.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست
 

التوبة

الاستغناء يحفظ الكرامة الإنسانية

حقيقة الزهد

البساطة واجتناب التكلف

 

 

 

التوبة

قال رسول الله (ص) في آخر خطبة له يعظ الناس: إذا تاب الإنسان قَبْلَ عام قَبِلَ الله توبته، ثم قال: هذا كثير إن الله يقبل التوبة بأقل من عام، إذا تاب الإنسان قَبْلَ شهر قَبِلَ الله توبته، ثم قال: هذا كثير وإن الله يقبل بأقل من شهر، إن الله يقبل التوبة قَبْلَ يوم، ثم قال: يوم كثير إن الله ليقبل التوبة بأقل من ساعة، إن الله ليقبل التوبة قبل لحظة من موته. [لم أعثر على نص الحديث] المترجم.

التوبة هي الرجوع والعودة إلى الله، ومن غير الممكن أن يعود الإنسان إلى جادة الحق بعد أن يترك طرق الضلال وأن لا يقبل الله توبته وعودته وقبوله في رحمته الواسعة.

إن الركن الأساس في التوبة هو الندم على المعصية والتصميم على ترك الآثام، وهذا ينقسم بدوره إلى نوعين، فهناك نوع كاذب على الندم والتصميم على ترك الأثم، وذلك عندما يندم الإنسان على ذنبه لدى رؤيته الجزاء والعقاب فيتمنى حينها أنه لم يرتكب من ذلك شيئاً.

إن مثل هذا الإنسان لو كان قد رأى الجزاء أمام عينيه حاضراً لما اقدم على ارتكابه المعصية، ذلك أن رؤية الجزاء أو العقاب المترتب على الذنب سيمنع الإنسان قهراً عن ارتكاب المعاصي، وهنا يفقد الإنسان قدرة الاختيار وعنصر الإرادة.

إن ترك الذنب لا يعتبر توبة إلا إذا رأى الإنسان ارتكابه الذنب حاضراً ومبلغاً يستلمه نقداً في حين يعتبر الجزاء ديناً يترتب دفعه في المستقبل؛ وفي هذه الحالة يعتبر إقلاعه عن الذنب ـ سواء كان ذلك خوفاً من الجزاء في المستقبل أو طمعاً في الثواب في الآخرة أو استقباحاً للذنب نفسه ـ إرادة وتصميماً وتوبة.

إن التوبة الحقيقية هي الإرادة الحازمة على ترك المعاصي والذنوب، والعودة الحقيقية إلى طريق الصلاح والرشاد.

ومن الطبيعي أن الله سيقبل توبة عبده وهو يرى عودته إليه بوازع من نفسه دون إجبار من خلال مشاهدة العقاب والجزاء، إن الله ولاشك سيقبل توبته ودخوله إلى رحمته التي تسع كل شيء.

إن الله لا يقبل التوبة في موطنين، الأول: التوبة لدى رؤية العذاب في الدنيا حاضراً، حيث تحصل حالة من التوبة الظاهرية دون أن يكون لها أساس حقيقي في أعماق الإنسان. قال سبحانه وتعالى: (فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون). [غافر: 83 ـ 84].

كما ورد هذا الرفض في إيمان فرعون قبل أن تبتلعه أمواج البحر، لقد كان يطارد موسى وقومه بعد أن شردهم عن ديارهم، وعندما انفتح البحر لموسى لم يتدبر فرعون هذه المعجزة ويؤمن بالله ومنته نفسه المنحرفة بمواصلة الملاحقة لموسى وقومه، ولكن عندما هاجمته الأمواج من كل مكان إذا به ينادي: آمنت بالذي آمن به بنو إسرائيل فجاءه الجواب: الآن! وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين!

أما الموطن الآخر الذي ترفض فيه التوبة فهو عندما يوقن الإنسان بأنه سوف يودع الدنيا وأطل على عالم الآخرة، وفي مثل هذه الحالة التي يفقد فيها الإنسان الإرادة والتصميم على العمل والحركة والتكامل فلا معنى لتوبته الخالية من أي أثر في النفس.

إن الإنسان في الدنيا كالفاكهة في الاشجار، فما دامت الثمرة مرتبطة بالغصن فهي تتغذى عن طريق الجذور وتستفيد من الضوء والحرارة والهواء، فإذا نضجت تماماً أو اقتطفت انقطعت علاقتها بالشجرة، وفي هذه الحالة يتوقف تكاملها ورقيها ونموها وصراعها مع الآفات، فإذا انفصلت عن الشجرة وهي فجّة أو كانت غير ناضجة فلن يفيدها شيء أو ينفعها أمر، وإن أصابها الذبول فلا فائدة من سقيها الماء أو تعريضها للضوء والحرارة والهواء.

كذلك الإنسان في عالم الطبيعة، فتكامله المنشود ينبغي أن يحصل ما دام مرتبطاً بشجرة الطبيعة، فإذا انفصل عنها من خلال الموت فلا فائدة بغير ذلك حيث انغلق في وجهه طريق الصلاح.

وبالطبع هناك استثناء يتوجب الإشارة إليه وهو أن موت الإنسان لا يعني توقف تكامله تماماً، إذ توجد موارد يستمر فيها الإنسان في انتهاله من الرحمة الإلهية، وفي ما أشار إليه رسول الله (ص) في حديثه الشريف: إذا ما مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية (كأن تكون مستشفى ينتفع منه عباد الله أو مدرسة أو مسجداً) وعلم ينتفع به (كالكتاب) وولد صالح يدعو له (بعد وفاته ويستغفر له).

 

الاستغناء يحفظ الكرامة الإنسانية

قال أمير المؤمنين علي (ع): "أحسن إلى من شئت تكن أميره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره[1]".

إن هذه الكلمات العظيمة تفلسف شرف وحرية وكرامة الإنسان، ذلك أعظم ما يتجلى به الإنسان، هو العزة والكرامة. ولا يوجد في الحياة قيد أو سجن أكثر مهانة من الإحساس بالأسر والقهر والعبودية للآخرين، حيث تكون إرادة الآخرين اقوى من إرادته، وأن يحتل تفكير الآخرين تفكيره وأن يتخلى عن دوره ليقوم بتنفيذ أدوار الآخرين والخضوع لرغباتهم وأمانيهم بكل ذلة؛ وهذا أمر يرفضه الأحرار الذين يرجحون الموت على أن يعيشوا أذلاء في هذه الحياة. يقول الإمام علي (ع) في وصيته لابنه الحسن (ع): "لا تكن عبداً لغيرك وقد جعلك الله حراً[2]".

في حرب صفين وعندما التقى جيشا علي (ع) ومعاوية قرب الفرات، بادر جيش معاوية إلى الاستيلاء على النهر وحرمان جيش الإمام من الماء وقد استبشر معاوية بذلك واعتبره فتحاً، وعندما وصل الخبر إلى علي (ع) بعث له برسالة جاء فيها: إنا سرنا مسيرنا هذا ونحن نكره قتالكم قبل الاعذار إليكم، فقدمت إلينا خيلك ورجالك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك، ونحن من رأينا الكفّ حتى ندعوك ونحتج إليك، وهذه أخرى قد فعلتموها، منعتم الناس عن الماء، والناس غير منتهين، فابعث إلى أصحابك فليخلوا بين الناس وبين الماء وليكفوا لننظر فيما بيننا وبينك وما قدمنا له فإن أردت أن نترك ما جئتنا له ونقتتل على الماء حتى يكون الغالب هو الشارب فعلنا.

ولكن معاوية الذي رأى في عمله هذا فتحاً عسكرياً تملكه الغرور فلم يرعوِ ولم يتراجع عن غيه ضارباً عرض الحائط كل الاعتبارات الأخلاقية والإنسانية؛ وهنا توجه الإمام نحو جيشه واستنهض في أعماق جنوده قيم الحرية والعزة والشرف بعبارات تلتهب حماساً قائلاً لهم: قد استطعموكم القتال فأقروا على مذلة وتأخير محلة أو رووا السيوف من الدماء ترووا من الماء، فالموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين، ألا وإن معاوية قاد لمّة من الغواة وعمس عليهم الخبر حتى جعلوا نحورهم أغراض المنية[3].

واندفعت قوات الإمام نحو الفرات وما هي إلى لحظات حتى أصبح الماء في قبضتهم، وطلب البعض معاملة معاوية وأصحابه بالمثل وحرمانهم من الماء، ولكن الإمام رفض هذا المنطق قائلاً: خذوا حاجتكم من الماء وخلوا عنهم فإن الله قد نصركم ببغيهم وظلمهم.

لقد فعل الإمام ذلك انطلاقاً من منطقه الإنساني الذي استفتحنا به الحديث وهو: أحسن إلى من شئت تكن أميره واستغن عمن شئت تكن نظيره واحتج إلى من شئت تكن أسيره.

إن الحاجة إلى ما في أيدي الناس يعرض الكرامة الإنسانية إلى الخطر في حين تصون القناعة شخصية الإنسان من الذل وتحفظ لها عزتها وشرفها.

وقد قال الإمام (ع) في مناسبة أخرى: أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع.

وقال عليه السلام في شعر ينسب له:

لا تطلبن معيشة بمذلة            وارفع بنفسك عن دني المطلب

وإذا افتقرت فدوِ فقرك بالغنى  عن كل ذي تَفس كجلد الأجرب

وقال رسول الله (ص): "ملعون من القى كله على الناس[4]".

وقال (ص): في حديث آخر: "الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله[5]".

 

حقيقة الزهد

الحمد لله رب العالمين بارئ الخلائق أجمعين، والصلاة والسلام على عبد الله ورسوله وحبيبه وصفيه محمد وآله الطاهرين.

قال تعالى في محكم كتابه الكريم: (ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه. [الاعراف: 176]

دار الحديث في الليلة الماضية[6].  حول موضوع الدنيا ورأي الدين في هذه المسألة، وتناولنا معنى الزهد والاعراض عن الدنيا وهل أن المراد من الإعراض عن الدنيا هو الانصراف عنها تماماً؟ أو أن المراد من الزهد هو انتهاج طريق في الحياة يقدم الفضيلة والأخلاق على المطامع المادية؟

وفي هذه الليلة سنحاول توضيح المسألة وبحث الموضوع بدقة أكثر.

إن المراد من ذم الدنيا ليس الدنيا نفسها بل هو حب الدنيا، ذلك أن الخطر لا يكمن في الدنيا ذاتها بل في التعلق بها.

فالثروة والمال والجاه والمرأة والأولاد ليست أموراً مذمومة بل إن التعلق بها هو مذموم، ذلك أن الدنيا هي ما خلق الله سبحانه من شمس وقمر وأرض ونجوم ونبات وحيوان وإن الدنيا عبارة عن المرأة والولد والمال والثروة، وكل هذه الموجودات خلقها الله وأبدعها وأقسم بها فلا يمكن أبداً أن تكون مذمومة. إن الذم ينحصر في التعلق بهذه الأمور، وينطوي هنا معنى الزهد في الدنيا.

قد يرد إشكال في هذا العرض وتساؤل عن الفرق بين أن نقول بأن الدنيا مذمومة ينبغي تركها وبين أن نقول بأن حب الدنيا هو المذموم. فلماذا يكون حب الدنيا مذموماً وهو أمر غرسه الله في نفس الإنسان، ولماذا لا يكون هذا الجانب مقدساً كسائر مخلوقات الله؟ إذ لولا هذا الميل للدنيا الذي أودعه الله في نفس الإنسان بل وفي نفس كل كائن حي لما استمرت الحياة على وجه الأرض ولما دافع الإنسان عن نفسه ضد الأخطار التي تواجهه ولما وجدت تلك الرغبة في نفوس الحيوانات في الاستمرار في العيش والدفاع عن الحياة ولما ترعرع الحب في قلب الرجل للمرأة والأولاد. فمن أجل استمرار الأجيال وبقاء النوع الإنساني أودع الله في نفس هذا المخلوق رغبات وميولاً شتى: فمن حبه إلى العزة والقدرة إلى الميل في كسب العلوم والتمتع بالجمال وغير ذلك من الميول.

إذا كنا لا نستيطع أن نذم العالم وما فيه من موجودات ومخلوقات فإن في هذه الحالة لا يمكننا أن نذم التعلق والرغبة بها لأنها جزء من الخلق شأنها شأن سائر أعضاء الإنسان، ذلك أن كل ما هو موجود في الإنسان إنما يستند إلى حكمة في خلقه حتى الشعرة الواحدة والعرق المتناهي في الصغر. لا يوجد شيء زائد أو عبث في الخلق؛ كذلك الجانب الروحي في الإنسان فالرغبات والميول هي الأخرى ليست موجودة عبثاً أو دون حكمة؛ وإذن فإن ترك حب الدنيا ينطوي على نفس الإشكال الذي يثار في مسألة ترك الدنيا ذاتها.

والجواب على هذا الإشكال هو أن المقصود من حب الدنيا ليس ذلك الميل الفطري الذي تنطوي فيه حكمة الخلق كما تعبر عنه الآية الكريمة: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة). [الروم: 20]

وهذا نبينا الأكرم (ص) يقول: "أحببت من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء وقرة عيني الصلاة".

وإذن فإن المراد من ترك الدنيا ليس الميول الفطرية التي أودعها الله في الذات الإنسانية. ولو وجد إنسان يفتقر إلى جميع العواطف والمشاعر والميول، ليس له أصدقاء يهفو إليهم وينظر إلى أولاده كما لو كانوا غرباء أو ينظر إليهم كما كانوا حجارة أو أعمدة من خشب. حتى لو افترضنا بأنه يحبهم لأنهم خلق من مخلوقات الله فلا شك أن مثل هذا الإنسان ناقص.

إذا كان إبراهيم الذي أراد ذبح ولده إسماعيل ينظر إليه كما لو كان كبشاً لما كانت التضحية هذه قيمة في طريق الكمال؛ كذلك لو كان الإمام الحسين سيد الشهداء الذي قدم إخوته وأصحابه وأهل بيته ضحايا في سبيل الله لا يكترث بهم لما كانت لتضحيته هذه، هذا الشأن.

فالمراد إذن أمر آخر. قال تعالى: (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب). [آل عمران: 14]

اشتملت هذه الآية الكريمة على جملة أمور هي: المرأة، الأولاد، الأموال من ذهب وفضة، الخيل المزينة، الأنعام، والمزارع، والخ من متاع الحياة الدنيا؛ وجو الآية يوحي بالانتقاد، فما هو الشيء الذي تذمه الآية؟ نفس تلك الأمور التي استعرضتها وأشارت إليها؟ هل تنتقد نفس المرأة والأولاد والثروة، وغيرها؟ كلا! هل تنتقد الميل الفطري لها؟ كلا أيضاً! إذن ماذا تنتقد الآية؟ إنها تنتقد الاستغراق في هذا المتاع والغفلة عما وراء ذلك. إنها تذم الانسياق وراء الملذات دون روية وتدبرّ فيما وراء هذه الحياة (ذلك مبلغهم من العلم). [النجم: 30]

لقد تحدث القرآن الكريم عن إنسان بلغ من عبادته لله شأناً عظيماً ثم انحرف عن الطريق من أجل بعض المنافع المادية، قال تعالى: (واتل عليهم نبأ الذي أتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين). [الأعراف: 175]

وكان بإمكانه أن ينال بها سعادة الدارين ولكنه اتبع خطوات الشيطان (ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه). [الأعراف: 176]

لقد كان بإمكانه أن يترفع ولكنه التصق بالأرض واتبع هواه.

قال تعالى: (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا وأطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون. أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون). [يونس: 7]

نفهم من مجموع هذه الآيات أن ما يذمه الدين ويرفضه هو الانقطاع إلى الدنيا والغفلة عن الله والآخرة؛ والإخلاد إلى الأرض والالتصاق بها والاكتفاء بالحياة الدنيا، وعندما يقال بأن الدنيا مذمومة فالمراد هو التعلق بها والتوقف عندها وعدم النظر بما بعدها.

قال الإمام علي (ع): "وإنما الدنيا منتهى بصر الأعمى[7]".

الجانب الذي يذمه الدين هو العمى، عدم امتداد النظر إلى ما وراء حجب الطبيعة، انحصار الفكر بالمادة. يقول القرآن الكريم: (فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا، ذلك مبلغهم من العلم)[8].  

إن حب الدنيا وحب النساء والأولاد والأموال والجاه مسألة فطرية أودعها الله في ذات الإنسان من أجل استمرار الحياة، ولو سلبت منه لنسفت حياته في الدنيا وحياته في الآخرة.

إن حركة الحياة والتكامل تتوقف على تلك الميول الفطرية، ولكن الانقطاع إليها والاكتفاء بها سيوقف الإنسان في حدود حيوانيته وسيمنعه من السير في طريق التكامل.

إذن فمن هو التارك للدنيا الزاهد فيها؟ إنه الإنسان الذي سخر الدنيا من أجل الوصول إلى هدفه السامي في الآخرة.

إن الانقطاع إلى الدنيا لا يؤدي إلى توقف حياة الإنسان بل إلى تدميرها فهل تظنون أن الحرص يتمكن من إدارة الدنيا؟ أو أن الطمع قادر على تسيير الحياة؟ أو أن الغضب والشهوة يمكنهما منح العالم قدراً من النظام؟ وهل أن عبادة البطن أو المرأة أو المال أو الجاه أو كل ما يعبر عن الاكتفاء بالدنيا والاستغراق فيها قادر على منح السعادة للإنسان؟ إن الإنسان لا يمكنه أن يدير الدنيا أو يصنع مدينته الفاضلة، ويحيى حراً إلا إذا سخر الدنيا لإرادته ولم يصبح أسيراً لها تتقاذفه أمواجها المتلاطمة.

إن جميع الرذائل كالكذب والرياء والتملق والظلم إنما تنشأ من عبادة الدنيا، وفي مقابل ذلك فإن جميع الفضائل إنما تنتج عن الزهد في الدنيا وعدم الاكتفاء بها.

إن الإنسان لا يمكنه أن يصبح شجاعاً إذا كان غارقاً في حب الدنيا وعبادتها كما لا يمكنه أن يكون عفيفاً أو أن يعيش حياته حراً كريماً.

إن الزاهد هو من تتوفر فيه هذه الخصال لا الإنسان المنزوي الذي يعيش على هامش الحياة ضعيفاً سلبياً متطفلاً خاضعاً لعبيد الدنيا.

الزاهد هو من يسمو على أولئك العبيد بفكره لا يخشى فراق الحياة وتقلباتها، شجاع جريء حر عفيف كريم وتملأ نفسه روح التضحية والفداء.

إن أول خصلة في أولئك الذين يضحون بأنفسهم هي الزهد في الدنيا بكل ما للزهد من معانٍ، فهذا علي أمير المؤمنين (ع) الذي هو خلاصة جميع الفضائل الإنسانية من عدالة وتقوى وشجاعة وحرية وسخاء وكرم ووفاء ومروءة، لقد حاز جميع هذه الصفات لأنه رأى نفسه أسمى وأشرف من الدنيا وما فيها؛ قال في وصيته لولده الحسن: "وأكرم نفسك عن كل دنية وإن ساقتك إلى الرغائب فإنك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضاً، ولا تكون عبد غيرك وقد جعلك الله حراً، وما خير خير لا ينال إلا بشر"[9].

وقال (ع): "الدنيا دار ممر لا دار مقر، والناس فيها رجلان، رجل باع نفسه فأوبقها، ورجل ابتاع نفسه فأعتقها[10]".

وهناك فريق يعيش ثم يغادر الدنيا وفي رقبته آلاف القيود وهناك فريق آخر يغادر الدنيا حراً لا يعرف للعبودية معنى، إلا عبودية الله سبحانه، لا يعبد الشهوة والمال ولا ينقاد للغضب ولا يخشع للجاه ولا يستسلم للثراء بل يحيى حراً كريم النفس، وهذا هو المعنى الحقيقي للزهد.

 

البساطة واجتناب التكلف

جاء في الحديث الشريف: "شر الاخوان من تكلّف له".

يجمع المؤرخون على أن الرسول الأكرم (ص) كان بسيطاً في حياته بعيداً عن التكلف، بسيطاً في ملبسه لكنه نظيف الثوب يفوح منه عطراً وطيباً؛ لقد كانت البساطة تشكل ركناً أساسياً في حياته (ص).

لاشك أن للحياة حدوداً وأصولاً ينبغي رعايتها وإلا تحولت الحياة إلى غابة، ولذا نجد القرآن يشير صراحة إلى هذا المعنى في كثير من آياته، أي إلى وجود حدود إلهية يتوجب على الإنسان عدم تجاوزها.

فالعظماء من البشر هم أولئك الذين تحكم حياتهم بعض الأصول والأسس المحترمة لديهم، وفرق كبير بين تلك الأصول وبين القيود والعادات الفارغة والأمور المتكلفة التي تظهر بين الناس والتي تجعل حياتهم صعبة لا تطاق.

فالأصول التي ينبغي رعايتها تساعد على الاستقرار والطمأنينة في الحياة ولكن القيود والتكلف تزيد من أعباء الحياة وتؤدي إلى الشقاء.

لقد كان رسول الله بسيطاً في ملبسه ولكنه كان يراعي أصول النظافة. كان عليه السلام يرتب هندامه ويرجل شعره في كل صباح وكان ينظر في المرآة قبل أن يخرج من منزله، وكانت النظافة في حياته أصلاً من الأصول ولم تكن قيداً أو تكلفاً، ولكن هناك من يفرط في النظافة وهناك من يفرّط بها، هناك فريق من الناس لا تحدهم حدود وتقيدهم قيود، يعيشون حياة الامبالاة ضاربين عرض الجدار كل الحدود وشعارهم في الحياة البطالة والكسل.

وهناك في المقابل فريق من الناس قد ربطوا أنفسهم بعادات وقيّدوها بتقاليد وإذا هم يعيشون في قفص رهيب، فهناك ألف قيد وقيد في طريقة تناول الطعام وألف قيد وقيد في ارتداء الثياب وآلاف القيود في المعاشرة واستقبال الضيوف وإقامة الأعراس والسفر حتى لتتحول حياتهم إلى مجرد أعباء لا تطاق، فهم يتحركون كالدمى ويتحولون إلى موجودات ورقية أو زجاجية تتحرك وفق آلاف القيود المصنوعة؛ حديثهم تكلف، طريقة مشيهم متصنعة، يتصنعون في ارتداء ثيابهم، يتكلفون في استقبال ضيوفهم، ينهضون بتكلف ويجلسون بتكلف، وبعبارة واحدة إن حياتهم تكلف في تكلف وتصنع في تصنع.

لقد كان رسول الله (ص) يجلس مع أصحابه كأحدهم ولم يكن في مجلسه صدر أو ذيل، فوق أو تحت.

قال سبحانه في محكم كتابه: (يا ايها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم). [المجادلة: 11]

إن التكلف والتقيد إنما ينجم عن حقارة في النفس وانعدام في الشخصية فالبعض من الناس يعانون من إحساس بالحقارة يدفعهم إلى إثبات وجودهم بهذا السلوك. إن مثل هؤلاء الأفراد يحاولون توجيه الأنظار إليهم عن طريق هذه التصرّفات.

إن من يتمتع بمقام علمي فإن شخصيته العلمية هذه لا ترى ضرورة للتظاهر، وعلى العكس فإن من يعاني من إحساس بالتخلف يحاول عن طريق الألقاب والعناوين التظاهر بالأهمية وعلى العموم فإن العمل والنشاط والإيجابية تتناقض مع التصنع والتكلف والغرور والخضوع للعادات الفارغة.

إن التكلف والتصنع يهدر الكثير من الوقت ويستهلك الفكر والخيال ويجلب الضجر والملل.

إن المجتمع يسعى أن يكون فعالاً نشطاً متفوقاً ينبغي عليه أولاً أن يتخفف من أعباء التكلف لكي يتحرك نحو الأمام.

ذهب الإمام الصادق ذات يوم إلى الحمام فأراد صاحب الحمام أن يخليه له، فنهاه الإمام عن ذلك قائلاً: "المؤمن أخف مؤونة من ذلك".

يروي سعدي الشيرازي هذه الحكاية:

رأيت ابن غني جالساً حول قبر أبيه وقد استرسل بالمناظرة مع ابن فقير يباهيه قائلاً: صندوق تربة أبي حجري محكم مكتوب عليه بالنقش الملون كأزهار الربيع وهو مفروش بالرخام مرصع بالفيروز فماذا بقي من الفخر لابيك المبني قبره بلبنتين المرشوش من التراب بقبضة أو قبضتين.

سمع الفقير هذا الفخر فقال: اسكت أيها الغبي فإنه بينما يتحرك أبوك من تحت ثقل الاحجار يكون أبي قد وصل الجنة ونجا من النار[11].

وقال الشاعر:

خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد.



[1]   غرر الحكم طبعة جامعة طهران، ص584

[2]   نهج البلاغة، رسالة رقم: 31

[3]   نهج البلاغة، خطبة رقم: 51

[4]   الكافي، ج5، ص72

[5]   الكافي، ج5، ص88

[6]   إشارة إلى موضوع مثبت في كتاب "عشرون مقالة"

[7]   نهج البلاغة، خطبة: 131

[8]   سورة النجم، الآية: 29 ـ 30

[9]   نهج البلاغة، رسالة: 31

[10]   نهج البلاغة، حكمة: 133

[11]   روضة الورد ـ حكاية: 18 ـ سعدي الشيرازي

 

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست