:الموضوع

الصدق

حديث علي (ع) ونظرية نسبية الأخلاق

امر الرسول (ص) في عمرة القضاء

قصة صفية بنت عمران

مفهوم البخل في الحديث

 

العفاف

إن الذين يعتقدون بنسبية الأخلاق، يقولون: إن العفاف ـ مثلاً ـ يكون جيداً في مجتمع معين، حسب حاجة ووضع ذلك المجتمع، عندما تكون ـ مثلاً ـ حياتهم زراعية، حيث أنها تقتضي أن يكون وضع العائلة مستقلاً، وتكون حياة المرأة ضمن حياة الرجل، وهذا ما تقضيه مصلحتهم، كما يرون أنفسهم مجبرين على التأكيد على أصول العفاف. أما عندما حلت مرحلة الآلة وذهبت المرأة إلى عمق المجتمع، وإلى المعامل، أصبح العفاف أمراً غير مستحسن، رغم أنه كان في يوم ما أمراً جيداً.

ولكن هذا الرأي وفق ما ذكرناه من أسس يكون غير صحيح. فالعفاف باعتباره حالة نفسانية، يعني إنه ليس طاعة لقوة الشهوة بل لحكومة العقل والإيمان، ولا الوقوع تحت تأثير الثورة الشهوية، كما أن الشخص الذي يقع تحت تأثير الثورة الشهوية يفقد إرادته، وتتحكم به غريزته.

فالعفاف إذن هو في كل الأحيان حسن. نعم إن هذا الفعل الأخلاقي الذي نسميه العفة، لا مانع من أن يكون نسبياً، فمن جملة الأمثلة الفقهية المعروفة، التي تذكر، هو: لو مرضت إمرأة، واحتاجت إلى مراجعة الطبيب، ولم تكن هناك طبيبة، وكان تشخيص المرض يقتضي أن يمس الطبيب بدن المريض أو أنه اقتضى أن يجري فحوصات أو يقوم بعمل معين لعورة المريضة، وكانت المريضة في حالة خطرة، ففي هذه الحالة تكون مراجعة الطبيب جائزة.

أن لمس بدن المرأة الأجنبية والنظر إليه فعل مخالف للعفة.

أما نفس هذا العمل في ظروف أخرى يفقد جنبة عدم أخلاقيته.

ولكن هذا أمرا وفقدان نفس العفة ـ باعتبارها خلق وخصلة ـ قيمتها أمر آخر. إن قيمتها تبقى محفوظة، ولكن الفعل يطرأ عليه التغيير.

ومن هنا يفهم أن الأفعال والأعمال ذات الإرتباط الأوثق بالظروف الاقتصادية والفنية والصناعية يطرأ عليها التغيير بكثرة.

أما الأعمال ذات الارتباط الأضعف بمثل هذه الأمور، كما هو الحال بالنسبة للعفاف ـ مثلاً ـ والحجاب، فإنها لا يطرأ عليها التغيير بكثرة.

إن مثل هذه المسائل متعلقة بنوع ارتباط بين جنسين تقتضي أن يكونا معاً، حيث توجد عملية جذب بينهما، ولأن الأصول ثابتة، فإن فعلها الأخلاقي يكون دائماً ثابتاً أيضاً. بناء على ما تقدم لابد من التمييز بين الفعل الأخلاقي، وبين نفس الأخلاق. وأن الأشخاص الذين يتولون مهمة التبليغ للأخلاق عليهم أن يقوموا بعملين:

1 ـ عندما يحثون ويدعون إلى الخلق والصفات الحسنة، عليهم أن يبينوا بأنها أمور مطلقة.

2 ـ كما يجب عليهم في نفس الوقت أن يوَعّوا الناس على أن لا يخلطوا في مقام العمل بين الفعل الأخلاق والفعل غير الأخلاقي.

إنني أتذكر قد سمعت في الأيام الأولى التي كنت بها في (قم) أن عدداً كبيراً من أهالي اليابان ذات الأديان المنحطة، قد طلبوا إرسال مبلغين للإسلام من بعض الدول. وقد ارسل بعضهم عدداً من المبلغين من أجل الدعوة لمذاهبهم، وقد كلف المرحوم الشيخ عبد الكريم أحد الأشخاص الذين قدر فيه قدرة، وقابلية أكثر من غيره، ولكنه رفض بحجة خوفه من أن يموت في بلاد الكفر. وعلى كل حالٍ، فقد ذهب من مصر عدد من المبلغين، وكانت نتيجة عملهم إعلان إسلام عشرين ألف، وفق المذهب السني. فهل هذا ليس بعمل؟

 الصدق

إننا قد نعتبر الفعل الأخلاقي مضاداً للأخلاق، والفعل الذي هو مضاد للأخلاق أخلاقياً. فالصدق ـ مثلاً، من جهة كونه صدقاً ـ حسن، ويجب قوله، والكذب ـ من حيث كونه تحريفاً ـ قبيح. ولا ينبغي قوله.

ولكن هل يمكن قول الصدق في كل مكان؟ وهل يحرم قول الكذب في كل مكان؟

من المؤكد أن قول الكذب يصبح في بعض الأحيان واجباً، ولكن ما يثير الاستغراب هو قيام البعض بشن هجوم على سعدي لقوله:

إن الكذب الذي يحقق مصلحة، هو خير من الصدق الذي يؤجج نار الفتنة.

وهن كلام صحيح جداً. ولكن البعض يقولون: إن الإنسان عندما يكذب لابد أن يكون ملاكه المصلحة في الكذب. بينما هناك فرق بين أن يكون الملاك منفعةً، وبين أن يكون مصلحة. فلماذا يطلب من الإنسان أن يقول الصدق؟ إنه لمصلحة المجتمع. ولماذا لا ينبغي قول الكذب؟ لأنه ضد مصلحة المجتمع. ولكن إذا كان الكذب في مناسبة معينة يحقق مصلحة المجتمع والفرد يجب قوله.

لقد شن الهجوم على سعدي كثيرون من جملتهم (المسيو جردن) رئيس كالج، وغيره من الأمريكان بسبب قوله السابق الذكر. وكذلك فعل الزرادشتيون. كما كتب (محيط الطباطبائي) فقال، حول هذا الموضوع في الهند ـ حيث كانت اللغة الفارسية شائعة هناك ـ لأن الإنگليز عندما دخلوا الهند منعوا تدريس (كلستان سعدي) في المدارس.

وقد أيدهم في ذلك الزاردشتيون بحجة أنه يفسد أخلاق الشباب نتيجة قوله السابق الذكر.

وأضاف: إن (رنود) كان يعرف أن سبب هذا الإجراء هو وجود البيتين التاليين من أول الكتاب:

"أيها الكريم إنك ترزق ن خزائنك الخفية أعداءك من الزادشتية، والمسيحيين، فلا يمكن أن تحرم أحباءك من كرمك، لأنك أنت الرب الذي يشمل لطفك وعنايتك حتى أعداء دينك".

فإن هؤلاء لم يكونوا راضين أن يلقن الشباب بأن المسيحيين والزرادشتيين هم أعداء الله. ولذلك اتخذوا قوله السابق عذراً لمنع تدريس الكتاب، وإلا فأي عاقل في الدنيا لا يعرف معنى الكذب والصدق، ولا يعرف أن قول الصدق في بعض الأحيان يكون ذنباً أكبر من أي ذنب آخر.

ومن الطبيعي، كما ينقل عن قصة أبي ذر، حيث قيل: إنه حمل رسول الله ووضع عليه رداءً، ومر من أمام كفار قريش، فقالوا له يا أبا ذر ماذا تحمل على ظهرك؟ قال: محمد... إنه كان صادقاً، ولكنهم لم يصدوقه، وأنه لو كان يعلم أنه لو صدق، فإنهم يصدقون قوله، لكان صدقه هنا حراماً، وحرمته أشد من أي حرمة أخرى.

ومما لاشك فيه أن لا مانع من قول الكذب في بعض المواطن، مثل إصلاح ذات البينن فهناك بعض الموارد في فقهنا يجوز فيها الكذب، مثل الصلح بين متعاديين، وهذا هو معنى المصلحة، ونجاة بريء بواسطة الكذب، وهذا ما كان يعنيه سعدي، ففي مثل هذه المواطن، يكون الأفضل قول الكذب.

القصد هو ضرورة التمييز بين الفعل الأخلاقي، ونفس الأخلاق، فالأول يطرأ عليه التغيير، ويتناسب مع الإسلام، فلو سأل سائل مثلاً:

السرقة حلال أم حرام؟

الجواب: حرام.

هل تجوز السرقة في موطن ما؟

الجواب: نعم، بل تكون واجبة وواجبة أحياناً.

 حديث علي عليه السلام

ونظرية نسبية الأخلاق

 

كان بحثنا يدور حول نسبية الأخلاق، ونسبية التربية.

وبناء على النظرية القائلة بنسبية الأخلاق، واختلافها حسب الزمان والمكان والفرد، لا يمكننا أن نقدم طرحاً أخلاقياً لكل البشر في كل الأزمنة، وأن كل طرح أخلاقي يصدر عن أي مبدأ ـ سواء ان إسلامياً أو غير إسلامي ـ يجب أن يكون مقيداً ومحدداً بالظروف الزمانية والمكانية وغيرها. أي ما سيكون حاكماً في هذه المنطقة، لا يصلح للمنطقة الأخرى.

لقد انتهينا في بحثنا إلى أن هناك فرق بين الأخلاق والفعل:

الأخلاق التي هي عبارة عن مجموعة خصال وسجايا وملكات اكتسابية قبلها الإنسان باعتبارها أصولاً أخلاقيةً. أو بعبارة أخرى: هي إطار وقالب روحي صنعت فيه، ووفقاً لروح الإنسان؛ فكيفية كينونة روح الإنسان هي أمر ثابت ومطلق ودائم.

أما فعل الإنسان، فهو عبارة عن تحقق تلك الروحيات في الخارج، حيث تختلف باختلاف الظروف، لأنها يجب أن تختلف.

وبعبارة أخرى: إن مظاهر ومجال الأخلاق الإنسانية تختلف باختلاف الظروف، ففي مكان معين يكون رد فعله بشكل، وفي مكان آخر يكون رد فعله بشكل آخر، لا أن يكون الإنسان في مكان معين بشكلٍ، ويكون في مكان ثاني بشكل آخر. فهناك فرق بين أن نقول: يجب أن يكون الإنسان في عصر بشكل معين يختلف فيه عن العصر الآخر. ويكون في مكان معين بشكل يختلف فيه عن المكان الآخر. وبين أن نقول: إن الإنسان يمكنه أن يكون ذو شخصية عالية تحافظ على شكلها الواحد في المواطن المختلفة، ولكن مظاهر فعلها يختلف في الأزمنة المختلفة، وفي الظروف المختلفة.

 طرح أشكال

من الممكن أن يقول قائل: من مقررات الإسلام في المجال الأخلاقي أن بعض الخلقيات التي تراد للمرأة، لا تراد للرجل، والعكس صحيح أيضاً. فهل أن النموذج الأخلاق والإنساني للمرأة يختلف عنه للرجل في الإسلام؟ أي إنهما نوعي إنسان من وجهة النظر الإنسانية؟ وقد وضع لهما في الإسلام طرحاً قالب روحي؟ فقد خلقت المرأة في قالب، وخلق الرجل في قالب آخر؟

فإذا كان الأمر كذلك، سيكون من المعلوم والواضح، تهافت القول بأن الخلق حقيقة مطلقة، حيث لا يبقى بعد لها أساساً. والدليل هو اختلافه بين المرأة والرجل.

فقد يطرح هذا القائل قول علي (ع) الذي ذكر في نهج البلاغة، وهو: "خيار خصال النساء شرار خصال الرجال" ثم ذكر ثلاث خصال "الزهو والجبن والبخل" ونحن نعلم أن التكبر يعتبر خلق سيئ جداً، كما أنه من الناحية النفسية يعتبر أحد الأمراض، والجبن معلوم أيضاً، لأنه يعبر عن الضعف، وعدم القدرة. وكذلك البخل، إنها خصال ثلاث، تعتبر من أسوء الخصال للرجال، في نفس الوقت الذي تكون فيه ـ كما جاء في نهج البلاغة ـ من أفضل خصال النساء. فكيف يكون ذلك؟

 

ثم إنه (ع) يحل هذا الإشكال عندما يقول: "فإذا كانت المرأة مزهوة لم تمكن من نفسها، وإذا كانت بخيلة حفظت مالها ومال بعلها، وإذا كانت جبانةً فرقت من كل شيء يعرض لها". [نهج البلاغة ـ شرح صبحي الصالح ص 509 ـ 510، حكم 234].

 الجواب:

في البداية سأتحدث ـ ربما سيخطر ببالك أني سأقول: إن هذا الحديث ليس صحيحاً ـ عن المفهوم الواقعي لهذا الحديث، وماذا اراد منه الإمام علي (ع). هذا أولاً.

أما ثانياً: هل أن هذه التعليمات تتفق مع النصوص الإسلامية العامة، وبالأخص مع ما صدر عنه (ع) بالذات؟

أما المقدمة التي ورد ذكرها فهي: إن علماء الأدب وغيرهم يقولون: إن في تعبيرات اللغة العربية ـ وفي غيرها من اللغات، لأن هذا الأمر يرتبط بالإنسان لا بلغة خاصة، وفي مجال الألفاظ المرتبطة بالحالات النفسية للإنسان ـ ربما يستخدم اللفظ لا باعتبار نفس الحالة النفسية، بل باعتبار الأثر الذي يترتب على تلك الحالة الإنسانية ـ مثلاً ـ الرحمة التي هي حالة نفسية وعاطفية في الإنسان، ففي بعض الأحيان تستعمل هذه الكلمة للتعبير عن نفس الإحساس باعتباره حالة نفسية، وفي أحيان أخرى تستخدم للتعبير عن الأثر البارز من هذا العمل بغض النظر عن وجود أو عدم وجوده حقيقة الرحمة في هذا العمل أو عدم وجودها. فعندما نقول: إن فلاناً رحم فلان ـ أي أنه أدى عملاً من نوع الرحمة، بغض النظر عن وجود الرحمة في هذا العمل أو عدم وجودها أو مثلاً: عندما تستخدم هذه العبارة بالنسبة إلى الله، في حين أنها ذات مفهوم إنساني، لا تصدق بالنسبة لله سبحانه إلا في مفهوم أثرها، مثل: (الله يستهزئ بهم) (البقرة: 15) أو عندما نقول: إن الله يستحي من الشيء الفلاني، فالحياء كلمة وضعت للتعبير عن حالة إنسانية، وهي الخجل والتأثر والانفعال، وهي بالنتيجة حالة نفسية.

ومما لاشكل فيه أن هذه الحالة النفسية بهذا المعنى لا تصح بالنسبة إلى الله سبحانه، ولكن قد يتعامل الله سبحانه مع الإنسان تعاملاً يكون نظيره ما يصدر عن الحياء والخجل. قال سعدي في بداية گلستانه: إن العبد عندما يدعو الله، فلا يستجاب له، فيكرر الدعاء ثانيةً وثالثةً، فيأتي النداء: يا ملائكتي أجيبوه، فقد استحييت من عبدي. وكذلك الأمر بالنسبة على الاستهزاء. فهو بالنسبة إلى الإنسان حالة نفسية لها آثار معينة، ولكن الله سبحانه عندما يتعامل مع شخص تعاملاً من شأنه أن يجعل ذلك الشخص عرضة لاستهزاء الناس، يقول: (الله يستهزئ). إن هذا الأمر لا يختص بالله سبحانه، بل كثير من الموارد الأخرى تستخدم هذه الألفاظ، بالنسبة للإنسان باعتبار السلوك الذي يكون من النوع الذي هو معلول لتلك الحالة.

أما كيفية هذا؟ لقد استخدمت في الحديث ثلاث ألفاظ: التكبر، والجبن والبخل. فالتكبر حالة نفسية في الإنسان.

وقبل أن نبين معنى الحديث، أذكر لكم بعض القرائن: لقد قيل لنا إن (التكبر على المتكبر عبادة) أي إذا رأيت إنساناً يتكبر، فلا تتصرف معه بشكل تشجعه فيه على التكبر، بل عليك أن تتكبر أنت عليه أيضاً، لتمرغ أنفه بالتراب لعله يكفي عن هذه الحالة.

فعندما يقول: التكبر على المتكبر عبادة، لا يعني أن التكبر حالة نفسية مستساغة ومحمودة، وأنك عندما تتكبر قبال هذا التكبر، لا تنظر إلى نفسك بأنك كبير حقاً، بل إنه يعني لابد أن تكون متواضعاً على الدوام: روحك تكون متواضعة، ولكن سلوكك مع الشخص المتكبر يكون بتكبر من أجل تمريغ أنفه بالتراب. إذن: لم يوص هنا بالتكبر باعتباره خلقاً، بل أوصي به باعتباره سلوكاً مشابهاً لسلوك الشخص المتكبر. 

أمر الرسول (ص) في عمرة القضاء

إن عمرة القضاء كانت على ما يبدو في العام السابع الهجري حيث زار الرسول (ص) مكة بعد صلح الحديبية، الذي تم عندما منعته قريش وأصحابه من دخول مكة، على أن يرجع المسلمون من قرب مكة ليعودوا إليها ثانية، وكان أهالي مكة في ذلك الوقت كفاراً، وأعداءً. وقد سمح للمسلمين وفقاً لبنود الصلح أن يدخلوا مكة في العام القادم. وعندما جاء المسلمون للزيارة، أصدرت قريش أمراً عاماً بتخلية مكة من أهاليها، كي لا يلاقوا أحداً من مكة، فلربما يؤثرون فيه، ويحولونه إلى معسكرهم. وقد كان ضمن بنود الصلح أن يمكث المسلمون في مكة ثلاثة أيام فقط.

عندما دخل المسلمون مكة خرجت قريش برجالها ونسائها، وأطفالها إلى خارج مكة، ومكثوا في مرتفعاتها القريبة.

والرسول كان يعرف أنهم يراقبون المسلمين عن بُعدٍ، فأمر بانزال ثوب الإحرام عن أحد الكتفين. والطواف بشكل تتجلى فيه الرجولة، والصلابة والشجاعة أثناء الهرولة. وقد كان طوافاً وحيداً في زمن الرسول، حيث إنهم طافوا، كما لو أنهم في ساحة معركة، من أجل أن ترى قريش فيهم القدرة والشوكة، في حين أن المناسبة كانت مناسبة عبادية، والحالة حالة دعاء وتضرع وتواضع. ولكن الرسول لم يرد منهم أن يتكبروا فعلاً، بل أراد أن يكون سلوكهم في هذا الظرف بتكبر.

مثال آخر: إنه أمر أصحابه أن يتصرفوا بتكبر في ساحة المعركة ـ أي أن يمشوا بتبختر تماماً كالمتكبر، وإن أمير المؤمنين علي (ع) بعد أن قتل عمرو بن ود العامري في معركة الخندق، وعاد إلى المسلمين كان يمشي بتبختر فلما رآه رسول الله (ص) قال: إنها مشية يبغضها الله إلا في هذا الموضع. إنه إذن: سلوك متكبر، ولكن الإسلام يبغض نفس التكبر، حتى في ميدان الحرب، فلا أحد من أهل فقه الحديث يقول بأن نفس التكبر باعتباره خلق وخصلة وحالة نفسية تقبل الاسثناء في ميدان الحرب، فتكون جيدة، وفي غيره لا تكون جيدة. فالتكبر إذن في هذه الموارد يعني فعلاً يتكبر.

وهكذا هو بخصوص بالمرأة بقرينة (لم تمكن من نفسها) فإنه لم يقل: إن تكبر المرأة مطلقاً حسن، حتى مع المرأة الأخرى.

فالمرأة لا ينبغي لها أن تتكبر مع المرأة، وكذلك مع زوجها وأبيها وأخوتها وأخوالها وأعمامها، ثم إن الإنسان لا يمكنه أن يكون ذا خلقين، فهو إما متكبر أو غير متكبر، فذلك الحديث يقول: بالفعل المتكبر أمام غير المحارم. ومن الواضح أن كلمة (الزهو) التي جاءت في الحديث تختلف شيئاً ما عن التكبر.

إن التواضع الذي يبديه رجل أمام رجل آخر، أو تبديه إمرأة أمام إمرأة أخرى أو أمام أحد محارمها، وكلمات المجاملة التي تقولها، لا ينبغي أن تكون أمام غير المحارم.

وإذا فعلت والتزمت بهذا، فإن الرجل من غير المحارم سيرى أن هناك فاصلاً بينه وبين هذه المرأة.

فالتكبر إذن هنا ـ أي في الحديث ـ إنما هو مرتبط بالفعل، لا بالخلق. والحديث يشير إلى أن المرأة عندما تتصرف بهذا الشكل لن يتمكن منها الرجل الأجنبي.

لقد ذكرنا أن الإسلام يريد أن يسود أصل عام، وهو إيجاد حاجز عملي، مثل الحجاب، وأخلاقي ـ كما ذكر في هذا المورد، من أجل منع نشوب الحرائق التي خطرها قائم. إذن يكون هذا سلوكاً بتكبر، وليس نفس التكبر.

 مفهوم الجبن في الحديث

إن المقصود من الجبن هنا هو مسألة العفاف، وليس موضوع الجبن مقابل الشجاعة مطلقاً، إن الشجاعة باعتبارها خلق روحي ـ وبمعنى قوة القلب وعدم الخوف وعدم الانحناء أمام الآخرين ـ أمر ممدوح بالنسبة للرجل أو المرأة. فالإسلام لم يقل في أي وقت من الأوقات: إن الرجل ينبغي أن يكون قوي القلب، ولكن المرأة ينبغي أن تكون جبانة، والدليل على ذلك أن كل ما لدينا من نصوص في باب مدح الشجاعة وذم الجبن ـ وهي كثيرة ـ لا تختص بالمرأة أو الرجل، بل إنها تشملهما جميعاً. هذا أولاً.

وثانياً: إن سيرة النساء المسلمات التي لدينا إنهن كن دائماً شجاعات أي إن المرأة الشجاعة عند المسلمين هي موضع افتخار وتمجيد، لأن الشجاعة تعني عدم الخوف، وعدم التراجع عن خوف على المال والولد والنفس ـ عندما تكون معرضة للخطر، والاستعداد للعطاء من المال والحيثية والروح مقابل الاعداء.

 قصة صفية بنت عبد المطلب

فنحن مثلاً نرى قصة صفية بنت عبد المطلب تعتبر في التاريخ الإسلامي موضع تبجيل وتمجيد، ومما ينتظر ويتوقع من إمرأة هاشمية.

في غزوة الخندق عندما حوصر المسلمون من قبل الكفار، وضع الرسول (ص) النساء في مكان معين.

كان مع المسلمين رجل يسمى حسان بن ثابت، وهو الشاعر المعروف المفلق، وقد خدم الإسلام خدمة كبيرة بلسانه ـ وهو من الشعراء المخضرمين ـ أي الذين شهدوا الجاهلية والإسلام، كما يعد من شعراء الدرجة الأولى عند العرب، وهو كغيره من كثير من الشعراء، والأشخاص الذين يكون عملهم الكلام، ويصرفون أكثر قدرتهم فيه، فإنه قهراً سيكون مقصراً أو قاصراً في المجال العملي، حيث أنه عندما رأى نفسه في ساحة المعركة. وقد آن أوان العمل والحرب، ترك الساحة واختفى بين النساء.

وقد وصل إلى محل النساء أحد الأعداء. وعندما عرف أن هناك نساء شن هجوماً عليهن، وقد طلب النسوة من حسان أن يأخذ السيف ويقف بوجه هذا الرجل. ولكنه رفض ـ كما فعل البعض عندما ارتدى حجاب النساء، واختفى في المواقع الخلفية ـ ولكن الظرف لم يكن ظرفاً، لا تظهر فيه المرأة شجاعتها، لذا فقد نهضت صفية، وأخذت السيف بكل شجاعة حتى استطاعت أن تهزم هذا العدو.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى شجاعة الزهراء، وشجاعة زينب. فنحن نرى أن قوة القلب والحماس الروحي وعدم الخوف من القتل الذي كانت تتمتع به زينب، يعد نموذجاً عالياً جداً. وينقل في التاريخ الإسلامي باعتباره أسوة كاملة.

إن ما قيل بخصوص المرأة واتصافها بالجبن ـ أي أن يكون عملها عمل الجبناء، لم يكن يقصد به الخوف على النفس أو المال، بل يقصد منه الخوف على العفاف.

الرجل الشجاع لا يخاف، يقدم في موضع الإقدام، حتى لو قتل، فإن قتله موضع افتخار. وكذلك ينبغي أن تكون المرأة.

أما حينما تكون عفتها في معرض الخطر، فليس المقام مقام شجاعة، لأن الشجاعة تعني الفداء والتضحية.

والعفاف ليس أمراً شخصياً، كي يضحي به الإنسان، بل هو أمانة لدى الإنسان تماماً، كما لو أنك تضع شيئاً ثميناً جداً لدى شخص من أجل إيصاله إلى مقصده. ولكنه بدل أن يصرف كل جهده لتحقيق هذه الغاية، يجعله عرضة للخطر، ويفرط فيه.

لقد ذكر السيد همايون مرة مثلاً جيداً، ومربياً، قال:

رأيت ـ قبل أربعين أو خمسين عاماً ـ حمالاً يضع على رأسه طبقاً كبيراً يعد من ذخائر الدولة وتحفها النفيسة جداً، وربما يكون عائداً لأهل عوائل الملك أو أحد أعوانه. وكان الحمال يريد نقله من دار إلى دار. فرأى بعض المحتالين أنها مناسبة جيدة لأذيته فتقدموا نحوه، وقاموا ببعض الأعمال التي فيها إهانة له. وكان قلبي يخفق، لتوقعي أن هذا الحمال سيفقد أعصابه ويرمي بالطبق على الأرض، فيتهشم، ليدافع عن نفسه. ولكنه تحمل كل تلك الإهانات لأنه كان يعرف ماذا يحمل على رأسه، وأن المقام ليس مقام إظهار شجاعة. ودفاع عن النفس، بل المقام هو مقام إيصال الأمانة إلى محلها.

 المرأة حاملة لأمانة إنسانية

تعد المرأة ـ باعتبارها صاحبة عفة ـ حاملة لأمانة إنسانية كبيرة، وليست مالكة لأمر شخصي إن تسامحت فيه تسامحت في أمر شخصي، بل هي إن تسامحت فيه تكون قد ارتكبت خيانة لأمانة إنسانية.

فكما ينبغي أن يكون الرجل عفيفاً، ينبغي أن تكون المرأة عفيفة أيضاً.

إن التشابه بين الرجل والمراة، لا يمكن لأحد أن يحققه، حتى لو ملئت الدنيا بصيحات مساواة حقوق المرأة والرجل. فما لاشك فيه أن المرأة والرجل جنسان، يشتركان في بعض الأمور الإنسانية، ويختلفان في بعض الأمور الأخرى، من جهة الكيفية. فعفة المرأة ـ مثلاً ـ تكون مورداً لاعتداء الرجل، في حين أن عفة الرجل لا تكون مورداً لتجاوز المرأة عليها.

ونحن لم نسمع لحد الآن أن المرأة الفلانية قد تجاوزت على عفة الرجل الفلاني. في أوروبا وأمريكا.

إن وضع الرجل يختلف عن وضع المرأة، فلا يمكن في أي وقت من الأوقات أن تظهر المرأة بمظهر التجاوز على عفة الرجل، بل هو الذي يمكن أن يتجاوز على عفتها.

إنك ترى دائماً أنه لو وقف شابان أمام مدرسة للبنات لأمكنهما أن يؤذيا مئات الشابات، في حين هل سمعت لحد الآن أو رأيت ـ وهل هو بالإمكان ـ أن شابات يقفن أمام مدرسة للشباب فيزاحمنهم؟

إن الاعتداء على العفاف لا يقع إلا من قبل الرجل، وإن المرأة يجب أن تكون في موقع الدفاع، والمحافظ، والمؤتمن على الأمانة الاجتماعية والأخلاقية والإنسانية.

إن الحديث ـ موضع البحث ـ يوصي المرأة فقطك أن يكون سلوكها ذات طابع جبان مع الرجل الأجنبي، في مسألة العفة. ولا يقول بذلك في سلوكها مع المرأة الأخرى. أو مع الزوج أو المحارم.

إنه ليس من الشجاعة أن تقول المرأة: لأذهب وحدي مع عدد كثير من الرجال، ولن يحدث شيء، لأني شجاعة، ولا أخاف، لأن الشجاعة تعني عدم الخوف. في الحين الذي تقتضي التضحية والفداء، فالمرأة لو أخذت منها أمانتها، فإنها ستقول: إني قد ضحيت. أما لو سلبت منها عفتها ستكون قد خانت الأمانة.

بناءها على هذا يكون الجبن الذي يوصي به أمير المؤمنين (ع) المرأة أن تحتاط به، إنما يعني أن يكون سلوكها بجبن، لا في مطلق المسائل، لا في مورد الخطر على النفس أو المال أو الحيثية الإجتماعية، بل في المورد الذي تكون فيه العفة معرضة للخطر. فهي توصية للمرأة بالاحتياط.

 مفهوم البخل في الحديث

وهكذا الأم  بالنسبة إلى البخل. فالقرآن الكريم يقول: (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) (الحشر: 9) إنها إحدى حالات الإنسان التي يسميها القرآن شح النفس، والتي هي عندما تعرض له، لو أردت أن تأخذ منه فلساً واحداً، فكأنك تريد أن تقتطع جزءاً من روحه.

فالإسلام دين التوحيد الذي يريد أن يزيل تعلقات الإنسان ـ الرجل والمرأة ـ بغير الله، فهل يحتمل أن يوصي الزهراء (ع) مثلاً بأن تكون محبة للمال حباً جماً؟ فإذا صح هذا، لماذا يعتبر إنفاق الزهراء للباس زوجها ـ في سبيل الله ـ فضيلة كبيرة، وهو حقاً فضيلة كبيرة.

لم يكن المقصود بالبخل في الحديث هو البخل في المال الشخصي، فالمرأة أمينة على مال زوجها، وبالأخص وفق عبارة "حفظت مالها ومال بعلها" التي تعني من وجهة نظري المال المشترك بينهما، فلا ينبغي أن تكون مبذرة بما تأخذه من جيب حاتم.

ففي النظام الإسلامي بشكل خاصٍ، الذي يكون فيه الرجل هو الذي يحصل المال، وتكون المرأة المدير الداخلي للعائلة. ومن الطبيعي أن من لا تنضح عرقاً على تحصيل المال، لا تعرف قدره الذي يستحقهز فالمرأة بالنسبة للمال المشترك تعتبر أمينة عليه تمتدح إذا كانت تحسب لكل فلس حسابه.

فالبخل إذن هنا: لا يعني الصفة النفسية ـ الخلق ـ بل يعني سلوك الإمساك، لا من مالها، بل من مال الزوج. وإن هذا الأمر لا يختص بالمرأة فقط، بل يشمل غيرها ـ أيضاً ـ فأمير المؤمنين الجواد الأول، كما كان الممسك الأول.

فالتاريخ يحدثنا بأنه (ع) أول الكرماء من ماله، كما كان أول الممسكين بالنسبة للمال الذي كان مؤتمناً عليه ـ أي بيت المال، حيث لم يكن مستعداً لأن يعطي أخاه عقيلاً فلساً واحداً من بيت المال. فهل كان عليه السلام يحمل صفتين متضادتين؟ كلا: إن هاتين الصفتين من وجهة نظر الأخلاق ليستا مضادتين. إن إنفاقه لما كان يحصل عليه من غنائم الحرب أو من حفر نهر أو غيره من الأعمال يعتبر جوداً. والدقة في حفظ ممتلكات بيت المال من إطفائه للشمعة العائدة لبيت المال في حالة إنجاز عمل شخصي ـ مثلاً ـ يعتبر أمانةً لا بخلاً.

إنه كان يوماً مشغولاً في بيت المال، وقد أضاء له شمعة عائدة لبيت المال، فدخل عليه البعض لحاجة شخصية غير مرتبط ببيت المال، فأطفأ الشمعة، فسئل عن السبب، فأجاب بأن الشمعة عائدة لبيت المال، في حين أن عملكم شخصي، لا علاقة له ببيت المال.

فهل يقال له: إنك بخيل بسبب إطفائك للشمعة؟ كلا.فإذا صح ذلك، كان يجب أن نعتبر عثمان كريماً جداً، لأنه أعطى بيت المال لهذا ولذاك. إن كل شخص يؤتمن على مثل هذا المال، يجب أن يكون ممسكاً، ولكن لا بمعنى أن يكون خلقه الإمساك، بل سلوكه الإمساك، وهذا لا علاقة له بالخلق.

إذن فالخلقيات الثلاث: الجبن، والكبر، والزهو، والبخل. التي ذكرها الحديث، والتي يختلف أمرها بين الرجل والمرأة، لا تتنافى مع أصل عدم نسبية الأخلاق.

ففي خصوص الجبن الذي يقابله الشجاعة والقوة، وقوة القلب التي هي مطلوبة لكل من الرجل والمرأة، والجبن باعتباره خلق يعتبر أمراً سيئاً بالنسبة للمرأة والرجل.