.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

لا فائدة في الغذاء ما لم يكن بشهوة وميل

عجائب المأكولات

حاجة تحضير الطعام إلى آلاف الأسباب

تسخير الله التجار لجلب الطعام

نعم الله في خلق الملائكة للإنسان

 

 

فصل

(لا فائدة في الغذاء ما لم يكن بشهوة وميل)

إذا ادرك الغذاء، لم يفد فائدة ما لم تكن شهوة له وميل وشوق اليه. إذ لولا الميل الي لكان ادراكه بأي حس وقوة فرضاً معطلاً. ألا ترى أن المريض يرى الطعام ويدرك انه انفع الأشياء له، وقد سقطت شهوته، فلا يتناوله، فيبقى البصر والادراك معطلاً في حقه؟ فيتوقف الأكل على ميل إلى الموافق، ويسمى شهوة، ونفرة عن المخالف، ويسمى كراهة. فخلق الله شهوة الطعام وسلطها على الإنسان كالمتقاضي الذي يضطره إلى التناول، وهذه الشهوة لو لم تسكن بعد أخذ قدر الحاجة لا اسرفت وأهلكت نفسه، فخلق الله الكراهة عند الشبع لترك الأكل بها، ولم يجعلها كالزرع الذي لا يزال يجتذب الماء إذا انصب في اسفله حتى يفسد، ولذلك يحتاج إلى آدمى يقدر غذاءه بقدر الحاجة، فيسقيه مرة ويقطع عنه الماء اخرى، ثم مجرد الميل والشهوة لا يكفي،ما لم تنبعث الداعية إلى تناول الغذاء. فخلق الله ـ تعالى ـ له الارادة ـ أعني انبعاث النفس إلى تناوله. وربما حصل الاحتياج إلى قوة الغضب ـ أيضاً ـ ليدفع عن نفسه المؤذي وما يضاده ويخالفه، ومن اراد ان يأخذ منه ما حصله من الغذاء. ثم لكل واحد من الشهوة، والكراهة، والارادة، والغضب، أسباب لا يمكن احصاؤها، ثم بعد ادراك الغذاء وميله وشهوته وارادته، لا يفيد شيئاً من ذلك ما لم يتحقق الطلب والأخذ بالفعل بآلاتهما. فكم من زمن شائق إلى شيء بعيد منه مدرك له مائل إليه مريد له، لا يمكنه أن يمشي إليه لفقد رجله، أو لا يمكنه أن يتناوله لفقد يدهه أو لفلج أو عذر فيهما. فلا بد من آلات للحركة، وقدرة في تلك الآلات على الحركة، لتكون حركتها بمقتضى الشهوة طلباً. فلذلك خلق الله ـ تعالى ـ لك الأعضاء التي تنظر إلى ظاهرها ولا تعرف اسرارها. فمنها ما هو آلة للطلب، كالرجل للإنسان، والجناح للطير، والقوائم للدواب. ومنها ما هو آلة لدفع المؤذي والمانع من طلب الغذاء، القرن لبعض الحيوانات، والانياب لبعض أخر منها، والمخلب لبعض آخر منها، والاسلحة للإنسان القائمة مقام هذه الآلة. ومنها ما هو آلة للأخذ والتناول كاليدين للإنسان. ثم لهذه الاعضاء أسباب وحكم خارجة عن الحد والحصر وقد تقدم قليل من حكمها وعجائبها في باب التفكر.

فصل

(عجائب المأكولات)

عمدة ما يتوقف عليه الاكل واصله ومناطه، هي الاغذية والأطعمة المأكولة، ولله ـ تعالى في خلقها عجائب كثيرة لا تحصى، واسباب متوالية لا تتناهى. والأغذية والادوية من الاطعمة لم يبلغ عددها من الكثرة حداً يمكن احصاؤها وحصرها، فضلاً عن بيان عجائبها واسبابها، فنحن نترك الجميع، ونأخذ من جملتها حبة من الحنطة، ونبين بعض اسبابها وحكمها وعجائبها. فنقول:

 قد خلق الله في حبة الحنطة من القوى ما يغتذى به كما خلق فيك.فان النبات انما يفارقك في الحس والحركة دون الاغتذاء، لانه يغتذى بالماء. ولا نتعرض لذكر آلات النبات في اجتذاب الغذاء إلى نفسه، بل نشير إلى لمعة من كيفية اغتذاء الحبة. فنقول:

ان الحبة لا تغتذي بكل شيء، بل يتوقف اغتذاؤها على ارض فيها ماء. ولا بد ان تكون ارضها رخوة متخلخلة يتغلغل الهواء اليها، فلو تركتها في ارض ندية صلبة متراكمة لم تنبت لفقد الهواء. ثم الهواء لا يتسرب إليها بنفسه، فلا بد من حصول أسباب الريح حتى تحرك الهواء وتضربه وينفذ فيها بقهر وعنف، واليه الاشارة بقوله ـ تعالى ـ:

وأرسلنا الرياح لواقح "[1].

والقاحها انما هو ايقاعها الازدواج بين الهواء والماء والارض. ثم لا يكفي ذلك في انباته في برد مفرط، فيحتاج إلى حرارة الصيف والربيع. فهذه أربعة اسباب، فإن الماء لا بد ان ينساق إلى ارض الزراعة من البحار والشطوط والانهار والعيون والسواقي، فانظر كيف خلق الله جميع ذلك. ثم الأرض ربما تكون مرتفعة لا ترتفع إليها مياه العيون والقنوات، فخلق الله الغيوم، وهي سحب ثقال حاملات للماء، وسلط عليها الرياح لتسوقها باذنه إلى اقطار العالم من المرتفعات والمنخفضات، وترسلها مدراراً على الاراضي في وقت الربيع والخريف على حسب الحاجة، ثم خلق الجبال حافظة للمياه تنفجر منها العيون تدريجاً على قدر الحاجة، ولو خرجت دفعة لغرقت البلاد، وهلك الزرع والمواشي. ونعم الله ـ تعالى ـ وعجائب صنعه وحكمته في السحاب والبحار والجبال والامطار لا يمكن احصاؤها واما الحرارة، فانها لا يمكن أن تحصل في الماء والارض، لكونهما باردين. فخلق الله الشمس، وسخرها، وجعلها ـ مع بعدها عن الأرض مسخنة لها في وقت دون وقت، ليحصل الحر عند الحاجة إليه، والبرد عند الافتقار اليه، وهذه اخس حكم الشمس، والحكم فيها اكثر من ان تحصى. ثم النبات ان ارتفع على الأرض كان في الفواكه انعقاد وصلابة، فتفتقر إلى رطوبة تنضجها، فخلق الله القمر، وجعل من خاصيته الترطيب، كما يظهر لك ذلك إذا كشفت رأسك له في الليل، فانه تغلب على رأسك الرطوبة للعبر عنها: (الزكام)، فهو بترطيبه ينضج الفواكه ويرطبها، ويصبغها بتقدير الخالق الحكيم، وهذا ايضاً اخس فوائد القمر وحكمه، وما فيه من الحكم والفوائد لا مطمع في استقصائه، بل كل كوكب في السماء فقد سخر لفوائد كثيرة لا تفي القوى البشرية باحصائها. وكما أنه ليس في اعضاء البدن عضو لا فائدة فيه، فكذلك ليس عضو من اعضاء بدن العالم لا تكون فيه فائدة أو فوائد كثيرة. والعالم كله كشخص واحد، وآحاد أجسامه كالأعضاء له، وهي متفاوتة تفاوت اعضاء البدن، وشرح ذلك ليس في مقدرة البشر، وكلها مسخرات لله ـ سبحانه ـ، وآثار من قدرته الكاملة، ورشحات من أبحر عظمته الباهرة، وليست في انفسها إلا اعدام صرفة. فأرباب القلوب العارفون بالله المحبون له، إذا نظروا إلى ملكوت السماوات والارض، والآفاق والأنفس، والحيوانات والنباتات، لا ينظرون إليها إلا من حيث إنها آثار قدرة ربهم، ورشحات صفاته، ويكون تفكرهم وسعيهم في العثور على عجائبها وحكمها، وابتهاجهم وشغفهم لأجل ذلك. كما أن من احب عالماً لم يزل مشغوفاً بطلب تصانيفه، فيزداد بمزيد الوقوف على عجائب علمه حباً له. فكذلك الأمر في عجائب صنع الله، فإن العالم كله من تصنيفه ـ تعالى ـ، بل جميع المصنفين أيضاً من تصنيفه الذي صنفه بواسطة قلوب عباده، فإن تعجبت من تصنيف، فلا تتعجب من المصنف، بل من الذي سخر المصنف لتأليفه بما انعم عليه من هدايته وتسديده وتعريفه. كما إذا رأيت لعب المشعوذ[2] يترقص ويتحرك حركات موزونة متناسبة، فلا تتعجب من اللعب، فإنها خرق محركة لا متحركة، ولكن تعجب من حذق المشعوذ المحرك لها بروابط دقيقة عن الابصار. وقد ظهر ان غذاء النبات لا يتم إلا بالماء والهواء والشمس والقمر والكواكب، ولا يتم ذلك إلا بالافلاك التي هي مركوزة فيها، ولا تتم الافلاك إلا بحركاتها، ولا تتم حركاتها إلا بملائكة سماوية يحركونها، وكذلك تتسلسل الأسباب إلى أن تنتهي إلى مسبب الاسباب وغاية الكل، وليس لنا سبيل إلى ادراك تفاصيلها واستنباط عجائب حكمها ودقائق مصالحها.

فصل

(حاجة تحضير الطعام إلى آلاف الأسباب)

ثم ما ينبت من الأرض من النبات، وما يحصل من الحيوانات، لا يمكن أن تقضم وتؤكل كذلك، بل لا بد في كل واحد من اصلاح وطبخ وتركيب وتنظيف، بالقاء البعض وابقاء البعض، إلى غير ذلك من الأعمال التي لا تحصى، وكل من الاطعمة يتوقف اصلاحها على أمور خاصة كثيرة، واستقصاء ذلك في كل طعام طويل. فلنأخذ رغيفاً واحداً، وننظر إلى بعض ما يحتاج إليه حتى يستدير ويصلح للأكل، إذ بيان جميع ما يحتاج إليه حتى يستدير الرغيف الواحد ليس ممكناً، فنقول:

اول ما يتوقف عليه هذا الرغيف الأرض، ثم إلقاء البذور فيها، ثم الثور الذي يثير الأرض مع آلاته، كالفدان وغير ذلك، ثم تنقية الأرض من الحشائش، والتعهد بسقي الماء إلى أن يعقد الحب ويبدو صلاحه، ثم الحصاد، ثم الفرك، ثم التنقية والتصفية، ثم الطحن، ثم العجن، ثم الخبز. فتأمل عدد هذه الافعال، واستحضر سائر الافعال التي لم نذكرها، ثم تذكر عدد الاشخاص القائمين بها، وعدد الآلات التي يحتاج إليها من الحديد والخشب والحجر وغيرها. وانظر إلى أعمال الصناع في اصلاح آلات الحراثة والتصفية والطحن والخبز من نجارة وحدادة وغيرهما، واحتياج كل منها إلى آلات كثيرة. ثم انظر كيف ألف الله ـ سبحانه ـ بين قلوب هؤلاء الصناع المصلحين، وسلط عليهم الانس والمحبة، حتى ائتلفوا واجتمعوا وبنوا المدن والبلاد، ورتبوا المساكن والدور متجاورة ومتقاربة، وبنوا الاسواق والخانات وسائر أصناف البقاع، ولو تفرقت آراؤهم، وتنافرت طباعهم تنافر طباع الوحوش، لتبددوا وتباعدوا، ولم ينتفع بعضهم ببعض، ثم لما كان في جبلة الإنسان الغيظ والعداوة، والحسد والمنافسة، والانحراف عن الحق، وربما زالت المحبة بين البعض لأعراض، فيزدحمون عليها، ويتنافسون فيها، وربما أدى إلى التنافر والتقابل. فبعث الله الأنبياء بالشرائع والقوانين ليرجعوا إليها عند التنازع، فيرتفع نزاعهم. ثم بعث العلماء الذين هم ورثة الأنبياء لحفظ هذه الشرائع والعلم بها. وبعث الله السلاطين حتى يقيموا الناس قهراً عليها لو أرادوا التخلف عنها، فسلط الله السلاطين اولي القوة والعدة على الناس، وألقى رعبهم في قلوبهم، والهمهم اصلاح العباد، بأن رتبوا الرؤساء والقضاة والحكام والسجن والاسواق، واضطروا الخلق إلى قانون الشرع والعدل، وألزموهم التآلف والتعاون، ومنعوهم عن التفرق والتباغض. فاصلاح الرعايا والصناع بالسلاطين، وإصلاح السلاطين بالعلماء، وإصلاح العلماء بالانبياء، واصلاح الأنبياء بالملائكة، واصلاح الملائكة بعضهم ببعض، إلى ان ينتهي إلى حضرة الربوبية، التي هي ينبوع كل نظام، ومطلع كل حسن وجمال، ومنشأ كل ترتيب وتأليف. وقد ظهر مما ذكر: أن من فتش يعلم: ان رغيفاً واحداً لا يستدير بحيث يصلح للاكل ما لم يعمل عليه آلاف الوف من الملائكة وصناع الانس.

فصل

(تسخير الله التجار لجلب الطعام)

ثم جميع الاطعمة لما لم يمكن أن يوجد في كل مكان وبلد، إذ لكل واحد شروط مخصوصة لأجلها، لا يمكن إلا أن يوجد في بعض الأماكن دون بعض، والناس منتشرون على وجه الأرض، وقد يبعد عنهم بعض ما يحتاجون إليه من الأطعمة، بحيث تحول بينهم وبينها البراري والبحار، فسخر الله ـ تعالى ـ التجار، وسلط عليهم حرص المال وشره الربح، حتى يقاسوا الشدائد، ويركبوا الأخطار في قطع المفاوز وركوب البحار، فيحملون الأطعمة وأنواع الحوائج من الشرق إلى الغرب، ومن الغرب إلى الشرق. فانظر كيف علمهم الله صناعة السفن وكيفية الركوب فيها، وكيف خلق الحيوانات وسخرها للحمل والركوب في البوادي والجبال، من الجمال وكيفية قطعها البراري والمراحل تحت الأعباء الثقيلة وصبرها على الجوع والعطش، ومن الخيل وكفيفة سرعة سيرها وحركاتها، ومن الحمار وصبره على التعب، وانظر كيف خلق الله ما يحتاج إليه السفن وهذه الحيوانات من الأسباب والغذاء، وينتهي إلى حد لا يمكن تحديده.

فصل

(نعم الله في خلق الملائكة للإنسان)

ثم مجرد وجود الغذاء وحضوره واصلاحه لا يفيد فائدة ما لم يؤكل ويصير جزء للبدن. وهذا موقوف على أعمال كثيرة، محتاجة إلى أسباب كثيرة، من الطحن، والجذب، والهضم المعدي والكبدي، وغير ذلك من الافعال التي يحتاج كل منها إلى أسباب كثيرة. وقد أشرنا إلى لمعة من كيفية ذلك في باب التفكر، فارجع إليه. وهنا نشير إلى أنموذج من نعمة الله في خلق الملائكة. فنقول:

إن كثرة الملائكة لم تبلغ حداً يمكن تصوره تفصيلا أو إجمالاً، ولهم طبقات وأصناف: منها: طبقات الملائكة الارضية. ومنها: الملائكة السماوية. ومنها: حملة العرض العظيم. ومنها: المسلسلون. ومنها: المهيمنون... وغير ذلك مما لم نسمع اسمهم ورسمهم، ولا يحيط بهم إلا الله ـ سبحانه ـ. فكل صنع من صنائع الله في الأرض والسماء لا يخلو عن ملك أو ملائكة موكلين به. فانظر كيف وكلهم الله بك فيما يرجع إلى الاكل والاغتذاء الذي كلامنا فيه، دون ما يجاوز، وذلك من صنائع الله وافعاله، ومن الوحي إلى الأنبياء والهداية والارشاد وغيرها، فإن استقصاء ذلك ليس من مقدورات البشر. فنقول: إن كل جزء من اجزاء بدنك، بل من اجزاء النبات، لا يغتذي إلا بأن يوكل به سبعة من الملائكة، هم أقل الاعداد، إلى عشرة إلى مائة، إلى أكثر من ذلك بمراتب.

بيان ذلك: ان معنى الاغتذاء: أن يقوم جزء من الغذاء مقام جزء تلف من بدنك. وهذا موقوف على حركات وتغيرات واستحالات للغذاء، حتى يصير جزء للبدن، كالجذب والهضم وصيرورته لحماً وعظماً. ومعلوم أن الغذاء والدم واللحم اجسام ليست لها قدرة ومعرفة واختيار حتى تتحرك وتتغير بانفسها، ومجرد الطبع لا يكفي في ترددها في اطوارها، كما أن البر بنفسه لا يصير طحيناً وعجيناً وخبزاً مطبوخاً إلا بصناع، والصناع في الباطن هم الملائكة، كما أن الصناع في الظاهر هم أهل البلد. فالغذاء، بعد وضعه في الفم إلى أن يصير دماً، لا بد له من صناع من الملائكة، ولا نتعرض لهم ولبيان عددهم، ونقول: بعد صيرورته دماً إلى أن يصير جزء للبدن، يتوقف على سبعة من الملائكة، إذا لا بد من ملك يجذب الدم إلى جوار اللحم والعظم، إذ الدم لا يتحرك بنفسه، ولا بد من ملك آخر يمسك الغذاء في جواره، ولا بد من ثالث يخلع عنه صورة الدم، ومن رابع يكسوه صورة اللحم والعظم والعرق، ومن خامس يدفع الفضل الزائد من الحاجة، ومن سادس يلصق ما اكتسب صفة اللحم باللحم، وما اكتسب صفة العظم بالعظم، وما اكتسب صفة العرق بالعرق حتى لا يكون منفصلا، ولا بد من سابع يراعى المقادير في الالصاق، فيلحق بالمستدير على مالا يبطل استدارته، وبالعريض على ما لا يبطل عرضه، وبالمجوف على ما لا يبطل تجويفه، وهكذا... ويراعى في الالصاق لكل عضو ما يليق به ويحتاج إليه. فلو جمع لانف الصبي ـ مثلا ـ من الغذاء ما يجمع على فخذه، لكبر أنفه، وبطل تجويفه، وتشوهت صورته، بل ينبغي أن يسوق إلى الاجفان مع رقتها وإلى الافخاذ مع غلظتها، وإلى الحدقة مع صفائها، وإلى العظم مع صلابته، ما يليق بكل واحد منها من حيث القدر والشكل، ويراعي العدل في القسمة والتقسيط، والا بطلت الصورة، وتشوهت الخلقة، ورق بعض المواضع وضعف البعض. فمراعاة هذه الهندسة مفوضة إلى ملك من الملائكة. وإياك وأن تظن ان الدم بطبعه يهندس شكل نفسه، فإن من احال هذه الأمور إلى الطبع جاهل ولا يدري ما يقول، فإن أراد من الطبع قوة عديمة الشعور، ويقول: ان كل فعل من هذه الافعال موكول إلى قوة لا شعور لها، فنقول: ذلك أدل على عظمة الله وحكمته وقدرته، إذ لا ريب في ان ما لا شعور له ليس في نفسه أن يفعل فعلا ما، فضلا عن ان يفعل أفعالا متقنة محكمة، مشتملة على الحكم الدقيقة والمصالح الجلية والخفية. فتكون هذه شروطاً ناقصة لا يجاد الله ـ سبحانه ـ هذه الافعال بلا واسطة، أو بواسطة عدد هذه القوى من الملائكة. وعلى أي تقدير، لا بد من سبعة اشخاص من مخلوق الله ـ سبحانه ـ مسخرين في باطنك، موكلين بهذه الافعال، قد شغلوا بك، وانت في النوم تستريح، وفي الغفلة تتردد، وهم يصلحون الغذاء في باطنك ولا خبر لك منهم، وكذلك في كل جزء من اجزائك التي لا تتجزأ، حتى يفتقر بعض الأجزاء ـ كالعين والقلب ـ إلى أكثر من مائة ملك. ثم الملائكة الأرضية مددهم من الملائكة السماوية على ترتيب معلوم، لا يحيط بكنهه إلا الله، ومدد الملائكة السماوية من حملة العرش، والمنعم على جميعهم بالتأييد والتسديد والهداية المهيمن القدوس، المتفرد بالملك والملكوت والعز والجبروت. ومن اراد ان يعلم ـ اجمالا ـ كثرة الملائكة الموكلين بالسماوات والارضين، وأجزاء النبات والحيوانات، والسحب والهواء والبحار والجبال والامطار وغير ذلك، فليرجع في ذلك إلى الأخبار الواردة من الحجج ـ عليهم السلام ـ. ثم لا بد أن يفوض كل فعل من الافعال السبعة المذكورة إلى ملك من الملائكة، ويكون الموكل به ملكاً واحداً على حدة، ولا يمكن أن يفوض جميعها إلى ملك واحد، كما لا يمكن أن يتولى إنسان واحد سبعة أعمال في الحنطة، كالطحن وتمييز النخالة، ودفع الفضلة عنه، وصب الماء عليه، والعجن، وقطعها كسرات مدورة، وترقيقها رغفانا عريضة، والصاقها بالتنور. إذ الملك وحداني الصفة، ليس فيه خلط وتركيب من المتضادات. فلا يكون لكل واحد منهم إلا فعل واحد، كما اشير إليه بقوله ـ تعالى ـ:

" وما منا إلا له مقام معلوم "[3].

ولذلك، ليس بينهم تحاسد وتنافس. ومثالهم في تعيين مرتبة كل واحد منهم وعدم مزاحمة الآخر له مثال الحواس الخمس، وليس كالإنسان الذي يتولى بنفسه اموراً مختلفة، وسبب ذلك اختلاف صفاته ودواعيه، فانه لما لم يكن وحداني الصفة لم يكن وحداني الفعل، ولذلك ترى أنه يطيع الله تارة ويعصيه أخرى. وذلك غير موجود في الملائكة، فانه مجبولون على الطاعة لم تتصور في حقهم معصية، ولكل منهم طاعة خاصة معينة. فالراكع منهم راكع أبداً، والساجد منهم ساجد دائما، والقائم منهم قائم ابدا، لا اختلاف في افعالهم ولا فتور، ولكل واحد منهم مقام معلوم. واذ قد ظهر لك عدد ما يحتاج إليه بعض افعال مجرد الاغتذاء من الملائكة الارضية المستمدين من الملائكة السماوية، فقس عليه سائر افعال الاغتذاء، وسائر افعالك الباطنة والظاهرة، فإن بيان ذلك ليس ممكناً. ثم قس على ذلك اجمالا جملة صنائع الله وافعاله الواقعة في عالمي الجبروت والملكوت، وعالم الملك والشهادة، فسماواته وارضه وما بينهما وما تحتهما وما فوقهما، فإن اعداد الملائكة والموكلين بها غير متناهية، كيف ومجامع طبقات الملائكة وأنواعهم خارجة عن الاحصاء، فضلا عن الآحاد الداخلة تحت الطبقات؟.

وقد ظهر مما عرفت من توقف كل نعمة على نعم كثيرة متسلسلة، إلى أن ينتهي إلى الله، واتصال البعض بالبعض ووقوع الارتباط والترتب بينهما: أن من كفر نعمة الله فقد كفر كل نعمة في الوجود، فمن نظر إلى غير محرم ـ مثلا ـ فقد كفر، ففتح العين نعمة الله في الأجفان، ولا تقوم الأجفان إلا بالعين، ولا العين إلا بالرأس، ولا الرأس إلا بجميع البدن، ولا البدن إلا بالغذاء، ولا غذاء إلا بالماء والارض والهواء والمطر والغيم والشمس والقمر وسائر الكواكب، ولا يقوم شيء من ذلك إلا بالسماوات ولا السماوات إلا بالملائكة. فإن الكل كالشيء الواحد، يرتبط البعض منه بالبعض ارتباط اعضاء البدن بعضها ببعض. فاذن قد كفر كل نعمة في الوجود، من ابتداء الثرى إلى منتهى الثريا، وحينئذ لا يبقى جماد ولا نبات ولا حيوان، ولا ماء ولا هواء، ولا كوكب ولا فلك ولا ملك، إلا يلعنه. ولذلك ورد في الأخبار: " ان البقعة التي يجتمع فيها الناس، إما تلعنهم إذا تفرقوا، أو تستغفر لهم " وكذلك ورد: " أن الملائكة يلعنون العصاة ". وورد: " ان العالم يستغفر له كل شيء، حتى الحوت في البحر ". وأمثال هذه الأخبار الدالة على ما يفيد المراد خارجة بطرفه عن الاحصاء، وكل ذلك اشارة إلى أن العاصي بتطريفة واحدة يجنى على جميع الملك والملكوت.

ثم جميع ما ذكرناه إنما يتعلق بجزء من المطعم، فاعتبر ما سواه. ثم تأمل هل يمكن أن يخرج أحد عن عهدة الشكر؟ كيف ولله في كل طرفة على كل عبد من عبيده نعم كثيرة خارجة عن الاحصاء؟ فإن في كل نفس ينبسط وينقبض نعمتين، إذ بانبساطه يخرج الدخان المحترق من القلب، ولو لم يخرج لهلك، وبانقباضه يجتمع روح الهواء إلى القلب، ولو لم يدخل نسيم الهواء فيه لا نقطع قلب وهلك. ولما كان اليوم والليلة أربعاً وعشرين ساعة، وفي كل ساعة يوجد ألف نفس تخميناً، وإذا اعتبرت ذلك وقست عليه سائر النعم، يكون عليك في كل يوم وليلة آلاف الوف نعمة في كل جزء من اجزاء بدنك، بل في كل جزء من اجزاء العالم، وكيف يمكن احصاء ذلك، ولذلك قال الله ـ تعالى ـ:

" وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها "[4].

وورد: " ان من لم يعرف نعمة الله إلا في مطعمه ومشربه، فقد قل علمه وحضر عذابه ". فالبصير لا تقع عينه في العالم على شيء، ولا يلم خاطره بموجود، إلا ويتحقق أن لله فيه نعمة عليه. ولذلك قال موسى بن عمران: " إلهي! كيف أشكرك ولك علي في كل شعرة من جسدي نعمتان: أن لينت اصلها، وان طمست رأسها ".

فصل

(الأسباب الصارفة للشكر)

اعلم أن السبب الصارف لأكثر الخلق عن الشكر، إما قصور معرفتهم بأن النعم كلها من الله ـ سبحانه ـ، أو قصور معرفتهم واحاطتهم بصنوف النعم وأحادها، أو جهلهم بحقيقة الشكر وكونه استعمال النعمة في اتمام الحكمة التي اريدت بها وظنهم ان حقيقة الشكر مجرد ان يقولوا بلسانهم: الحمد لله، أو الشكر لله، أو الغفلة الناشئة عن غلبة الشهوة واستيلاء الشيطان، بحيث لا ينتبهون للقيام بالشكر، كما في سائر الفضائل والطاعات، أو عدم احتسابهم للجهل ما يعم الخلق ويشملهم في جميع الأحوال من النعم نعمة. ولذلك لا يشكرون على جملة من النعم، لكونها عامة للخلق، مبذولة لهم في جميع الحالات. فلا يرى كل واحد لنفسه اختصاصاً بها، فلا يعدها نعمة. وتأكد ذلك بألفهم واعتيادهم بها، فلا يتصورون خلاف ذلك، ويظنون ان كل إنسان يلزم ان يكون على هذه الأحوال. فلذلك تراهم لا يشكرون الله على روح الهواء، ووفور الماء، وصحة البصر والسمع، وامثال ذلك. ولو اخذا يمحقهم، حتى انقطع عنهم الهواء، وحبسوا في بيت حمام فيه هواء حار، أو بئر فيها هواء تقبل رطوبة الماء، ماتوا. فإن ابتلى واحد بشيء من ذلك، ثم نجى منه، ربما قدر ذلك نعمة وشكر الله عليه. وكذا البصير، إذا عميت عينه، ثم اعيد عليه بصره، عده نعمة وشكره، ولو لم يبتل بالعمى وكان بصيرا دائماً كان غافلا عن الشكر. وهذا غاية الجهل، إذ شكرهم صار موقوفاً على ان تسلب منهم النعمة ثم ترد عليهم في بعض الأحوال، مع ان النعمة في جميع الأحوال اولى بالشكر. فلما كانت رحمة الله واسعة قد عمّت الخلق في جميع احوالهم لم يعدها الجاهلون نعمة. ومثلهم كمثل العبد السوء الذي لو لم يضرب بطر وترك الشكر، وإذا ضرب في غالب الاحوال ترك ساعة شكر المولى على ذلك. ومن تأمل يعلم ان نعمة الله عليه في شربة ماء عند عطش اعظم من ملك الأرض كلها. كما نقل: " ان بعض العلماء دخل على بعض الخلفاء، وفي يده كوز ماء يشربه، فقال له: عظني. فقال: لو لم تعط هذه الشربة إلا ببذل أموالك وملكك كله، ولو لم تعطه بقيت عطشاناً، فهل تعطيه؟ قال: نعم! قال: فكيف تفرح بملك لا يساوي شربة ماء؟! ". هذا مع أن كل عبد لو أمعن النظر في حاله، لرأى من الله نعمة أو نعماً كثيرة تخصه لا يشاركه فيها أحد، أو يشاركه يسير من الناس، إما في العقل، أو في الخلق، أو في الورع والتقوى، أو في الدين، أو في صورته وشخصه، أو اهله وولده، أو مسكنه وبلده، أو رفقائه وأقاربه، أو عزه وجاهه، أو طول عمره وصحة جسمه، أو غير ذلك من محابه. بل نقول: لو كان أحد لا يكون مخصوصاً بشيء من ذلك، فلا ريب في انه يعتقد في نفسه اختصاصه ومزيته في بعض هذه على سائر الخلق. فإن أكثر الناس يعتقدون كونهم اعقل الناس، أو احسن اخلاقاً منهم، مع أن الأمر ليس كذلك. ولذلك لا يشكون من نقصان العقل كما يشكون من قلة المال، ولا يسألون الله أن يعطيهم العقل كما يسألون منه زيادة المال، ويرى من غيره عيوباً يكرهها واخلاقاً يذمها، ولا يرى ذلك من نفسه.

وبالجملة: كل أحد يقدر في نفسه من المحاب وصفة الكمال ما لا يراه في غيره، وإن لم يكن مطابقاً للواقع. ولذلك لو خير بأن يسلب منه ماله ويعطى ما خصص به غيره، لكان لا يرضى به. بل التأمل يعطى: أن كل واحد من أكثر الناس لا يرضى أن يكون في جميع الصفات والافعال والدين والدنيا مثل شخص آخر من الناس كائناً من كان، بل لو وكل إليه الاختيار، وقيل له: انت مخير في صيرورتك مثل من شئت وأردت من أفراد الناس، لم يخير إلا نفسه. وإلى هذا أشار الله ـ سبحانه ـ بقوله:

" كل حزبٍ بما لديهم فرحون "[5].

وإذا كان الأمر هكذا، فانى له لا يشكر الله على ذلك مع قطع النظر عن النعم العامة؟ ولو لم يكن لشخص من نعم الله إلا الأمن والصحة والقوة، لعظمت النعمة في حقه ولم يخرج عن عهدة الشكر. قال رسول الله (ص): " من أصبح آمناً في سربه، معافى في بدنه، وعنده قوت يومه، فكأنما خيرت له الدنيا بحذافيرها ". ومهما فتشت الناس، لوجدتهم يشكون عن أمور وراء هذه الثلاث، مع أنها وبال عليهم. بل لو لم تكن للإنسان نعمة سوى الإيمان الذي به وصوله إلى النعيم المقيم والملك العظيم، لكان جديراً به أن يستعظم النعمة ويصرف في الشكر عمره. بل ينبغي للعاقل ألا يفرح إلا بالمعرفة واليقين والإيمان. ونحن نعلم من العلماء من لو سلم إليه جميع ما دخل تحت ملوك الأرض من الشرق إلى الغرب، من أموال واتباع، وانصار وبلدان وممالك، بدلا عن عشر عشير من علمه لم يأخذه، لرجائه أن نعمة العلم تفضي به إلى قرب الله ـ تعالى ـ في الآخرة. بل لو سلم إليه جميع ذلك عوضاً عن لذة العلم في الدنيا، مع نيله في الآخرة ما يرجوه،لم يأخذه ولم يرض به، لعلمه بأن لذة العلم دائمة لا تنقطع، وثابتة لا تسرق ولا تغصب، وصافية لا كدورة فيها، بخلاف لذات الدنيا.



[1]  الحجر، الآية: 22.

[2]  المشعوذ: الرجل الحيال، الذي يصنع الشعبذة.

[3]  الصافات، الآية: 164.

[4]  إبراهيم، الآية: 34. النحل، الآية: 18.

[5]  المؤمنين، الآية: 54. الروم، الآية: 32.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست