:الموضوع

الوجدان ومسألة نسبية الأخلاق

 

تحقيق نظرية نسبية الأخلاق

(إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القرب وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي) (النحل: 90)

كان بحثنا منذ ليلتين أو ثلاث يدور حول العدالة، وكانت خلاصته هي أن العدالة بنيت على أساس الحق، والاستحقاق، وأن عموم استحقاقات الإنسان ثابتة وواحدة ومطلقة. وأن العدالة هي أيضاً أمر مطلق، وليس نسبي.

وأريد في هذه الليلة ـ الحديث عن نسبية الأخلاق، والتي أشرنا إليها في بعض الليالي السابقة.

وبهذا أختم الحديث عن نسبية الأخلاق ونسبية العدالة.

لقد ذكرنا: أن البعض يعتقد بنسبية الأخلاق، بمعنى أن خلصة معينة لا يمكن أن تكون ـ في كل الأوقات، وفي كل الأزمنة ـ خلقاً جيداً. أو خلقاً رديئاً. بل إن كل خلق يكون جيداً في مكان معين ورديئاً في مكان آخر. يكون جيداً في زمان معين ورديئاً في زمان آخر. فالأخلاق أمر نسبي، ولأنه نسبي لا يمكن أن يكون لنا قوانين كلية ودائمة وصالحة لكل مكان وزمان، بل سيكون لنا في كل زمان قانون أخلاقي معين.

هذا هو البحث الذي سنتناوله لنرى مدى صحته.

إنه كلام غير صحيح، فنحن نسأل الذين يتفوهون بهذا الكلام: ما معنى أن يرى المجتمع شيئاً جيداً أو يراه رديئاً؟

وربما يكون قد طرح هذه المسألة ـ بشكل أولي ـ المسلمون، حينما طرحوا مسألة الحسن والقبح العقليين.

ماذا يعني الحسن والقبح العقليين، في مقابل الحسن والقبح غير العقليين؟

إن لدينا حسن واحد، وقبح واحد ـ مثلاً ـ شكل فلان حسن وجميل أو أن شكل فلان قبيح. إن فلاناً له عيون حسنة، وفلاناً عيونه قبيحة.

وعن الحيوان قد نقول: إن الغزال حيوان حسن وجميل. أما الغراب فحيوان قبيح، هذا هو الحسن والقبح. كما أنا نرى أن أحد علوم العصر هو علم الجمال.

إن الحسن والقبح العقليين يعني حسن وقبح الشيء الذي لا يرى بالبصر، يدركه العقل. ومن الطبيعي أن العقل يدرك نفس ذلك الشيء، كما يدرك حسنه وقبحه. مثلاً: لو مرض شخص غريب في صحراء، وعثر عليه شخص آخر، لا توجد بينهما أدنى معرفة، فيدفعه إحساسه بغربته ومرضه، ودون أن يتوقع منه شيئاً، إلى أن ينقله على المستشفى فوراً. لكي يوضع تحت عناية خاصة. ثم لا يكتفي بذلك، بل يكرر تفقده وزيارته له في المستشفى كثيراً، إلى أن يتماثل للشفاء، ويخرج من المستشفى، فينتبه إلى أنه لا مال معه، يعينه على الرجوع إلى موطنه، فيبادر بشراء بطاقة سفر له، تعيده إلى وطنه. ولنفترض أن هذا كان من أهل العراق. وذاك كان من أحد الدول الأفريقية، حيث أن أحدهما لا يتوقع أن يرى صاحبه إلى آخر العمر، ولو مرة واحدة.

وأنا الآن أسألك: هل أن هذا العمل الذي قام به هذا الشخص لذلك المريض جيد أم لا؟

فالجميع يتفقون على أنه عمل جيد حسن جميل، ولكن هل أن جمال هذا العمل من نوع الجمال الذي يمكن أن يرى بالعين؟

كلا، حيث أن جمال هذا العمل لا يمكن أن يدرك بالعين، كما لا يمكن للعين أن تدرك الصوت الجميل. ولكن وجدان الإنسان وضميره يدرك هذا العمل، ويعرف أنه عمل جيد وجميل، تدركه عقولنا أيضاً بشكل جيد.

ما يقابل ذلك: إن شخصاً يحسن لشخص آخر، فيتفق أن المحسَن إليه يرى المحسِن في الشارع أمامه، فلا يسعى إلى أن يقابل إحسانه بإحسان، فيأخذه ـ مثلاً ـ معه إلى داره ويحسن ضيافته، مع فرض أنه قادر على ذلك. فرغم أنه لا يفعل ذلك. بل يخفي نفسه، كي لا يراه المحسِن.

فماذا نقول عن هذا العمل؟ نقول: إنه عمل رديء. ونقول: إن هذا الرجل رجل سيئ، قام بعمل قبيح. ولكن ما هي كيفية هذا القبيح؟ هل إنها نفس كيفية قبح الشكل الذي يرى بالعين؟

إن الله قد أعطى ضميراً، ووجداناً للإنسان يستطيع العقل بواسطته أن يدرك قبح هذا العمل.

هذا هو ما يسمى بالحسن والقبح العقليين. يقال: إن كل الأعمال الأخلاقية هي الأعمال التي تكون عقلاً جميلة وحسنة، وأن الأعمال غير الأخلاقية هي التي لا تكون مقبولة عقلاً. وأنك تلاحظ في كتب الأخلاق يذكرون الصفات الحميدة، والأخلاق المقبولة، ويذكرون قبالها الصفات الرذيلة. والأخلاق غير المقبولة. فالصفات الحميدة هي الصفات التي تمتدح، والأخلاق المقبولة هي الأخلاق التي يقبلها العقل. فتكون مقبولة أو غير مقبولة من وجهة نظر العقل. فيقال: إن أساس الأخلاق هو قبولها أو عدم قبولها. حسنها أو قبحها العقلي. هذه هي المقدمة الأولى.

أما المقدمة الثانية ـ فهي ما يقال من أن قبول أو عدم قبول الحسن والقبح من وجهة نظر العقل إنما يتغير بتغير الظرف. فعقل الناس قد يعتبر شيئاً ما في زمان جيد، بينما يعتبره في زمان آخر رديء. هكذا في الأمكنة المختلفة.

إذن الحسن والقبح العقليين اللذان هما أساس الأخلاق لن يكون وضعهما ثابت، بل يتغير الزمان والمكان ـ مثلاً: إننا نرى أن قتل الحيوانات، وخصوصاً البقر في الهند يعتبر من الأعمال القبيحة، بل من أقبح الأعمال ـ أي كما يعتبر قتل الإنسان في أمم أخرى، قبيح، يعتبر قتل الحيوانات هناك قبيح أيضاً.

ولكنك عندما تتحول من الهند إلى باكستان وإيران وأفغانستان وتركيا والعراق، ترى تلك الحيوانات، تذبح، ومنها البقر بكثرة وتؤكل لحومها.

فأمة ترى أن هذا العمل قبيح، بينما أمة أخرى لا تراه كذلك.

مثال آخر: إختلاف مواقف، وأذواق الشعوب أزاء مسألة الحجاب والسفور، حيث أن الأمة التي كانت قد تربت نساؤها منذ البداية على الحجاب، فإنها تستهجن السفور، وتراه قبيحاً. فإن خلعت إحدى نسائها حجابها، فإنهم سيقولون بأنها ارتكبت عملاً قبيحاً.

ولكن في أمة أخرى: عندما تكون نساؤها قد كبرن على السفور، فإن حجبت إحداهن نفسها سترى أنها قد ارتكبت عملاً قبيحاً، لأن مجتمعها يرى أن الحجاب عمل قبيح. أي أن هذا الأمر يختلف باختلاف المكان والزمان.

إذن: الحسن والقبح العقليين لا ركن ثابت لهما.

إذن: أصبح لدينا مقدمتان: الأولى ـ إن رأي البعض هو أن أساس الأخلاق، إنما هو الحسن والقبح.

والمقدمة الثانية ـ هي: إن الحسن والقبح هما من المفاهيم النسبية.

إن كلا المقدمتين غير صحيحتين، وبالأخص المقدمة الأولى.

في البداية لابد أن نرى هل أن أساس الأخلاق الحسن والقبح أم لا؟ وإن كان الجواب بالإيجاب عند ذلك لابد أن نرى هل أن الحسن والقبح من الأمور النسبية؟ أم لا؟

في الأساس لا صحة لكون الحسن والقبح أساس الأخلاق. إن هذا ليس من الأفكار الإسلامية. فرغم أنك كثيراً ما تجد هذا الأمر يجري على لسان علماء الإسلام، ولكنه ليس هو من الإسلام. إن هذه الفكرة وصلت إلى المسلمين من اليونان، وأنها فكرة سقراطية، حيث كان رأيه أن أساس الأخلاق هما الحسن والقبح العقليين، فهو صاحب مذهب أخلاقي، يسمى بالمذهب العقلي، فحسب قناعته أن الأخلاق الحسنة هي الأعمال التي يستحسنها العقل، والأخلاق السيئة التي يجب على الإنسان أن يتطهر منها هي ما يستقبحه العقل. أي إن سقراط قد بنى مذهبه الأخلاقي على العقل ـ أي الحسن والقبح العقليين.

فالذين ترجموا كتب سقراط تقبلوا فكرته هذه، وقد بحث علماء الإسلام هذا الأمر، وعرفوا ان الحسن والقبح أساس غير ثابت، بل متغير. ولكن الشيء المهم هو لماذا نعتبر أن أساس الأخلاق الحسن والقبح العقليين لنتبنى هذا الموضوع ثم نجيب على السؤال السابق؟

كلا. فالأمر ليس كذلك، بل كما ذكرنا سابقاً، أن معنى الأخلاق هو تنظيم الغرائز، فكما ان الطب هو تنظيم قوى البدن، فإن الأخلاق تنظيم قوى الروح. وكما أن الطب ليس أساسه الحسن والقبح العقليين، كذلك الأخلاق ليس أساسها الحسن والقبح العقليين.

ولكن ماذا يعني هذا؟

لقد ذكرنا سابقاً أن الإنسان له قوى روحية، له غرائز، وإن لكل قوة منها تكاليف ـ عهد بها إلى الإنسان أي يجب على الإنسان أن يعرف حد كل قوة وقابلتها وحاجتها، ويعطيها على قدر حاجتها، دون إفراط أو تفريط، كما يفعل مع بدنه. فإن أهمل الإنسان قواه الروحية، وذلك بأن أعطى لبعضها أكثر من حاجتها وأنقص نصيب الأخرى، وتركها جائعة، فإنه سيحدث الاختلاف والاضطراب، وهذا هو ما يسمى بالأمراض الروحية، أي إن كل زيادة في عطاء القوة، يعني إيجاد متاعب للإنسان، وكذلك القلة ـ مثلاً: لو اشبع الإنسان معدته أكثر من حاجتها، بحيث كان دائم التفكير فيها، فإنه سيفسد هذه القوة، بل إنه سيفسد كل وجوده وأخلاقه. كما أنه إذا لم يشبعها بالشكل المطلوب، فإنها ستسبب له عواقب وخيمة أخرى.

إن هذا العمل لا يحتاج إلى أن يبحث، هل أنه ـ عقلاً ـ حسن أم قبيح؟ حيث أن أساس الأخلاق سلامة الروح. وأن سلامة الروح حالها حال سلامة البدن التي لا ربط لها بالحسن والقبح.

فالروح ينبغي أن تكون سليمةً، فكما أن البدن يحتاج على رياضة وتقوية، فكذلك الروح تحتاج إلى التقوية والرياضة ـ أي إن الإنسان يستطيع بواسطة أعمال معينة أن يربي حتى فكره. لقد بين هذا الأمر صاحب كتاب (أهيل) بشكل رائع جداً.

إن فكر الإنسان قد يكون دقيقاً، وقد لا يكون. وكيفية ذلك: أنا وأنت قد ندخل ونخرج من هذا المسجد مئة مرة، وعندما نُسأل عن كيفية وضع المسجد ـ ونحن في خارجه ـ عن ارتفاعه وعرضه، والقطع التي نصبت عليه... الخ. قد لا نستطيع أن نصفها بدقة ـ رغم كثرة دخولها إليه ـ لكن لو وجه هذا السؤال لفنان، حيث أنه ينظر بدقة، لاستطاع أن يصفه بشكل جيد.

إن مثل هذا الإنسان، كان قد درب عينيه، بمعنى أن قلبه صار دقيقاً ببصره. وكذلك الأمر بالنسبة لمن له معرفة بالآلات الموسيقية، حيث يستطيع أن يشخص الأصوات. وهكذا الأمر بالنسبة للملموسات. كما يشخص الطبيب المرض من خلال نبض المريض، وإن أردت أن تعرف كم هي دقيقة حاسة اللمس، عليك أن تلاحظها عند الأعمى، وبالأخص من ولد وهو أعمى، حيث سترى أن حاسة اللمس عنده تقوم بعمل كثير من القوى.

الغرض إن جميع قوى البدن تحتاج إلى رياضة، وكذلك القوى الروحية وبالأخص القوى الإنسانية العالية، مثل قوة الإرادة، وقوة العقل والفكر، وتركيز الفكر، كل تلك الأمور يجب أن تقوى. إنها أخلاق.

إن أساس الأخلاق عند الإنسان أن تكون إرادته قوية ـ أي أن تتغلب إرادته على شهوته، وعلى عادته، وعلى طبيعته، أي أن يكون الإنسان ذا إرادة بحيث أنه لو شخص لزوم أداء عمل معين يقرره أداءه، ويباشر به، ولا يسمح أن تحول بينه وبين ألأداء عادة أو طبيعة من عاداته وطبائعه. لو شخّص مثلاً: أن الصلاة هي أحد التكاليف الشرعية التي تجلب له الخير، فإن هذا يستطيع أن ينهض وقت السحر لأداء الصلاة وتلاوة الدعاء، والاستغفار، وطلب المعونة من الله، فينهض بسرعة ولكن طبيعته ستقول له: نَم واسترح، وهو لازال مأخوذاً بالنعاس ويريد أن يستلذ بالنوم. فها هنا إذا كانت إرادته قوية، فإنها ستتغلب على طبيعته، وينهض فوراً، ويشرع بأداء عمله العبادي.

أو أنه عندما يعلم بأن قلة الطعام أمر جيد ومفيد للبدن، ففي حالة جلوسه إلى المائدة، وأكله مقداراً معيناً سيرى نفسه أنه لازال جائعاً.

أما نحن الإيرانيون فقد اعتدنا التخمة، وكبرت بطوننا، لأننا نأكل أكثر من حاجتنا، فالعمل حينئذ يناديه بأن يكف عن الأكلن ويقول له: إن المقدار الذي تناولته كاف لك، أما طبيعته، فستقول له: كل، فإنك لم تشبع بَعد. فإن كانت إرادته قوية سيكف عن الطعام.

وكذلك في مجال الاعتياد، فعندما يعرف الإنسان التدخين عادة مضرة أخلاقياً ومالياً، فإن كان صاحب إرادة قوية فسيمتنع عن التدخين أي تتغلب إرادته على عادته. أما إذا كان لا يمتلك تلك الإرادة، فإن عادته هي التي ستتغلب.

الأخلاق تعني أن تتغلب إرادة الإنسان على عاداته وطبائعه أي أن يقوي إرادته بشكل يستطيع فيه الغلبة، حتى على عاداته الحسنة، لأنه من غير الصحيح أن يعتاد الإنسان حتى على العمل الحسن، مثلاً: نحن يجب أن نصلي، ولكن لا بدافع العادة؛ فمن أين نعرف أن صلاتنا هي عادة أم لا؟ علينا ان ننظر: هل أننا نؤدي كل الفرائض الإلهية بشكل يشبه أداء الصلاة؟ فإن كان الأمر كذلك نعرف حينها أن أعمالنا دوافعها إلهية. أما إذا كنا نأكل الربا ونصلي حتى النوافل، أو نخون أمانات الناس، ولكن لا نترك زيارة عاشوراء، حينها نفهم أن عملنا ليس عبادة. وإنما هو عادة، ففي الرواية عن الإمام الصادق (ع): "لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده" أي لا يخدعنكم طول الركوع والسجود، فلربما كان هذا عادة يستوحش صاحبها من تركها. فإن أردت أن تعرف ذلك الإنسان، فامتحنه بالصدق والأمانة، لأن الأمانة والصدق ليستا من الاعتياد، كما هو حال الصلاة.

إذن يجب أن تكون إرادة الإنسان وأخلاقه قوية بحيث يمكن أن تتغلب على طبيعته، وعادته بحيث يصبح الإنسان ينجز أعماله بإرادته. حتى أن الفقهاء يذكرون ـ وكذلك الأخلاقيون ـ إن الإنسان إذا دوام على ترك المستحب إنما يتركه فترة من الزمن ليخرج عن كونه عادة. ثم يرجع إليه فينجزه بحكم الإرادة.

الغرض أنه عندما تكون حقيقة الأخلاق هي أن الإنسان له صفات وقوى، وإن كل صفة أو قوة لها حق معين، وتكليف الإنسان هو أن يعطيها ما تستحقه، وعندما يكون معنى الأخلاق: إن كل جنبة إنسانية عند الفرد ـ وبالأخص العقل والإرادة ـ يجب أن تدرب وتربى بحيث تكون سائر القوى الأخرى تحت سيطرتها حينها لا يمكن أن يقال: إن الأخلاق تختلف باختلاف الزمان والمكان.

وأنا تكون لي أخلاق معينة، وأنت تكون لك أخلاق أخرى، وتكون لي في زمن معين أخلاق خاصة، وفي زمن آخر تكون لي غيرها.

إن الذي يعتقدون بأن الأخلاق نسبية إنما هم سقراطيون في تفكيرهم، لأن الأمر ليس كذلك:

أولاً: إن أساس الأخلاق ليس الحسن والقبح العقليين.

ثانياً: إن مسألة كون الحسن والقبح قابلان للتغيير ـ أي إنهما يختلفان باختلاف الزمان والمكان، تعتبر مسألة خاطئة من جهة، وصحيحة من جهة أخرى. وإن العلامة الطباطبائي، قد قام بتحقيق هذه المسألة، وكان رأيه: إن أصول الحسن والقبح العقليين ثابتة، والمتغير هو فرعها.

وبما أني قد تعبت، لذا أعتذر عن مواصلة البحث وأكتفي بالدعاء.

الوجدان ومسألة نسبية الأخلاق

(أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً) (فاطر: 8)

 كان في نيتي ومواصلة لموضوع (مقتضيات العصر) أن أبحث هذا الليلة موضوعاً من مواضيع فلسفة التاريخ، وهو: هل أن عوامل سعادة البشر تختلف باختلاف الزمان؟ أي إن فيها قديم وجديد؟ أم أن هناك سلسلة عوامل ثابتة تكون سبباً للسعادة في كل زمان؟

إن هذا الموضوع يحتاج إلى توضيح وتفسير، ولكن بما أنني تعرضت في الليالي الماضي لموضوع نسبية الأخلاق، ولم أكن أرى ضرورة للتعقيب حول ما ذكرته، ولكن بعض الأحبة أرادوا أن أواصل البحث لتتمته، وهو ما سأتناوله الليلة:

لقد اتضح لدينا: أن الأشخاص الذين يقولون بنسبية الأخلاق يرون أن أساس الأخلاق هو الحسن والقبح العقليين، إضافة إلى أن العقل يعرف الأعمال القبيحة، كما يعرف الأعمال الحسنة، ويسمي الأولى بالأخلاق الرذيلة، ويسمي الثانية بالأخلاق الحسنة، ولذا قيل: إن وجهة نظر العقل الحسن والقبح تتغير بتغير الزمان، لذا فإن أساس الأخلاق لن يكون ثابتاً وعاماً. فما يمكن أن يعتبر في محيط معين خلق حسن يعتبر رديئاً في محيط آخر. وقد ذكرنا أن هذا الاستدلال له أساسان:

الأول: إن الأخلاق قائمة على أساس الحسن والقبح العقليين.

والثاني: إن كل من الحسن والقبح أمر نسبي، أو بتعبير المناطقة: هناك صغرى وكبرى، ولابد أن نستنتج الكبرى من الصغرى. إن صغرى هذه المسائل هي أن الأخلاق قائمة على أساس الحسن والقبح، وإن كل منهما أمر نسبي، والكبرى هي: إن الأخلاق تكون قائمة على أساس أمر نسبي، وإن ما يكون أساسه نسبي يعتبر نسبي أيضاً. إذن: فالأخلاق نسبية.

إننا تحدثنا عن الأساس الأول ـ أي كون الأخلاق قائمة على أساس الحسن والقبح، وذكرنا أن هذا غير صحيح، ومن الأخلاق السقراطية، وسقراط هو أحد معلمي الأخلاق، وصاحب مذهب أخلاقي خاص. إنه فيلسوف يوناني بنى مذهبه الأخلاقي على أساس الحسن والقبح.

أما الأخلاق الإسلامية، فلا تبتني على هذا الأساس.

إذن: فإن هناك إشكال، إنما يرد على الأخلاق السقراطية.

لقد اراد بعض الأحبة أن أبسط البحث حول الركن الثاني من هذا الاستدلال، وهو: هل إن الحسن والقبح هما حقاً أمر نسبي أم لا؟

لقد ذكرت في ليلة سابقة أن كون الحسن والقبح أمر نسبي ليس صحيحاً. ولكن لم أبسط البحث أكثر. والآن لنترك هذا المدخل، ونبدأ من مكان آخر؛ ليتضح الأمر أكثر.

لابد أنك سمعت بكلمة الوجدان أو الضمير، فنحن بدلاً من أن يتركز بحثنا حول الحسن والقبح، سيكون حول كلمة الوجدان أو الضمير.

فنحن نرى البعض يقول: وجداناً إن الأمر الفلاني هكذا.

أو: أنت وضميرك هل إن الموضوع الفلاني هو كذا؟

أو: إن قاضياً ذو ضمير حيّ هكذا يقضي؟

فما هو الضمير؟ هل إنه يتغير بتغير الزمان؟

أي هل إن ضمير أهل هذا العصر يختلف عن ضمير الناس الذين عاشوا قبل عشر سنوات أو قبل قرن من الزمان؟

هل إن ضمير الناس يتغير كما تتغير ألوان ملابسهم ووسائل نقلهم، ووسائل إضاءتهم؟

إن كل شخص يشعر أن في داخله قوة بإمكانها أن تصدر حكماً ضده، وهي الضمير.

يقال: إن الفيلسوف الإلماني المعروف (گانت) وهو من فلاسفة العالم المشهورين، له جملة كتبت على قبره، وهي (هناك شيئان يثيران تعجب الإنسان:

الأول ـ السماء من فوقنا المليئة بالنجوم والتي كلما حدق بها الإنسان تتضح له عظمتها أكثر.

والثاني ـ ضمير الإنسان الذي جعل في قلبه).

لقد ذكرنا: أن الضمير قد يصدر حكماً حتى على الإنسان نفسه. مثلاً: عندما ينشب خلاف بينه وبين شخص آخر، فلربما لا يستسلم ويعترف بالحق أثناء حديثه مع غريمه، بل يغمطه حقه، ولكنه عندما يخلو بنفسه ويفكر بما قال وعمل يرى أن هناك قوة داخلية تلومه وتعنفه، فتخجله أمام نفسه، فما هو الشيء الذي خجله أمام نفسه؟

يقال: إن طفلاً ذكياً ترك وحده في غرفة مع كمثرة فخرج الطفل دون أن يمد يده إلى هذه الفاكهة، فسأله أحدهم: هل كان هناك شخص آخر في الغرفةك أجاب الطفل: لازل فقال له: لماذا إذن لم تأكل الكمثرى؟ فقال الطفل: لأني كنت أنا في الغرفة.

هذا هو حساب الضمير، والقرآن يسميه بـ "النفس اللوامة".

أي القوة التي توجد في داخل الإنسان، لتلومه إذا عمل عملاً منكراً، وتقول له: يا من قلبه غافل؛ لماذا قمت بهذا العمل القبيح، لقد سودت وجهي... وما شابه.. فهل يوجد إنسان لا توجد فيه مثل هذه القوة؟

إنها موجودة بالضرورة... فكل البشر يتمشدقون بالضمير.

حتى الذين لا يعتقدون بوجود الله. لا يستطيعون أن يقولوا لأنفسهم: إننا لسنا من عشاق الحق. بل يقولون: نحن مع الحق، حتى لو كان في غير صالحنا، لأننا بشر وأصحاب إنصاف، وضمير، ونعترف بالحقيقة. ويسمون هذا إنسانية. والإنسانية توجب الوقوف مع المظلوم مثل هذا الكلام نسمعه حتى من الماديين والشيوعيين.

إن الضمير، أو الإنسانية هي قوة داخل الإنسان تعتمد على الحق والحقيقة أي إنك عندما ترى الحق مع غيرك تكون منصفاً، وتقول له: إن الحق بجانبك.

إن هذا الأمر يصدر من الناس الآن، كما كان يصدر عنهم قبل قرن من الزمان، كما كان يحصل قبل عشرة قرون، وقبل مئة قرن أيضاً.

فنحن الذين نلوم الظلمة في الدنيا، إنما نلوم الظلمة الحاليين، والذين كانوا قبل عشرة قرون، بل وقبل مئة قرن أيضاً. ونقول عن أحدهم: إنه كان إنساناً بلا ضمير، أي يتصرف خلاف مقتضيات ضميره الإنساني.

"جنكيز خان" مثلاً كان رجلاً سيئاً ـ أي إنه كان يتصرف خلاف ضميره الإنساني، وكان (سزار) رجلاً سيئاً ـ أي إنه كان يتصرف خلاف ضميره الإنساني.

إذن يتضح لنا أن كل الناس لهم ضمير إنساني واحد. وهل هناك غيره يحكم بالعدالة، دائماً، يحكم بوجوب إعطاء كل ذي حق حقه.

إنه ينظر إلى قتل الإنسان بلا ذنب، ويحكم عليه الآن، كما كان يحكم عليه قبل خمسة آلاف سنة مثلاً. إن كل بني البشر يحكمون بقبح قتل الأطفال على امتداد الزمان.

فإن كان الرأي أن الحسن والقبح مطلقاً أمر نسبي ومتغير، فإن ضمير الإنسان سيكون متغيراً بشكل مطلق أيضاً. أي أنه في كل زمان سيكون له حكماً خاصاً. وهذا ما لا يقول به أحد، حتى من الذين يتبنون هذا الرأي في فلسفتهم في المجال العلمي. وإن قالوا به نظرياً.

ففي الفلسفة الماركسية تعمم اصالة المادة في كل شيء في المجال الفلسفي والمجال الاجتماعي، حيث أنهم يقولون: إن العامل الاقتصادي هو سبب كل شيء، فهو الذي يصنع ضمير الإنسان حيث أنه تابع للعامل الاقتصادي، ولما كان هذا العامل متغيراً، فإن ضمير الإنسان يكون متغيراً أيضاً.

وبناء على هذا الرأي، لا يبق معنى للضمير أو الإنسانية، في حين أننا عندما نتفحص الإنسان، نجد أن الضمير حقيقة ثابتة فيه، وفي كل الأزمنة، وهذا ما بينه القرآن الكريم في مواضع متعددة. ففي سورة القيامة قال تعالى: (لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة) (القيامة: 1 ـ 2) أي إني لا أقسم، ولكن أعلم أن المقام مقام قسم هذا أولاً.

وثانياً: إنه يريد أن يقول: إن ما أريد قوله قطعي بحيث أني مستعد لأن أقسم عليه. وقد وضعت النفس اللوامة مرادفة ليوم القيامة الذي هو يوم الحساب، يوم تشكيل محكمة العدل الإلهي لكل العالم. فكما أنه يوجد في يوم القيامة (وضع الميزان) ففي النفس الإنسانية أيضاً يوجد (وضع الميزان) و(السماء رفعها ووضع الميزان). (الرحمن: 7)

إنه يريد أن يقول: لا أقسم بيوم القيامة، ولا أقسم بالنفس اللوامة أي لا أقسم بالضمير والوجدان، لأن الضمير في الإنسان يعمل كما يعمل الميزان يوم القيامة، كما يريد أن يقول: إننا أعطينا للإنسان هادياً ذاتياً لواماً، يعرف الحقيقة ويتابعها.

إنه سبحانه في مكان آخر يقول: (والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها والنهار إذا جلاها، والليل إذا يغشاها، والسماء وما بناها والأرض وما طحاها ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها). (الشمس: 1 ـ 8)

لم يرد في القرآن مثل هذا القسم بحيث يتكرر عشر مرات، الواحدة بعد الأخرى. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أهمية الأمر الذي يريد أن يذكره القرآن، إنه يقسم بالشمس وضحاها، ويقسم بالنفس الإنسانية والإعتدال الذي فيها، حيث أن الله ألهمها بصورة فطرية الفجور والتقوى أي إنها بواسطة هذا الإلهام تعرف الحسن والقبح، ولا ضرورة لأن يعلم الإنسان هذه معلم بعد ذلك، لأن وجدان الإنسان وضميره كافٍ له.

هناك آية أخرى تقول: (وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة). (الأنبياء: 73)

فلم يقل سبحانه وأوحينا إليهم أن افعلوا الخيرات وأقيموا الصلاة أي أنه يقول: أوحينا إليهم، ولم يقل أمرناهم، ويقول: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان). (المائدة: 2)

نقل أن رجلاً اسمه (وابصة) جاء إلى رسول الله (ص) بعد نزول هذه الآية، وقال له: أريد أن أسألك ـ وقبل أن يسأل، قال له الرسول (ص): تريد أن تسأل عن معنى الإثم؟ قال: بلى يا رسول الله (ص).

قال: "هو ما نفر منه قلبك". فالله قد أعطى للإنسان قلباً محباً ألفاً للحسن ومستوحشاً من القبح. ثم ضرب الرسول بأصبعيه الكريمتين على صدره وقال له: "استفت قلبك يا وابصة".

فكما يسأل المجتهد باعتباره مرجعاً للتقليد يسأل القلب، فالإنسان يمكنه أن يطلب التقوى من ضميره. وقد نظم (مثنوي) الحديث السابق شعراً، فقال:

(كفت پيغمبر كه استفتوا القلوب).

كما توجد نصوص إسلامية أخرى تقرر إصالة الضمير، ففي الحديث الشريف عن رسول الله (ص) أنه قال: "الصدق طمأنينة والكذب ريبة" أي إن الصدق يوجد طمأنينة في القلب، بينما يوجد الكذب الشك، حيث توجد علاقة خاصة. فالقلب يقبل الكلام الصادق بسرعة، بينما يقبل الكذب بتردد ـ رغم عدم وجود قرينة على أنه كذب، وهذا ما نظمه مولوي شعراً حيث يقول:

حديث راست آرام دل است           واستيها دانه دام دل است

إن الأشعار السالفة الذكر ذات قيمة عالية، فالشعر الفارسي مليء بالحكمة العميقة، والقيم العالية. فإنك لا تجد في أدبيات الدنيا قبل ست أو سبع قرون رجلاً قال جملة طاهرة كهذه الجمل، ولكن من أين لهم هذا الأدب؟ إنه من الرسول (ص)، فأدبنا مليء بمثل هذه الأشعار، ذات الحكمة الإسلامية، ولكنه يسمى أدباً فارسياً، وهو ذو قيمة راقية.

فالعظماء مثل سعدي وحافظ، ومولوي وسنائي... الخ الذين ملؤا الدنيا حكمة، كانت عندهم قابلية، لأن يعشقوا الإسلام، وقد عشقوه وأخذوا منه وصاغوه بقالب فارسي جميل.

كما يوجد هناك حديث ورد في كتب الحديث، وقد ذكره الشيخ الأنصاري في رسائله، ويبدو أنه حديث نبوي. قال: "إن على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نوراً" أي إن الحق ليس كالباطل، بل له حقيقة خاصة، وله باطن معين، وإن كل حرف صدق نور، ولكنه نوع نور يكشفه القلب.

إذن، فالضمير له حقيقة في وجود الإنسان، وإن وجوده واقعي، فهل يبقى القول بأنه متغير صحيح؟ أم لا؟

هناك توجد مسألتان لابد من تناولهما:

نحن لا نريد أن نبحث في كون الضمير يتغير في الجملة، لأنه لاشك في تغيره، ولكن ما نريد بحثه هو ما المقصود بالتغيير هنا؟ هل أنه يتغير هو بحد ذاته؟ أم أن تغيره مثل تغير أي قوة أخرى. فقد يكون فاسداً، لا يؤدي عمله بصورة صحيحة، حاله حال كل الأجهزة الأخرى، حيث أن كل جهاز يعكس أثره إن كان سالماً أو إذا كان مريضاً، فإنه لن يؤدي عمله بصورة جيدة.

فالسيارة ـ مثلاً ـ عندما يحصل بها عطل معين، فإنها لن تؤدي عملها بصورة صحيحة. والعين كذلك، فهي في الأصل مبصرة، ولكن قد يطرأ لها طارئ، فلا تعد تبصر.

الإنسان قد يمرض أحياناً وتصغر عيناه، فيرى الدنيا مصغرة. ولكن هذا لا يكون دليلاً على أن العين غير ثابتة في رؤيتها أي منحرفة، لأنها في حالة الإنحراف ترى بشكل معروج. أي ترى الشيء الواحد إثنان أو أنها ترى كل الأشياء سوداء.

هناك فرق كبير إذن بين هذا الكلام والكلام الأول الذي يقول: إن الضمائر أساساً متغيرة، بينما لا يقول القرآن بذلك، بل يقول بثباتها، ولكنها قد تمرض وفي هذه الحالة، فإنها لن تؤدي عملها بصورة صحيحة.

وهنا يبدو أن الفرق كبير جداً، كالفرق بين السماء والأرض. والآية التي قرأتها في بداية حديثي تبين هذا الأمر (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً).

فالقرآن يقبل فكرة أن الإنسان قد يرى عمله القبيح حسناً، ولكن هذا لا يعني أن الضمير ذات متغيرة، بل إنه ـ أي القرآن ـ يريد أن يقول: إن الضمير مثل كل الأشياء الأخرى في حالة السلامة، يعمل بصورة صحيحة أما في حالة المرض، فإنه لا يعمل بصورة سليمة.

ينقل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حديث، قد سمعتموه مراراً، وهو أن الرسول (ص) عندما ورد إلى الكعبة المشرفة، ووضع يديه الشريفتين على الباب بدأ يحدث الناس عن المستقبل، وما سيؤول إليه أمر الأمم إلى أن وصل إلى قوله ـ وهو يخاطب الأمة ـ "كيف بكم إذا... ولم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر، فقيل له: ويكون ذلك يا رسول الله؟ فقال: نعم وشر من ذلك. كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر، ونهيتم عن المعروف؟ فقيل له: يا رسول الله ويكون ذلك؟ قال نعم وشر من ذلك كيف بكم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً". [ الوسائل: ج11 ص369 باب من أبواب الأمر والنهي ح12 ].

أي إن الضمائر تفسد إلى الحد الذي ترى فيه المعروف منكراً، والمنكر معروفاً. وبعبارة أخرى: إن الضمائر تمسخ، والفطرة تمسخ، وقد عبر لنا عن هذا المسخ بعبارات مختلفة، أحدها ـ هو ما يتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والآخر هو ما يتعلق بالقلب، ففي الحديث "ما من عبد إلا وفي قلبه نكتة بيضاء، فإن أذنب ذنباً خرج من النكتة نكتة سوداء، فإن تاب ذهب ذلك السواد، وإن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتى يغطي البياض، فإذا غطى البياض ولم يرجع صاحبه إلى خير أبداً. وهو قوله ـ عز وجل ـ: (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون). [ أصول الكافي: ج2 ص273 ].

وفي حديث آخر "إن القلوب ثلاثة: قلب منكوس لا يعي شيئاً من الخير، وهو قلب كافر. وقلب فيه نكتة سوداء، والخير والشر فيه، يعتلجان، فأيهما كانت منه غلبة عليه. وقلب مفتوح فيه مصابيح يزهر لا يطفئ نوره إلى يوم القيامة، وهو قلب مؤمن". [ أصول الكافي: ج2/ 423].

إذن من وجهة نظرنا: إن الضمائر تتغير، ولكن بمعنى أنها متغيرة لا ثبات لها، بل بمعنى أن الضمير ككل القوى الروحية والجسمية الأخرى للإنسان تكون له حالة سلامة وحال انحراف، ففي حالة الإنحراف لا يقوم لا يقوم بعمله بصورة صحيحة.

وأما المسألة الأخرى، فهي: إن الأمور التي تعتبر في نظرنا حسنة على قسمين:

بعضها حسنة بذاتها. والبعض الآخر حسنة باعتبارها وسيلة، وكذلك الأمور القبيحة بعضها قبيحة بالذات، وبعضها قبيحة باعتبارها مقدمة للشيء القبيح، فنحن نقول عن الشيء الحسن أو القبيح حسناً أو قبيحاً باعتباره مقدمة لشيء حسن أو قبيح.

إن الأمور التي تختلف حولها أفكار الناس، وتتغير بتغير الزمان أو المكان ليست هي نفس الأشياء الحسنة أو القبيحة بل إنها مقدمة القبيح أو الحسن.

فقد يكون رأى الناس في الأمر الفلاني أنه وسيلة جيد للأمر الفلاني الحسن. وقد يتغير رأى الناس هذا في زمن آخر، فيرون أن هذه الوسيلة لم تعد حسنة، بل هي قبيحة. في حين أن رأي الناس لم يتغير في نفس الشيء الحسن أو القبيح طبعاً.

نعم قد يشتبه الناس في رأيهم، ولكن هذا شيء، وتغيير الضمير شيء آخر.

فلنتأمل هذا المثال الذي يذكره أولئك أنفسهم، إنهم يقولون: إن الحجاب عند بعض الناس حسن والسفور قبيح، بينما عند البعض الآخر يعتبر السفور حسن، والحجاب قبيح. إذن فهذا الحسن والقبح ليس بالأمر الثابت.

وفي جواب هؤلاء نقول: إن المسألة التي ينبغي أن تطرح ليست مسألة الحجاب وعدمه، بل إن ما ينبغي أن تطرح هو موضوع العفة الذي هو أمر فطري عند الإنسان ـ أي إن الله سبحانه خلق الإنسان ـ والمرأة بشكل خاص ـ بشكل محترم فيه حق العائلة. ففي ضمير كل امرأة دافع لأن لا تخون زوجها، كما أنه في ضمير كل رجل دافع، لأن لا يمارس الجناية مع امرأة أخرى.

وأنا أكرر دائماً القول والدعوة لأن لا يخن كل من الرجل والمرأة، أحدهما الآخر، على إمرأة أو رجل آخر، لأن الخيانة سيكون لها مردود سلبي على النسل.

إن الرجل له حساب خاص، والمرأة لها حساب خاص.

المرأة سواء كان نسلها عن طريق مشروع أم لا، فهو نسلها. وهذا أمر محرز من قبلها، بأن هذا الطفل طفلها، بينما الرجل أعطي في متن الخلقة حالة غيرة تدفعه لأن يراقب زوجته، لأن يكون مطمئناً بأن ما تلده زوجته إنما هو نسله حقاً.

فالعفة أمر في ضمير كل رجل وأمرأة. والمسائل الأخرى تعتبر مقدمة ووسيلة لها، فالذي يقول بأن الحجاب حسن. هل إنه يعني بأن الحجاب حسن بذاته بغض النظر عن العفة؟ وأن المرأة المحجبة هي جيدة حتى لو أنها تخلت عن عفتها بشكل كبير مع الحجاب؟ أم أنه حينما يقال بأن الحجاب حسن من جهة كونه مقدمة وحارساً وحافظاً للعفة.

فلو أنك سألت من يقول بأن الحجاب قبيح. هل إن العفة أمر قبيح أيضاً؟ سيقول: لا. حتى إن أفسد نساء الدنيا تعتقد بأن عدم العفة قبح، غاية ما في الأمر إنك عندما تسألها إذن لماذا تفعلين هذا العمل؟ ستقول: إن الآخرين ـ أيضاً ـ يمارسون ما أمارسه أنا. بينما لا ينظرون إلى أعمالهم، وينظرون إلى عملي.

لماذا لم يستطع الشيوعيون أن يتقدموا أكثر بمشاعة الجنس ويستمروا بهذا المشروع بنفس الروال الذي بدؤوه فيه؟

إنهم عندما رأوا أن عملهم هذا هو ضد فطرة ووجدان وضمير الإنسان.

توقفوا عنه من سنة 1936م، وقالوا بمشاعية المال فقط.

وإن المرأة والعرض هي أمور يجب أن تبقى محفوظة.

مثال آخر، قد يقال: كان الناس في فترة معينة يوصون بالقناعة ويرونها أمراً حسناً أما الآن، فإنهم لا يوصون لها، ويقولون بقبحها ـ رغم أنها كانت في زمن ما حسنة؟

الجواب هو: ما المقصود بالقناعة؟ ما هو معناها في الأصل؟

إن القناعة مسألة تقابل الطمع "عز من قنع. وذل من طمع". [ غرر الحكم: ج2 ص528 ].

إن هذا العمل كان بالأمس حسن، وهو اليوم حسن أيضاً. إن هؤلاء يتوهمون أن القدماء حينما كانوا يوصون بالقناعة، إنما يعنون بها أن يكتفي الإنسان بأخذ القليل من الحلال، ورمي الباقي في البحر؟ في حين أن الأمر ليس كذلك، بل هي مقابلة للطمع، فيقال للإنسان: اكتف بما عندك، ولا تمدن عينيك إلى ما متع به غيرك من مال، وانشغل بمالك.

وهذا أمر حيكم به ضمير الإنسانية في كل الأزمنة، حيث لا ينبغي للإنسان أن يذل نفسه.

أو أن يقال: إن ترك الدنيا كان في الماضي أمراً حسناً. أما الآن فقد أصبح أمراً قبيحاً؟

والجواب: إن ترك الدنيا الذي هو اليوم قبيح كان بالأمس قبيح أيضاً، وإن ترك الدنيا الذي كان بالأمس حسن، فهو حسن اليوم أيضاً.

فإن كان المقصود بترك الدنيا هو الكسل أو السكن في المغارات والكهوف والابتعاد عن الناس، فهو كما كان قبيحاً بالأمس يعتبر اليوم قبيحاً أيضاً.

فالقرآن يقول: (ورهبانية ابتدعوها) (الحديد: 27) فالرهبانية بدعة ما علمها الله للناس، فهي لم تكن في زمن عيسى (ع) إنما ابتدعوها من عند أنفسهم.

أما إن كان المقصود بترك الدنيا الكف عن عبادتها، فهو أمر كان في السابق حسن، وهو اليوم حسن أيضاً.

إن كل الأمور التي يقال: إن الناس قد اختلفت بها باختلاف العصر إنما هي ليست من الأمور الحسنة أو القبيحة ذاتاً، إنما هو وسائل للحسن والقبح. فرأي الناس يتبدل بالنسبة لوسائل القبح والحسن، بينما لا يتبدل بالنسبة لنفس الحسن والقبح.

المثال الآخر الذي يذكره هؤلاء يتعلق بتعدد الزوجات، فيقولون: إن تعدد الزوجات كان فيما مضى أمراً حسناً بينما هو الآن أمر قبيح.

والجواب هو: إن تعدد الزوجات بدافع الهوى والهوس لم يكن في السابق حسناً، كما هو ليس حسناً اليوم. أما إن كان مما تمليه الضروة، فهو في السابق كان حسناً، واليوم حسن أيضاً. فهو إذا تم وفق الشروط التي حددت له يكون حسناً على الدوام. أما عندما يفتقد لتلك الشروط يكون قبيحاً هذا اليوم، كما كان قبيحاً بالأمس.

هذا هو المبحث الذي أردت التعرض إليه باعتباره بحثاً متمماً لموضوع نسبية الأخلاق.