.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

الأسباب التي لا ينافي السعي إليها التوكل

إعقل وتوكل

درجات الناس في التوكل

تفنيد زعم

طريق تحصيل التوكل

الكفران

الشكر

 

 

فصل

(الأسباب التي لا ينافي السعي إليها التوكل)

الأسباب التي لا ينافي تحصيلها ومزاولتها للتوكل، هي الأسباب القطعية أو الظنية، وهي التي يقطع أو يظن بارتباط المسببات بها بتقدير الله ومشيته ارتباطاً مطرداً لا يتخلف عنها، سواء كانت لجلب نفع أو لدفع ضر منتظر أو لإزالة آفة واقعة، وذلك كمد اليد إلى الطعام للوصول إلى فيه، وحمل الزاد للسفر، واتخاذ البضاعة للتجارة، والوقاع لحصول الأولاد، واخذ السلاح للعدو، والادخار لتجدد الاضطرار، والتداوي لإزالة المرض، والتحرز عن النوم في ممر السيل ومسكن السباع وتحت الحائط المائل، وغلق الباب، وعقل البعير، وترك الطريق الذي يقطع أو يظن وجود السارقين أو السباع الضارة فيه... وقس عليها غيرها.

واما الأسباب الموهومة، كالرقية، والطيرة، والاستقصاء في دقائق التدبير، واداء التمحلات لاجل التبديل والتغيير، فيبطل بها التوكل، لان امثال ذلك ليست باسباب عند العقلاء، وليست مما أمر الله ـ تعالى ـ بها، بل ورد النهي عنها، على ان المأمور به الاجمال في الطلب وعدم الاستقصاء. قال رسول الله (ص): " ألا إن الروح الامين نفث في روعي: انه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله ـ تعالى ـ، واجملوا في الطلب ". وقال (ص): " ما أجمل في الطلب من ركب البحر ". وقال الصادق (ع): " ليكن طلب المعيشة فوق كسب المضيع، ودون طلب الحريص، الراضي بدنياه، المطمئن إليها، ولكن أنزل نفسك من ذلك بمنزلة المنصف المتعفف، ترفع نفسك عن منزلة الواهن الضعيف، وتكتسب ما لا بد منه، إن الذين اعطوا المال ثم لم يشكروا لا مال لهم ". وقال (ع): " إذا فتحت بابك، وبسطت بساطك، فقد قضيت ما عليك ".

فصل

(إعقل وتوكل)

اعلم ان التوكل لا يبطل بالاسباب المقطوعة والمظنونة، مع ان الله قادر على اعطاء المطلوب بدون ذلك، لان الله ـ سبحانه ـ ربط المسببات بالاسباب، وابى ان يجري الأشياء إلا بالاسباب. ولذا لما اهمل الاعرابي بعيره، وقال: توكلت على الله، قال له النبي (ص): " إعقلها وتوكل ". وقال الصادق (ع): " اوجب الله لعباده ان يطلبوا منه مقاصدهم بالاسباب التي سببها لذلك وامرهم بذلك ". وقال الله ـ تعالى ـ:

" خذوا حذركم "[1]. وقال في كيفية صلاة الخوف: " وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم "[2]. وقال: " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوةٍ ومن رباط الخيل "[3].

وقال لموسى: " فاسر بعبادي ليلاً "[4]، والتحصن بالليل اختفاء عن اعين الأعداء دفعاً للضرر.

وفي الاسرائيليات: " ان موسى بن عمران (ع) اعتل بعلة، فدخل عليه بنو إسرائيل، فعرفوا علته، فقالوا له: لو تداويت بكذا لبرئت، فقال: لا اتداوى حتى يعافيني الله من غير دواء. فطالت علته، فاوحى الله إليه: وعزتي وجلالي! لا ابرؤك حتى تتداوى بما ذكروه لك. فقال لهم: داووني بما ذكرتم. فداووه، فبرىء. فاوجس في نفسه من ذلك، فاوحى الله ـ تعالى ـ اليه: اردت أن تبطل حكمتي بتوكلك علي، فمن أودع العقاقير منافع الأشياء غيري؟ ". وروى: " أن زاهداً من الزهاد، فارق الامصار وأقام في سفح جبل، فقال: لا اسأل احداً شيئاً حتى يأتيني ربي برزقي، فقعد سبعاً، فكاد يموت، ول يأته رزق، فقال: يا رب! ان احييتني فأتني برزقي الذي قسمت لي، والا فاقبضني إليك. فاوحى الله ـ تعالى ـ اليه: وعزتي وجلالي! لا أرزقك حتى تدخل الامصار، وتقعد بين الناس. فدخل المصر فأقام، فجاء هذا بطعام، وهذا بشراب، فاكل وشرب. فاوجس في نفسه ذلك، فاوحى الله إليه: أردت أن تذهب حكمتي بزهدك في الدنيا، أما علمت اني ارزق عبدي بايدي عبادي احب الي من أن ارزقه بيد قدرتي؟ ".

فصل

(درجات الناس في التوكل)

اعلم أن درجات الناس ـ كما عرفت ـ في التوكل مختلفة، بحسب تفاوت مراتبهم في قوة اليقين وضعفه، وفي قوة التوحيد وضعفه:

فمنهم: من كمل ايمانه ويقينه، بحيث سقط وثوقه عن الأسباب بالكلية، وتوجه بشراشره إلى الواحد الحق، ولا يرى مؤثراً إلا هو، وليس نظره إلى غيره اصلاً، وقلبه مطمئن ساكن بعنايته، بحيث لا يختلج بباله احتمال أن يكله ربه إلى غيره، ولا يعتري نفسه اضطراب اصلاً، فلا بأس لمثله أن يعرض عن الأسباب المقطوعه أو المظنونة بالكلية، لان الله سبحان يحفظه ويحرسه ويصلح اموره، ويرزقه من حيث لا يحتسب، سواء حسب الأسباب ام لا، وسواء كسب أم لم يكتسب، إلا أنه ربما لم يترك السبب والكسب ويتبع أمر الله فيه، إلا أنه ليس وثوقه إلا بالله دون السبب والكسب. وما ورد من حكايات بعض الكمال من الاولياء، من انهم يسافرون في البوادي التي لا يطرقها الناس بغير زاد ثقة بالله،ويصل إليهم الرزق، أو لا يتحرزون من السباع الضارة، أو يغلظون القول بالنسبة إلى اهل الاقتدار من الملوك والسلاطين من دون خوف ومبالاة، اعتماداً على الله، والله ـ سبحانه ـ ينجيهم منهم، كانوا منهم: أي من الكاملين في التوكل. قال الصادق (ع): " أبى الله ـ عز وجل ـ أن يجعل ارزاق المؤمنين إلا من حيث لا يحتسبون ". وإنما خص بالمؤمنين، لان كمال الإيمان يقتضي ألا يثق صاحبه بالاسباب وأن يتوكل على الله ـ عز وجل ـ وحده. وكمال الإيمان إنما يكون لصاحب العلم المكنون من الأنبياء والأولياء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

ومنهم: من لم يبلغ قوة ايمانه ويقينه حداً تغيب عن نظره الأسباب والوسائط، ويكون مقصور الالتفات إلى جناب الحق. فهذا هو الذي لا ينبغي له أن يعرض عن الأسباب ويتركها، لان مثله ليس له المظنة التي توصله إلى المقصد بدون الوسائط: اعني قوة التوكل على الله واليقين به سبحانه.

فصل

(تفنيد زعم)

بعض الناس زعم: أن حق التوكل أن يكتفي بالاسباب الخفية عن الأسباب الجلية، كأن يسافر في البوادي التي لا يطرقها الناس بغير زاد، بعد أن راض نفسه على جوع الاسبوع وما يقاربه، بحيث يصبر عنه من غير ضيق قلب، واضطراب نفس، وتشويش خاطر، وفتور في ذكر الله، وبعد أن يكون بحيث يقوى على التقوت بالحشيش وما يتفق له، وأن يوطن نفسه على أنه إن مات جوعاً كان خيراً له في الآخرة.

وكأن يجلس في مسجد أو بيته ويترك الكسب، ويتفرغ للعبادة، والفكر والذكر، واستغرق وقته بها، بحيث لا يستشرف نفسه إلى الناس في انتظاره ومن يدخل فيحمل الي شيئاً، بل يكون قوي القلب في الصبر والاتكال على الله. وذا محض الخطأ، إذ من جاهد نفسه وراضها بحيث يصبر على جوع الاسبوع، ويمكنه التقوت بالحشيش، صارت الأسباب له جلية. فان عدم الحاجة أحد الغنائين. ثم إن كان اعتماده ـ حينئذ ـ على صبره وتمكنه من التقوت بالحشيش، فاين التوكل؟وإن كان وثوقه بالله وحده، فليقم في بلده مع الأسباب، كما أمر الله به الشرع. وأما توطين نفسه باختياره على الموت فممنوع عقلاً، ومحرم شرعاً، قال الله ـ سبحانه ـ:

" ولا تلقوا بأيدكم إلى التهلكة "[5].

واما الجالس في بيته، التارك لكسبه، يعبد الله من دون طلب، فهو أيضاً قد ترك متابعة أمر الله. قال الصادق (ع): " إن من يقوته أشد عبادة منه ". وربما يكون مثله كلاً على الناس، فان حاله ينادي بالبؤس واليأس، بل هو ضرب على تواطن الناس وتعرض للذل. وبالجملة لا مدخل لخفاء الأسباب وجلائها في التوكل، بعد ما تقرر ان معناه الثقة بالله وحده، لا بالاسباب، فسواء وجود الأسباب وفقدها وجلاؤها وخفاؤها.

فصل

(طريق تحصيل التوكل)

الطريق إلى تحصيل التوكل ـ بعد تقوية التوحيد والاعتقاد بأن الأمور باسرها مستندة إليه سبحانه، وليس لغيره مدخلية فيها ـ أن يتذكر الآيات والأخبار المذكورة الدالة على فضيلته ومدحه، وكونه باعث النجاة والكفاية، ثم يتذكر أن الله ـ سبحانه ـ خلقه بعد أن لم يكن موجوداً، واوجده من كتم العدم، وهيأ له ما يحتاج إليه، وهو أرأف بعباده من الوالدة بولدها، وقد ضمن بكفالة من توكل عليه، فيستحيل أن يضيعه بعد ذلك ولا يكفيه مؤنته، ولا يوصل إليه ما يحتاج إليه، ولا يدفع عنه ما يؤذيه، لتقدسه من العجز والنقص والخلف والسهوة. وينبغي أن يتذكر الحكايات التي فيها عجائب صنع الله في وصول الارزاق إلى صاحبها، وفي دفع البلايا والاسواء عن بعض عبيده، والحكايات التي فيها عجائب قهر الله في اهلاك أموال الأغنياء واذلال الاقوياء، وكم من عبد ليس له مال وبضاعة ويرزقه الله بسهولة، وكم من ذي مال وثروة هلكت بضاعته أو سرقت وصار محتاجا، وكم من قوي صاحب كثرة وعدة وسطوة صار عاجزاً ذليلاً بلا سبب ظاهر، وكم من ذليل عاجز صار قوياً واستولى على الكل. ومن تأمل في ذلك يعلم أن الأمور بيد الله، فيلزم الاعتماد عليه والثقة به. والمناط أن يعلم أن الأمور لو كانت بقدرة الله ـ سبحانه ـ من غير مدخلية للاسباب والوسائط فيها، فعدم التوكل عليه ـ سبحانه ـ والثقة بغير غاية الجهل، وإن كانت لغيره ـ سبحانه ـ من الوسائط والاسباب مدخلية، فالتوكل من جملة أسباب الكفاية وانجاح الأمور، إذ السمع والتجربة شاهدان بأن من توكل على الله وانقطع إليه كفاه الله كل مؤنة. فكما ان شرب الماء سبب لإزالة العطش، وأكل الطعام سبب لدفع الجوع، فكذا التوكل سبب رتبه مسبب الأسباب لانجاح المقاصد وكفاية الأمور. وعلامة حصول التوكل، ألا يضطرب قلبه، ولا يبطل سكونه بفقد أسباب نفسه وحدوث أسباب ضره. فلو سرقت بضاعته، أو خسرت تجارته، أو تعوق أمر من اموره، كان راضيا به، ولم تبطل طمأنينته، ولم تضطرب نفسه، بل كا حال قلبه في السكون قبله وبعده واحداً، فان من لم يسكن إلى شيء لم يضطرب بفقده، ومن اضطرب لفقد شيء فقد سكن إليه واطمأن به.

ومنها:

الكفران

(وضده الشكر)

الشكر ـ فضيلة الشكر ـ الشكر نعمة يجب شكرها ـ المدارك لتمييز محاب الله من مكاره ـ أقسام النعم واللذات ـ الأكل ـ لا فائدة في الغذاء ما لم يكن بشهوة وميل ـ عجائب المأكولات ـ حاجة تحضير الطعام إلى آلاف الأسباب ـ تسخير الله التجار لجلب الطعام ـ نعم الله في خلق الملائكة للإنسان ـ الأسباب الصارفة للشكرـ طريق تحصيل الشكر ـ الصحة خير من السقم.

وبعد ما تعرف حقيقة الشكر، وكونه متعلقاً بأي القوى، تعرف بالمقايسة حقيقة الكفران وكونه من رذائل القوى.

فنقول: الشكر هو عرفان النعمة من المنعم، والفرح به، والعمل بموجب الفرح باضمار الخير، والتحميد للمنعم، واستعمال النعمة في طاعته. أما المعرفة، فبأن تعرف أن النعم كلها من الله، وأنه هو المنعم، والوسائط مسخرات من جهته. ولو انعم عليك أحد، فهو الذي سخره لك، والقى في قلبه من الاعتقادات والارادات ما صار به مضطراً إلى الايصال إليك، فمن عرف ذلك، حصل أحد اركان الشكر لله، وربما كان مجرد ذلك شكراً، وهو الشكر بالقلب. كما روي: " ان موسى قال في مناجاته: إلهي! خلقت آدم بيدك، واسكنته جنتك، وزوجته حواء امتك، فكيف شكرك؟ فقال: علم ان ذلك مني فكانت معرفته شكراً ".

ثم هذه المعرفة فوق التقديس وفوق بعض مراتب التوحيد، وهما داخلان فيها. إذ التقديس تنزيه ـ سبحانه ـ عن صفات النقص، والتوحيد قصر المقدس عليه، والاعتراف بعدم مقدس سواه، وهذه المعرفة هي اليقين بأن كل ما في العالم موجود منه، والكل نعمة منه، فينطوي فيها مع التقديس والتوحيد كمال القدرة والانفراد بالفعل، ولذلك قال رسول الله (ص): " من قال: سبحان الله، فله عشر حسنات، ومن قال: لا إله إلا الله، فله عشرون حسنة، ومن قال: الحمد لله، فله ثلاثون حسنة ". فسبحان الله: كلمة تدل على التقديس، ولا إله إلا الله: كلمة تدل على التوحيد، والحمد لله، كلمة تدل على معرفة النعم من الواحد الحق. ولا تظنن ان هذه الحسنات بازاء تحريك اللسان بهذه الكلمات من غير عقد القلب بمعانيها، بل هي بازاء الاعتقاد بمعانهيا التي هي المعارف المعدودة من أبواب الإيمان واليقين. واما الفرح بالمنعم، مع هيئة الخضوع والتواضع، فهو أيضاً من اركان الشكر. بل كما ان المعرفة شكر قلبي برأسه، فهو أيضاً في نفسه شكر بالقلب، ونما يكون شكراً إذا كان فرحه بالمنعم أو بالنعمة لا من حيث إنه نعمة ومال ينتفع به يلتذ منه في الدنيا، بل من حيث إنه يقدر بها على التوصل إلى القرب من المنعم، والنزول في جواره، والنظر إلى وجهه على الدوام، وامارته إلا يفرح من الدنيا إلا بما هو مزرعة الآخرة ومعينه عليها، ويحزن بكل نعمة تلهيه عن ذكر الله وتصده عن سبيله، لأنه ليس يريد النعمة لذاتها، بل من حيث انها توصله إلى مجاورة المنعم وقربه ولقائه. واما العمل بموجب الفرح الحاصل من معرفة المنعم، فهو القيام بما هو مقصود المنعم ومحبوبه، وهو يتعلق بالقلب واللسان والجوارح. اما المتعلق بالقلب فقصده الخير واضماره لكافة الخلق. واما المتعلق باللسان فاظهار الشكر لله بالتحميدات الدالة عليه. واما المتعلق بالجوارح، فاستعمال نعم الله في طاعته والتوقى من الاستعانة بها على معصيته، حتى ان من جملة شكر العينين أن يستر كل عيب يراه من مسلم، ومن جملة شكر الاذنين أن يستر كل عيب يسمعه من مسلم، فيدخل هذا وامثاله في جملة شكر نعمة هذه الاعضاء. بل قيل: من كفر نعمة العين ولم يستعملها فيما خلقت لأجله كفر نعمة الشمس أيضا، إذ الابصار انما يتم بها، وانما خلقتا ليبصر بهما ما ينفعه في دينه ودنياه، ويقي بهما ما يضره فيهما. بل المراد من خلق السماء والارض وخلق الدنيا واسبابها أن يستعين الخلق بها على الوصول إلى الله، ولا وصول إليه إلا بمحبته والإنس به في الدنيا، والتجافي عن الدنيا وغرورها ولذاتها وعلائقها، ولا انس إلا بدوام الذكر ولا محبة إلا بالمعرفة الحاصلة بدوام الفكر، ولا يمكن الذكر والفكر إلا ببقاء البدن، ولا يبقى البدن إلا بالارض والماء والهواء والنار، ولا يتم ذلك إلا بخلق الأرض والسماء وخلق سائر الأشياء، وكل ذلك لاجل البدن. والبدن مطية النفس. والنفس الراجعة إلى الله هي المطمئنة بطول العبادة والمعرفة. فكل من استعمل شيئاً في غير طاعة الله فقد كفر نعمة الله في جميع الأسباب التي لا بد منها لا قدامه على تلك المعصية. وإذا عرفت حقيقة الشكر، تعرف بالمقايسة حقيقة الكفران، فانه عبارة عن الجهل بكون النعم من الله، أو عدم الفرح بالمنعم والنعمة من حيث ايصالها إلى القرب منه، أو ترك استعمال النعمة فيما يحبه المنعم، أو استعمالها فيما يكرهه.

ثم، بما ذكرناه، وإن ظهر أن حقيقة الشكر ملتئمة من الأمور الثلاثة، إلا أنه قد يطلق الشكر على كل واحد أيضا، كما قال الصادق (ع): " شكر كل نعمة، وإن عظمت، أن تحمد الله "، وقال (ع): " شكر النعم اجتناب المحارم، وتمام الشكر قول الرجل: الحمد لله رب العالمين ". وسئل عنه (ع): " هل للشكر حد إذا فعله العبد كان شاكراً؟ قال: نعم! قيل: ما هو؟ قال: يحمد الله على كل نعمة عليه في أهل ومال، وإن كان فيما انعم عليه في ماله حق أداه. ومنه قوله ـ جل وعز ـ:

" سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنّا له مقرنين "[6]. ومنه قوله ـ تعالى ـ:" رب أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين "[7]. وقوله: " رب أدخلني مدخل صدقٍ وأخرجني مخرج صدقٍ واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً "[8] ".

وقال (ع): " كان رسول الله (ص) إذا ورد عليه أمر يسره، قال: الحمد لله على هذه النعمة. وإذا ورد عليه أمر يغتم به، قال: الحمد لله على كل حال ". وقال (ع): " إذا أصبحت وأمسيت، فقل عشر مرات: اللهم ما أصبحت بي من نعمة أو عافية في دين أو دنيا، فمنك وحدك لا شريك لك، لك الحمد ولك الشكر بها علي بارب. حتى ترضى وبعد الرضا. فانك إذا قلت ذلك، كنت قد أديت شكر ما أنعم الله به عليك في ذلك اليوم وفي تلك الليلة ". وفي رواية: " كان نوح (ع) يقول ذلك إذا اصبح، فسمى بذلك عبداً شكورا ". وقال (ع): " إذا ذكر أحدكم نعمة الله، فليضع خده على التراب شكرا لله، فان كان راكباً فليزل وليضع خده على التراب، وان لم يكن يقدر على النزول للشهرة فليضع خده على قربوسه[9]، وان لم يقدر فليضع خده على كفه، ثم ليحمد الله على ما انعم عليه ". وروى: " أن الصادق (ع) قد ضاعت دابته، فقال: لئن ردها الله علي لاشكرن الله حق شكره ". قال الراوي: فما لبث أن اوتي بها، فقال: " الحمد لله ". فقال قائل له: جعلت فداك! أليس قلت لاشكرن الله حق شكره؟ فقال أبو عبدالله (ع): " ألم تسمعنى قلت: الحمد لله؟ "[10]. ثم الشكر باللسان لاظهار الرضا من الله، ولذا أمر به. وقد كان السلف يتساؤلون بينهم، ونيتهم استخراج الشكر لله، ليؤجر كل واحد من الشاكر والسائل. وقد روى: " ان رسول الله (ص) قال لرجل: كيف اصبحت؟ فقال: بخير. فأعاد عليه السؤال، فأعاد عليه الجواب، فأعاد السؤال ثالثة، فقال: بخير، أحمد الله واشكره. فقال (ص): هذا الذي اردت منك ".

" تنبيه " لا ريب في ان الجزء الأول من الشكر ـ اعني معرفة النعم من الله ـ من متعلقات العاقلة وفضائلها. والثاني ـ أعني الفرح للنفس ـ ان كان من النعم العقلية الروحانية، يكون متعلقاً بالعاقلة أيضا، وان كان لاجل وصول نعمة الغلبة والاستيلاء ـ مثلا ـ على عدو ظالم، يكون متعلقاً بالقوة الغضبية، وان كان من نعمة المال والاولاد، يكون متعلقاً بالقوة الشهوية. والجزء الثالث ـ اعني العمل بمقتضى الفرح الحاصل من معرفة المنعم ـ فهو من ثمرات الحب للمنعم والخوف من زوال نعمته. وبهذا يظهر: أن الشكر والكفران من متعلقات القوى الثلاث، والأول من فضائلها إذا امتزجت وتسالمت، والثاني من رذائلها.

فصل

(فضيلة الشكر)

الشكر أفضل منازل الأبرار، وعمدة زاد المسافرين إلى عالم الأنوار، وهو موجب لدفع البلاء وازدياد النعماء، وقد ورد به الترغيب الشديد، وجعله الله سبباً للمزيد. قال الله ـ سبحانه ـ:

" ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم "[11]. وقال: " لئن شكرتم لأزيدنكم "[12]. وقال: " فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون "[13]. وقال: " وسنجزي الشاكرين "[14].

ولكونه غاية الفضائل والمقامات، ليس لكل سالك أن يصل إليه، بل ليس الوصول إليه إلا لأوحدي من كمل السالكين. ولذا قال الله رب العالمين:

" وقليل من عبادي الشكور "[15]. وكفى به شرفاً وفضلاً، أنه خلق من أخلاق الربوبية، كما قال الله ـ سبحانه ـ:

" والله شكور حليم "[16]. وهو فاتحة كلام أهل الجنة وخاتمته، كما قال الله ـ تعالى ـ: " وقال الحمد لله الذي صدقنا وعده "[17]. وقال: " وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين "[18].

وقال رسول الله (ص): " الطاعم الشاكر، له من الاجر كأجر الصائم المحتسب. والمعافى الشاكر، له من الجار كأجر المبتلى الصابر. والمعطى الشاكر، له من الاجر كأجر المحروم القانع ". وقال (ص): " ان للنعم أوابد كأوابد الوحش، فقيدوها بالشكر ". وقال (ص): " ينادي مناد يوم القيامة: ليقوم الحمادون! فيقوم زمرة. فينصب لهم لواء فيدخلون الجنة ". فقيل: من الحمادون؟ فقال: " الذين يشكرون الله على كل حال ". وقال السجاد (ع): " إن الله ـ سبحانه ـ يحب كل عبد حزين، ويحب كل عبد شكور ". وقال الباقر (ع): " كان رسول الله (ص) عند عائشة ليلتها، فقالت: يا رسول الله! لم تتعب نفسك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: يا عائشة! ألا أكون عبداً شكوراً؟... قال: وكان يقوم على اطراف اصابع رجليه، فأنزل الله ـ تعالى ـ: طه! ما انزلنا عليك القرآن لتشقى ". وقال الصادق (ع): " ما انعم الله على عبد من نعمة فعرفها بقلبه وحمد الله ظاهراً بلسانه، فتم كلامه، حتى يؤمر له بالمزيد ". وقال (ع): " ثلاث لا يضر معهن شيء: الدعاء عند الكرب، والاستغفار عند الذنب، والشكر عند النعمة "[19]. وقال (ع): " في كل نفس من انفاسك شكر لازم لك، بل ألف أو أكثر، وأدنى الشكر رؤية النعمة من الله ـ تعالى ـ من غير علة يتعلق القلب بها دون الله ـ عز وجل ـ، أو الرضا بما اعطى، وألا تعصيه بنعمته وتخالفه بشيء من أمره ونهيه بسبب نعمته. فكن لله عبداً شاكراً على كل حال، تجد الله رباً كريماً على كل حال، ولو كان عند الله ـ تعالى ـ عبادة تعبد بها عباده المخلصون افضل من الشكر على كل حال، لا طلق لفظة منهم عن جميع الخلق بها، فلما لم يكن افضل منها خصها من بين العبادات، وخص اربابها، فقال: (وقليل من عبادي الشكور). وتمام الشكر الاعتراف بلسان السر، خاضعاً لله بالعجز عن بلوغ ادنى شكره، لان التوفيق للشكر نعمة حادثة يجب الشكر عليها، وهي اعظم قدرا واعز وجودا من النعمة التي من اجلها وفقت له، فيلزمك على كل شكر شكر اعظم منه، إلى ما لا نهاية له، مستغرقاً في نعمه، قاصرا عاجزا عن درك غاية شكره، وانى يلحق العبد شكر نعمة الله، ومتى يلحق صنيعه بصنيعه، والعبد ضعيف لا قوة له أبداً إلا بالله ـ عز وجل ـ، والله غنى عن طاعة العبد قوي على مزيد النعم على الابد، فكن لله عبدا شاكرا على هذا الاصل، ترى العجب "[20]. ثم كما ان الشكر من المنجيات الموصلة إلى سعادة الابد وزيادة النعمة في الدنيا، فضده ـ اعني الكفران ـ من المهلكات المؤدية إلى شقاوة السرمد وعقوبة الدنيا وسلب النعم. قال الله ـ سبحانه ـ:

" فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف "[21]. وقال ـ تعالى ـ: " إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم "[22].

وقال الصادق (ع): " اشكر من أنعم عليك، وأَنعم على من شكرك، فانه لا زوال للنعماء إذا شكرت ولا بقاء لها إذا كفرت. الشكر زيادة في النعم، وامان من الغير " أي من التغيير.

 


[1]  النساء، الآية: 70.

[2]  النساء، الآية: 101.

[3]  الأنفال، الآية: 61.

[4]  الدخان، الآية: 23.

[5]  البقرة، الآية: 195.

[6]  الزخرف، الآية: 13.

[7]  المؤمنون، الآية: 29.

[8]  الإسراء، الآية: 80.

[9]  القربوس ـ بفتحتين ـ: حنو السرج، أي قسمه المقوس المرتفع من قدام المقعد ومن مؤخره.

[10]  هذه الرواية مذكورة في (أصول الكافي): ج2 ـ باب الشكر. وفي (الوافي): 3/324 ـ باب الشكر. إلا ان المنقول في نسخ (جامع السعادات) فيه اختلاف كثير عما في الموضعين، فصححناها عليهما.

[11]  النساء، الآية: 146.

[12]  إبراهيم، الآية: 7.

[13]  البقرة، الآية: 152.

[14]  آل عمران، الآية: 145.

[15]  سبأ، الآية: 13.

[16]  التغابن، الآية: 17.

[17]  الزمر، الآية: 74.

[18]  يونس، الآية: 10.

[19]  صححنا الأحاديث على (أصول الكافي): ج2، باب الشكر. وعلى (البحار) مج15: 2/132 ـ 135، باب الشكر.

[20]  صححنا الحديث على (مصباح الشريعة): الباب السادس. وعلى (سفينة البحار) 1/710.

[21]  النحل، الآية: 111.

[22]  الرعد، الآية: 12.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست