأنوار التي هي من حجب الله، ويراها السالك في الطريق، ولا يتصور الوصول إلى الله إلا بالوصول إلى هذه الحجب، وهي حجب من النور بعضها أعظم من بعض، فاستعير لفظ الكواكب لصغره لاقل مراتبها، والقمر لا وسطها، والشمس لاعظم مراتبها، والخليل (ع) لم يزل عند سيره في الملكوت يصل إلى نور بعد نور، ويتخيل إليه في أول ما يلقاه أنه قد وصل، ثم انكشف له أن وراءه امر، فيترقى إليه حتى وصل إلى الحجاب الاقرب، فقال: هذا اكبر، فلما ظهر أنه مع عظمته غير خال عن الهوى في حضيض النقص والانحطاط عن ذروة الكمال، قال:

" لا أحب الآفلين. إني وجهت وجهي... "[1].

فسالك هذا الطريق قد يغتر في الوقوف على بعض هذه الحجب، وربما يغتر بالحجاب الأول، وأول الحجاب بين الله وبين العبد هو قلبه، فانه ـ أيضاً ـ أمر رباني ونور من أنوار الله. تتجلى فيه حقيقة الحق كله، حتى يتسع لجملة العالم ويحيط به وتنجلى فيه صورة الكل، وعند ذلك ويشرق نوره اشرافاً عظيماً، إذ يظهر فيه الوجود كله على ما هو عليه، وهو في أول الأمر كان محجوبا، فإذا تجلى نوره وانكشف فيه جماله بعد إشراق نور الله تعالى ربما التفت صاحب القلب إلى القلب، فيرى من جماله الفائق ما يدهشه، فربما يسبق لسانه في هذه الدهشة، فيقول: انا الحق! فان لم يتضح له ما وراء ذلك،اغتر به، ووقف عليه وهلك، وكان قد اغتر بكوكب صغير من أنوار الحضرة الإلهية، ولم يصل بعد إلى القمر، فضلا عن الشمس، فهو مغرور. وهذا محل الالتباس، إذ المتجلى يلتبس بالمتجلى فيه، كما يلتبس لون ما يتراءى في المرآة فيظن أنه لون المرآة، وكما يلتبس ما في الزجاج بالزجاج فيظن أنه لون الزجاج، كما قيل:  

فتشابها وتشاكل الأمر

رق الزجاج ورقت الخمر

وكأنما قـدح ولاخمر

فكأنمـا خمر ولا قـدح

وبهذه العين نظر النصارى إلى المسيح، فرأوا اشراق نور الله قد تلألأ فيه، فغلطوا فيه، كمن يرى كوكباً في مرآة أو في ماء، فيظن أن الكوكب في المرآة أو في الماء، فيمد اليد إليه، فهو مغرور. وأنواع الغرور في طريق السلوك إلى الله كثيرة لا تخفى على أرباب البصيرة.

ثم أكثر المتلبسين بلباس العارفين ـ مع كذبهم فيما يدعونه، ونقصانهم في طريق السلوك، وجهلهم بحقيقة الأمر، وعدم قطعهم جل المقامات ـ يشتبهون بالصادقين من العرفاء في زيهم وهيئتهم وآدابهم ومراسمهم والفاظهم، ظانين أنهم بهذا التشبه يصلون إلى مراتبهم، فهيهات هيهات! إن الوصول إلى درجة كل أحد إنما تحصل بالاتصاف بأوصافه الباطنة والتخلق باخلاقه النفيسة، دون التشبه به في حالاته الظاهرة، وقد شبههم بعض الأكابر بامرأة عجوز سمعت أن الشجعان من المقاتلين تثبت أسماؤهم في الديوان ويقطع لكل واحد منهم قطر من اقطار المملكة، فتاقت نفسها إلى أن تكون مثلهم، فلبست درعاً، ووضعت على رأسها مغفراً، وتعلمت من رجز الأبطال أبياتاً، وتعلمت كيفية جولانهم في الميدان، وتلقفت جميع شمائلهم في الزي والمنطق والحركات والسكنات، وتوجهت إلى المعسكر ليثبت اسمها في ديوان الشجعان، فلما وصلت إليه، أنفذت إلى ديوان العرض، وأمرت بأن تجرد عن المغفر والدرع، وينظر إلى حقيقتها، وتمتحن بالمبارزة مع بعض الشجعان ليعرف قدر شجاعتها، فما جردت فإذا هي عجوز ذات منة ضعيفة لا تقدر على شيء فقيل لها: اجئت للاستهزاء بالملك واهل حضرته؟ خذوها والقوها قدام الفيل، فداسها ونحتها. فهكذا يكون حال المدعين للتصوف والعرفان في القيامة، إذا كشف عنهم الغطاء وعرضوا إلى القاضي الحق الذي لا ينظر إلى الزي واللباس بل إلى سر القلب وصفاته.

الطائفة السابعة

(الأغنياء وارباب الأموال)

 

والمغترون فيهم اكثر من سائر الطوائف:

(فمنهم) من يحرص على بناء المساجد والمدارس والرباطات والقناطر وسائر ما يظهر للناس بالاموال المحرمة، وربما غصب ارض المساجد والمدارس، وربما صير لها موقوفات اخذها من غير حلها، ولا باعث له على ذلك سوى الرياء والشهوة، ولذا يسعى في كتابة أسمه على احجارها ليتخلد ذكره يبقى بعد الموت أثره، ويظن المسكين أنه قد استحق المغفرة بذلك، وأنه مخلص فيه، ولم يدر أنه تعرض لسخط الله في كسب هذه الأموال وفي انفاقها، وكان الواجب عليه الامتناع عن اخذها من اهله، وإذا عصى الله واخذها، كان الواجب عليه التوبة وردها إلى اهلها، فان لم يبق من اخذها منه ولا ورثته، كان الواجب ان يتصدق بها على المساكين، مع انه ربما كان في بلده أو في جواره مسكين يكون في غاية الفقر والمسكنة ولا يعطيه درهما.

و(منهم) من ينفق الأموال في الصدقات، إلا أنه يطلب الفقراء الذين عادتهم الشكر والافشاء للمعروف، ويكره التصدق في السر، بل يطلب المحافل الجامعة ويتصدق فيها، وربما يكره التصدق على فقراء بلده ويرغب ان يعطى أهل البلاد الآخر مع اكثرية استحقاق فقراء بلده، طلباً لاشتهاره بالبذل والعطاء في البلاد الخارجة البعيدة، وربما يصرف كثيراً منه إلى رجل معروف في البلاد وان لم يكن مستحقاً، ليشتهر ذلك في البلاد، ولا يعطى قليلا منه إلى فقير له غاية الاستحقاق إذا كان خامل الذكر، يفعل هذا ويظن انه يجلب بذلك الاجر والثواب، ولم يدر المغرور أن هذا القصد احبط عمله واضاع ثوابه.

و(منهم) من يجمع مالا من غير حله، ولا يبالي بأخذ المال من أي طريق كان. ثم يمسكه غاية الإمساك، إلا انه لا يبالي بصرف بعضه في طريق الحج، إما لنفسه فقط، أو لأولاده وازواجه أيضا، اما للاشتهار، أو لما وصل إليه. ان تارك الحج يبتلى بالفقر.

و(منهم) من غلب عليه البخل، فلا تسمح نفسه بانفاق شيء من ماله فيشتغل بالعبادة البدنية من الصوم والصلاة، ظناً منه ان ذلك يكفي لنجاته، ولم يدر ان البخل صفة مهلكة لا بد من ازالتها، وعلاجه: بذل المال دون العبادات البدنية. ومثله مثل من دخلت في ثوبه حية، وقد اشرف على الهلاك، وهو مشغول بطبخ السكنجبين ليسكن الصفراء، وغافل بأن الحية تقتله الآن، ومن قتلته الحية فأي حاجة له إلى السكنجبين؟

فصل

(ضد الغرور الفطانة والعلم والزهد)

قد عرفت ان الغرور مركب من الجهل وحب مقتضيات الشهوة والغضب، فضده الفطانة والعلم والزهد، فمن كان فطناً كيساً عارفاً بربه ونفسه وبالآخرة والدنيا، وعالماً بكيفية سلوك الطريق إلى الله وبما يقربه إليه وبما يبعده عنه، وعالماً بآفات الطريق وعقباته وغوائله، ولا جتنب عن الغرور ولم يغره الشيطان في شيء من الأمور، إذ من عرف نفسه بالذل والعبودية وبكونه غريباً في هذا العالم اجنبياً من هذه الشهوات البهيمية، عرف كون هذه الشهوات مضرة له وان الموافق له طبعاً هو معرفة الله والنظر إلى وجهه فلا يسكن نفسه إلى شهوات الدنيا، ومن عرف ربه وعرف الدنيا والآخرة ولذاتهما وعدم النسبة بينهما ثار في قلبه حب الله والرغبة إلى دار الآخرة والانزجار عن الدنيا ولذاتها، وإذا غلبت هذه الارادة على قلبه صحت نيته في الأمور كلها، فان أكل ـ مثلا ـ أو اشتغل بقضاء الحاجة كان قصده منه الاستعانة على سلوك طريق الآخرة، واندفع عنه كل غرور منشأه تجاذب الاغراض والنزوع إلى الدنيا وإلى الجاه والمال، وما دامت الدنيا أحب إليه من الآخرة وهوى نفسه احب إليه من رضاء الله، لم يمكنه الخلاص من الغرور. فالاصل في علاج الغرور: ان يفرغ القلب من حب الدنيا. ويغلب عليه حب الله، حتى تتقوى به الارادة وتصح به النية ويندفع عنه الغرور. قال الصادق (ع): " واعلم انك لن تخرج من ظلمات الغرور والتمني إلا بصدق الانابة إلى الله، والأخباث له، ومعرفة عيوب أحوالك من حيث لا يوافق العقل والعلم، ولا يحتمله الدين والشريعة وسنن القدوة وأئمة الهدى، وان كنت راضياً بما أنت فيه فما أحد اشقى بعملك منك واضيع عمراً، فورثت حسرة يوم القيامة "[2].

(ومنها)

طول الأمل

معنى طول الأمل ومرجعه ـ علاجه ـ ضده قصر الأمل ـ اختلاف الناس في طول الأمل ـ ذكر الموت مقصر للامل ـ التعجب ممن ينسى الموت ـ الموت اعظم الدواهي ـ مراتب الناس في ذكر الموت.

وهو أن يقدر ويعتقد بقاءه إلى مدة متمادية، مع رغبته في جميع توابع البقاء: من المال والاهل والدار وغير ذلك، وهو من رذائل قوتي العاقلة والشهوة، إذ الاعتقاد المذكور راجع إلى الجهل المتعلق بالعاقلة، وحبه لجميع توابع البقاء وميله إليه من شعب حب الدنيا. وجهله راجع إلى تعويله: إما على شبابه، فيستبعد قرب الموت مع الشباب، ولا يتفكر المسكين في ان مشايخ بلده لو عدوا لكانوا اقل من عشر عشير أهل البلد، وانما قلوا لأن الموت في الشباب اكثر، وإلى ان يموت شيخ يموت ألف صبي وشاب، أو على صحته وقوته. ويستبعد مجيء الموت فجأة، ولا يتأمل في أن ذلك غير بعيد، ولو سلم بعده فالمرض فجأة غير بعيد، إذ كل مرض انما يقع فجأة، وإذا مرض لم يكن الموت بعيداً. ولو تفكر هذا الغافل، وعلم أن الموت ليس له وقت مخصوص، من شباب وشيب وكهولة، ومن شتاء وخريف وصيف وربيع، وليل ونهار، وحضر وسفر، لكان دائماً مستشعراً غير غافل عنه، وعظم اشتغاله بالاستعداد له، لكن الجهل بهذه الأمور وحب الدنيا بعثاه على الغفلة وطول الأمل، فهو أبداً يظن أن الموت بين يديه، ولا يقدر نزوله ووقوعه فيه. ويشيع الجنائز ولا يقدر ان تشيع جنازته، لأن هذا قد تكرر عليه، والفه بتكرر مشاهدة موت غيره. وأما موت نفسه، فلم يألفه ولا يتصور أن يألفه، لانه لم يقع، وإذا وقع لا يقع دفعة أخرى بعده، فهو الأول وهو الآخر!.

واما حبه لتوابع البقاء: من المال والدار والمراكب والضياع والعقار، فراجع إلى الانس بها والالتذاذ بها في مدة مديدة، فيثقل على قلبه مفارقتها، فيمنع قلبه عن التفكر في الموت الذي هو سبب مفارقتها، إذ كل من كره شيئاً يدفعه عن نفسه. والإنسان لما كان مشغوفاً بالاماني الباطلة، وبالدنيا وشهواتها ولذاتها وعلائقها، فتتمنى نفسه أبداً ما يوافق مراده، ومراده البقاء في الدنيا، فلا يزال يتوهمه ويقرره في نفسه، ويقدر توابع البقاء من أسباب الدنيا، فيصير قلبه عاكفاً على هذا الفكر موقوفاً عليه، فيلهو عن ذكر الموت ولا يقدر قربه، فان خطر له في بعض الاحيان أمر الموت والحاجة إلى الاستعداد له، سوف ووعد نفسه إلى ان يكبر فيتوب. وإذا كبر اخر التوبة إلى ان يصير شيخاً، وإذا صار شيخاً يؤخرها إلى أن يفرغ من عمارة هذه الضيعة أو يرجع من سفر كذا أو يفرغ من تدبير هذا الولد وجهازه وتدبير مسكن له. ولا يزال يسوف ويؤخر إلى ان يخطفه الموت في وقت لا يحتسبه، فتعظم عند ذلك بليته وتطول حسرته، وقد ورد ان اكثر أهل النار صياحهم من سوف، يقولون واحزناه من سوف! والمسوف المسكين لا يدري ان الذي يدعوه إلى التسويف اليوم هو معه غداً، وانما يزداد بطول المدة قوة ورسوخاً، إذ الخائض في الدنيا لا يتصور له الفراغ منها قط، إذ ما قضى من اخذ منها لبانته، وانما فرغ منها من اطرحها.

 


[1]  الانعام، الآية: 76و79.

[2]  صححناه على مصباح الشريعة ـ الباب 36.  

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست