.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

سريان الحب في الموجودات

رد المنكرين لحب الله

معرفة الله اقوى سائر اللذات

 

 

فصل

(سريان الحب في الموجودات)

اكثر أقسام المحبة فطرية طبيعية، كمحبة المتناسبين والمتجانسين، والعلة والمعلول، ومحبة الجمال وغير ذلك، والارادي الكسبي منها قليل، كمحبة المتعلم للمعلم، وربما أمكن ارجاعه أيضاً إلى الطبيعي. وإذا كان الحب طبيعياً فالاتحاد الذي من مقتضياته يكون أيضاً طبيعياً، فيكون لذلك افضل من العدالة التي تقتضي الاتحاد الصناعي. ثم مع وجود المحبة لا حاجة إلى العدالة إذ هي فرع الكثرة المحوجة إلى الاتحاد القشري، فمع وجود الاتحاد الطبيعي لا يقع الاحتياج إليه، وقد صرح قدماء الحكمة بأن قوام الموجودات وانتظامها بالمحبة، والمحبة الفطرية ثابتة بينها، وليس شيء من الموجودات خالياً عنها كما أنه ليس شيء منها خالياً عن الوجود والوحدة، وقد صرّحوا بأنه كل الوحدة، فهو سار في جميع الكائنات: من الافلاك والعناصر والمركبات، إذ الحب والشوق إلى التشبه بالفاعل رقص الافلاك وادار رحاها، (بسم الله مجراها ومرساها) والحب هو سبب ميل العناصر إلى اجسادها الطبيعية، وميل المركبات بعضها إلى بعض:

ورنه بر گل نزدي بلبل بيدل فرياد[1]

سرّ حب ازلي برهمه اشيا ساريست

ثم لما كانت المحبة التي هي ظل الوحدة مقتضية للبقاء والكمال، وضدها موجباً للفساد والاختلال، ولكل منهما مراتب ودرجات، فتختلف الموجودات بحسبها في درجات الكمال والنقصان. والمتأخرون خصصوا الحب بذوي العقول، فلا يطلقون اسم الحب على ميل العناصر إلى مراكزها وميل المركبات بعضها إلى بعض، كميل الحديد إلى المغناطيس، ولا اسم الكراهة والبغض على المنافرة التي بينها، كمنافرة الحجر الباغض الحل من الحل، بل يسمونها بالميل والهرب، وكذا الموافقة والمعاداة اللتين بين العجم من الحيوانات، لا يطلقون عليها اسم الحب والبغض، بل يسمونها بالألف والنفرة.

فصل

(رد المنكرين لحب الله)

قد ظهر مما ذكر: ثبوت حقيقة المحبة ولوازمها من الشوق والإنس لله ـ تعالى ـ، وأنه المستحق للحب دون غيره، وبذلك ظهر فساد زعم من أنكر إمكان حصول محبة العبد لله ـ تعالى ـ وقال: " لا معنى لها إلا المواظبة على طاعة الله، واما حقيقة المحبة فمحال إلا مع الجنس والمثل ".

ولما انكروا المحبة، انكروا الأنس والشوق ولذة المناجاة وسائر لوازم الحب وتوابعه، ويدل على فساد هذا القول ـ مضافاً إلى ما ذكر ـ اجماع الامة على كون الحب لله ولرسوله فرضاً، وما ورد في الآيات والأخبار والآثار من الأمر به والمدح عليه، واتصاف الأنبياء والأولياء به، وحكايات المحبين، وقد بلغت من الكثرة والصراحة حداً لا يقبل الكذب والتأويل، فمن شواهد القرآن قوله ـ تعالى ـ:

" يحبهم ويحبونه "[2]. وقوله: " والذين آمنوا أشد حبا لله "[3]. وقوله ـ تعالى ـ : " قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم..." ـ إلى قوله ـ: " أحب إليكم من الله ورسوله... " إلى آخر الآية[4].

وأما الأخبار الواردة والآثار، فقد قال رسول الله (ص): " لا يؤمن احدكم حتى يكون الله ورسوله احب إليه مما سواهما ". وقال (ص): " الحب من شروط الإيمان ". وقال (ص): " احبوا الله لما يغدوكم به من نعمة، واحبوني لحب الله ". وقد نظر (ص) إلى بعض اصحابه مقبلاً وعليه اهاب كبش، فقال (ص): " انظروا إلى هذا الرجل الذي قد نور الله قلبه، لقد رأيته بين أبويه يغذوانه بأطيب الطعام والشراب، فدعاه حب الله وحب رسوله إلى ما ترون ". وقال (ص) في دعائه: " اللهم ارزقني حبك وحب من يحبك وحب من يقربني إلى حبك، واجعل حبك احب الي من الماء البارد ". وفي الخبر المشهور: " ان إبراهيم (ع) قال لملك الموت، إذ جاءه لقبض روحه: هل رأيت خليلاً يميت خليله؟ فأوحى الله ـ تعالى ـ إليه: هل رأيت محباً يكره لقاء حبيبه؟ فقال: يا ملك الموت: الآن فاقبض ". واوحى الله إلى موسى (ع): " يا ابن عمران! كذب من زعم انه يحبني فإذا جنه الليل نام عني، اليس كل محب يحب خلوة حبيبة، ها ان ذا يا ابن عمران مطلع على احبائي، إذا جنهم الليل حولت ابصارهم إلى من قلوبهم، ومثلت عقوبتي بين اعينهم، يخاطبوني عن المشاهدة، ويكلموني عن الحضور، يا ابن عمران! هب لي من قلبك الخشوع، ومن بدنك الخضوع، ومن عينك الدموع في ظلم الليل، فانك تجدني قريباً ". وروى: " ان عيسى (ع) مرّ بثلاثة نفر قد نحلت ابدانهم وتغيرت الوانهم، فقال لهم: ما الذي بلغ بكم ما ارى؟ فقالوا: الخوف من النار، فقال: حق على الله ان يؤمن الخائف. ثم جاوزهم إلى ثلاثة اخرى، فإذا هم اشدّ نحولاً وتغيراً، فقال لهم: ما الذي بلغ بكم ما ارى؟ فقالوا: الشوق إلى الجنة، فقال: حق على الله ان يعطيكم ما ترجون. ثم جاوزهم إلى ثلاثة اخرى، فإذا هم اشد نحولاً وتغيراً، كأن على وجوههم المرايا من النور، فقال: ما الذي بلغ بكم ما ارى؟ قالوا: حب الله ـ عز وجل ـ. فقال: انتم المقربون ". وفي بعض الروايات: " انه (ع) قال الطائفتين الأولين: مخلوقاً خفتم، ومخلوقا رجوتم، وقال للطائفة الثالثة: انتم اولياء الله حقاً، معكم امرت ان اقيم ". وقال رسول (ص): " ان شعيباً (ع) بكى من حب الله ـ عز وجل ـ حتى عمى، فرد الله عليه بصره، ثم بكى حتى عمى، فرد الله عليه بصره، فلما كانت الرابعة اوحى الله إليه: يا شعيب! إلى متى يكون هذا ابدلً منك، ان يكن هذا خوفاً من النار فقد اجرتك، وان يكن شوقاً إلى الجنة فقد ابحتك. فقال: إلهي وسيدي! أنت تعلم اني ما بكيت خوفاً من نارك، ولا شوقاً إلى جنتك، ولكن عقد حبك على قلبي، فلست اصبر أو اراك. فاوحى الله: اما إذا كان هذا هكذا سأخدمك كليمي موسى بن عمران ". وروى: " أنه جاء اعرابي إلى النبي (ص) فقال: يا رسول الله! متى الساعة؟ فقال (ص) : ما اعددت لها؟ قال: ما اعددت لها كثير صلاة ولا صيام، إلا اني احب الله ورسوله، فقال له النبي: المرء مع من احب ". وفي أخبار داود: " قل لعبادي المتوجهين إلى محبتي: ما ضركم إذا احتجبتم عن خلقي إذ رفعت الحجاب فيما بيني وبينكم حتى تنظروا إلى بعيون قلوبكم، وما ضركم ما زويت عنكم من الدنيا إذ بسطت دينى لكم، وما ضركم مسخطة الخلق إذ التمستم رضاي ". وفيها أيضا: " يا داود! انك تزعم انك تحبني، فان كنت تحبني فاخرج حب الدنيا عن قلبك، فان حبي وحبها لا يجتمعان في قلب ". وقال أمير المؤمنين (ع) في دعا كميل: " فهبني يا الهي وسيدي ومولاي وربي صبرت على عذابك، فكيف اصبر على فراقك؟ ". وقال (ع): " ان لله ـ تعالى ـ شرابا لأوليائه، إذا شربوا سكروا، وإذا سكروا طربوا، وإذا طربوا طابوا، وإذا طابوا ذابوا، وإذا ذابوا خلصوا، وإذا خلصوا طلبوا، وإذا طلبوا وجدوا، وإذا وجدوا وصلوا، وإذا وصلوا اتصلوا، وإذا اتصلوا لا فرق بينهم وبين حبيبهم "[5]. وقال سيد الشهداء في دعاء عرفة: " أنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب احبائك حتى لم يحبوا سواك ولم يلجأوا إلى غيرك ". وقال (ع): " يا من أذاق احباءه حلاوة المؤانسة فقاموا بين يديه متملقين ". وفي المناجاة الانجيلية المنسوبة إلى سيد الساجدين (ع): " وعزتك! لقد أحببتك محبة استقرت في قلبي حلاوتها، وانست نفسي ببشارتها، ومحال في عدل أقضيتك أن تسد أسباب رحمتك عن معتقدى محبتك ". وفي مناجاته الأخرى: " إلهي فاجعلنا من الذين توشحت اشجار الشوق إليك في حدائق صدورهم، وأخذت لوعة محبتك بمجامع قلوبهم "... ثم قال: " والحقنا بعبادك الذين هم بالبدار إليك يسارعون، وبابك على الدوام يطرقون، واياك في الليل والنهار يعبدون، وهم من هيبتك مشفقون، الذين صفيت لهم المشارب، وبلغتهم الرغائب، وانجحت له المطالب، وقضيت لهم من وصلك المآرب، وملأت لهم ضمائرهم من حبك، ورويتهم صافي شرابك، فبك إلى لذيذ مناجاتك وصلوا، ومنك على أقصى مقاصدهم حصلوا "... ثم قال: " فقد انقطعت إليك همتى، وانصرفت نحوك رغبتي، فأنت لا غيرك مرادى، ولك لا سواك سهرى وسهادي. ولقاؤك قرة عيني، ووصلك منى نفسي، واليك شوقي، وفي محبتك ولهى، وإلى هواك صبابتي، ورضاك بغيتي، ورؤيتك حاجتي، وجوارك طلبي، وقربك غاية مسألتي، وفي مناجاتك روحي وراحتي، وعندك دواء علتي، وشفاء غلتي، وبرد لوعتي، وكشف كربتي "... ثم قال: " ولا تقطعني عنك، ولا تباعدني منك، يا نعيمي وجنتى! ويا دنياى وآخرتى! ". وقال (ع) أيضاً: " إلهي! من ذا الذي ذاق حلاوة محبتك فرام منك بدلا، ومن ذا الذي أنس بقربك فابتغى عنك حولا، إلهي! فاجعلني ممن اصطفيته لقربك وولايتك، وأخلصته لودك ومحبتك، وشوقته إلى لقائك، ورضيته بقضائك، ومنحته بالنظر إلى وجهك، وحبوته برضاك، وأعذته من هجرك "... ثم قال: " وهيمت قلبه لارادتك، واجتبيته لمشاهدتك، واخليت وجهه لك، وفرغت فؤاده لحبك "... ثم قال: " اللهم اجعلنا ممن دأبهم الارتياح إليك والحنين، ودهرهم الزفرة والأنين، وجباههم ساجدة لعظمتك، وعيونهم ساهرة في خدمتك، ودموعهم سائلة من خشيتك وقلوبهم معلقة بمحبتك، وافئدتهم منخلعة من مهابتك. يا من انوار قدسه لأبصار محبيه رائقة، وسبحات نور وجهه لقلوب عارفيه شائقة! يا منى قلوب المشتاقين، وغاية آمال المحبين! اسألك حبك وحب من يحبك وحب كل عمل يوصل إلى قربك، وأن تجعلك أحب إلي ممن سواك ". وقال (ع) أيضا: " إلهي! ما الذ خواطر الالهام بذكرك على القلوب، وما أحلى المسير إليك في مسالك الغيوب، وما أطيب طعم حبك، وما أعذب شرب قربك ". وقال (ع) أيضا: " وغلتي لا يبردها إلا وصلك، ولوعتي لا يطفيها إلا لقاؤك وشوقي إليك لا يبله إلا النظر إلى وجهك، وقراري لا يقر دون دنوي منك، ولهفتي لا يردها إلا روحك، وسقمي لا يشفيه إلا طبك، وغمي لا يزيله إلا قربك، وجرحي لا يبرؤه إلا صفحك، ورين قلبي لا يجلوه إلا عفوك، ووسواس صدري لا يزيحه إلا امرك "[6]. وقال الصادق (ع): " حب الله إذا أضاء على سر عبد أخلاه عن كل شاغل وكل ذكر سوى الله، والمحب اخلص الناس سراً لله، وأصدقهم قولا، وأوفاهم عهداً، وأزكاهم عملاً، وأصفاهم ذكراً، واعبدهم نفساً، تتباهى الملائكة عند مناجاته، وتفتخر برؤيته، وبه يعمر الله بلاده، وبكرامته يكرم الله عباده، ويعطيهم إذا سألوه بحقه، ويدفع عنهم البلايا برحمته، ولو علم الخلق ما محله عند الله ومنزلته لديه ما تقربوا إلى الله إلا بتراب قدميه ". وقال أمير المؤمنين (ع): " حب الله نار لا يمر على شيء إلا احترق، ونور الله لا يطلع على شيء إلا اضاء، وسماء الله ما ظهر من تحته شيء إلا غطاه، وريح الله ما تهب في شيء إلا حركته، وماء الله يحيى به كل شيء، وارض الله ينبت منها كل شيء، فمن احب الله أعطاه كل شيء من الملك والملك ". وقال النبي (ص): " إذا أحب الله عبداً من امتي قذف في قلوب اصفيائه وارواح ملائكته وسكان عرشه محبته ليحبوه، فذلك المحب حقاً، طوبى له ثم طوبى له! وله عند الله شفاعة يوم القيامة "[7]. إلى هنا كلام الصادق (ع). وما ورد في الحب من الأخبار والادعية المعصومية أكثر من أن يحصى، وحكايات العشاق والمحبين لم تبلغ من الكثرة والتواتر حداً يمكن انكاره، وقد روى: " أن داود (ع) سأل ربه أن يريه بعض أهل محبته، فقال له: ائت جبل لبنان، فان فيه أربعة عشر نفساً، فيهم شبان وكهول ومشايخ، وإذا أتيتهم فاقرأهم منى السلام، وقل لهم: يقول ربكم: ألا تسألوني حاجة، فانكم أحبائي واصفيائي واوليائي، افرح لفرحكم واسارع إلى محبتكم. فاتاهم داود، فوجدهم عند عين من العيون، يتفكرون في عظمة الله وملكوته، فلما نظروا إلى داود، نهضوا ليتفرقوا عنه، فقال لهم داود: انا رسول الله اليكم، جئتكم لابلغكم رسالة ربكم. فاقبلوا نحوه والقوا اسماعهم نحو قوله، والقوا ابصارهم إلى الأرض، فقال داود: ربكم يقرؤكم السلام، ويقول لكم: ألا تسألوني حاجة، ألا تنادوني فاسمع صوتكم وكلامكم؟ فانكم احبائي واصفيائي واوليائي، افرح لفرحكم واسارع إلى محبتكم، وانظر اليكم في كل ساعة نظر الوالدة الشفيقة الرفيقة. ولما قال داود ذلك جرت الدموع على خدودهم، وسبح الله كل واحد منهم ومجده، وناجاه بكلمات تدل على احتراق قلوبهم من الحب والشوق ".

فصل

(معرفة الله اقوى سائر اللذات)

قد عرفت ان الحب هو الميل إلى الشيء الملذ الملائم للمدرك والابتهاج بادراك الملائم ونيله، واللذة هي نفس ادراك الملائم الملذ ونيله، وهذا الادراك إن كان متعلقاً بالقوة العاقلة ـ أي ان كان المدرك هو القوة العاقلة ـ عبر عنه بالعلم والمعرفة، وقد عرفت انه اقوى واشد واشرف من الادراكات الحسية، والتي هي الابصار والاستماع والذوق والشم واللمس.

ثم هذا الادراك ـ اعني العلم والمعرفة ـ يختلف أيضاً في الشرافة والكمال بحسب شرافة المدرك، أي المعلوم. فكما كان المدرك اجل واشرف كان الادراك ـ أي المعرفة به ـ اجل واعلى. ولا ريب في ان الواجب ـ سبحانه ـ اشرف الموجودات واجلها، فالمعرفة به اعلى المعارف واشرفها ويثبت من ذلك: ان اجل اللذات واعلاها هو معرفة الله ـ تعالى ـ والنظر إلى وجهه الكريم، ولا يتصور ان يؤثر عليها لذة اخرى إلا من حرم هذه اللذة. وبيان ذلك بوجه اوضح: ان اللذات تابعة للادراكات، والإنسان جامع لجملة من القوى والغرائز، ولكل قوة وغريزة لذة، ولذتها عبارة عن نيلها مقتضى طبعها الذي خلقت له، فغريزة الغضب لما خلقت للتشفي والانتقام، فلا جرم لذتها في الغلبة والانتقام، وغريزة الشهوة لما خلقت لتحصيل الغذاء الذي به القوام، فلا جرم لذتها في نيل الغذاء، وكذلك لذة السمع والبصر والشم في الاستماع والإبصار والاستشمام، وغريزة العقل المسماة بالبصيرة الباطنية خلقت لتعلم بها حقائق الأشياء كلها، فلذتها في العلم والمعرفة، والعلم لكونه منتهى الكمال وأخص صفات الربوبية، يكون اقوى اللذات والابتهاجات، ولذلك يرتاح الطبع إذا أثني عليه بالذكاء وغزارة العلم، لأنه يستشعر عند سماع الثناء كمال ذاته وجمال علمه، فيعجب بنفسه، ويلتذ به.

والتحقيق: ان الادراك والنيل الذي هو الكمال ليس إلا العلم، وسائر الادراكات ـ اعني نيل الغلبة والغذاء والاسماع والابصار والاستشمام ـ لا تعد كمالات. ثم ليست لذة كل حلو واحدة، فان لذة العلم بالحراثة والخياطة والحياكة ليست كلذة العلم بسياسة الملك وتدبير أمور الخلق، ولا لذة العلم بالنحو والشعر والتواريخ كلذة العلم بالله وبصفاته وملائكته وملكوت السماوات والأرض، بل لذة العلم بقدر شرف العلم وشرف العلم بقدر شرف المعلوم، فان كان في المعلومات ما هو الأشرف والاجل والاعظم والأكمل، فالعلم به ألذ العلوم واشرفها واكملها واطيبها، وليت شعري هل في الوجود شيء اعلى واجمل واشرف واكمل من خالق الأشياء كلها وقيومها، ومكملها ومربيها، ومبدئها ومعيدها، ومدبرها ومرتبها؟! وهل يتصور أن يكون أحد في الملك والكمال والعظمة والجلال والقدرة والجمال والكبرياء والبهاء اعظم ممن ذاته في صفات الكمال ونعوت الجلال فوق التمام، وقدرته وعظمته وملكه وعلمه غير متناهية؟ فان كنت لا تشك في ذلك، فينبغي إلا تشك في ان لذة المعرفة به أقوى من سائر اللذات لمن له البصيرة الباطنة وغريزة المعرفة، فان اللذات مختلفة بالنوع أولاً، كمخالفة لذة الوقاع ولذة السماع، ولذة المعرفة ولذة الرئاسة، وكل نوع مختلف بالضعف والقوة، كمخالفة لذة الشبق المغتلم[8] من الجماع، ولذة الفاتر الشهوة منه، وكمخالفة لذة النظر إلى الوجه الجميل ولذة النظر إلى الوجه الاجمل، ومخالفة لذة العلم باللغات ولذة العلم بالسماويات، وإنما يعرف اقوى اللذتين من اضعفهما بأن يؤثر عليه، فان المخير بين النظر إلى صورة جميلة وبين استنشاق روايح طيبة، إذا اختار الأول كان عنده الذهن الثاني، والخير بين الاكل واللعب بالشطرنج، إذا اختار الثاني كانت لذة الغلبة في الشطرنج اقوى عنده لذة من الاكل، وهذا معيار في الكشف عن ترجيح اللذات.

وحينئذ نقول: لا ريب في ان المعاني واللذات الباطنة اغلب على ذوى الكمال من اللذات الظاهرة، فلو خير الرجل بين لذة أكل المطاعم الطيبة ولذة الرئاسة والاستيلاء، فان كان عالي الهمة كامل العقل، اختار الرئاسة وترك الاكل، وصبر على الجوع أياماً كثيرة فضلا من مدة قليلة. نعم، ان كان خسيس الهمة ميت القلب، ناقص العقل والبصيرة، كالصبي والمعتوه، ربما اختار لذة الاكل، وفعل مثله ليس حجة. ثم كما ان لذة الرئاسة والكرامة اغلب وارجح من اللذات الحسية عند من جاوز نقصان الصبي والسفاهة، فكذلك لذة المعرفة بالله ومطالعة جمال الحضرة الربوبية الذ عنده من لذة الرئاسة، بشرط أن يكون ممن ذاق اللذتين وادركهما، فلو كان ممن لم يذق لذة المعرفة بالله لم يكن أهلا للترجيح ومحلا للكلام، لاختصاص لذة المعرفة بمن نال رتبتها وذاقها، ولا يمكن اثبات ذلك عند من ليس له قلب، كما لا تثبت لذة الابصار عند الأعمى، ولذة الاستماع عند الأصم، ولذة الوقاع عند العنين، ولذة الرئاسة عند الصبي المعتوه، وليت شعري من لا يفهم إلا حب المحسوسات كيف يؤمر بلذة النظر إلى وجه الله ـ تعالى ـ وليس له شبه وشكل وصورة؟ فحقيقة الحال كما قيل: " من ذاق عرف ". فمن ذاق اللذتين يترك لذة الرئاسة قطعاً، ويستحقر أهلها لكونها مشوبة بالكدورات ومقطوعة بالموت، ويختار لذة المعرفة بالله، ومطالعة صفاته وافعاله، ونظام مملكته من اعلى عليين إلى اسفل السافلين، فانها خالية عن الانقطاع والمكدورات، متسعة للمتواردين عليها، لا تضيق بكثرتهم دائماً، وعرضها من حيث التفهيم والتمثيل اعظم من السماوات والأرض، ومن حيث الواقع ونفس الأمر فلا نهاية لعرضها، فلا يزال العارف بمطالعتها ومشاهدتها في جنة غير متناهية الاطراف والاقطار، يرتع في رياضها، ويكرع[9] في حياضها، ويقطع من اثمارها، وهو آمن من انقطاعها، إذ ثمارها غير مقطوعة ولا ممنوعة، بل هي ابدية سرمدية لا يقطعها الموت، إذ الموت لا يهدم النفس الناطقة التي هي محل المعرفة، وإنما يقطع شواغلها وعوائقها ويخليها من جنسها، فاذن جميع أقطار ملكوت السماوات والأرض، بل اقطار عالم الربوبية التي هي غير متناهية، ميدان للعارفين، يتبوؤن منها حيث يشاؤن، من غير حاجة إلى حركة اجسامهم، ومن غير ان يضيق بعضهم على بعض اصلا، إلا انهم يتفاوتون في سعة ميادينهم بحسب تفاوتهم في اتساع الأنظار وسعة المعارف:

" ولكل درجات مما عملوا "[10]

ولا يدخل في الحصر تفاوت درجاتهم، ومن عرف هذه اللذة انمحت همومه وشهواته، وصار قلبه مستغرقا بنعيمها، ولا يشغله عن الله خوف النار ولا رجاء الجنة، فكيف تشغله عنه لذات الدنيا وعلائقها، وكان في الدنيا والآخرة مشغولا بربه، فلو ألقي في النار لم يحس به لاستغراقه، ولو عرض عليه نعيم الجنة لم يلتفت إليه لكمال نعيمه وبلوغه الغاية التي ليس فوقها غاية، ولعل سيد الرسل (ص) عبر عن هذه اللذة ـ أي لذة مطالعة جمال الربوبية ـ حيث قال حاكياً عن الله ـ سبحانه ـ: " أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت، ولا اذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ". وهذه اللذة هي المرادة من قوله ـ تعالى ـ:

" فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعينٍ "[11]

وربما تعجل بعض هذه اللذات لمن انتهى صفاء قلبه إلى الغاية، ومع ذلك لا يخو عن توسط بعض الحجب المانعة عن الوصول إلى كنهها، ما لم يحصل التجرد الكلي وخلع البدن العنصري، ولذلك قال بعضهم: إني اقول : " يارب يا الله! فاجد ذلك اثقل على قلبي من الجبال، لأن النداء يكون من وراء حجاب، وهل رأيت جليساً ينادي جليسه؟! ". ثم من عرف الله وعرف حقيقة هذه اللذة، عرف أن اللذات المقرونة بالشهوات المختلفة منطوية تحت هذه اللذة، كما قيل:

 

فـاستجمعت مـذ رأتك العين اهـوائى

كـانت لقلبـي أهـواء مفـرقة

وصرت مولى الورى مذ صرت مولائى

فصار يحسدني مـن كنت أحسده

شغـلا بذكـرك يـا دينـي ودنيـائى

تـركت للناس دنيـاهم ودينهم



[1]  آه لولا الحب يسري في جميع الكائنات

                            ما على الورد غدا البلبل يزجى النغمات

[2]  المائدة، الآية: 57.

[3]  البقرة، الآية: 165.

[4]  التوبة، الآية: 25.

[5]  لم نعثر على مصدر لهذه الرواية في كتب اصحابنا الامامية ـ (رض).

[6]  صححنا فقرات المناجاة الانجيلية والمناجاة الأخرى على (البحار) باب ادعية المناجاة: مج19/107 ـ 114، ط امين الضرب.

[7]  صححنا الأحاديث الثلاثة على (مصباح الشريعة) ـ الباب السابع والتسعون، ص193.

[8]  الغلمة ـ وزان غرفة ـ: شدة الشهوة. وغلم غلماً: من باب تعب، إذا اشتد شبقه. المغتلم! المنقاد للشهوة.

[9]  كرع ـ من باب نفع ـ : هو الشرب بفيه من موضعه.

[10]  الانعام، الآية: 132، والاحقاف، الآية: 19.

[11]  السجدة، الآية: 17.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست