.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

علائم محبة الله

معنى حب الله لعبده

الحب في الله والبغض في الله

 

   

فصل

(علائم محبة الله)

محبة العبد لله ـ سبحانه ـ له علامات:

الأولى ـ أن يحب لقاءه بطريق المشاهدة والعيان في دار السلام، ولتوقفه على الموت يحب الموت ويتمنيه، إذ كل من يحب شيئاً يحب لقاءه ووصله، وإذا علم أنه يمتنع الوصول إليه إلا بالارتحال من الدنيا بالموت لاحب الموت لا محالة. وكيف يثقل على المحب أن يسافر من وطنه إلى مستقر محبوبه ليتنعم بمشاهدته، ولذا قال (حذيفة) عند موته: " حبيب جاء على فاقة، لا أفلح اليوم من ندم ". قال بعض الأكابر: " لا يكره الموت إلا مريب، لان الحبيب لا يكره لقاء الحبيب على كل حال ".

ثم من يكره الموت، فان كانت كراهته له لحب الدنيا والتأسف على فراق الاهل والاولاد والأموال، وكان حبه للدنيا وتأسفه على مفارقتها في غاية الكمال، بحيث لم يحب الموت ولم يسر قلبه اصلاً بما يترتب عليه من لقاء الله ـ تعالى ـ، ولم يجد في قلبه شوقاً إليه مطلقاً، فلا ريب في كون مثل هذه الكراهة منافياً لاصل الحب، ولو لم يكن حبه للدنيا في غاية الكمال، بحيث لم يجد في قلبه ميلاً إلى ما يترتب على الموت من لقاء اله، بل كان محباً للدنيا إلا أنه كان له شوق إلى لقاء الله ـ تعالى ـ أيضاً، أو كان لذلك كراهته للموت ضعيفة، فمثل هذا الحب للدنيا ينافي كمال حب الله، لان الحب الكامل هو الذي يستغرق كل القلب، ولا يبعد أن تكون معه شائبة ضعيفة من حب الله، فان الناس متفاوتون في حب الله، فمنهم من يحبه بكل قلبه، ومنهم من لا يحبه بكل قلبه، بل يحب معه غيره أيضاً من الاهل والولد والمال، فلا جرم يكون فرحة بلقاء الله عند القدوم عليه على قدر حبه وكراهته لفراق الدنيا عند الموت على قدر حبه لها، وإن كانت كراهته للموت لاجل ارادته الاستعداد والتهيؤ للقاء الله، ومشاهدته بتحصيل زيادة العلم والعمل، لا لحب الاهل والمال، ولا للتأسف على فراق الدنيا، فهو لا يدل ضعف الحب ولا ينافي اصله، وهو كالمحب الذي وصل إليه خبر قدوم حبيبه، فأحب أن يتأخر قدومه ساعة ليعمر داره ويفرشها ويهيئ أسبابها، ليلقاه فارغ القلب عن الشواغل، وعلامة ذلك: الجد في العمل، واستغراق الهم في تحصيل المعرفة، والاستعداد للآخرة.

الثانية ـ أن يؤثر مراد الله ـ سبحانه ـ على مراده، إذ المحب لا يخالف هوى محبوبه لهوى نفسه، كما قيل:

اريد وصاله ويريد هجري           فاترك ما اريد لما يريد

فمن كان محباً لله: يمتثل أوامره ويجتنب نواهيه، ويحترز عن اتباع الشهوات، ويدع الكسالة والبطالة، ولا يزال مواظباً على طاعته وانقياده، ويكون مبتهجاً متنعماً بالطاعة ولا يشغلها، ويسقط عنه تعبها، وقد روى: " أن زليخا لما آمنت، وتزوج بها يوسف (ع)، انفردت عنه، وتخلت للعبادة، وانقطعت إلى الله ـ تعالى ـ، وكان يوسف يدعوها إلى فراشه نهاراً فتدافعه إلى الليل، وإذا دعاها ليلا سوفت إلى النهار، فعاتبها في ذلك، فقالت: يا رسول الله! إنما كنت أحبك قبل أن أعرف ربك، فاما إذ عرفته فلا أؤثر على محبته محبة من سواه، وما أريد به بدلاً ". ثم الحق أن العصيان يضاد كمال المحبة لا أصلها، ولذا قد يأكل الرجل المريض ما يضره ويزيد في مرضه مع أنه يحب نفسه، ويحب صحته، والسبب ضعف المعرفة، وغلبة الشهوة، فيعجز عن القيام بحث المحبة.

الثالثة ـ ألا يغفل عن ذكر الله ـ سبحانه ـ، بل يكون دائما مستهتراً بذكره، إذ من أحب شيئاً أكثر ضرورة ذكره وذكر ما يتعلق به، فمحب الله لا يخلو عن ذكر الله وذكر رسوله وذكر القرآن وتلاوته، لانه كلامه، ويكون محباً للخلوة ليتفرد بذكره وبمناجاته، ويكون له كمال الانس والالتذاذ بمناجاته، وفي أخبار داود: " كذب من ادعى محبتي وإذا جنه الليل نام عني، أليس كل محب يحب لقاء حبيبه؟ فها أنا ذا موجود لمن طلبني ".

الرابعة ـ ألا يحزن ولا يتألم عن فقد شيء، ولا يفرح بوجود شيء، سوى ما يقر به إلى الله أو يبعده عنه: فلا ينبغي ان يحزن ويجزع في المصائب ولا يسر بنيل المقاصد الدنيوية، ولا يتأسف على ما يفوته إلا على ما فات منه من طاعة مقربة إلى محبوبه، أو على صدور معصية مبعدة، أو على ساعة خلت عن ذكر الله والإنس به.

الخامسة ـ أن يكون مشفقاً رؤفاً على عباد الله، رحيماً على اوليائه، وشديداً على اعداء الله، وكارهاً لمن يخالفه ويعصيه، إذ مقتضى الحب الشفقة والمحبة لأحباء المحبوب والمنسوبين إليه، والبغض لأعدائه ومخالفيه.

السادسة ـ أن يكون في حبه خائفاً متذللا تحت سلطان العظمة والجلال، وليس الخوف مضاداً للحب، كما ظن، إذ ادراك العظمة يوجب الهيبة، وادراك الجمال يوجب الحب، ولخصوص المحبين خوف الاعراض، وخوف الحجاب، وخوف الابعاد، وخوف الوقوف، وسلب المزيد. وقال بعض العرفاء: " من عبد الله بمحض المحبة من غير خوف هلك بالبسط والادلال، ومن عبده من طريق الخوف من غير محبة انقطع عنه بالبعد والاستيحاش، ومن عبده من طريقهما أحبه الله، فقربه ومكنه وعلمه ".

السابعة ـ كتمان الحب والشوق من اظهاره ومن اظهار الوجد واجتناب الدعوى، تعظيماً للمحبوب واجلالاً له، وهيبة منه وغيرة على سره، فان الحب سر من اسرار المحبوب، فلا ينبغي افشاؤه،، ولأنه ربما يدخل في الدعوى ما يجاوز حد الواقع، فيكون من الافتراء، وتعظم به العقوبة في العقبى والبلية في الدنيا. نعم، ربما غشيته سكرة في حبه، حتى يدهش فيها، وتضطرب أحواله، فيظهر عليه حبه من دون اختيار وتمحل. فمثله معذور، لأنه تحت سلطان المحبة مقهور، ومن عرف أن حصول حقيقة المعرفة والمحبة التي تنبغي أن تكون في حق الله يستحيل أن يحصل لأحد، وأن يطلع على ما اعترف عظماء الإنسان ـ أعني الأنبياء والأولياء ـ من العجز والقصور، وان صنفا واحدا من الاصناف الغير المتناهية من ملائكته ملائكة بعدد جميع ما خلق الله من شيء، هم أهل المحبة لله، ما خطر على قلوبهم مذ خلقهم الله ـ وهو ثلاث مائة ألف سنة قبل خلق العالم ـ سوى الله ـ سبحانه ـ، وما ذكروا غيره، لا ستحيى منه حق الحياء أن يعد ما عليه من المعرفة والمحبة معرفة ومحبة، وخرس لسانه عن التظاهر بالدعوى. وروى في بعض الأخبار: " ان بعض أهل الله سأل بعض الصديقين أن يسأل الله ـ تعالى ـ أن يعطيه ذرة من معرفته، ففعل ذلك، فحار عقله، وذهل لبه، ووله قلبه، وهام في الجبال، وبقى شاخصا سبعة ايام. لا ينتفع بشيء ولا ينتفع به شيء، فسأل له الصديق ربه أن ينقص بعض الذرة من المعرفة التي أعطاه، فأوحى الله ـ تعالى ـ إليه: (إنا اعطيناه جزءا من مائة ألف جزء من ذرة من المعرفة، وذلك ان مائة ألف عبد سألوني شيئا من المحبة في الوقت الذي سألني هذا، فأخرت اجابتهم إلى أن شفعت أنت لهذا، فلما أجبتك فيما سألت أعطيتهم كما اعطيته، فقسمت ذرة من المعرفة بين مائة ألف عبد، فهذا ما أصابه من ذلك). فقال: سبحانك سبحانك! أنقصه مما أعطيته، فأذهب الله عنه جملة ما أعطاه، وأبقى فيه عشر معشاره وهو جزء من عشرة آلاف جزء من مائة ألف جزء من ذرة، فاعتدل خوفه وحبه ورجاؤه، وسكن، وصار كسائر الكمل من العارفين "[1].

والحق ان حقائق الصفات الإلهية أجل واعظم من ادراك العقول البشرية، ولا يطيق أحد من الكمل أن يتحمل لفهم جزء من الاجزاء الغير المتناهية منها، فالوصول إلى ما عليه الحضرة الربوبية من العظمة والجلال وسائر صفات الكمال في حيز المحال، (وما قيل أو يقال فيه) وهم أو خيال، فاين يحصل لأحد ما يليق له من المعرفة والمحبة؟ فلو امكن ان تدخل امثال هذه العوالم المخلوقة من السماوات والارضين وما فوقهما واضعافهما بقدر غير متناه في جوف خردلة، لامكن أن تدخل في اعظم العقول ذرة من عظمته وجلاله، وغاية المعرفة ان يعرف عظمته وقدرته وجلاله وعزته وسائر اوصافه الكمالية بأمثال هذه العنوانات والتمثيلات، وهي أيضاً لو ضوعفت إلى غير النهاية في ازمة غير متناهية، لكانت بيانات قاصرة، بل وهمية خيالية، فسبحان من لا سبيل إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته!.

ومن علامات المحبة الانس والرضا ـ كما يأتي ـ. وقد جمع بعض العارفين علامات المحب في ابيات، فقال:

ولديه من تحف الحبيب وسائل

لا تخدعن فللمحب دلائل

وسروره في كل ما هو فاعل

منها تنعمه بمر بلائه

والفقر اكرام وبر عاجل

فالمنع منه عطية مقبولة

طوع الحبيب وان ألح العاذل

ومن الدلائل ان ترى من عزمه

والقلب فيه من الحبيب بلابل

ومن الدلائل ان يرى متبسما

لكلام من يحظى لديه سائل

ومن الدلائل ان يرى متفهما

متحفظا عن كل ما هو قائل

ومن الدلائل ان يرى متقشفا

في خرقتين على شطوط الساحل

ومن الدلائل ان تراه مشمراً

خوف الظلام فما له من عاذل

ومن الدلائل خزنه ونحيبه

ان قد رآه على قبيح فاعل

ومن الدلائل أن تراه باكيا

بمليكه في كل حكم نازل

ومن الدلائل أن تراه راضياً

من دار ذل والنعيم الزائل

ومن الدلائل زهده فيما ترى

كل الأمور إلى المليك العادل

ومن الدلائل ان تراه مسلما

والقلب محزون كقلب الثاكل

ومن الدلائل ضحكه بين الورى

نحو الجهاد وكل فعل فاضل

ومن الدلائل أن تراه مسافراً

 

فصل

(معنى حب الله لعبده)

اعلم ان شواهد الكتاب والسنة ناطقة بأن الله ـ سبحانه ـ يحب العبد، كقوله ـ تعالى ـ:

" يحبهم ويحبونه "[2]. وقوله ـ تعالى ـ: " إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله "[3]. وقوله ـ تعالى ـ: " إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين "[4]. وقوله ـ تعالى ـ: " قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم "[5].

وقال رسول الله (ص): " ان الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب ". وقال (ص): " إذا احب الله عبدا لم يضره ذنب ". وقال (ص): " إذا أحب الله عبدا ابتلاه، فان صبر اجتباه، وان رضي اصطفاه ". وقال (ص): " من أكثر ذكر الله أحبه الله ". وقال (ص) حاكيا عن الله: " لا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا احببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به ". وقال (ص): " إذا احب الله عبدا، جعل له واعظا من نفسه، وزاجرا من قلبه، يأمره وينهاه "... وأمثال ذلك اكثر من أن تحصى،

ثم حقيقة الحب ـ وهو الميل إلى موافق ملائم ـ غير متصور في حق الله ـ تعالى ـ، بل هذا انما يتصور في حق نفوس ناقصة، والله ـ سبحانه ـ صاحب كل جمال وكمال وبهاء وجلال، وكل ذلك حاضر له بالفعل أزلا وابداً، إذ لا يتصور تجدده وزواله، فلا يكون له إلى غيره نظر من حيث انه غير، بل ابتهاجه بذاته وصفاته وافعاله. وليس في الوجود إلا ذاته وصفاته وافعاله، ولذلك قال بعض العرفاء ـ لما قرىء قوله ـ تعالى ـ: (يحبهم ويحبونه) ـ: " نحن نحبهم، فانه ليس يحب إلا نفسه ". على معنى انه الكل وانه في الوجود ليس غيره. فمن لا يحب إلا ذاته، وصفات ذاته، وافعال ذاته وتصانيف ذاته، فلا يجاوز حبه وذاته وتواضع ذاته من حيث هي متعلقة بذاته، فهو إذاً لا يحب إلا ذاته، وليس المراد من محبة الله لعبده هو الابتهاج العام الذي له ـ تعالى ـ بافعاله له، إذ المستفاد من الآيات والأخبار: أن له ـ تعالى ـ خصوصية محبة لبعض عباده ليست لسائر العباد والمخلوقات، فمعنى هذه المحبة يرجع إلى كشف الحجاب عن قلبه حتى يراه بقلبه، وإلى تمكينه اياه من القرب إليه، وإلى ارادته ذلك به في الازل، وإلى تطهير باطنه عن حلول الغير به، وتخليته عن عوائق تحول بينه وبين مولاه، حتى لا يسمع إلا بالحق ومن الحق، ولا يبصر إلا به، ولا ينطق إلا به ـ كما في الحديث القدسي ـ فيكون تقربه بالنوافل سببا لصفاء باطنه، وارتفاع الحجاب عن قلبه، وحصوله في درجة القرب من ربه، وكل ذلك من فضل الله ـ تعالى ـ ولطفه به.

ثم قرب العبد من الله لا يوجب تغيرا وتجددا في صفات الله ـ تعالى ـ، إذا التغير عليه ـ سبحانه ـ محال، لانه لا يزال في نعوت الكمال والجلال والجمال على ما كان عليه في ازل الآزال، بل يوجب مجرد تغير العبد بترقيه في مدارج الكمال، والتخلق بمكارم الأخلاق التي هي الأخلاق الإلهية، فكلما صار اكمل صفة وأتم علما واحاطة بحقائق الأمور، واثبت قوة في قهر الشياطين وقمع الشهوات، وأظهر نزاهة عن الرذائل، وأقوى تصرفا في ملكوت الأشياء، صار اقرب إلى الله. ودرجات القرب غير متناهية، لعدم تناهي درجات الكمال، فمثل تقرب العبد إلى الله ليس كتقرب أحد المتقاربين إلى الآخر إذا تحركا معا، بل كتقرب أحدهما مع تحركه إلى الآخر الذي كان ساكنا، أو كتقرب التلميذ في درجات الكمال إلى استاذه، فان التلميذ متحرك مترق من حضيض الجهل إلى بقاع العلم، ويطلب القرب من استاذه في درجات العلم والكمال، والاستاذ ثابت واقف، وان كان التلميذ يمكن ان يصل إلى مرتبة المساواة لاستاذه لتناهي كمالاته، وأما العبد، كائنا من كان، لا يمكن أن يصل إلى كمال يمكن أن يكون له نسبة إلى كمالاته ـ سبحانه ـ، لعدم تناهي كمالاته شدة وقوة وعدة، وعلامة كون العبد محبوبا عند الله. أن يكون هو محبا له ـ تعالى ـ، مؤثرا اياه على غيره من المحاب، وان يرى من بواطن اموره وظواهره انه ـ تعالى ـ يهيئ له أسباب السعادة فيها، ويرشده إلى ما فيه خيره، ويصده عن المعاصي باسباب يعلم حصولها منه ـ سبحانه ـ، انه ـ تعالى ـ يتولى أمره، ظاهره وباطنه، وسره وجهره، فيكون هو المشير عليه، والمدبر لأمره، والمزين لأخلاقه، والمستعمل لجوارحه، والمسدد لظاهره وباطنه، والجاعل لهمومه هما واحدا، والمبغض للدنيا في قلبه، والموحش له من غيره، والموُنس له بلذة المناجاة في خلواته والمكاشف له عن الحجب بينه وبين معرفته.

تذنيب

(الحب في الله والبغض في الله)

إعلم ان الأخبار متظاهرة في مدح الحب في الله والبغض في الله وعظم فضيلته وثوابه، ومعناه لا يخلو عن ابهام، فلا بد أن نشير إلى بعض هذه الأخبار، ثم نبين حقيقته ونكشف عن معناه.

أما الأخبار: كقول النبي (ص): " ود المؤمن للمؤمن في الله اعظم شعب الإيمان، ألا ومن أحب في الله. وأبغض في الله، وأعطى في الله، ومنع في الله فهو من اصفياء الله ". وقال (ص) لاصحابه: " أي عرى الإيمان اوثق؟ " فقالوا: الله ورسوله اعلم ـ فقال بعضهم: الصلاة، وقال بعضهم، الزكاة، وقال بعضهم: الصيام، وقال بعضهم: الحج والعمرة، وقال بعضهم: الجهاد ـ فقال رسول الله (ص): " لكل ما قلتم فضل وليس به، ولكن اوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله، وتوالي اولياء الله والتبري من اعداء الله ". وقال (ص): " المتحابون في الله يوم القيامة على ارض زبرجدة خضراء في ظل عرشه عن يمينه ـ وكلتا يديه يمين ـ وجوههم أشد بياضا وأضوأ من الشمس الطالعة، يغبطهم بمنزلتهم كل ملك مقرب وكل نبي مرسل، يقول الناس: من هؤلاء؟ فيقال: هؤلاء المتحابون في الله ". وقال سيد الساجدين (ع): " إذا جمع الله ـ عز وجل ـ الأولين والآخرين، قام مناد فنادى ليسمع الناس، فيقول: أين المتحابون في الله؟ قال: فيقوم عنق من الناس، فيقال لهم: اذهبوا إلى الجنة بغير حساب. قال: فتلقاهم الملائكة، فيقولون: إلى أين؟ فيقولون: إلى الجنة بغير حساب، فيقولون: أي حزب أنتم من الناس: فيقولون: نحن المتحابون في الله. قال فيقولون واي شيء كانت أعمالكم؟ قالوا: كنا نحب في الله ونبغض في الله. قال: فيقولون: نعم اجر العاملين ". وقال الباقر (ع): " إذا اردت ان تعلم ان فيك خيرا فانظر إلى قلبك، فان كان يحب أهل طاعة الله ويبغض أهل معصيته ففيك خير والله يحبك. وإذا كان يبغض أهل طاعة الله ويحب أهل معصيته فليس فيك خير والله يبغضك. والمرء مع من احبه ". وقال (ع): " لو ان رجلا احب رجلا لله لأثابه الله على حبه اياه، وان كان المحبوب في علم الله من أهل النار، ولو ان رجلا ابغض رجلا لله، لاثابه الله على بغضه إياه، وان كان المبغض في علم الله من أهل الجنة ". وقال الصادق (ع): " من احب لله، وابغض لله، واعطى لله، فهو ممن كمل ايمانه ". وقال (ع): " ان المتحابين في الله يوم القيامة على منابر من نور، قد اضاء نور وجوههم ونور اجسادهم ونور منابرهم كل شيء، حتى يعرفوا به، فيقال: هؤلاء المتحابون في الله ". وقال (ع): " وهل الإيمان إلا الحب في الله والبغض في الله؟ ثم تلا هذه الآية:

" حبب اليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون "[6] ".

وقال (ع): " ما التقى المؤمنان قط إلا كان افضلهما اشدهما حباً لأخيه ". وقال (ع): " من لم يحب على الدين ولم يبغض على الدين فلا دين له ". والأخبار بهذه المضامين كثيرة[7].

وإذا عرفت ذلك، فلنشر إلى معنى الحب في الله والبغض في الله فنقول:

الحب الذي بين إنسانين، اما يحصل بمجرد الصحبة الاتفاقية، كالصحبة بحسب الجوار، أو بحسب الاجتماع في سوق، أو مدرسة، أو سفر، أو باب سلطان، أو أمثال ذلك، ومعلوم ان مثل هذا الحب ليس من الحب في الله بل هو الحب بحسب الاتفاق، أو لا يحصل بمجرد ذلك، بل له سبب وباعث آخر، وهذا على أربعة أقسام:

الأول ـ أن يحب إنسان إنساناً لذاته، لا ليتوصل به إلى محبوب ومقصود وراءه، بأن يكون هو في ذاته محبوباً عنده، بمعنى انه يلتذ برؤيته ومعصيته ومشاهدة اخلاقه، لاستحسانه له، فان كل جميل لذيذ في حق من ادرك جماله، وكل لذيذ محبوب، واللذة تتبع الاستحسان، والاستحسان يتبع المناسبة والموافقة والملائمة بين الطباع. ثم ذلك المستحسن، اما أن يكون جمال الصورة، وكمال العقل، وغزارة العلم، وحسن الأخلاق والافعال، وكل ذلك يستحسن عند الطباع السليمة، وكل مستحسن مستلذ به ومحبوب، ومن هذا القسم أن يحبه لأجل مناسبة خفية معنوية بينهما، فانه قد تستحكم المودة بين شخصين من غير حسن في خلق وخلق، ومن دون ملاحة في صورة، ولا غيرها من الاعضاء، بل المناسبة باطنة توجب الألفة والموافقة والمحبة، فان شبه الشيء ينجذب إليه بالطبع، والاشياء الباطنة خفية، ولها أسباب دقيقة ليس في قوة البشر أن يطلع عليها، وإلى هذا القسم من الحب والموافقة أشار رسول الله (ص) بقوله : " الارواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف ". فالحب نتيجة التناسب الذي هو التعارف، والبغض نتيجة التناكر. ومعلوم ان هذا القسم من الحب لا يدخل في الحب لله، بل هو حب بالطبع وشهوة النفس، لذا يتصور ممن لا يؤمن بالله، إلا انه ان اتصل به غرض مذموم صار مذموماً، والا فهو مباح لا يوصف بمدح وذم.

الثاني ـ أن يحبه لا لذاته، بل لينال منه محبوباً وراء ذاته، وكانت لهذا المحبوب فائدة دنيوية. ولا ريب في أن كلما هو وسيلة إلى المحبوب محبوب، وعدم كون هذا الحب من جملة الحب في الله ظاهر.

الثالث ـ أن يحبه لا لذاته، بل لغيره، وذلك راجع إلى حظوظه في الآخرة دون الدنيا، وذلك كحب التلميذ للاستاذ، لأن يتوسل به إلى تحصيل العلم وتحسين العمل، ومقصود من العلم والعمل سعادة الآخرة، وهذا الحب من جملة الحب في الله، وصاحبه من محبي الله، وكذلك حب الاستاذ للتلميذ، لأنه يتلقف منه العلم، وينال بواسطته مرتبة التعليم، ويترقى به إلى درجة التعظيم في ملكوت السماء. قال عيسى (ع): " من علم وعمل وعلم، فذلك يدعى عظيماً في ملكوت السماء ". ولا يتم التعليم إلا بمتعلم، فهو اذن آلة في تحصيل هذا الكمال، فان احبه لأنه آلة إذ جعل صدره مزرعة لحرثه، فهو محب لله.

بل التحقيق: أن كل من يحب احداً لصنعته، أو فعله الذي يوجب تقربه إلى الله، فهو من جملة المحبين في الله، كحب من يتولى له إيصال الصدقة إلى المستحقين، وحب طباخ يحسن صنعته في الطبخ لأجل طبخه لمن يضيفه تقرباً إلى الله، وحب من ينفق عليه ويواسيه بكسوته وطعامه ومسكنه وجميع مقاصده التي يقصده في الدنيا، ومقصوده من ذلك الفراغ لتحصيل العلم والعبادة، وحب من يخدمه بنفسه من غسل ثيابه وكنس بيته وطبخ طعامه وأمثال ذلك من حيث أنه يفرغه لتحصيل العلم والعمل.... وقس على ما ذكر امثاله، والمعيار أن كل من احب غيره من حيث توسله لأجله إلى فائدة اخروية فهو محب لله وفي الله.

الرابع ـ أن يحبه لله وفي الله، لا لينال منه علماً أو عملا، أو يتوسل به إلى أَمر وراء ذاته، وذلك بأن يحبه من حيث انه متعلق بالله ومنسوب إليه، إما بالنسبة العامة التي ينتسب بها كل مخلوق إلى الله، أو لأجل خصوصية النسبة أيضاً، من تقربه إلى الله، وشدة حبه وخدمته له ـ تعالى ـ. ولا ريب في أن من آثار غلبة الحب أن يتعدى من المحبوب إلى كل من يتعلق به ويناسبه، ولو من بعد، فمن احب إنساناً حباً شديداً، أحب محب ذلك الإنسان واحب محبوبه ومن يخدمه ومن يمدحه ويثني عليه أو يثني محبوبه، وأحب أن يتسارع إلى رضاء محبوبه، كما قيل:

أقبل ذا الجدار وذا الجدارا

أمر على الديار ديار ليلى

ولكن حب من سكن الديارا

وما حب الديار شغفن قلب

وأما البغض في الله، فهو ان يبغض إنسان إنسانا لأجل عصيانه لله ومخالفته له ـ تعالى ـ، فان من يحب في الله لا بد ان يبغض في الله، فانك إن احببت إنسانا لأنه مطيع لله ومحبوب عنده، فان عصاه لا بد ان تبغضه، لأنه عاص فيه وممقوت عند الله، قال عيسى (ع): " تحببوا إلى الله ببغض أهل المعاصي، وتقربوا إلى الله بالتباعد عنهم، والتمسوا رضاء الله بسخطهم ". وروى: " انه ـ تعالى ـ اوحى إلى بعض انبيائه: اما زهدك في الدنيا فقد تعجلت الراحة، واما انقطاعك إلى فقد تعززت بي، ولكن هل عاديت في عدواً، أو واليت وليا؟ ".

ثم للمعصية درجات مختلفة، فانها قد تكون بالاعتقاد، كالكفر والشرك والبدعة، وقد تكون بالقول والفعل، وهذا إما ان يكون مما يتأذى به غيره، كالقتل والغضب والضرب وشهادة الزور وسائر أنواع الظلم، أو لا يكون مما يتأذى به غيره، وهذا إما يوجب فساد الغير، كالجمع بين الرجال والنساء، وتهيئة أسباب الشر والفساد على ما هو دأب صاحب الماخور، أو ل يوجب فساد الغير، كالزنا وشرب الخمر، وهذا أيضاً إما كبيرة أو صغيرة. وإظهار البغض أيضاً له درجات مختلفة، كالتباعد والهجران، وقطع اللسان عن المكالمة والمحادثة، والتغليظ في القول، والاستخفاف والاهانة، وعدم السعي في إطاعته، والسعي في اساءته وافساد مآربه، وبعض هذا أشد من بعض، كما أن درجات الفسق والمعصية أيضاً كذلك، فينبغي أن يكون الأشد من درجات البغض بازاء الأشد من درجات المعصية والفسق، والوسط بازاء الوسط، والأضعف بازاء الأضعف، وينبغي ألا يترك أولا النصيحة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وتغليظ القول في الوعظ والارشاد، لا سيما إذا كان العاصي ممن بينه وبينه صحبه متأكدة. ثم العاصي إن كان ممن له صفات محمودة، كالايمان والعلم والسخاء والعبادة والطاعة أو امثال ذلك، ينبغي أن يكون مبغوضاً لأجل معصيته ومحبوباً لأجل صفته المحمودة، وهذا كما أن من وافقك في غرض وخالفك في آخر تكون معه على حالة متوسطة بين التردد إليه والتوحش عنه، فلا تبالغ في اكرامه مبالغتك في اكرام من يوافقك في جميع اغراضك، ولا تبالغ في إِهانته مبالغتك في اهانة من خالفك في جميع اغراضك.


[1]  صححنا الرواية على (إحياء العلوم): 4/288.

[2]  المائدة، الآية: 57.

[3]  الصف، الآية: 4.

[4]  البقرة، الآية: 222.

[5]  آل عمران، الآية: 31.

[6]  الحجرات، الآية: 7.

[7]  صححنا الأحاديث كلها على (أصول الكافي): ج2، باب الحب في الله والبغض في الله. وعلى (الوافي): 3/344، باب الحب في الله والبغض في الله.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست