.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

الشكر نعمة يجب شكرها

المدار لتمييز محاب الله عن مكارهه

أقسام النعم واللذات

تنبيه

الأكل

 

 

فصل

(الشكر نعمة يجب شكرها)

لما كانت حقيقة الشكر عبارة عن عرفان كل النعم من الله مع صرفها في جهة محبة الله، فالشكر على كل نعمة أن تعرف كونها من الله وتصرفها في جهة محبته. ولا ريب في أن هذه المعرفة والصرف أيضاً نعمة من الله، إذ جميع ما نتعاطاه باختيارنا نعمة من الله، لان جوارحنا، وقدرتنا، وارادتنا، ودواعينا، وافاضة المعارف علينا، وسائر الأمور التي هي أسباب حركاتنا، بل نفس حركاتنا، من الله. وعلى هذا فالشكر على كل نعمة نعمة اخرى من الله يحتاج إلى شكر آخر. وهو ان يعرف ان هذا الشكر أيضاً نعمة من الله ـ سبحانه ـ. فيفرح به ويعمل بمقتضى فرحه. وهذه المعرفة والفرح تحتاج إلى شكر آخر، وهكذا. فلابد من الشكر في كل حال. وليس يمكن ان تنتهي سلسلة الشكر إلى ما لا يحتاج إلى شكر. فغاية شكر العبد ان يعرف عجزه عن اداء حق شكره ـ تعالى ـ. إذ عرفان عجزه مسبب عن عرفان جميع النعم، حتى شكره من الله، وهذا غايه ما يمكن للعبد. ويشهد بذلك ما روى: " أن الله ـ عز وجل ـ اوحى إلى موسى (ع): يا موسى! اشكرني حق شكري. فقال: يا رب! كيف اشكرك حق شكرك وليس من شكر أشكرك به إلا وانت أنعمت به علي؟ قال: يا موسى! الآن شكرتني، حيث علمت ان ذلك مني ". وكذلك اوحى ذك إلى داود، فقال: " يا رب! كيف اشكرك وانا لا استطيع ان اشكرك إلا بنعمة ثانية من نعمك ". وفي لفظ آخر: " وشكري لك نعمة اخرى منك، ويوجب علي الشكر لك، فقال: إذا عرفت هذا فقد شكرتني ". وفي خبر آخر: " إذا عرفت ان النعم مني، رضيت عنك بذلك شكراً ". وروى: " أن السجاد (ع) كان إذا قرأ هذه الآية (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) يقول: سبحان من لم يجعل في أحد من معرفة نعمه إلا المعرفة بالتقصير عن معرفتها! كما لم يجعل في أحد من معرفة ادراكه اكثر من العلم بأنه لا يدركه "، فشكره ـ تعالى ـ معرفة العارفين بالتقصير عن معرفة شكره، فجعل معرفتهم بالتقصير شكراً، كما علم العارفين بأنهم لا يدركونه، فجعله إيمانا، علماً منه أنه فقد وسع العباد فلا يتجاوز ذلك، فان شيئاً من خلقه لا يبلغ مدى عبادته، فكيف يبلغ مدى عبادته من لا مدى له ولا كيف؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. وقال أبو الحسن (ع): " من حمد الله على النعمة فقد شكره، وكان الحمد لله افضل من تلك النعمة "[1]، يعني أنه نعمة فوق تلك النعمة، يستدعي شكراً آخر.

فصل

(المدارك لتمييز محاب عن مكارهه)

لما عرفت أن الشكر عبارة عن استعمال نعم الله فيما يحبه، والكفران عبارة عن نقيض ذلك ـ اعني ترك استعمالها فيه أو استعمالها فيما يكرهه ـ فلا بد من معرفة ما يحبه وما يكرهه، وتمييز محابه عن مكارهه، حتى يتمكن من اداء الشكر وترك الكفران، لتوقفهما على معرفتهما وتمييزهما. وهذا التمييز والتعريف له مدركان:

أحدهما ـ الشرع، فانه كشف عن جميع ما يحبه وما يكرهه، وعبر عن الأول بالواجبات والمندوبات، وعن الثاني بالمحرمات والمكروهات. فمعرفة ذلك موقوفة على معرفة جميع أحكام الشرع في افعال العباد، فمن لم يطلع على حكم في جميع افعاله، لم يمكنه القيام بحق الشكر.

وثانيهما ـ العقل والنظر بعين الاعتبار، فان العقل متمكن ـ في الجملة ـ من أن يدرك بعض وجوه الحكم في بعض الموجودات. فان الله ـ سبحانه ـ ما خلق شيئاً في العالم إلا وفيه حكم كثيرة، وتحت كل حكمة مقصود ومصلحة، وهذا المقصود والمصلحة هو محبوب الله ـ تعالى ـ. فمن استعمل كل شيء على النحو الذي يؤدي إلى المقاصد المطلوبة وعلى الجهة التي خلق لها فقد شكر نعم الله ـ تعالى ـ، وإن استعمل شيئاً على النحو الذي لم يؤد إلى المقصودة منه أو في جهة غير الجهة التي خلق لها، فقد كفر نعمة الله.

ثم العقل لا يتمكن من معرفة كل حكمة مطلوبة من كل شيء، إذ الحكم المقصودة من الأشياء، إما جلية أو خفية. أما الجلية: كحكمة حصول الليل والنهار في وجود الشمس، وحكمة انتشار الناس وسكونهم في وجود الليل والنهار، وحكمة انشقاق الأرض بأنواع النبات في وجود الغيم ونزول الامطار، وحكمة الابصار في العين والبطش في اليد، والمشي في الرجل، وحصول الأولاد وبقاء النسل في آلات التناسل وخلق الشهوة، وحكمة المضغ والطحن في خلق الأسنان وأمثال ذلك. وأما الحكم الخفية: كالحكم التي في خلق الكواكب السيارة والثابتة، واختصاص كل منها بقدر معين وموضع خاص، والحكم التي في بعض الاعضاء الباطنية للحيوان، من الامعاء والمرارة والكلية واحاد العروق والاعصاب والعضلات، وما فيها من التجاويف والالتفاف والاشتباك والانحراف والدقة والغلظة وغير ذلك. فهذه الحكم وامثالها لا يعرفها كل أحد، ومن يعرف منها شيئاً فلا يعرف إلا قدراً يسيراً. فا جميع اجزاء العالم، سماؤه وكواكبه، وما فيها من الاوضاع والحركة والاختصاصات، وعناصره من كثرة النار والهواء والماء والارض، وما فيها من البحار والجبال والرياح، والمعادن والنبات والحيوان، لا تخلو ذرة من ذراته من حكم كثيرة من عشرة إلى ألف أو اكثر، وقليل منها جلية، واكثرها دقيقة خفية، وبعضها متوسط في الجلاء والخفاء، يعرفها المتفكرون في خلق السماوات والارض، واكثر الحكم الدقيقة مما لا يعرفها غير خالفها وموجدها. ثم ما عدا الإنسان من الأشياء المجردة والمادية، والروحانية والجسمانية، جارية على وفق الحكمة، ومستعملة ذواتها واجزاؤها وما يتعلق بها على الوجه الذي هو مقتضى المصلحة المقصودة منها. واما الإنسان، فلكونه محل الاختيار ومجراه، فقد يجري ويستعمل الأشياء التي يتمكن من استعمالها على خلاف ذلك، فيكون كافراً بنعمة الله ـ سبحانه ـ. فمن ضرب غيره بيده فقد كفر نعمة الله في اليد، إذ خلقت له اليد ليدفع بها عن نفسه ما يؤذيه، ويأخذ ما ينفعه، لا ليهلك به غيره، ومن نظر إلى وجه غير المحرم فقد كفر نعمة العين، لانها خلقت ليبصر بها ما ينفعه في دينه ودنياه، ويتقي بها ما يضره فيهما، ومن ادخر الدراهم والدنانير وحبسهما فقد كفر نعمة الله فيهما، لانهما حجران لا منفعة ولا عوض في اعيانهما، وانما خلقهما الله ـ تعالى ـ ليكونا حاكمين يحصل بهما التعديل والمساواة والتقدير بين سائر الأموال من الاعيان المتنافرة المتباعدة، فهما عزيزان في أنفسهما. ولا غرض في اعينهما. ونسبتهما إلى سائر الأموال نسبة واحدة. فمن ملكهما فكأنه ملك كل شيء، لا كمن ملك ثوباً، فانه لا يملك إلا الثوب. فان احتاج إلى طعام ربما لم يرغب صاحب الطعام في الثوب، إذ لا غرض له في ذاته، بخلاف النقدين، فانهما من حيث الصورة كأنهما ليسا بشيء، ومن حيث المعنى كأنهما كل شيء. والاشياء انما تستوي نسبتها إلى المختلفات ـ إذا لم يكن لها صورة خاصة تقيدها بخصوصها ـ كالمرآة لا لون لها وتحكي كل لون، وكالحرف لا معنى لها في نفسها، بل تظهر لها المعاني في غرها، وكذلك النقدان، لا غرض فيهما مع كونهما وسيلة إلى كل غرض. فالحكمة في خلقهما أن يحكما بين الأموال بالعدل. وتعرف بهما المقادير المتخلفة، وتقوم بهما الأشياء المتباينة، ويحصل التوسل بهما إلى سائر الأموال. فيلزم اطلاقهما لتداولهما الايدي، وتحصل بهما التسوية في تبادل الأعيان والمنافع المتخالفة، فمن ادخرهما وحبسهما فقد ظلمهما، وابطل الحكمة فيهما، وكفر نعمة الله فيهما، وكان كمن حبس حاكم المسلمين في سجن، ومن لم يدخرهما ولم يتصرف أزيد مما يحصل به التوصل إلى ما يحتاج وانفق الزائد في سبيل الله، فهو الذي استعملهما على وفق الحكمة وشكر نعمة الله فيهما. ولما عجز اكثر الناس عن قراءة الاسطر الإلهية المكتوبة على صفحاتهما في فائدتهما وحكمتهما بخط إلهي لا حرف فيه ولا صوت، أخبرهم الله عن ذلك بقوله:

" والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذابٍ أليمٍ "[2].

وبما ذكرنا من وجه الحكمة فيهما، يظهر أن من اتخذ الأواني منهما فقد كفر نعمة الله فيهما أيضا، وكذا من عامل معاملة الربا فيهما فقد كفر النعمة وظلم، لأنهما إنما خلقا لغيرهما لا لأنفسهما، إذ لا غرض في عينهما. فإذا اتجر في عينهما فقد اتخذهما مقصوداً لأنفسهما على خلاف وضع الحكمة، وكذلك الحكمة في خلق الاطعمة أن يغتذى بها، فلا ينبغي أن تصرف عن جهتها وتقيد في الايدي، بل اللازم أن تخرج عن يدي المستغني عنها إلى المحتاج. ولذا ورد في الشرع حرمة الاحتكار والمنع عن معاملة الربا في الاطعمة، لان ذلك يوجب صرفها عن الحكمة المقصودة منها. وإذا عرفت ذلك، فقس عليه جميع افعالك وأعمالك وحركاتك وسكناتك، فان كل فعل يصدر منك إما شكر أو كفران لا يتصور أن ينفك عنهما، مثلاً لو استنجيت باليمين، فقد كفرت نعمة اليدين، إذ خلق الله اليدين وجعل إحداهما اقوى واستحق الاقوى لرجحانه التفضيل، وتفضيل الناقص عليه عدول عن العدل، وهذا التفضيل انما يتصور بأن تصرف الاقوى في الافعال الشريفة، كأخذ المصحف وأكل الطعام، وتصرف الاضعف في الأعمال الخسيسة، كازالة النجاسة، فمن خالف ذلك فقد عدل عن العدل وابطل الحكمة وكفر النعمة. وكذلك إذا لبست خفك فابتدأت باليسرى فقد ظلمت لان الخف وقاية للرجل، فللرجل فيه حظ، والبداء في الحظوظ ينبغي أن تكون بالاشرف، وهو العدل والعمل على وفق الحكمة، فخلافه ظلم وكفران. وكذلك ان استقبلت القبلة عند قضاء الحاجة، فقد كفرت نعمة الله في خلق الجهات وخلق سعة العالم، لانه خلق الجهات متعددة متسعة، وشرف بعضها بأن وضع فيه بيته، فينبغي استقباله بالأفعال الشريفة، كالصلاة والجلوس للذكر والاغتسال والوضوء، دون الافعال الخسيسة، كقضاء الحاجة ورمي البزاق، فمن قضى حاجته أو رمى بزاقه إلى جهة القبلة فقد ظلمها وكفر نعمة الله، وكذلك من كسر غصناً من شجرة من غير حاجة مهمة، ومن غير غرض صحيح، فقد كفر نعمة الله في خلق الاشجار وفي خلق اليد. أما اليد فلأنها لم تخلق للعبث، بل للطاعة المعينة عليها. وأما الشجر، فلان الله ـ تعالى ـ خلقه، وخلق له العروق وساق إليه الماء، وخلق فيه قوة الاغتذاء والنماء ليبلغ منتهى نشوه فينتفع به عباده، فكسره فبل منتهى نشوه لا على وجه ينتفع به عباده مخالفة لمقصود الحكمة وعدول عن العدالة. نعم ان كان له غرض صحيح في كسره فله ذلك. إذ الشجر والحيوان جعلا فداءين لاغراض الإنسان، فانهما جميعا فانيان هالكان، فافناء الأخس في بقاء الاشرف مدة ما أقرب إلى العدل من تضييعهما جميعاً. واليه الإشارة بقوله ـ تعالى ـ:

" وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً "[3].

ثم هذه الافعال المتصفة بالكفران، بعضها يوجب نقصان القرب وانحطاط المنزلة، وبعضها يخرج بالكلية عن حدود القرب إلى عالم البعد الذي هو افق الشياطين. ولذلك يوصف بعضها ـ في لسان الفقه ـ بالكراهة وبعضها بالحظر. وقد سومح في الفقه حيث جعل فيه بعض هذه المكاره مكروهة غير محظورة، مع ان جميعها عدول عن العدل، وكفران للنعمة، ونقصان عن الدرجة المبلغة إلى القرب، لأن الخطاب به انما هو إلى العوام الذين تقرب درجتهم من درجة الأنعام، وقد انغمسوا في ظلمات اعظم من ان تظهر امثال هذه الظلمات بالاضافة إليها. فان المعاصي كلها ظلمات، إلا أن بعضها فوق بعض، فيتمحق بعضها في جنب البعض. ولذا ترى أن السيد يعاتب عبده إذا استعمل سكينة بغير اذنه، ولكن لو قتل بهذا السكين أعز اولاده لم يبق لاستعمال السكين بغير اذنه، ولكن لو قتل بهذا السكين أعز اولاده لم يبق لاستعمال السكين بغير اذنه حكم ونكاية في نفسه. ولذا جميع هذه المكاره موصوفة عند ارباب القلوب بالحظر، ولا يتسامحون في شيء مما راعاه الأنبياء والأولياء من الآداب. حتى نقل: " ان بعضهم جمع اكراراً من الحنطة ليتصدق بها، فسئل عن سببه فقال: لبست المداس مرة فابتدأت بالرجل اليسرى سهواً، فأريد ان اكفره بالصدقة ".

فصل

(أقسام النعم واللذات)

اعلم ان النعمة عبارة عن كل خير ولذة وسعادة، بل كل مطلوب ومؤثر. وهي تنقسم إلى مؤثر لذاته لا لغيره، أي تكون غاية مطلوبة لذاتها ليس فوقها غاية اخرى، وهي مخصوصة بسعادة الآخرة التي لا انقضاء لها، اعني لذة النظر إلى وجه الله، وسعادة لقائه، وسائر لذات الجنة، من البقاء الذي لا فناء له، والسرور الذي لا غم فيه، والعلم الذي لا جهل معه، والغنى الذي لا فقر بعده، وغير ذلك. فانها لا تطلب ليتوصل بها إلى غاية اخرى مقصودة وراءها، بل تطلب لذاتها، وهذه هي النعمة الحقيقية واللذة الواقعية، ولذلك قال رسول الله (ص): " لا عيش إلا عيش الآخرة "، وغالب هذه النعمة والسعادة واقواها واشرفها هي اللذة والبهجة المرضية العقلية دون الجسمانية ـ كما لا يخفى ـ، فيخص بادراكها العقل، ولاحظ للسمع والبصر والشم والبطن والفرج فيها. وإلى ما يقصد لغيره، أي تكون مطلوبة لاجل الغاية المطلوبة لذاتها ووسيلة إليها، سوء أكانت مقصودة لذاتها أيضاً ام لا. وهي تنقسم إلى أربعة أقسام:

القسم الأول ـ وهو الاقرب الأخص: الفضائل النفسية المذكورة في هذا الكتاب، ويجمعها العلم والعفة والشجاعة والعدالة، وهذه مع كونها لذيذة في نفسها، تكون وسيلة إلى النعمة التي هي غاية الغايات بلا توسط وسيلة اخرى. ولذلك قلنا: هي اقرب الوسائل واخصها. واشرفها العلم، واشرف افراد العلم: العلم بالله وصفاته وملائكته ورسله، واحوال النشأة الآخرة، وسائر افعاله، وعلم المعاملة الراجع إلى علم الأخلاق، إذ هو الذي يؤدي إلى السعادة الحقيقية بلا توسط شيء آخر، وسائر العلوم إنما هي مقصودة من حيث كونها وسائل إلى هذا العلم، وهذه الفضائل لذيذة في الدنيا والآخرة نافعة فيهما، أي تؤدي إلى الراحة فيهما، وجميلة على الإطلاق، أي تستحسن في جميع الأحوال. وضدها ـ اعني الجهل والأخلاق السيئة ـ ضارة مؤلمة في الدارين، فبيحة على الإطلاق. وسائر الصفات ليست جامعة لهذه الاوصاف. فان أكل لذائذ الأطعمة وطيباتها يوجب اللذة والنفع، أي حصول الراحة في الحال، ولكنه ضار في المآل، وترك الشهوات بعكس ذلك.

ثم لذة المعرفة وفضائل الأخلاق دائمة لازمة لا تزول أبدا، لا في الدنيا ولافي الآخرة، وعقلية يختص بادراكها العقل دون سائر الحواس. واما غيرها من اللذات، فبعضها مما يشترك فيه الإنسان وبعض الحيوانات، كلذة الرئاسة والغلبة والاستيلاء، وهذه اللذة موجودة في الاسد والنمر وبعض اخر من الحيوانات. وبعضها مما يشترك فيه الإنسان وسائر الحيوانات، كلذة البطن والفرج، وهي اخس اللذات، ولذلك اشترك فيها كل ما دب ودرج، حتى الديدان والحشرات. فمن جاوز هذه اللذة، تشبثت به لذة الغلبة والاستيلاء، فان جاوزها أيضاً ارتقى إلى اللذة العقلية فصار اقرب اللذات عليه لذة المعرفة، لا سيما لذة معرفة الله ومعرفة صفاته وافعاله. وهذه مرتبة الصديقين، ولا ينال تمامها إلا بخروج حب الرئاسة من القلب، وآخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الرئاسة والجاه، ولذلك قمعها بالكلية، بحيث لا يقع بها الاحساس قط، يشبه ان يكون خارجاً عن مقدرة البشر. نعم ربما غلبت لذة المعرفة في أحوال، بحيث لا يقع معها الاحساس بلذة الجاه والرئاسة، إلا ان ذلك لا يدوم، بل تعتريه الفترات، فتعود إلى الحالة البشرية. وعلى هذا، تنقسم القلوب إلى أربعة أقسام: قلب: لا يحب إلا الله، ولا يستريح إلا إليه، وليس فرحه إلا بزيادة المعرفة والفكر فيه، ولا يسكن إلا بحبه وأنسه، وقلب: أغلب أحواله الأنس بالله والتلذذ بمعرفته والفكر فيه، ولكن في بعض الأوقات والأحوال يعتريه الرجوع إلى أوصاف البشرية. وقلب: أغلب أحواله التلذذ بالجاه والرئاسة والمال وسائر الشهوات البدنية، وفي بعض الأوقات يتلذذ بالعلم والمعرفة وحب الله الانس به. وقلب: لا يدري ما لذة المعرفة وما معنى الأنس بالله، وانما لذته بالرئاسات والشهوات. والأول ـ إن كان ممكناً في الوجود فهو في غاية الندور. والثاني ـ أيضاً نادر. والسر في ندور هذين القسمين: ان من انحصرت لذاته بمعرفة الله وحبه وانسه. أو غلب عليه ذلك، فهو من ملوك الآخرة، والملوك هم الأقلون ولا يكثرون. فكما لا يكون الفائق في الملك والاستيلاء في الدنيا إلا نادراً، واكثر الناس دونهم، فكذا في ملك الآخرة فإن الدنيا مرآة الآخرة. إذ الدنيا عالم الشهادة وفي الآخرة عالم الغيب، وعالم الشهادة تابع لعالم الغيب، كما أن الصورة في المرآة تابعة لصورة الناظر في المرآة، وهي وإن كانت الثانية في رتبة الوجود، إلا انها في أمر الرؤية أولى، لأنك ترى صورتك في المرآة أولا، ثم ترى نفسك، فتعرف الصورة القائمة بالمرآة صورتك التي هي قائمة بك ثانياً على سبيل المحاكاة، فانقلب التابع في الوجود متبوعاً في حق الرؤية والمعرفة، وانقلب المتأخر متقدماً. وهذا النوع من الانعكاس والانتكاس ضرورة هذا العالم. وكذا عالم الملك والشهادة يحاكي عالم الغيب والملكوت، فمن الناس من لا ينظر في مرآة عالم الشهادة إلا بنظر الاعتبار، فلا ينظر في شيء من عالم الملك إلا ويعبر به إلى عالم الملكوت، فيسمى عبوره عبرة، وقد أمر الخلق به، فقيل:

" فاعتبروا يا أولي الابصار "[4].

ومنهم من عميت بصيرته، فلم يعتبر، فاحتبس في علم الملك والشهادة، وستفتح إلى حبسه له أبواب جهنم. وأما الثالث ـ فاكثر وجوداً منه. وأما الرابع ـ فدار الدنيا طافحة به، لقصور أكثر الناس عن ادراك لذة العلم، إما لعدم الذوق، إذ من لم يذق لم يعرف ولم يشتق، إذ الشوق فرع الذوق، وذلك إما لقصور فطرتهم وعدم اتصافهم بعد بالصفة التي بها يستلذ العلم، كالطفل الرضيع الذي لا يدرك لذة العسل، ولا يستلذ إلا باللبن، فهؤلاء ممن يحيى باطنهم بعد كالطفل. وإما لمرض قلوبهم أو موتها بسبب اتباع الشهوات، كالمريض الذي لا يدرك لذة الشكر، أو الميت الذي سقط عنه الادراك، وهؤلاء كالمرضى أو الأموات بسبب اتباع الشهوات.

القسم الثاني ـ الفضائل البدنية: وهي أربعة: الصحة والقوة، وطول العمر، والجمال.

الثالث ـ النعم الخارجة المضيفة بالبدن: وهي المال، والجاه، والأهل، وكرم العشيرة.

الرابع ـ الأسباب التي تناسب من وجه الفضائل النفسية، ويعبر عنها بالنعم التوفيقية: وهي: هداية الله، ورشده، وتسديده، وتأييده. وهذه الجملة مما يتوقف بعضها على بعض، إلى أن ينتهي إلى السعادة التي هي مطلوبة لذاتها. والتوقف إما على سبيل اللزوم والضرورة، كتوقف سعادة الآخرة على الفضائل النفسية والبدنية، وتوقف الفضائل النفسية على صحة البدن، أو على سبيل النفع والاعانة، كتوقف الفضائل النفسية والبدنية على النعم الخارجة. ووجه كونها معينة نافعة في تحصيل العلم وتهذيب الأخلاق وصحة البدن ظاهر. واعانة الجمال في كسب الفضائل النفسية والبدنية مبني على ان القبيح مذموم، والطباع عنه نافرة، فحاجات الجميل إلى الاجابة اقرب، وجاهه في الصدور اوسع. وايضاً الغالب دلالة الجمال على فضيلة النفس، لان نور النفس إذا تم اشراقه تأدى إلى البدن. ولذلك عول أصحاب الفراسة في معرفة مكارم النفس على هيئات البدن. ثم انا لا نعني بالجمال ما يحرك الشهوة، فإن ذلك انوثة، بل نعني به البراءة عن العيوب والنقص والزيادة، وارتفاع القامة على الاستقامة، مع الاعتدال في اللحم، وتناسب الاعضاء، وتناسب خلقة الوجه، بحيث لا تنبو الطباع عن النظر إليه. واما احتياج الفضائل الخلقية والجسمية الخارجية إلى النعم التوفيقية، فلأن المراد بالتوفيقية هو التآلف بين ارادة العبد وبين قضاء الله وقدره، بشرط كون المراد والمقضي سعادة. وبعبارة اخرى: هو توجيه الأسباب نحو المطلوب.

اما الهداية، فلها مراتب: اولاها: الهداية العامة، وهي ارادة طريق الخير وتعريفه. وثانيتها: الخاصة، وهي الافاضات المتتالية الواردة من الله على بعض عبيده، نظراً إلى مجاهدتهم. وثالثتها: الهداية المطلقة، وهي النور الذي يشرق في عالم النبوة والولاية، فيهتدى بهما إلى ما لا يهتدى إليه بالعقل. وتوقف تحصيل كل خير وفضيلة، كائناً ما كان، على مساعدة القضاء والقدر، وعلى العلم بطريق الخير، ظاهر.

واما الرشد، فالمراد به العناية الإلهية، التي تعين الإنسان عند توجهه إلى مقاصده، فيقويه على ما فيه صلاحه، ويفتره عما فيه فساده، ويكون ذلك من الباطن. وبعبارة اخرى: هو هداية باعثة إلى وجهة السعادة ومحركة إليها. وقد ظهر احتياج تحصيل الخير والسعادة إليه من مفهومه.

واما التسديد، فهو توجيه حركاته إلى صوب المطلوب وتيسرها عليه، ليصل إليه في اسرع وقت. فالهداية محض التعريف، والرشد هو تنبيه الداعية لتستيقظ وتتحرك، والتسديد إعانة ونصرة بتحريك الاعضاء إلى صوب الصواب والسداد. وقد ظهر وجه كون التسديد معيناً في طلب الخير أيضاً من حاق معناه.

واما التأييد، فانه جامع للكل، إذ هو عبارة عن تقوية أمره بالبصيرة، فكأنه من داخل، وبقوة البطش ومساعدة الأسباب من خارج. وتقرب منه العصمة، وهي عبارة عن وجود الهي يسنح في الباطن، يقوى به الإنسان على تحرى الخير وتجنب الشر، حتى يصير كمانع باطنى غير محسوس يمنع عن الشر، وهو المراد من برهان الرب في قوله ـ تعالى ـ:

" ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربه "[5].

تنبيه

اعلم ان النعم الاخروية، التي هي الغايات المطلوبة لذواتها، وتفصيلها واسبابها وما يتوقف وجودها عليه، إلى ان ينتهي إلى مسبب الأسباب، مما لا يمكن دركها، والعقول البشرية قاصرة عن درك قليلها فضلا عن كثيرها.

واما الوسائل الأربعة من النعم التي انقسم كل منها أيضاً إلى أربعة أقسام، وصار مجموعها ستة عشر قسماً، فيستدعي كل قسم من الستة عشر اسبابا، وتلك الأسباب اسباباً، حتى تنتهي بالآخرة إلى مسبب الأسباب وموجد الكل. والمتفكر يعلم، ان كلا منها يتوقف على نعم واسباب اخرى متسلسلة خارجة عن حد الاحصاء. فإن نعمة الصحة التي من النعم الواقعة في المرتبة المتأخرة تتوقف على أسباب ونعم من جملتها نعمة الاكل، فإن احصاءها وان لن يكن ممكناً، إلا انا نشير إلى بعضها على سبيل التلويح دون الاستقصاء، لتقاس عليها البواقي. فنقول:

نعمة الاكل تتوقف على ادراك الغذاء واسبابه، وعلى شهوة الطعام وميله وارادته واسبابه، وعلى القدرة إلى تحصيله واسبابه، وعلى وجود اصل الغذاء المأكول وتكونه، وعلى اصلاحه بعد وجود وتكونه، وعلى الأسباب الموصلة له إلى كل إنسان لو كان بعيدا عنه، وعلى أسباب الطحن والجذب والهضم والدفع وسائر الافعال الباطنة إلى ان تصير جزء للبدن، وعلى الملائكة الموكلين على فعل من الافعال المذكورة. فها هي نذكرها اجمالا وتلويحاً في فصول:

فصل

(الاكل)

الاكل يتوقف أولا على ادراك الغذاء المأكول رؤية ولمساً واستشماماً وذوقاً، إذ ما لم يبصره لم يمكنه تمييزه وطلبه، وما لم يلامسه لم يتمكن من درك بعض اوصافه اللازمة في الاكل، وما لم يشمه لم يتشخص ما يكر رائحته عما تطيب رائحته، وربما توقف تحصيله على استشمام رائحته من بعد، لاسيما لبعض الحيوانات،وما لم يذقه لم يدرك انه موافق أو مخالف له، وبذلك ظهر توقفه على خلق الحواس المدركة الظاهرة، فخلقها الله ـ سبحانه ـ. ثم الأسباب التي يتوقف عليها خلق هذه الحواس مما لا تتناهى، فلا نتعرض لبيانها. وبعد ادراك الغذاء ـ على ما ذكر ـ لا بد له من قوة اخرى يعرف بها كون الغذاء الذي ذاقه سابقاً ورآه مرة اخرى موافقاً أو مخالفاً، وهذه القوة هي الحس المشترك الذي يتأدى إليه جميع المحسوسات ويجتمع فيه، فانك إذا اكلت شيئاً اصفر ـ مثلا ـ فوجدته مرا مخالفاً لك فتركته، فإذا رأيته مرة اخرى فلا تعرف انه مر ما لم تذقه، لولا الحس المشترك. إذ العين تبصر الصفرة ولا تدرك المرارة، والذوق يدرك المرارة ولا يدرك الصفرة، فلا بد من حاكم يجتمع عنده الصفرة والمرارة جميعاً، حتى إذا أدرك الصفرة حكم بأنه مر، فيمتنع عن تناوله ثانياً. وهذه القوة ـ أعني الحس المشترك ـ يتوقف خلقه على أسباب ونعم لا يمكن احصاؤها، فلتذرها على سنابلها.

ثم الادراك بالحواس الظاهرة والحس المشترك، مما تشترك فيه سائر الحيوانات، ولو انحصر ادراك الإنسان أيضاً به لكان ناقصاً. إذ البهيمة تأكل ما تستلذ به في الحال ويضرها في ثاني الحال، فتمرض وتموت، إذ ليس لها الا الاحساس بالحاضر، واما ادراك العواقب فليس لها إليه سبيل. فيتوقف تمييز صلاح العواقب وفسادها على قوة اخرى. فخلق الله الإنسان العقل، به يدرك مضرة الاطعمة ومنفعتها في المآل، وبه يدرك كيفية طبخ الأطعمة وتركيبها واعداد اسبابها، فينتفع بعقله في الاكل الذي هو سبب صحته، وهو اخس فوائد العقل واقل الحكم في، إذ الحكم والفوائد المترتبة عليه اكثر من ان تحصى، واعظم الحكم فيه معرفة الله ومعرفة صفاته وافعاله. والعقل بمنزلة السلطان في مملكة البدن، والحواس الخمس كالجواسيس وأصحاب الأخبار والموكلين بنواحي المملكة، وقد وكل كل واحد منها بأمر خاص. فواحدة بأخبار الالوان، واخرى بأخبار الاصوات، واخرى بأخبار الروائح، واخرى بأخبار الطعوم، واخرى بأخبار الحر والبرد والخشونة والملاسة واللين والصلابة. فهذه الجواسيس يقتنصون الاخبار من اقطار المملكة، ويسلمونها إلى الحس المشترك، وهو قاعد في مقدمة الدماغ، مثل صاحب الكتب والقصص على باب الملك، يجمع القصص والكتب الواردة من نواحي العالم، ويأخذها ويسلمها إلى العقل الذي هو السلطان مختومة، إذ ليس له الا اخذها وحفظها، واما معرفة حقائق ما فيها فليس إليه. ولكن إذا صادف القلب العاقل الذي هو الامير والملك، سلم، لانها آتية إليه مختومة، فيفتشها الملك ويطلع على اسرار المملكة، ويحكم فيها بأحكام عجيبة لا يمكن استقصاؤها وبحسب ما يلوح له من الاحكام والمصالح يحول الجنود ـ اعني الاعضاء ـ في الطلب او الهرب أو اتمام التدبيرات التي تعن له ثم. عجائب حكم العقل والاسباب التي يتوقف خلقه عليها ليس دركها في مقدرة البشر، وهذه ما يتوقف عليه الاكل من الادراكات واسبابها.

 


[1]  صححنا الروايات الثلاث على (أصول الكافي) ج2، باب الشكر، وعلى (الوافي): 3/324 باب الشكر.

[2]  التوبة، الآية: 35.

[3]  الجاثية، الآية: 12.

[4]  الحشر، الآية: 2.

[5]  يوسف، الآية: 24.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست