|
||||||||
قيمة العمر
|
||||||||
قيمة
العُمر من بين
الأحاديث
الشريفة
للرسول
الأكرم (ص)
هناك مجموعة
من الوصايا
يخاطب فيها
النبي شخصاً
معيناً وهي
مثبتة على
شكل بيانات
طويلة
ومفصلة؛
فهناك حديث
طويل له مع
علي (ع) وآخر
له (ص) مع عبد
الله بن
مسعود رضي
الله عنه
وثالث مع أبي
ذر الغفاري
رضوان الله
عليه؛ ولعل
السبب في ذلك
يعود إلى أن
النبي (ص)
أراد من وراء
ذلك أن تكون
مسؤولية
المحافظة
على تلك
الوصايا
الأخلاقية
العامة على
عاتق ذلك
الشخص
المخاطب،
فقد كان
صلوات الله
عليه يوصي
أصحابه بحفظ
ما يسمعونه
منه وإبلاغ
الجميع بذلك
"وليبلغ
االشاهد
الغائب" بنص
الحديث،
وعلى أساس
هذه
التوصيات
النبوية ظهر
(علم الحديث)
في الإسلام
حيث تناقل
المسلمون
أحاديث
النبي صلوات
الله عليه
وآله بكل دقة
وأمانة
جيلاً بعد
آخر؛ وأعقب
ذلك ظهور علم
آخر هو (علم
الرجال) وهو
يعنى بأحوال
رواة الحديث
ومدى ثقتهم
وأمانتهم في
نقل
الأحاديث
الشريفة. في هذا
اليوم أنقل
لكم واحدة من
وصايا النبي
(ص) للصحابي
الجليل أبي
ذر الغفاري.
قال عليه
السلام: "يا
أبا ذر إياك
والتسويف
بأملك فإنك
بيومك ولست
بما بعده،
فإن يكن غد
لك فكن في
الغد كما كنت
في اليوم،
وإن لم يكن
غد لك لم
تندم على ما
فرطت في
اليوم". "يا
أبا ذر كن
على عمرك أشح
منك على
درهمك
ودينارك[1]". إن هذه
الوصية
العظيمة
تدعو
الإنسان إلى
اغتنام
العمر
والاستفادة
من فرصة
الحياة. ومع الأسف
الشديد فإن
هذا الوقت
والزمن
الطويل
المتذبذب
الذي يطلق
عليه العمر
هو من أدنى
الأشياء
قيمة لدى
الناس. إن دورة
العمر
بالنسبة لكل
إنسان هي في
الواقع
مدرسة، فكما
أن الدقيقة
والساعة
واليوم لها
أهميتها في
المدرسة،
وتلك الفرصة
المعدودة
بالدقائق
عندما يدق
الجرس بين كل
درس وآخر
وضعت من أجل
تجديد القوى
والاستعداد
للدرس
المقبل
والاستفادة
منه بأكثر ما
يمكن فإن عمر
الإنسان هو
الآخر يجب أن
ينظم على هذا
الأساس بحيث
لا تذهب فيه
الساعات
والدقائق
هدراً دون
فائدة ما. يعتبر
العلامة
الحلي
واحداً من
أسطع النجوم
في سماء
الإسلام،
وكان إضافة
إلى مؤلفاته
العديدة في
الفقه قد ألف
في مختلف
العلوم
الإسلامية
العقلية
منها
والنقلية. لقد كان
هذا الرجل
تلميذاً لدى
الفيلسوف
والرياضي
الكبير نصير
الدين
الطوسي،
وكان يلازمه
ليل نهار،
وذكر عن
أستاذه
قائلاً: إنه
لم يترك في
حياته وفي
المدة التي
لازمته فيها
مستحباً
شرعياً إلا
وقام به. لقد
نظم حياته
بحيث يؤدي
العمل
المناسب في
الوقت
المناسب،
فحتى تلك
الفرصة
للاستراحة
والترفيه
تأتي في
وقتها
المناسب
وضمن الحدود
الشرعية.
فالطالب
الذي يهتم
بدرسه ويصغي
إلى ما يقول
الاستاذ
تكون ساعة
استراحته
مفيدة
وبمستوى
الساعة التي
قضاها في
الدرس من حيث
قيمتها
الشرعية. إن
من شروط
النجاح أن
يدرك
الإنسان
قيمة الوقت. لو أن
شاباً ورث عن
أبيه ثروة
ضخمة وكان
سفيهاً
فأسرف وبذّر
فإن الجميع
سيأسفون
لذلك الشاب
ويعجبون
لشأنه
ويرقون
لحاله
لعلمهم بما
ستؤول إليه
العاقبة من
شقاء وندم. لقد
صادفنا
جميعاً مثل
هذه الحالة
وتأسفنا
لذلك، إلا
أننا لم نعر
أية أهمية
إزاء
التبذير
والإسراف في
ثروة هي أهم
بكثير من
المال الا
وهي وقتنا
وعمرنا؛
وهذا إن دل
على شيء
فإنما يدل
على أننا
ندرك جيداً
قيمة المال
ولا ندرك
أبداً قيمة
الوقت
والزمن. إننا
نشاهد
الكثير من
الناس ممن
ربوا أنفسهم
لا يعتدون
على أموال
الآخرين فهم
يخافون الله
في درهم
يأكلونه
بالباطل،
وإذا ما حدث
وتضرر أحد
الناس
سارعوا إلى
جبران
خسارته من
أموالهم،
ولكن هؤلاء
الأشخاص
أنفسهم لا
يهتمون بوقت
الآخرين ولا
يولونه أدنى
حرمة، إذ
نراهم
يهدرون
الوقت
بأعذار شتى،
كأن يخلفون
الوعد مثلاً. إن هذا يدل
على أننا لم
نهضم تماماً
وصايا النبي
الأكرم (ص) في
أن حرمة
الوقت
والعمر أسمى
من حرمة
المال. فلو
أنا أتلفنا
مالاً لأحد
الناس
استطعنا أن
نجبره من
أموالنا،
ولكن لو
أتلفنا
جزءًا من
عمره فهل
يمكننا أن
نجبره من
أعمارنا؟ قال
الإمام علي (ع):
"فسابقوا
ـ رحمكم الله
ـ إلى
منازلكم
التي أمرتم
أن تعمروها
والتي رغبتم
فيها ودعيتم
إليها
واستتموا
نعم الله
عليكم
بالصبر على
طاعته
والمجانبة
لمعصيته،
فإن غداً من
اليوم قريب،
ما أسرع
الساعات في
اليوم،
وأسرع
الأيام في
الشهر،
واسرع
الشهور في
السنة،
وأسرع
السنين في
العمر[2]".
ويشير
القرآن
الكريم إلى
أولئك الذين
ضيعوا
أعمارهم حتى
إذا أدركوا
ما آلت إليه
عاقبتهم
قالوا: (ربنا ارجعنا
نعمل صالحا). [السجدة:
12] فيأتيهم
الجواب: (كلا
إنها كلمة هو
قائلها). يذكر عن
أحد
الأولياء
أنه حفر
قبراً له في
منزله فكان
ينام فيه بين
حين وآخر،
ويوحي إلى
نفسه بأنه قد
مات، ثم
التمس من
الله أن
يعيده إلى
الدنيا،
فيجبر ما قام
به من ذنوب
ويتوب إلى
الله فيعمل
صالحاً
يرضاه. هكذا
كان هذا
الرجل يعظ
نفسه
ويربيها. إن على
الإنسان أن
لا يغفل إلى
هذا الحدّ
بحيث يحتاج
إلى هذا
القدر من
العمليات
الموحشة
ليتذكر
ويستيقظ.
ينبغي عليه
أن يكون أكثر
فطنة من ذلك
لأن الكون
كله في حركة
مستمرة لا
يتوقف حتى
لحظة واحدة،
كذلك إن
الإنسان
نفسه في حالة
من التغير
المستمر،
فقد مر بعهد
الطفولة ثم
الشباب ثم
يتجه نحو
الشيخوخة،
وإنه في كل
هذه الفترات
في حالة زرع
مستمر إلى أن
يلقى ما زرع
في حياته. إن من أكثر
الأشياء
التي ذمها
الدين هي طول
الأمل حيث
ينعكس ذلك
بتضييع
الوقت
وتسويف
الإنسان
لنفسه في أن
يعمل صالحاً
في المستقبل
دون أي ضمان
في أنه سيعيش
إلى ساعة بل
إلى لحظة
أخرى. يقول
الإمام علي (ع):
"أخوف ما
أخافه
عليكم،
اتباع الهوى
وطول الأمل". نعود مرة
أخرى إلى
وصية الرسول
الأكرم (ص)
لأبي ذر (رض): "يا أبا ذر
إذا اصبحت
فلا تحدث
نفسك
بالمساء،
وإذا أمسيت
فلا تحدث
نفسك
بالصباح وخذ
من صحتك قبل
سقمك وحياتك
قبل موتك
فإنك لا تدري
ما اسمك غدا[3]".
قال رسول
الله (ص): "الدنيا
مزرعة
الآخرة". قال
سبحانه في
كتابه
الكريم: (من كان
يريد
العاجلة
عجلنا له
فيها ما نشاء
لمن نريد ثم
جعلنا له
جهنم يصلاها
مذموماً
مدحوراً. ومن
أراد الآخرة
وسعى لها
سعيها وهو
مؤمن
فأُولئك كان
سعيهم
مشكوراً)[4].
ثم يقول
سبحانه: (كلا نمد
هؤلاء
وهؤلاء من
عطاء ربك وما
كان عطاء ربك
محظوراً). [الاسراء:
20] إن كلمة
الرب تعني في
هذه الآية أن
الله يمد
الجميع
بفيضه، ذلك
أنه خالق
العالم
وخالق جميع
الموجودات،
فمن خصائص
الربوبية أن
يرزقهم
جميعاً لا
فرق في ذلك
بين مؤمن
وكافر. نعم، إن
ناموس العلم
يقضي بأن كل
بذرة تزرع
تنمو في
أحضان
الوجود،
هناك نظام
مساعد يرعى
هذه الزراعة. إن
الأعمال
التي نقوم
بها حسنة
كانت أو سيئة
كلها بذور
تنمو في
مزرعة هذا
العالم،
ولذا قال
رسول الله (ص):
الدنيا
مزرعة
الآخرة. وكل
امرئ يحصد ما
يزرع. لا
يضيع عمل في
هذا العالم،
بل إنه ينبت
في أعماق
أرواحنا وفي
أعماق
المجتمع،
ومن ثم في
طيات هذا
العالم الذي
تحيطه شتى
العوامل
المساعدة
على النمو. قال
سبحانه في
محكم كتابه
مشيراً إلى
الجدل بين
النصارى
واليهود
وطائفة من
الذين آمنوا:
(وقالت
اليهود ليست
النصارى على
شيء وقالت
النصارى
ليست اليهود
على شيء وهم
يتلون
الكتاب كذلك
قال الذين لا
يعلمون مثل
قولهم فالله
يحكم بينهم
يوم القيامة
فيما كانوا
فيه يختلفون).
[البقرة: 113] كل يلقى
جزاء عمله
وثمرة ما قد
زرعه؛
فالقانون
الالهي لا
يقبل
التغيير،
وهذا ما بشر
به جميع
الأنبياء
عليهم
السلام. لقد
جاءوا
يعلمون
الإنسان أن "الحمد
لله رب
العالمين"
لا حمد إلا
للذات
الإلهية
المقدسة رب
جميع
الموجودات،
والتي تنطوي
على
الاستعداد
الذي يوصلها
إلى الكمال
المنشود؛
فحبة القمح
تنمو لتصبح
نباتاً
مكتملاً،
وحبة الشعير
هي الأخرى
تنمو فتصبح
نباتاً
محملاً
بالسنابل،
كذلك النواة
تنمو فتنشأ
عنها نخلة
هيفاء. إن مقام
الربوبية
يقضي بأن
جميع
الموجودات
في حالة نمو
وتكامل،
ولذا فإن
سعادة كل
إنسان إنما
تتوقف عليه
نفسه، عليه
أن يدرك أن
كل عمل يقوم
به إنما هو
بذرة يزرعها
في مزرعة
الوجود وأنه
سيذوق ثمرة
ما قد بذر
حلوة كانت أم
مرة، ذلك أنه
لا يستطيع أن
يذوق أو
يستفيد من
ثمار إنسان
آخر، كما أن
أي إنسان لا
يمكنه أن
يستفيد أو
يتناول من
ثماره، وإن
أي إنسان لا
يمكنه أن
يزرع
السيئات
فيحصد منها
الحسنات. كان رسول
الله (ص) يوصي
ابنته
الصديقة
فاطمة
الزهراء
والتي كانت
تحتل من قلبه
منزلة لا
يدانيها
فيها أحد،
وكان
يعتبرها
فلذة كبده،
كان يوصيها
بقوله: إني
لا أغني عنكِ
شيئاً. وهذه
حقيقة
كثيراً ما
كان الرسول
يؤكدها منذ
فجر الدعوة
الإسلامية
فقد جمع
رجالاً من
عشيرته
الأقربين
وذلك من
بعثته (ص)
وأنذرهم
قائلاً: يا
بني عبد
المطلب لا
تقولوا محمد
منا، فوالذي
نفسي بيده لا
أغني عنكم من
الله شيئاً،
وإن كل امرئ
وما كسبت
يداه خيراً
فخير وإن
شراً فشر. طلب أحدهم
من أمير
المؤمنين (ع)
أن يعظه،
فقال (ع): "لا تكن ممن
يرجو الآخرة
بغير عمل
ويرجو
التوبة بطول
الأمل[5]".
قال أمير
المؤمنين
علي (ع): "حاسبوا
أنفسكم قبل
أن تحاسبوا
وزنوها قبل
أن توزنوا[6]".
إن هذه
الوصية على
قصرها لتزخر
بالمعاني
والفوائد
الكبيرة،
ذلك أن أي
إنسان متحضر
لا يشك أبداً
بضرورة
التربية،
فكما أن
الوردة أو
الشجرة أو
الحصان
يحتاج إلى
التربية،
كذلك
الإنسان.
وهذه
المسألة لا
تحتاج إلى
توضيح وإن
أكثر الناس
تخلفاً يدرك
ذلك؛ ولذا
نشاهد
المجتمعات
البدائية
تعيش على
الزراعة أو
تربية
الماشية. قد
يخطئ أولئك
في أسلوب
التربية
سواء في
النبات أو
الحيوان
ولكنهم على
كل حال
يعتقدون
بضرورة
التربية في
هذا المضمار. وفرق كبير
بين الإنسان
المتحضر
والإنسان
المتخلف،
فإذا كان
الأخير
يعتقد بأن
الإنسان ليس
حيواناً أو
نباتاً حتى
يحتاج إلى
تربية فرئيس
القبيلة
يرفض رفضاً
قاطعاً أن
يكون ابنه
بحاجة إلى
التربية بل
يعتبر ذلك
إهانة موجهة
لشخصه
ولابنه. نعم
قد يتصور أن
أفراد
قبيلته
وبسبب
تعايشهم مع
الحيوانات
يحتاجون إلى
تربية أما
إبنه الذي في
نظره إنسان
بكل معنى
الكلمة فلا
يحتاج إلى
التربية أو
الأدب على
الإطلاق. إن
الإنسان
المتحضر لا
يفكر أبداً
على هذا
النحو، بل
على العكس من
ذلك فهو
يعتقد أن
ابنه
باعتباره
إنساناً
يحتاج إلى
التربية
والرعاية
أكثر من
الوردة
والشجرة أو
الحمامة
والحصان. فكما أن
النباتات
باعتبارها
موجودات
تنبض
بالحياة هي
أكثر كمالاً
من الجمادات
فإنها تحتاج
إلى التربية
للوصول بها
إلى الكمال
المنشود،
ولأن
الحيوانات
أرقى كمالاً
من النباتات
فهي تحتاج
إلى التربية
أكثر، وهكذا
بالنسبة
للإنسان. إنه
كائن أرقى
وأسمى
كمالاً من
الحيوان، بل
إن وجوده
العظيم
بحاجة ماسة
إلى التربية
والأخلاق
والأدب. الإنسان
مرتبة أخرى
من الوجود
تفوق عالم
النبات
وعالم
الحيوان،
وإن قولنا
بأنه يحتاج
إلى التربية
ليس معناه أن
نسلم
الإنسان إلى
من يعنى به.
صحيح أنه
بحاجة إلى
معلمين
ومربين
يهدونه
ويرشدونه
ويصقلون
وجوده، غير
أن الإنسان
ليس معدناً
أو حجراً
ثميناً لكي
نسلمه بيد
صائغ ماهر ثم
نطلب منه
صياغته من كل
النواحي. الإنسان
كذلك ليس
نباتاً لكي
نودعه لدى
المزارع
ونعتبره
مسؤولاً عنه
من جميع
الجهات؛
الإنسان
وبالرغم من
احتوائه إلى
جوانب
النبات
وخصائص
الحيوان
يمتاز
بالعقل
والإرادة،
وهما يرفضان
رفضاً
قاطعاً
الانصياع
على العوامل
الخارجية؛
إنه ليس
معدناً أو
حجراً حتى
يستجيب
لإرادة
الصائغ، كما
أنه ليس
نباتاً ينمو
لدى كل أحد،
وليس ببغاءً
فيلقن بما
يراد له أن
يقول؛ إنه
كائن يتمتع
بالحرية
والاستقلال
والإرادة
التي قد ترفض
الخضوع لشتى
أنواع
المؤثرات،
إذ من
المستحيل
إجبار
الإنسان على
عمل ما، إذ
لابد أن يحصل
في النهاية
نوع من
التفكير ثم
صدور القرار. إن عمل
الإنسان
لابد وأن
يسبقه فكر
وإرادة، ومن
لا يفكر
لنفسه لا
ينفعه تفكير
الآخرين،
ومن لا يقرر
بنفسه لا
يجديه أن
يقرر في شأنه
الآخرون؛
ولقد قال بعض
العظماء: "من
لم يجعل في
قلبه واعظاً
من نفسه لا
تنفعه مواعظ
الواعظين"
أو "حاسبوا
أنفسكم قبل
أن تحاسبوا
وزونوها قبل
أن توزنوا". كل هذا على
أن الإنسان
يختلف عن
سائر
المخلوقات
في مسألة
التربية، إذ
إن العوامل
الخارجية
وحدها لا
تكفي. يجب أن
يكون في داخل
كل إنسان
واعظ من
نفسه، أي
تنشأ في داخل
النفس
شخصيتان
الأولى تأمر
والثانية
تطيع،
الأولى تلوم
والأخرى
تتقبل
الملامة،
الأولى
تحاسب
والأخرى
تتقبل
الحساب. لقد أشار
القرآن
الكريم إلى
هذا المعنى
بقوله: (النفس
اللوامة). [سورة
القيامة،
الآية: 2] أي التي
تلوم
الإنسان على
أخطائه فهي
دائمة
التقريع له
والعتاب؛ لا
أحد يفكر في
إنكار هذه
الحقيقة
أبداً ولا
أحد لم يشعر
بها، ذلك أن
كلاً منا قد
ارتكب خطأً
ما صغيراً
كان أم
كبيراً، ولا
يوجد أحد لم
يتعرض إلى
هذا
الاستجواب
الالهي. وإذن فإن
الجميع قد
حدث لهم مثل
ذلك بحيث
تتشكل محكمة
داخل نفوسهم
يقف فيها
الإنسان
متهماً
ملوماً
مدحوراً. إن هذه
الثنائية من
خصوصيات
الإنسان،
وهي في
الحقيقة
ليست ثنائية
أي أن
الإنسان لا
ينطوي على
روحين أو
نفسين
إحداهما
تحكم
والأخرى
محكومة، بل
هناك تركيب
عجيب يتألف
من مجموعة
غرائز وميول
ينطوي عليها
هذا المخلوق
العجيب الذي
يدعى (الإنسان). لو أراد
شخصان
التعاون في
إنجاز عمل ما
فإنهما
يتعاهدان
على ذلك،
وخلال مدة
التعاون
يراقب كل
منهما
الآخر، فإذا
ظهر في نهاية
العام وعند
تسوية
الحساب وضبط
الوارد
والصادر
والربح
والخسارة
أنهما قد
نجحا في
عملهما وأن
أحداً لم
يرتكب خيانة
أو خطأً ما،
شد أحدهما
على يد الآخر
بحرارة،
وإذا ما حصل
العكس فإن
المقصر
سيتعرض في
هذه الحالة
إلى سيل من
العتاب
والتقريع
واللوم ومن
ثم العقاب. إن مثل هذه
الحالة
يعيشها
الإنسان في
أعماقه
باعتباره
مخلوقاً
ينطوي على
مجموعة
غرائز وميول
مختلفة، وفي
ظلال ذلك
الجو
الثنائي،
إذا صح
التعبير،
ينشأ نوع من
التعاهد
والمراقبة،
حيث تتم
تسوية
الحساب في
نهاية كل عام
بل وفي نهاية
كل شهر أو كل
أسبوع أو كل
يوم، فإذا ما
حصل خطأ في
السلوك برز
العتاب وبدأ
التقريع
واللوم. ونوجز
الموضوع
بالتأكيد
على ضرورة
وجود
المربيين
خارج الوجود
الإنساني،
ولكن ذلك لا
يعد كافياً
للتأثير في
تربيته ما لم
يوجد مربّ
وواعظ من نفس
الإنسان. قال تعالى: (يا
أيها الذين
آمنوا اتقوا
الله ولتنظر
نفس ما قدمت
لغدٍ واتقوا
الله إن الله
خبير بما
تعملون). [الحشر: 18] تذكر
الآية
الكريمة
وتؤكد على
ضرورة
مراقبة
النفس، وأن
العمل
الإنساني
بمثابة
بضائع ومتاع
يرسله
الإنسان إلى
مكان ما
مثلاً ثم
يلتحق به
فيما بعد،
كشخص يروم
السفر فهو
يرسل أمتعته
إلى المكان
المنشود ثم
يلتحق بها
بعد ذلك. إن أقل
تأمل
للإنسان سوف
يقوده إلى
معرفة أنه لا
أمتعة
للسعادة
إلاّ بالعمل
الصالح،
وأنه
الرأسمال
الوحيد الذي
يضمن له
سعادة
الدنيا
والآخرة،
ولأن
الإنسان لا
يهتم بهذا
الركن فإنه
لا يهتم
بالعمل له
أيضاً. إذا كنا
نؤمن بالدار
الآخرة فإن
أول شيء
يتوجب علينا
أن نعرفه هو
أن الآخرة
عالم يقوم
على العمل
وأن منازلنا
هناك إنما هي
أعمالنا
تتجسد على
شكل ورد وشجر
وقصر يتألف
من سقف
وأبواب
ونوافذ
وحدائق غناء
تجري من
تحتها
الأنهار. وإذا كان
إيماننا
بالآخرة ـ لا
سمح الله ـ
ضعيفاً لا
يغير ذلك من
الأمر شيئاً
وهو أن
سعادتنا
رهينة
بأعمالنا
وأن أمتعتنا
الأساسية
سعادة كانت
أم شقاءً
إنما تتألف
من أعمالنا
وأفكارنا
وأخلاقنا
ونوايانا. وكان
علماء
الأخلاق
والمربون
يأمرون
بمحاسبة
النفس
واستجوابها
على القول
والفعل أو
عدمهما،
تماماً كما
يفعل
المحققون
والمفتشون
لدى
استجوابهم
العاملين،
فإذا كان
الجواب
طيباً
والعمل
حسناً نال
العامل
مكافأة على
ذلك وإلا
فنصيبه
التوبيخ أو
الغرامة أو
السجن. قد يتصور
البعض أن
محاسبة
النفس هي من
شأن أولئك
الذين
يمارسون
الرياضة
الروحية أو
السالكين
ولا معنى لها
لدى الناس
العاديين.
وهذا النوع
من التفكير
خاطئ، ذلك أن
القرآن يدعو
إلى محاسبة
النفس ولم
يحصر دعوته
بفئةٍ معينة
من الناس.
إنه يخاطب
الذين آمنوا
كافة. وكما
أشارت الآية
الكريمة
التي تصدرت
الحديث؛ فمن
كان يؤمن
بالله
واليوم
الآخر عليه
أن يحاسب
نفسه وقد قال
الإمام علي (ع):
"حاسبوا
أنفسكم قبل
أن تحاسبوا" وهل الحساب
في عالم
الآخرة
ينحصر بأهل
الرياضة
الروحية
وأرباب
السلوك؟
كلاً إن
الحساب يشمل
الجميع،
وإذن فكل من
يحمل ولو ذرة
صغيرة من
الإيمان
بالله
واليوم
الآخر
والعدالة
والجزاء وأن
للأعمال دور
في تحديد
مصير
الإنسان في
ذلك اليوم
يتوجب عليه
أن يحاسب
نفسه
ويراقبها. يقول أحد
علماء
الأخلاق: إن
العظماء من
السلف
الصالح
كانوا
يعتقدون بأن
من لا يحاسب
نفسه هو إما
ملحد باليوم
الآخر
والمعاد أو
أنه مجنون
وإلا فكيف
لمن يحمل في
رأسه عقلاً
سليماً وهو
يؤمن
بالقرآن
كتاباً من
عند الله
ينادي: من
يعمل مثقال
ذرة خيراً
يره ومن يعمل
مثقال ذرة
شراً يره، ثم
لا يحاسب
نفسه ويراقب
ما يرسله من
الأعمال إلى
ذلك العالم
حيث يلتقيها
هناك. ولو
تأملنا هذا
الواجب
الشرعي
والديني
لأدركنا بأن
محاسبة
النفس لا تخص
فئة أو طبقة
معينة من
الناس، ولو
تأملنا ذلك
من وجهة نظر
عقلية
لأدركنا
أيضاً بأن
محاسبة
النفس أمر
يشمل
الجميع،
فالطالب
يراجع نفسه
ويمتحنها
ليعرف مدى
فهمه للدروس
قبل أن يبدأ
فصل
الامتحانات،
وكذلك
السياسي
يراجع
قرارته
وبرامجه
وخططه
ويحاول
اكتشاف نقاط
الضعف قبل أن
تكتشف من قبل
الآخرين. إن من أسمى
مظاهر العقل
هو البحث عن
الخطأ في
أعماق
النفس، أي أن
الإنسان
يغوص في
أعماقه
الزاخرة
بالأفكار
والرغبات
والميول
والعواطف
والأفعال
والأقوال
واكتشاف
مواطف الخطأ
ومن ثم
اجتنابها. من غير
المنتظر أن
لا يخطئ
الإنسان، إذ
من الطبيعي
أن يخطئ، فكل
ابن آدم
خطّاء، ولكن
المنتظر من
الإنسان
الاستفادة
من هذا الخطأ
وعدم تكراره. ليس الفرق
بين المؤمن
وغير المؤمن
في أن الأول
لا يخطئ في
حين يخطئ
الآخر. الفرق
يكمن في أن
المؤمن
يستفيد من
أخطائه فلا
يكررها في
حين أن غير
المؤمن يصدم
بأخطائه
مراراً
وتكراراً
دون أن يلتفت
على ضرورة
تجنبها في
المستقبل. نسأل الله
أن يوفقنا
إلى اجتناب
مزالق الخطأ. يحفل
القرآن
الكريم
بالآيات
التي تتحدث
عن ظلم النفس
كقوله تعالى:
(فما
كان الله
ليظلمهم
ولكن كانوا
أنفسهم
يظلمون). [التوبة:
70] والسؤال
هنا كيف يظلم
الإنسان
نفسه؟ ذلك أن
الظلم نوع من
الإساءة
فكيف إذن
يسيئ
الإنسان إلى
نفسه؟
والجواب: إن
علة الظلم
تنجم عن
أمرين هما
الغفلة
والجهل. صحيح أن
الظلم إساءة
وأن الإنسان
لا يريد
الإساءة
لنفسه ولكن
هذا الأمر
يتحقق إذا
كان الإنسان
قد شخص
المسألة
وأنه فعل ذلك
عمداً مع
معرفته، ولو
كان الأمر
كذلك لما ظلم
نفسه أبداً.
غير أن الظلم
يأتي
أحياناً مع
تصوره بأنه
يحسن إلى
نفسه فإذا به
يلحق الظلم
بها دون أن
يدرك ذلك. فكم من
ظالم لنفسه
مسيئ إليها
وهو يتصور
أنه قدم
لنفسه
الخير، ولكن
وبسبب جهله
وعدم إدراكه
تنقلب
الأمور وإذا
الخير الذي
نواه هو في
الحقيقة شر
وظلم. قال تعالى: (الذين
ضل سعيهم في
الحياة
الدنيا وهم
يحسبون أنهم
يحسنون
صنعاً). [الكهف:
104] كتب رجل
إلى أحد
الصحابة
يطلب منه
موعظة، فكتب
الصحابي في
جواب رسالته:
لا تسيئ إلى
أحب الخلق
إليك؛ ولم
يفهم الرجل
القصد من
وراء هذه
الموعظة إذ
كيف يسيئ
الإنسان إلى
أحب الأشياء
إليه؟ فكتب
إليه
الصحابي: نعم
نفسك التي
بين جنبيك
تسيئ إليها
وتظلمها لا
عن عمدٍ ولكن
عن غفلة
وجهالة. إن كل
الذنوب
والآثام
التي
يرتكبها
البشر هي في
الحقيقة
محاولات
خاطئة
لإيصال
الخير إلى
النفس في حين
أن المسألة
على العكس،
فهذه
المحاولات
الخاطئة
مواقف
عدائية تلحق
الضرر بنفس
الإنسان؛
وإذن فعلة
الظلم إنما
تنشأ عن
الجهالة
والغفلة.
وهناك سبب
آخر مهم
أيضاً، فقد
يرتكب
الإنسان
أحياناً
ظلماً ويسيئ
إلى نفسه
عمداً عن علم
وإدراك،
وهذا أمر
يدعو إلى
التعجب. ومن
أجل فهم هذه
الظاهرة
نمهد لذلك
بمقدمة
موجزة. يقول
الفلاسفة إن
علل هذا
العالم
تنقسم إلى
قسمين،
الأول: علة
فاعلة
والآخر
منفعلة،
والعلة
الفاعلة هي
المؤثرة
والمنفعلة
هي المتأثرة. فالرسام
الذي يرسم
لوحة ما هو
علة مؤثرة
واللوحة علة
متأثرة. فمن
الرسام
الذوق
والفكر
والفن
والمهارة،
ومن صفحة
اللوحة
القابلية
على تقبل
ذلك، ولولا
وجود هاتين
العلتين ما
ظهرت اللوحة
إلى الوجود. وهناك
قاعدة اخرى
تقول: إن
العلة
الفعالة
المؤثرة
مستقلة
دائماً عن
العلة
المتأثرة،
وإنه لا يوجد
شيء يمكن أن
يكون فاعلاً
ومنفعلاً في
نفس الوقت. قد يعترض
البعض على
هذه القاعدة
قائلين: كيف
لا يمكن ذلك
ونحن نشاهد
الطبيب يمرض
فيقوم بعلاج
نفسه
ومداواتها،
والجواب: إن
هناك
التباساً
وفهماً
خاطئاً في
هذه
المسألة،
عندما يتصور
المرء أن
الطبيب هذا
يقوم بدور
الفاعل
والمنفعل،
ذلك أن
الطبيب
إنسان
والإنسان
يضم جوانب
مختلفة، فهو
من جهة جسم
يتعرض
للمرض، وفكر
وعلم وطبابة
يعالج بها
بدنه من جهة
أخرى، وإذن
فالفاعل
والمؤثر هنا
غير المنفعل
والمتأثر. والسؤال
الذي يثار
هنا هو كيف
يظلم
الإنسان
نفسه فيصبح
ظالماً
ومظلوماً
أيضاً؟ إن الحالة
هنا تشبه إلى
حد ما حالة
الطبيب، ذلك
أن الإنسان
يتألف من عقل
وشهوة،
فشهوته هنا
تظلم عقله
وتسحق
إرادته
وتضرب حقه
عرض الجدار،
وإذن فإن
إطاعة
الشهوة
والانقياد
لها ظلم
للعقل
والضمير
والوجدان. فمثلاً
يكذب البائع
فيزيد في
قيمة بضاعته
ويخدع
المشتري
فيكسب من
وراء كذبه
منفعة مالية
يشتري بها
ثوباً أو
رغيفاً من
الخبز،
ولكنه في نفس
الوقت يكون
قد وجه صفعة
إلى وجدانه
وضميره،
وذلك أنهما
لا يسوغان
الكذب وخداع
الآخرين. إن الكذب
يوجه ضربة
قوية للضمير
ويضعفه،
وإذن فهو
يظلم نفسه،
كذلك الظالم
فالذي يظلم
الآخرين
يظلم نفسه
أيضاً، ذلك
أن قلبه يقسو
وتغزوه
الظلمة
ويملؤه
التصدع. ولذا
فإن القرآن
ينعتهم
دائماً
بأنهم "ظالمون
لأنفسهم"،
فهم إما
يظلمون
أنفسهم عن
جهل وغفلة أو
عن طغيان
يسحق إرادة
العقل ويدمر
إنسانية
الإنسان. [1]
بحار
الأنوار، ج77،
ص75 [2]
نهج
البلاغة،
خطبة رقم: 188 [3]
بحار
الأنوار، ج77،
ص75 [4]
سورة
الاسراء،
الآية: 18 ـ 19 [5]
بحار
الأنوار، ج77،
ص410 [6]
نهج
البلاغة،
خطبة رقم: 90
|
||||||||
|