.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

طريق تحصيل الرضا

التسليم

الحزن

عدم الاعتماد

التوكل

فضيلة التوكل

درجات التوكل

السعي لا ينافي التوكل

 

 

فصل

(طريق تحصيل الرضا)

الطريق إلى تحصيل الرضا، أن يعلم أن ما قضى الله ـ سبحانه ـ له هو الاصلح بحاله، وإن لم يبلغ فهمه إلى سيره فيه. مع ان السخط والكراهة لا يفيد شيئاً ولا يتبدل به القضاء. فان ما قدر يكون، وما لم يقدر لم يكن، وحسرة الماضي وتدبير الآتي يذهبان بتركه الوقت بلا فائدة، وتبقى تبعة السخط عليه. فينبغي أن يدهشه الحب لخالقه عن الاحساس بالالم، كما للعاشق، وان ان يهون عليه العلم بعظم الثواب التعب والعناء ـ كما للمريض والتاجر المتحملين شدة الحجامة والسفر ـ فيفوض أمره إلى الله، ان الله بصير بالعباد.

تتميم

(التسليم)

اعلم ان التسليم، ويسمى تفويضاً أيضا، قريب من الرضا، بل هو فوق الرضا، لانه عبارة عن ترك الاعراض في الأمور الواردة عليه، وحوالتها باسرها إلى الله، مع قطع تعلقه عليها بالكلية، بمعنى ألا يكون طبعه متعلقاً بشيء منها. فهو فوق الرضا، إذ في مرتبة الرضا كلما يفعل الله به يوافق طبعه، فالطبع ملحوظ ومنظور له، وفي مرتبة التسليم يجعل الطبع وموافقته ومخالفته كلها موكولة إلى الله ـ سبحانه ـ، وفوق مرتبة التوكل أيضا، إذ التوكل ـ كما يأتي ـ عبارة عن الاعتماد في أموره على الله، فهو بمنزلة توكيل الله في اموره، وكأنه يجعل الله ـ تعالى ـ بمثابة وكيله، فيكون تعلقه باموره باقياً، وفي مرتبة التسليم يقطع العلاقة من الأمور المتعلقة به بالكلية.

ومنها:

الحزن

وهو التحسر والتألم، لفقد محبوب، أو فوت مطلوب. وهو أيضاً كالاعتراض والانكار، مترتب على الكراهة للمقدرات الإلهية.

والفرق: ان الكراهة في الاعتراض اشد من الكراهة في الحزن، كما ان ضد الكراهة ـ اعني الحب في ضدهما ـ بعكس ذلك، أي ظهوره في السرور الذي ضد الحزن اشد من ظهوره في الرضا الذي هو ضد الاعتراض. فان الرضا هو منع النفس في الواردات من الجزع مع عدم كراهة وفرح، والسرور هو منعها فيها عن الجزع مع الابتهاج والانبساط. فالسرور فوق الرضا في الشرافة، كما أن الحزن تحت الاعتراض في الخسة والرذالة، وسبب الحزن وشدة الرغبة في المشتهيات الطبيعية، والميل إلى مقتضيات قوتي الغضب والشهوة، وتوقع البقاء للامور الجسمانية. وعلاجه: ان يعلم ان ما في عالم الكون والفساد من: الحيوان، والنبات، والجماد، والعروض، والأموال، في معرض الفناء والزوال، وليس فيها ما يقبل البقاء، وما يبقى ويدوم هو الأمور العقلية، والكمالات النفسية المتعالية عن حيطة الزمان وحوزة المكان وتصرف الاضداد وتطرق الفساد، واذ تيقن بذلك زالت عن نفسه الخيالات الفاسدة، والاماني الباطلة. فلا يتعلق قلبه بالاسباب الدنيوية، ويتوجه بشراشره إلى تحصيل الكمالات العقلية، والسعادات الحقيقية الموجبة للاتصال بالجواهر النورية الباقية، والمجاورة للانوار القادسة الثابتة، فيصل إلى مقام البهجة والسرور، ولا تلحقه احزان عالم الزور، كما اشير إليه في الكتاب الالهي بقوله:

" ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون "[1].

وفي إِخبار داود (ع): " يا داود! ما لاوليائي والهم بالدنيا؟ ان الهم يذهب حلاوة مناجاتي من قلوبهم، ان محبي من اوليائي ان يكونوا روحانيين لا يغتمون ". والحاصل: ان حب الفانيات والتعلق بما من شأنه الفوات خلاف مقتضى العقل، وحرام على العاقل أن يفرح بوجود الأمور الفانية، أو يحزن بزوالها. ولقد قال سيد الأوصياء ـ عليه آلاف التحية والثناء ـ: " ما لعلي وزينة الدنيا، وكيف افرح بلذة تفنى، ونعيم لا يبقى؟! " بل ينبغي أن يرضى نفسه بالموجود، ولا يغتم بالمفقود، ويكون راضياً بما يرد عليه من خير وشر. وقد ورد في الآثار: " ان الله ـ تعالى ـ بحكمته وجلاله، جعل الروح والفرح في الرضا واليقين "، ومن رضى بالموجود ولا يحزن بالمفقود، فقد فاز بأمن بلا فزع، وسرور بلا جزع، وفرح بلا حسرة، ويقين بلا حيرة، وما لطالب السعادة أن يكون أدون حالاً من سائر طبقات الناس، فان كل حزب بما لديهم فرحون، كالتاجر بالتجارة، والزارع بالزراعة، بل الشاطر بالشطارة، والقواد بالقيادة، مع أن ما هو السبب والموجب المفرح في الواقع ونفس الأمر ليس إلا لأهل السعادة والكمال، وما لغيرهم محض التوهم ومجرد الخيال. فينبغي لطالب السعادة أن يكون فرحاناً بما عنده من الكمالات الحقيقية، والسعادات الأبدية، ولا يحزن على فقد الزخارف الدنيوية، والحطام الطبيعية، ويتذكر ما خاطب الله به نبيه (ص):

" ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى "[2].

ومن تصفح فرق الناس، يجد أن كل فرقة منهم فرحهم بشيء من الأشياء، وبه اهتزازهم وقوامهم ونظام أمره. فالصبيان فرحهم باللعب وتهيئة اسبابه، وهو في غاية القبح والركاكة عند من جاوز مرتبتهم. والبالغون حد الرجولية، بعضهم فرحان بالدرهم والدينار، وبعضهم بالضياع والعقار، وآخر بالاتباع والأنصار، وفرقة بالنسوان والأولاد، وطائفة بالحرف والصنايع، وبعضهم بالحسب والنسب، والآخر بالجاه والمنصب، وبعضهم بالقوة الجسمانية، وآخر بالجمال الصوري، وطائفة بالكمالات الدنيوية: كالخط، والشعر، وحسن الصوت، والطب، والعلوم الغريبة، وغير ذلك، حتى ينتهي إلى من لا يفرح إلا بالكمالات النفسية والرياسات المعنوية، وهم أيضاً مختلفون، فبعضهم غاية فرحه بالعبادة والمناجاة، وآخر بمعرفة حقائق الأشياء، حتى يصل إلى من ليس فرحه إلا بالانس بحضرة الربوبية، والاستغراق في لجة أنواره، وسائر المراتب عنده فيء زائل وخيال باطل. ولا ريب في أن العاقل يعلم أن ما ينبغي أن يفرح ويبتهج به حصول هذه المرتبة، وسائر الأمور كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء. فلا ينبغي للعاقل أن يحزن بفقدها ويفرح بوجودها. ثم من تأمل، يجد أن الحزن ليس أمراً وجودياً لازماً، بل هو أمر اختياري يحدثه الشخص في نفسه بسوء اختياره. إذ كلما يفقد من شخص ويحزن لأجله ليس موجوداً لكثير من الناس، بل ربما لم يملكوه في مدة عمرهم أصلا، ومع ذلك لا تجدهم محزونين على عدمه، بل فرحون راضون، ولو كان الحزن لازماً لفقد هذا الأمر لكان كن من فقده محزوناً، وليس كذلك. وايضا كل حزن يعرض لاجل مصيبته يزول بعد زمان ويتبدل بالسرور، ولو كان الحزن لاجلها امراً ضرورياً لازماً لما زال أصلا.

ثم العجب من العاقل أن يحزن من فقد الأمور الدنيوية، مع أنه يعلم ان الدنيا دار الفناء، وزخارفها متنقلة بين الناس، ولا يمكن بقاؤها لأحد، وجميع الأسباب الدنيوية ودائع الله ينتقل إلى الناس على سبيل التبادل والتناوب. ومثلها مثل شمامة تدار في مجلس بين أهله على التناوب، يتمتع بها في كل لحظة واحد منهم، ثم يعطيها غيره. فطامع البقاء للحطام الدنيوية كمن طمع في ملكية الشمامة واختصاصها به، إذا وصلت إليه نوبة الاستمتاع، وإذا استردت منه عرض له الحزن والخجلة. وما المال والأهلون إلا ودائع، ولا بد يوماً أن ترد الودائع. فلا ينبغي للعاقل أن يغتم ويحزن لاجل رد الوديعة، كيف والحزن بردها كفران للنعمة؟ إذ اقل مراتب الشكر ان ترد الوديعة إلى صاحبها على طيب النفس، لا سيما إذا استرد الاخس ـ اعني الخبائث الدنيوية ـ، وبقى الاشرف ـ اعني النفس وكمالاتها العلمية والعملية ـ، فينبغي لكل عاقل إلا يعلق قلبه بالامور الفانية، حتى لا يحزن بفقدها. قال سقراط: " إني لم أحزن قط، إذ ما أحببت قط شيئاً حتى أحزن بفوته، ومن سره ألا يرى ما يسوؤه، فلا يتخذ شيئاً يخاف له فقداً ".

ومنها:

عدم الاعتماد

أو ضعفه في اموره على الله، والوثوق بالوسائط، والنظر إليها فيها. وسببه: اما ضعف اليقين، أو ضعف القلب، أو كلاهما. فهو من رذائل قوتي العاقلة والغضب. ولا ريب في أنه من المهلكات العظيمة وينافي الإيمان، بل هو من شعب الشرك. ولذا ورد في ذمه من الآيات والأخبار ما ورد، قال الله ـ سبحانه ـ:

" إن الذين يدعون من دون الله عباد أمثالكم "[3]. وقال: " إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه "[4]. وقال: " ولله خزائن السماوات والارض ولكن المنافقين لا يفقهون "[5].

وفي أخبار داود (ع): " ما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي عرفت ذلك من نيته، إلا قطعت أسباب السماوات من يديه، واسخطت الأرض من تحته، ولم ابال بأي واد هلك ". قال رسول الله (ص): " من اغتر بالعبيد اذله الله ". وقيل: " مكتوب في التوراة: ملعون من ثقته بإنسان مثله ". فينبغي للمؤمن ان يتخلى عنه باكتساب ضده، أعني التوكل، كما يأتي.

فصل

التوكل ـ فضيلة التوكل ـ درجات التوكل ـ السعي لا ينافي التوكل ـ الأسباب التي لا ينافي السعي إليها التوكل ـ اعقل وتوكل ـ درجات الناس في التوكل ـ تفنيد زعم ـ طريق تحصيل التوكل.

التوكل اعتماد القلب في جميع الأمور على الله. وبعبارة اخرى: حوالة العبد جميع اموره على الله، وبعبارة اخرى: هو التبري من كل حول وقوة، والاعتماد على حول الله وقوته. وهو موقوف على أن يعتقد اعتقاداً جازماً بأنه لا فاعل إلا الله، وانه لا حول ولا قوة إلا بالله، وان له تمام العلم والقدرة على كفاية العباد، ثم تمام العطف والعناية والرحمة بجملة العباد والآحاد، وأنه ليس وراء منتهى قدرته قدرة، ولا وراء منتهى علمه علم، ولا وراء منتهى عنايته عناية. فمن اعتقد ذلك اتكل قلبه لا محالة على الله وحده، ولم يلتفت إلى غيره، ولا إلى نفسه اصلاً. ومن لم يجد ذلك من نفسه فسببه، إما ضعف اليقين، أو ضعف القلب، ومرضه باستيلاء الجبن عليه وانزعاجه بسبب الاوهام الغالبة عليه. فان القلب الضعيف ينزعج تبعاً للوهم، وطاعة له من غير نقصان في اليقين، كانزعاجه أن يبيت مع ميت في قبر أو فراش، مع يقينه بأنه جماد في الحال لا يتصور منه إضرار، فلا ينبغي أن يخاف منه ويفر عنه، كما لا يفر من سائر الجمادات. وكذا من كان ضعيف القلب وتناول العسل ـ مثلاً ـ، فشبه العسل بين يديه بالعذرة، فربما نفر طبعه لضعف قلبه، وتعذر عليه ان يتناوله، مع يقينه بأنه عسل ولا مدخلية للعذرة فيه. فالتوكل لا يتم إلا بقوة اليقين وقوة القلب جميعاً، إذ بهما يحصل سكون القلب وطمأنينته، فالسكون في القلب شيء آخر، واليقين شيء أخر. فكم من يقين لا طمأنينة معه، كما قال ـ تعالى ـ:

" أولم تؤمن؟ قال: بلى! ولكن ليطمئن قلبي "[6].

فالتمس أن يشاهد إحياء الميت بعينه ليثبت اليقين في خياله، فان النفس تتبع الخيال وتطمئن به، ولا تطمئن باليقين في ابتداء أمره إلى ان تبلغ درجة النفس المطمئنة، وذلك لا يكون في البداية. وكم من مطمئن لا يقين له، كأرباب الملل والمذاهب الباطلة. فان اليهودي مطمئن القلب إلى تهوده، وكذا النصراني، ولا يقين لهما أصلا، وإنما يتبعون الظن وما تهوى الانفس. وإذا توقف التوكل على اليقين وقوة القلب، وارتفع بضعف أحدهما، يظهر أن التوكل من الفضائل المتعلقة بقوتي العاقلة والغضبية معاً، وضده ـ اعني عدم التوكل ـ من رذائل أحدهما أو كليهما. ثم، إنك قد عرفت في باب التوحيد، أن عماد التوكل وما يبتني عليه، هو المرتبة الثالثة من التوحيد، وهي أن تنكشف للعبد باشراق نور الحق بأنه لا فاعل إلا هو، وأن ما عداه من الأسباب والوسائط مسخرات مقهورات تحت قدرته الازلية. فطالب التوكل يلزم عليه أن يحصل هذه المرتبة من التوحيد ليحصل له التوكل. وقد عرفت ـ أيضاً ـ أن المرتبة الثانية منه ـ اعني التوحيد الاعتقادي ـ إذا قويت ربما اورثت حال التوكل، إلا ان التوكل كما ينبغي موقوف على المرتبة الثالثة منه.

فصل

(فضيلة التوكل)

التوكل منزل من منازل السالكين ومقام من مقامات الموحدين، بل هو أفضل درجات الموقنين. ولذا ورد في مدحه وفضله وفي الترغيب فيه ما ورد من الكتاب والسنة، قال الله ـ تعالى ـ:

" وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين "[7]. وقال: " وعلى الله فليتوكل المؤمنون "[8]. وقال: " إن الله يحب المتوكلين "[9]. وقال: " ومن يتوكل على الله فهو حسبه "[10]. وقال: " ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم "[11].

أي عزيز لا يذل من استجار به، فلا يضع من لاذ بجنابه، وحكيم لا يقصر عن تدبير من توكل على تدبيره، وقال رسول الله (ص): " من انقطع إلى الله، كفاه الله كل مؤنة، ورزقه من حيث لا يحتسب. ومن انقطع إلى الدنيا، وكله الله إليها ". وقال (ص): " من سره ان يكون اغنى الناس، فليكن بما عند الله اوثق منه بما في يده ". وقال (ص): " لو انكم تتوكلون على الله حق توكله، لرزقتم كما ترزق الطيور، تغدو خماصاً وتروح بطانا ". وعن علي بن الحسين ـ عليهما السلام ـ قال: " خرجت حتى انتهيت إلى هذا الحائط، فاتكأت عليه، فإذا رجل عليه ثوبان ابيضان ينظر في تجاه وجهي، ثم قال: يا علي بن الحسين! مالي أراك كئيباً حزيناً؟ أعلى الدنيا؟ فرزق الله حاضر للبر والفاجر. قلت: ما على هذا أحزن، وإنه لكما تقول. قال: فعلى الآخرة؟ فوعد صادق يحكم فيه ملك قاهر قادر. قلت: ما على هذا احزن، وإنه لكما تقول. فقال: مم حزنك؟ قلت: مما نتخوف من فتنة ابن الزبير وما فيه للناس. قال: فضحك، ثم قال: يا علي بن الحسين! هل رأيت أحداً دعا الله فلم يجبه؟ قلت: لا! قال: فهل رأيت أحداً توكل على الله فم يكفه؟ قلت: لا! قال: فهل رأيت أحداً سأل الله فلم يعطه؟ قلت: لا!... ثم غاب عني "، ولعل الرجل كان هو الخضر على نبينا وعليه السلام ـ. وقال الصادق (ع): " اوحى الله إلى داود: ما اعتصم بي عبد من عبادي دون أحد من خلقي، عرفت ذلك من نيته، ثم تكيده السماوات والارض ومن فيهن، إلا جعلت له المخرج من بينهن ". وقال (ع): " إن الغنى والعز يجولان، فإذا ظفرا بموضع التوكل اوطنا ". وقال (ع): " من أعطى ثلاثاً لا يمنع ثلاثاً: من أعطى الدعاء أعطي الاجابة، ومن اعطى الشكر أعطي الزيادة، ومن أعطى التوكل اعطي الكفاية. ثم قال أتلوت كتاب الله ـ عز وجل ـ (ومن يتوكل على الله فهو حسبه)، وقال: (ولئن شكرتم لازيدنكم)، وقال: (ادعوني استجب لكم)؟ ". وقال (ع): " أيما عبد أقبل قبل ما يحب الله ـ تعالى ـ اقبل الله قبل ما يحب ومن اعتصم بالله عصمه الله، ومن اقبل على الله قبله وعصمه، لم يبال لو سقطت السماء على الأرض، أو كانت نازلة نزلت على أهل الأرض فتشملهم بلية، كان في حزب الله بالتقوى من كل بلية، أليس الله ـ تعالى ـ يقول: (إن المتقين في مقام امين)؟ ". وقال (ع): " ان الله ـ تعالى ـ يقول: وعزتي وجلالي ومجدي وارتفاعي على عرشي! لأقطعن امل كل مؤمل من الناس في غيري باليأس، ولأكسونه ثوب المذلة عند الناس، ولا نحينه من قربي، ولأبعدنه من وصلي، أيؤمل غيري في الشدائد والشدائد بيدي ويرجو غيري؟ ويقرع بالفكر باب غيري، وبيدي مفاتيح الابواب وهي مغلقة؟ وبابي مفتوح لمن دعاني، فمن ذا الذي املني لنوائبه فقطعته دونها، ومن ذا الذي رجاني لعظيمة فقطعت رجاءه مني؟ جعلت آمال عبادي محفوظة، فلم يرضوا بحفظي، وملأت سماواتي ممن لا يمل من تسبيحي، وأمرتهم إلا يغلقوا الابواب بيني وبين عبادي، فلم يثقوا بقولي، ألم يعلم من طرقته نائبة من نوائبي أنه لا يملك كشفها أحد غيري إلا من بعد اذني؟ فما لي اراه لا هياً عني؟ اعطيته بجودي ما لم يسألني، ثم انتزعته عنه فلم يسألني رده، وسأل غيري، أفتراني أبداً بالعطاء قبل المسألة؟ ثم اسأل فلا اجيب سائلي؟ أبخيل أنا فيبخلني عبدي؟ أَوَ ليس الجود والكرم لي؟ أو ليس العفو والرحمة بيدي؟ أو لست انا محل الآمال؟ فمن يقطعها دوني؟ أفلا يخشى المؤملون أن يؤملوا غيري؟ فلو أن أهل سماواتي واهل ارضي املوا جميعاً، ثم اعطيت كل واحد منهم مثل ما امل الجميع، ما انتقص من ملكي مثل عضو ذرة، وكيف ينقص ملك انا قيمه؟ فيا بؤساً للقانطين من رحمتي! ويا بؤساً لمن عصاني ولم يراقبني! "[12].

فصل

(درجات التوكل)

للتوكل في الضعف والقوة ثلاث درجات:

الأولى ـ أن يكون حاله في حق الله والثقة بعنايته وكفالته كحاله بالثقة بالوكيل، وهذه اضعف الدرجات، ويكثر وقوعها ويدوم مدة مديدة، ولا ينافي اصل التدبير والاختيار، بل ربما زاول كثيراً من التدبيرات بسعيه واختياره. نعم ينافي بعض التدبيرات، كالتوكل على وكيله في الخصومة، فانه يترك تدبيره من غير جهة الوكيل، ولكن لا يترك الذي اشار إليه وكيله، ولا التدبير الذي عرفه من عادته وسنته دون تصريح اشارته.

الثانية ـ أن تكون حاله مع الله كحال الطفل مع امه، فانه لا يعرف غيرها، ولا يفزع إلا إليها، ولا يعتمد إلا عليها. فان رآها تعلق في كل حال بذيلها، وان ورد عليه أمر في غيبتها كان اول سابق لسانه يا اماه!. والفرق بين هذا وسابقه، ان هذا متوكل قد فنى في موكله عن توكله، أي ليس يلتفت قلبه إلى التوكل، بل التفاته إنما هو إلى المتوكل عليه فقط، فلا مجال في قلبه لغير المتوكل عليه. وأما الأول فتوكل بالكسب والتكلف، وليس فانيا عن توكله، أي له التفات إلى توكله، وذلك شغل صارف عن ملاحظة المتوكل عليه وحده. وهذا أقل وقوعاً ودواماً من الأول، إذ حصوله إنما هو للخواص، وغاية دوامه أن يدوم يوماً أو يومين، وينافي التدبيرات، إلا تدبير الفزع إلى الله بالدعاء والانتهال، كتدبير الطفل في التعلق بامه فقط.

الثالثة ـ وهي اعلى الدرجات، أن يكون بين يدي الله في حركاته وسكناته مثل الميت بين يدي الغاسل، بأن يرى نفسه ميتاً، وتحركه القدرة الازلية كما يحرك الغاسل الميت. وهو الذي قويت نفسه، ونال الدرجة الثالثة من التوحيد. والفرق بينه وبين الثاني، أن الثاني لا يترك الدعاء والتضرع كما ان الصبي يفزع إلى امه، ويصيح ويتعلق بذيلها، ويعدو خلفها، وهذا ربما يترك الدعاء والسؤال ثقة بكرمه وعنايته، فهذا مثال صبي علم أنه إن لم يرص بامه فالأم تطلبه، وإن لم يتعلق بذيلها فهي تحمله، وإن لم يسأل اللبن فهي تسقيه. ومن هذا القسم توكل إبراهيم الخليل (ص) لما وضع في المنجنيق ليرمى به إلى النار، واشار إليه روح الامين بسؤال النجاة والاستخلاص من الله ـ سبحانه ـ فقال: " حسبي من سؤالي علمه بحالي ". وهذا نادر الوقوع، عزيز الوجود، فهو مرتبة الصديقين، وإذا وجد فدوامه لا يزيد على صفرة الوجل، أو حمرة الخجل، وهو ينافي التدبيرات ما دام باقياً، إذ يكون صاحبه كالمبهوت. ثم، توكل العبد على الله قد يكون في جميع اموره، وقد يكون في بعضها. وتختلف درجات ذلك بحسب كثرة الأمور المتوكل فيها وقلتها. وقال الكاظم (ع) في قوله ـ عز وجل ـ:

" ومن يتوكل على الله فهو حسبه "[13].

" التوكل على الله درجات، منها أن تتوكل على الله في امورك كلها، فما فعل بك كنت عنه راضيا، تعلم انه لا يألوك خيراً وفضلاً، وتعلم ان الحكم في ذلك له، فتوكل على الله بتفويض ذلك إليه، وثق به فيها وفي غيرها ". ولعل سائر درجات التوكل أن يتوكل على الله في بعض اموره دون بعض، وتعدد الدرجات حينئذ بحسب كثرة الأمور المتوكل فيها وقلتها.

فصل

(السعي لا ينافي التوكل)

اعلم أن الأمور الواردة على العباد إما أن تكون خارجة عن قدرة العباد ووسعهم، بمعنى أنه لا تكون لها أسباب ظاهرة قطعية أو ظنية لجلبها أو دفعها، أو تكون لها أسباب جالبة لها أو دافعة اياها، إلا أن العبد لا يتمكن منها.

فمقتضى التوكل فيها ترك السعي بالتمحلات والتدبيرات الخفية، وحوالتها على رب الارباب، ولو دبر في تغييرها بالتمحلات والتكلفات، لكان خارجاً عن التوكل راساً، أو لا تكون خارجة عن قدرتهم، بمعنى أن لها اسباباً أو ظنية يمكن للعبد ان يحصلها ويتوصل بها إلى جلبها أو دفعها. فالسعي في مثلها لا ينافي التوكل، بعد أن يكون وثوقه واعتماده بالله دون الأسباب. فمن ظن ان معنى التوكل ترك الكسب بالبدن، وترك التدبير بالعقل رأساً، والسقوط على الأرض كالخرقة الملقاة، فقد أبعد عن الحق، لان ذلك محرم في الشرع الاقدس. فان الشارع كلف الإنسان بطلب الرزق بالاسباب التي هداه الله إليها، من زراعة، أو تجارة، أو صناعة، أو غير ذلك مما أحله الله، وبابقاء النسل بالتزويج، وكلفه بأن يدفع عن نفسه الأشياء المؤذية بالتوسل إلى الأسباب المعينة لدفعها. وكما ان العبادات أمور أمر الله ـ تعالى ـ عباده بالسعي فيها، ليحصل لهم بها التقرب إليه والسعادات في دار الآخرة، فكذلك طلب الحلال ودفع الضرر والالم عن النفس والاهل والعيال أمور امرهم الله ـ تعالى ـ، ليحصل لهم بها التوسل إلى العبادات وما يؤدي إلى التقرب والسعادة. ولكنه ـ سبحانه ـ كلفهم أيضاً بألا يثقوا إلا به، ولا يعتمدوا على الأسباب. كما انه ـ سبحانه ـ كلفهم بألا يتكلوا على أعمالهم الحسنة، بل على فضله ورحمته. فمعنى التوكل المأمور به في الشريعة: اعتماد القلب على الله في الأمور كلها، وانقطاعه عما سواه. ولا ينافيه تحصيل الأسباب إذا لم يسكن إليها، وكان سكونه إلى الله ـ سبحانه ـ دونها مجوزاً في نفسه أن يؤتيه الله مطلوبه من حيث لا يحتسب، دون هذه الأسباب التي حصلها، وأن يقطع الله هذه الأسباب عن مسبباتها.

 

[1]  يونس، الآية: 62.

[2]  طه، الآية: 131.

[3]  الأعراف، الآية: 193.

[4]  العنكبوت: الآية: 17.

[5]  المنافقون، الآية: 7.

[6]  البقرة، الآية: 260.

[7]  المائدة، الآية: 26.

[8]  آل عمران، الآية: 122، 160. المائدة، الآية: 12. التوبة، الآية: 52. إبراهيم، الآية: 11. المجادلة: 10. التغابن، الآية:13.

[9]  آل عمران، الآية: 159.

[10]  الطلاق، الآية: 3.

[11]  الأنفال، الآية: 50.

[12]  صححنا الأحاديث على (أصول الكافي): ج2، باب التفويض إلى الله والتوكل عليه. وعلى (البحار): باب التوكل والتفويض والرضا: مج15 2/153، ط (امين الضرب). وللعلامة (المجلسي) ـ قدس سره ـ في الموضع المذكور، في الحديث الخامس، تحقيق دقيق وبيان لطيف، لا يسع المقام ذكره هنا، فمن اراد الوقوف عليه فعليه بمراجعة الموضع المذكور.

[13]  الطلاق، الآية: 3.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست