.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

تحقق رؤية الله في الآخرة ولذة لقائه

الطريق إلى الرؤية واللقاء

تفاوت المؤمنين في محبة الله

الواجبات أظهر الموجودات

 

     

فصل

(تحقق رؤية الله في الآخرة ولذة لقائه)

اعلم ان معرفة الله إذا حصلت في الدنيا لم تكن خالية عن كدورة ما ـ كما اشير إليه ـ، إلا أنه اكتسب اصلها في الدنيا فيزيدها في الآخرة انكشافاً وجلاء بقدر صفاء القلوب وزكائها وتجردها عن العلائق الدنيوية، إلى أن يصير اجلى واظهر من المشاهدة بمراتب، فالاختلاف بين ما يحصل في الدنيا من المعرفة وما يحصل في الآخرة من المشاهدة واللقاء إنما هو بزيادة الانكشاف والجلاء.

مثال ذلك: ان من رأى إنساناً، ثم غض بصره، وجد صورته حاضرة في خياله كأنه ينظر إليها، ولكن إذا فتح العين وابصر، ادرك تفرقة بين حالتي غض العين وفتحها، ولا ترجع التفرقة إلى اختلاف بين الصورتين لاتحادهما، بل الافتراق انما هو بمزيد الكشف والوضوح، فالصورة المتخيلة صارت بالرؤية أتم انكشافاً، فاذاً الخيال أول الادراك، والرؤية استكمال لادراك الخيال، وهي غاية الكشف، لا لأنها في العين، بل لو خلق الله هذا الادراك الكامل المتجلي في الصدر أو الجبهة أو أي عضو فرض استحق ان يسمى رؤية. وإذا فهمت هذا في المتخيلات ـ أي المدركات التي تدخل في الخيال من الصور والاجسام ـ فقس عليه الحال في المعلومات ـ أي ما يدرك بالعقل ـ، ولا يدخل في الخيال كذات الباري، وكل ما ليس بجسم، كالعلم والقدرة والارادة وغيرها، فان لمعرفتها وادراكها أيضاً درجتين: إحداهما: اولى، والثانية: استكمال لها، وبينهما من التفاوت في مزيد الكشف والايضاح ما بين المتخيل والمرئي، فتسمى الثانية بالاضافة إلى الأولى لقاء ومشاهدة ورؤية، وهذه التسمية حق، لان الرؤية سميت رؤية لأنها غاية الكشف، وكما ان سنة الله جارية بأن تطبق الاجفان يمنع من تمام الكشف الذي هو الرؤية في المتخيلات، فكذلك سنته ان النفس ما دامت محجوبة بالبدن وعوارضه وشهواته، لم يحصل لها تمام الكشف الذي هي المشاهدة واللقاء في المعلومات الخارجية عن الخيال، فإذا ارتفع بالموت حجاب البدن، وخلصت النفس، لم يكن بعد في غاية التنزه عن كدورات الدنيا، بل كانت ملوثة بها، إلا ان النفوس مختلفة في ذلك: فمنها: ما تراكم عليه الخبث والصدى، فصار كالمرآة التي فسد بطول تراكم الخبث جوهرها، فلا تقبل الاصلاح والتصقيل. وهؤلاء هم المحجوبون عن ربهم ابد الآباد. نعوذ بالله من ذلك. ومنها: ما لم ينته إلى حد الرين والطبع، ولم يخرج عن قبول التزكية والتصقيل، وهذه النفوس غير متناهية الدرجات والمراتب. إذ المتلوث بالكدورات عرض عريض في (الواقع) بين الرين والطبع، وبين التزكية التامة والتجرد الكلي الذي لم يكن فيه شوب من الكدورات. وهذه النفوس المتلوثة على اختلاف درجاتها ومراتبها تحتاج إلى التطهير لتستعد للمشاهدة واللقاء بتجلي الحق فيها، وتطهيرها انما هو بنوع عقوبة من العقوبات الأخروية. وهي كمراتب التلوث غير متناهية الدرجات اولها سكرة الموت، وآخرها الدخول في النار، وما بينهما عقوبات البرزخ واهوال القيامة بانواعها، فكل نفس لا بد لها من عقوبة من هذه العقوبات لتتطهر من كدورتها: فمنها: ما يتطهر بمجرد سكرة الموت وشدة النزع، ومنها: ما يتطهر بها، وينقص عقوبات البرزخ، ومنها: ما لا يتطهر إلا بأن يذوق بعض عقوبات الآخرة، ومنها ما لا يحصل تطهيره إلا بالعرض على النار عرضاً يقمع منها الخبث الذي تدنست به. فربما كان ذلك لحظة حقيقة، وربما كان سبعة آلاف سنة ـ كما وردت به الأخبار ـ وربما كان اقل أو اكثر، ولا يعلم تفصيل ذلك إلا الله ـ سبحانه ـ، والمحجوبون الذين بلغوا حد الرين والطبع يكونون مخلدين في النار.

ثم النفوس القابلة للتطهير إذا اكمل الله تطهيرها وتزكيتها، وبلغ الكتاب أجله، استعدت حينئذ لصفائها ونقائها عن الكدورات لأن تتجلى فيها جلية الحق، فتتجلى فيها تجلياً يكون انكشاف تجليه بالاضافة إلى ما علمته وعرفته كانكشاف تجلى المرئيات بالاضافة إلى المتخيلات، وهذه المشاهدة والتجلي تسمى رؤية، لأنه في الظهور والجلاء والوضوح والانكشاف كالرؤية بالبصر، بل هو فوقه بمراتب شتى، إذ الرائي في الأول العقل، وفي الثاني البصر، وشتان ما بينهما، فان الاختلاف في مراتب الادراك والرؤية بحسب اختلاف نورية المدرك، واي نسبة لنورية البصر إلى نورية العقل واشراقه، وما للعقل من النفوذ في حقائق الأشياء وبواطنها أنى يكون للبصر.

وقد ظهر مما ذكر: أنه لا يفوز بدرجة الرؤية والمشاهدة إلا العارفون في الدنيا، لان المعرفة هي البذر الذي ينقلب في الآخرة مشاهدة، كما تنقلب النواة شجرة والبذر زرعا، ومن لا نواة له كيف يحصل له النخل، ومن لم يلق البذر كيف يحصد الزرع، فمن لم يعرف الله في الدنيا فكيف يراه في الآخرة، ومن لم يجد لذة المعرفة في الدنيا فلا يجد لذة النظر في العقبى، إذ لا يستأنف لاحد في الآخرة ما لم يصحبه في الدنيا، فلا يحصد المرء إلا ما زرع، ولا يحشر إلا على ما مات عليه، ولا يموت إلا على ما عاش عليه.

ولما كانت المعرفة على درجات متفاوتة، يكون التجلي أيضاً على درجات متفاوتة، فاختلاف التجلي بالاضافة إلى اختلاف المعارف كاختلاف النبات بالاضافة إلى اختلاف البذور، إذ يختلف لا محالة: بكثرتها، وقلتها، وجودتها، ورداءتها، وضعفها. ثم كلما كان التجلي والمشاهدة اقوى، كان ما يترتب عليه من حب الله والإنس به اشد واقوى، وكلما كان الحب والإنس أزيد، كان ما يترتب عليه من البهجة واللذة أعلى وأقوى، وتبلغ هذه اللذة مرتبة لا تؤثر عليها لذة اخرى من نعيم الجنة، بل ربما بلغت حداً تتأذى من كل نعيم سوى لقاء الله ومشاهدته، فالنعمة والبهجة في الجنة بقدر حب الله، وحب الله بقدر معرفته، فاصل السعادات هي المعرفة التي عبر الشرع عنه بـ(الإيمان).

فان قيل : اللقاء والمشاهدة ان كانت زيادة كشف للمعرفة حتى تتحقق بين لذة الرؤية ولذة المعرفة نسبة، لكانت لذة اللقاء والرؤية قليلة، وان كانت اضعاف لذة المعرفة، إذ هي في الدنيا ضعيفة. فتضاعفها إلى أي حد فرض لا ينتهي في القوة، إلا ان يستحقر في جنبها سائر لذات الجنة ونعيمها.

قلنا: هذا الاستحقار والتقليل للذة المعرفة باعثه عدم المعرفة أو ضعفها، فان من خلا عن المعرفة، أو كانت له معرفة ضعيفة وقلبه مشحون بعلائق الدنيا لا يدرك لذتها، فمن كملت معرفته وصفت عن علائق الدنيا سريرته، قويت بهجته واشتدت لذته بحيث لا توازنها لذة، فان للعارفين في معرفتهم وفكرتهم ومناجاتهم لله ـ عز وجل ـ ابتهاجات ولذات لو عرضت عليهم الجنة ونعيمها في الدنيا بدلاً عنها لم يستبدلوها بها. ثم هذه اللذة مع كمالها لا نسبة لها اصلاً إلى لذة اللقاء والمشاهدة، كما لا نسبة للذة خيال المعشوق إلى رؤيته، ولا للذة استنشاق روائح الاطعمة الطيبة إلى ذوقها واكلها، ولا للذة اللمس باليد إلى لذة الوقاع.

ومما يوضح ذلك، ان لذة النظر إلى وجه المعشوق تتفاوت بأمور:

احدها ـ كمال جمل المعشوق ونقصانه.

وثانيها ـ كمال قوة الحب والشهوة وضعفه.

وثالثها ـ كمال الادراك وضعفه، فان الالتذاذ برؤية المعشوق في ظلمة، أو من بعد، أو من وراء ستر رقيق، ليس كالالتذاذ برؤيته على قرب من غير ستر عند كمال الضوء.

ورابعها ـ عدم الآلام الشاغلة والعوائق المشوشة ووجودها، فان التذاذ الصحيح الفارغ المتجرد للنظر إلى المعشوق ليس كالتذاذ الخائف المذعور أو المريض المتألم، أو المشغول قلبه بمهم من المهمات، فلو كان العاشق ضعيف الحب، ناظراً إلى معشوقه على بعد ومن وراء ستر رقيق، مشغول القلب بمهمات، مجتمعة عليه حيات وعقارب تؤذيه وتلذعه، لم يكن خالياً عن لذة ما في هذه الحالة من مشاهدة معشوقه، إلا أنه إذا فرض ارتفاع الستر واشراق الضوء، واندفاع الحيات والعقارب المؤذية، وفراغ قلبه من المهمات، وحدوث عشق مفرط، وشهوة قوية، بحيث بلغت أقصى الغايات، تضاعفت لذته، بحيث لم تكن للذته الأولى نسبة إليها بوجه. فكذلك الحال في نسبة لذة المعرفة في الدنيا مع حجاب البدن والاشتغال بمهماته، ومع تسلط حيات الشهوات وعقاربها: من الجوع، والعطش، والشبق، والغضب، والحزن، والهم، ومع ضعف النفس وقصورها ونقصانها في الدنيا عن التشوق إلى الملأ الأعلى لالتفاتها إلى اسفل السافلين إلى لذة اللقاء والمشاهدة التي يندفع فيها جميع ذلك عن النفس، فالعارف لعدم خلوه في الدنيا عن هذه العوائق والمشوشات وان قويت معرفته لا يمكن ان تكمل لذته وتصفو بهجته، وان ضعفت عوائقه ومشوشاته في بعض الأحوال وبقى سالماً، لاح له من جمال المعرفة ما تعظم لذته وبهجته ويدهش عقله، بحيث يكاد القلب يتفطر لعظمته، إلا ان ذلك كالبرق الخاطف، ولا يمكن ان يدوم، إذ الخلو عن العوائق والمشوشات ليس يمكن ان يدوم، بل هو آني، ويعرض بعد الآن من الشواغل والافكار والخواطر ما يشوشه وينقصه، وهذه ضرورة قائمة في الحياة الفانية. فلا تزال هذه اللذة منقصة إلى الموت. وانما الحياة الطيبة بعده، وانما العيش عيش الآخرة، فان الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون. ولذا كل عارف كملت معرفته في الدنيا وأحب لقاء الله يحب الموت ولا يكرهه، إلا من حيث ارادة زيادة استكمال في المعرفة، فان المعرفة ـ كما عرفت ـ بمنزلة البذر. وكلما كثرت المعرفة بالله وبصفاته وبأفعاله وبأسرار مملكته قويت المشاهدة واشتدت، وكثر النعيم في الآخرة وعظم، كما انه كلما كثر البذر وحسن كثر الزرع وحسن، ولا ريب في ان المعرفة لا تنتهي إلى مرتبة لا تكون فوقها مرتبة، إذ بحر المعرفة لا ساحل له. والاحاطة بكنه جلال الله محال. فالعارف وان قويت معرفته، ربما احب طول العمر وكره الموت لتزداد معرفته.

ثم أهل السنة قالوا: " ان الرؤية في الآخرة مع تنزهها عن التخيل والتصور والتقدير بالشكل والصورة والتحديد بالجهة والمكان: تكون بالعين دون القلب ": (وهو عندنا باطل): إذ الرؤية بالعين محال في حق الله ـ تعالى ـ، سواء كانت في الدنيا أو في الآخرة، فكما لا تجوز رؤية الله ـ سبحانه ـ في الدنيا بالعين والبصر، فكذلك لا تجوز في الآخرة، وكما تجوز رؤيته في الآخرة بالعقل والبصيرة لاهل البصائر ـ اعني غاية الانكشاف والوضوح بحيث تتأدى إلى المشاهدة واللقاء ـ فكذلك تجوز رؤيته في الدنيا بهذا المعنى، والحجاب بينه وبين خلقه ليس إلا الجهل وقلة المعرفة دون الجسد، فان العارفين واولياء الله يشاهدونه في الدنيا في جميع احوالهم ومنصرفاتهم، وإن كان الحاصل في الآخرة ازيد انكشافاً واشد انجلاء بحسب زيادة صفاء النفوس وزكائها ومجردها عن العلائق الدنيوية ـ كما تقدم مفصلاً ـ، وقد ثبت ذلك من أئمتنا الراشدين العارفين بأسرار النبوة، روى شيخنا الأقدم (محمد بن يعقوب الكليني) وشيخنا الصدوق (محمد بن علي بن بابويه) ـ رحمهما الله ـ باسنادهما الصحيح عن الصادق (ع): " أنه سئل عما يروون من الرؤية، فقال: الشمس جزء من سبعين جزء من نور الكرسي، والكرسي جزء من سبعين جزء من نور العرش، والعرش جزء من سبعين جزء من نور الحجاب، والحجاب جزء من سبعين جزء من نور الستر، فان كانوا صادقين فليملأوا اعينهم من نور الشمس ليس دونها سحاب ". وباسنادهما عن احمد بن اسحاق قال: " كتبت إلى أبى الحسن الثالث (ع) أسأله عن الرؤية وما اختلف فيه الناس، فكتب: لا تجوز الرؤية ما لم يكن بين الرائي والمرئي هواء ينفذه البصر، فإذا انقطع الهواء عن الرائي والمرئي لم تصح الرؤية وكان في ذلك الاشتباه، لأن الرائي متى ساوى المرئي في السبب الموجب بينهما في الرؤية وجب الاشتباه، وكان ذلك التشبيه، لأن الأسباب لا بد من اتصالها بالمسببات ". وعن أبى بصير عن الصادق (ع) قال: " قلت له: اخبرني عن الله عز وجل هل يراه المؤمنون يوم القيامة؟ قال: نعم! وقد رأوه قبل يوم القيامة. فقلت: متى؟ قال: حين قال لهم: ألست بربكم، قالوا: بلى.... ثم سكت ساعة، ثم قال: وإن المؤمنين ليرونه في الدنيا قبل يوم القيامة، ألست تراه في وقتك هذا؟! قال أبو بصير: فقلت له: جعلت فداك! فاحدث بهذا عنك؟ فقال: لا! فانك إذا حدثت به فانكره منكر جاهل بمعنى ما تقوله، ثم قدر أن ذلك تشبيه كفر، وليست الرؤية بالقلب كالرؤية بالعين. تعالى الله عما يصفه المشبهون والملحدون ". وسئل أمير المؤمنين (ع): " هل رأيت ربك حين عبدته؟ فقال: ويلك! ما كنت أعبد رباً لم أره. قيل. وكيف رأيته؟ قال: ويلك! لا تدركه العيون في مشاهدة الابصار، ولكن رأته القلوب بحقائق الإيمان "[1]. وقال سيد الشهداء (ع): " كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهر لك، متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك، ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟ عميت عين لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم تجعل من حبك نصيباً! "، وقال (ع) أيضا: " تعرفت لكل شيء فما جهلك شيء "، وقال: " وأنت الذي تعرفت الي في كل شيء، فرأيتك ظاهراً في كل شيء، وأنت الظاهر لكل شيء "[2]. وأمثال ذلك مما ورد عنهم ـ عليهم السلام ـ اكثر من أن تحصى.

فصل

(الطريق إلى الرؤية واللقاء)

الطريق إلى تحصيل محبة الله وتقويتها ثم استعداد الرؤية واللقاء امران:

أحدهما ـ تطهير القلب من شواغل الدنيا وعلائقها، والتبتل إلى الله بالذكر والفكر، ثم اخراج حب غير الله من القلب، إذ القلب مثل الاناء الذي لا يسع الماء ـ مثلاً ـ ما لم يخرج منه الخل. وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، وكمال الحب في أن يحب الله بكل قلبه، وما دام يلتفت إلى غيره، فزاوية من قلبه مشغولة بغيره، وبقدر ما يشتغل بغير الله ينقص منه حب الله، إلا أن يكون التفاته إلى الغير من حيث إنه صنع الله ـ تعالى ـ وفعله، ومظهر من مظاهر اسماء الله ـ تعالى ـ، وإلى هذا التجريد، والتفريد الإشارة بقوله ـ تعالى ـ:

" قل الله ثم ذرهم "[3].

وثانيهما ـ تحصيل معرفة الله وتقويتها وتوسيعها وتسليطها على القلب، والأول، اعني قطع العلائق، بمنزلة تنقية الأرض من الحشائش، والثاني، أي المعرفة، بمنزلة البذر فيها، ليتولد منه شجر المحبة.

ثم لتحصيل المعرفة طريقان:

أحدهما ـ الأعلى، وهو الاستدلال بالحق على الخلق، وذلك بأن يعرف الله بالله، وبه يعرف غيره، أي افعاله وآثاره، وإلى هذا اشير في الكتاب الالهي بقوله:

" أولم يكف بربك أنه على كل شيءٍ شهيد "[4].

وهذا الطريق غامض، وفهمه صعب على الأكثرين. وقد اشرنا إلى كيفيته في بعض كتبنا الالهيات.

وثانيهما ـ وهو الادنى، الاستدلال بالخلق على الحق ـ سبحانه ـ، وهذا الطريق في غاية الوضوح، واكثر الافهام يتمكن من سلوكه، وهو متسع الاطراف، ومتكثر الشعوب والأكناف، إذ ما من ذرة من أعلى السماوات إلى تخوم الأرضين إلا وفيها عجائب آيات وغرائب بينات، تدل على وجود الواجب وكمال قدرته وغاية حكمته ونهاية جلاله وعظمته، وذلك مما لا يتناهى.

" قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي "[5].

وعدم وصول بعض الافهام من هذا الطريق إلى معرفة الله مع وضوحه، انما هو للاعراض عن التفكر والتدبر والاشتغال بشهوات الدنيا وحظوظ النفس. ثم سلوك هذا الطريق، أي الاستدلال على الله ـ تعالى ـ وعلى كمال قدرته وعظمته، بالتفكير في الآيات الآفاقية والأنفسية، خوض في بحار لا ساحل لها، إذ عجائب ملكوت السماوات والأرض مما لا يمكن أن تحيط به الافهام، فان القدر الذي تبلغه افهامنا القاصرة من عجائب حكمته الباهرة تنقضي الاعمار دون ايضاحه، ولا نسبة لما احاط به علمنا إلى ما احاط به علم العلماء، ولا نسبة له إلى ما احاط به علم الأنبياء، ولا نسبة له إلى ما احاط به الخلائق كلهم، ولا نسبة له إلى ما استأثر الله بعلمه، بل كلما عرفه الخلائق جميعاً لا يستحق أن يسمى علماً في جنب علم الله، ونحن قد اشرنا إلى لمعة يسيرة من عجائب حكمته المودعة في بعض مخلوقاته في مبحث التفكر.

فصل

(تفاوت المؤمنين في محبة الله)

اعلم ان المؤمنين جميعاً مشتركون في اصل محبة الله لاشتراكهم في أصل الإيمان، ولكنهم متفاوتون في قدرها، وسبب تفاوتهم امران:

أحدهما ـ اختلافهم في المعرفة وحب الدنيا، فان اكثر الناس ليس لهم من معرفة الله إلا ما قرع اسماعهم من كونه متصفاً بصفات كذا وكذا، من دون وصول إلى حقيقة معناها، وإلى اعتقادهم بأن الموجودات المشاهدة صادرة عنه، من غير تدبر في عجائب القدرة وغرائب الحكمة المودعة فيها واما العارفون، فلهم الخوض في بحر التفكر والتدبر في أنواع المخلوقات، واستخراج ما فيها من الحكم الخفية، والمصالح العجيبة، التي كل واحد منها كمشعلة في إزالة ظلمة الجهل، والهداية إلى كمال عظمة الله، ونهاية جلاله وكبريائه، فمثل الأكثرين كمثل عامي أحب عالماً بمجرد استماعه انه حسن التصنيف، من دون علم ودراية بما في تصانيفه، فتكون له معرفة مجملة، ويكون له بحسنه ميل مجمل، ومثل العارفين كمثل عالم فتش عن تصانيفه، واطلع على ما فيها من دقائق المعاني وبلاغة العبارات. ولا ريب في أن العالم بجملته صنع الله وتصنيفه، فمن عرف ذلك مجملاً تكون له بحسبه محبة مجملة، ومن وقف على ما فيه من عجائب القدرة ودقائق الحكمة تكون له غاية الحب، وكلما ازدادت معرفته بوجوه الحكم والمصالح المودعة في كل مخلوق ازدادا حبه، فمن اعتقد أن ما تبنيه النحل من البيوت المسدسة إنما هو بالهام الله ـ تعالى ـ اياها، من غير استعداد لفهم الحكمة في اختيار الشكل المسدس على سائر الاشكال، لا يكون في معرفة الله وادراك عظمته وحكمته كمن يفهم ذلك ويتيقنه. ثم كما أن دقائق الحكم وعجائب القدرة غير متناهية، ولا يمكن لاحد ان يحيط بها، وانما ينتهي كل إلى ما يستعد له، فينبغي أن تكون مراتب الحب أيضاً غير متناهية، وكل عبد ينتهي إلى مرتبة تقتضيها معرفته.

وثانيهما ـ اختلافهم في الأسباب المذكورة للحب، فان من يحب الله لكونه منعماً عليه ومحسناً إليه، ضعفت محبته لتغيرها بتغير الانعام والإحسان ولا يكون حبه في حالة البلاء كحبه في حالة الرجاء والنعماء. وأما من يحبه لذاته، أو بسبب كماله وجماله ومجده وعظمته، فانه لا يتفاوت حبه بتفاوت الاحسان إليه.

فصل

(الواجب اظهر الموجودات)

عجباً لاقوام عميت قلوبهم عن معرفة الله ـ سبحانه ـ، مع أن الله ـ تعالى ـ أظهر الموجودات وأجلاها، لان البديهة العقلية قاضية بأنه يجب أن يكون في الوجود موجود قائم بذاته، أي ما هو صرف الوجود، ولولاه لم يتحقق موجود أصلا، فتحقق صرف الوجود القائم بذاته المقوم لغيره أظهر وأجلى من تحقق كل موجود بغيره عند البصيرة الصافية، قال الله ـ سبحانه ـ:

" الله نور السماوات والارض "[6].

والنور هو الظاهر لنفسه المظهر لغيره، ومبدأ الادراك من المدرك إنما هو الوجود، فكلما ادركته إنما تدرك أولا وجوده، وإن لم تشعر بذلك. ولا ريب في أن الظاهر لنفسه أظهر من الظاهر بغيره، وايضاً كل موجود سوى الله ـ سبحانه ـ يعلم وجوده بقليل من الآثار، فان وجود الحياة لزيد ـ مثلا ـ لا يدل عليه إلا حركته وتكلمه وبعض أخر من اعراض نفسه، ولا يدل عليه شيء آخر من سائر الموجودات، وكذا وجود السماء ـ مثلا ـ لا يدل عليه سوى وجود ظهور جسمها وحركتها، ولا يدل عليه شيء آخر من الموجودات التي تحتها وفوقها.

وأما وجود الواجب ـ تعالى ـ فيدل عليه كل شيء، إذ ليس في الوجود مدرك محسوس أو معقول، وحاضر أو غائب، إلا وهو شاهد ومعرف لوجوده، فالسبب في خفائه مع كونه أجلى وأظهر من كل شيء غاية وضوحه وظهوره، فان شدة ظهور الشيء قد يكون سبباً لخفائه، لانه يكل المدارك ويحسرها، فشدة ظهوره ـ سبحانه ـ بلغت حداً بهرت العقول وادهشتها، فضعفت عن ادراكه. وهذا كما ان الخفاش يبصر بالليل ولا يبصر بالنهار، لا لخفاء النهار واستتاره، بل لشدة ظهوره وضعف بصر الخفاش، فان بصره ضعيف يبهره نور الشمس إذا اشرق، فتكون قوة ظهوره مع ضعف بصره سبباً لامتناع إبصاره، فلا يرى شيئاً إلا إذا امتزج بالضوء الظلام وضعف ظهوره، فكذلك عقولنا ضعيفة، وجمال الحضرة الإلهية في نهاية الاشراق والاستنارة، وفي غاية الاستغراق والشمول، حتى لم تشذ عن ظهوره ذرة من ملكوت السماوات والارض، فصار ظهوره سبب خفائه، فسبحان من احتجب باشراق نوره، واختفى عن العقول والبصائر بشدة ظهوره!ولا تتعجب من اختفاء شيء بسبب شدة ظهوره، فان الأشياء إنما تستبان باضدادها، وما عم وجوده حتى لا ضد له عسر ادراكه. فلو اختلفت الأشياء، فدل بعضها على الله ـ تعالى ـ دون بعض، ادركت التفرقة على قرب، ولما اشتركت في الدلالة على نسق واحد، اشكل الامران، ومثاله نور الشمس المشرق على الأرض فانا نعلم أنه عرض من الاعراض يحدث في الأرض، ويزول عند غيبة الشمس، فلو كانت الشمس دائمة الاشراق لا غروب لها، لكنا نظن أن لا هيئة في الأجسام إلا ألوانها، وهي السواد والبياض وغيرهما، وأما الضوء فلا تدركه وحده، لكن لما غابت الشمس وأظلمت المواضع أدركنا تفرقة بين الحالتين، فعلمنا أن الاجسام قد استضاءت بضوء فارقها عند الغروب، فعرفنا وجود النور بعدمه. وما كنا نطلع عليه لولا عدمه إلا بعسر شديد، وذلك لمشاهدتنا الاجسام متشابهة غير مختلفة في النور والظلام هذا مع أن النور أظهر المحسوسات، إذ به تدرك سائر المحسوسات، فما هو ظاهر في نفسه مظهر لغيره انظر كيف استبهم أمره بسبب ظهوره لولا طريان ضده، فاذن واجب الوجود لذاته هو اظهر الأشياء، وبه ظهرت الأشياء كلها، ولو كان له عدم أو غيبة أو تغير، لا نهدت السماوات والارض، وبطل الملك والملكوت، وادركت التفرقة بين الحالتين، ولو كان بعض الأشياء موجوداً به، وبعضها موجوداً بغيره، لادركت التفرقة بين الشيئين في الدلالة، ولكن دلالته عامة في الأشياء على نسق واحد، ووجوده دائم في الأحوال يستحيل خلافه، فلا جرم أورثت شدة ظهوره خفاء كما قيل:

  لادراكه أبصار قوم أخافش

خفي لافراط الظهور تعرضت          

لشدته حظ العيون العوامش

وحظ عيون الزرق من نور وجهه          

قال أمير المؤمنين (ع): " لم تحط به الاوهام، بل تجلى لها بها، وبها امتنع منها ". وقال (ع): " ظاهر في غيب، وغائب في ظهور ". وقال (ع): " لا تجنه البطون عن الظهور، ولا تقطعه الظهور عن البطون، قرب فنأى، وعلا فدنا، وظهر فبطن، وبطن فعلن، ودان ولم يدن ": أي ظهر وغلب ولم يغلب. ومن هناك قيل " عرفت الله بجمعه بين الاضداد ".

 


[1]  صححنا الأحاديث كلها على (أصول الكافي): الجزء الأول، باب ابطال الرؤية. وعلى (الوافي): 1/69، باب ابطال الرؤية.

[2]  صححنا فقرات دعاء عرفة على (مفاتيح الجنان): ص272 –274، طبعة الكراوري.

[3]  الأنعام، الآية: 91.

[4]  فصلت، الآية: 53.

[5]  الكهف، الآية: 110.

[6]  النور، الآية: 53.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست