الكلمة الرابعة

حقائق لابد أن يعيها الشباب في سيرهم التكاملي

في كلمتنا السابقة أشرنا إلى أن السالك إلى الله تعترضه عقبات كثيرة في سيره التكاملي نحو الله، وأن عليه أن يكون واعياً وحذراً في كل مراحل تقربه إلى الذات المقدسة، وإلا ربما تحول تقربه إلى الله إبتعاداً عنه، واتصاله به احتجاباً عنه.

وفي كلمتنا هذه نريد أن نذكر شبابنا المسلم ببعض الحقائق المهمة التي يلزمهم أن يضعوها نصب أعينهم في سيرهم التكاملي نحو الحق والحقيقية، وأهم ما يلزمنا التذكير به هو:

أولاً: خطورة الخوض في المسلك الروحي والقضايا الغيبية من دون مرشد بصير، يرشد الشاب السالك إلى الله في كل مرحلة من مراحل جهاده في ذات الله إلى ما يلزمه التحفظ عليه وما يلزمه التحذر منه.

ومن الملاحظ أن الكثير من الشباب المتدين ولاسيما من يتمتعون بحس ديني مرهف وإرتباط قوي بالله، يواجهون مشاكل عدة في المجال الروحي، وهذه المشاكل إذا لم يستطع الشاب حلها من خلال عرضها على من يمتلك الخبرة والبصيرة في القضايا الروحية فإنها مؤهلة لأن تكبر وتتفاقم وربما تؤدي في نهاية الأمر إلى عواقب وخيمة تفسد على الشاب حياته وتفكيره وسلوكه.

ومن الخطأ أن يتصور الشاب أن مجاهدة النفس وتهذيبها وقطع تصرفات الشيطان اللعين عنها بالكلية مهمة يسيرة يتهيء له انجازها والقيام بها شخصياً ومن دون الاستعانة بخبرات وتجارب الآخرين ممن وفقهم الله تعالى في الخروج بنتائج إيجابية في المجال الروحي.

ثانياً: من الأمور المهمة للغاية في حركة الإنسان وسعيه من أجل توثيق ارتباطه بخالقه ومعبوده، الاتزان والاعتدال في علاقته بالدنيا من جهة، وبالآخرة من جهة أخرى، إذ من اللازم على الإنسان أن لا يتصور إن الارتباط بالله سبحانه وتعالى والتقرب إليه يعني قطع علاقته بالكلية مع الدنيا وعدم اعطاء نفسه حظوظها المباحة من متع الدنيا، وهذا ما نفهمه من قوله تعالى: (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة). (الأعراف: 31 ـ 32)

وقال أمير المؤمنين (ع) في وصيته لابنه الحسن (ع): "يا بني للمؤمن ثلاث ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها بين نفسه ولذتها فيما يحل ويحمد، وليس للمؤمن بد من أن يكون شاخصاً في ثلاث: مرمة لمعاش، أو خطوة لمعاد، أو لذة في غير محرم". (بحار الأنوار 70: 65، حديث 6).

ولا يتصور أن الآيات أو الأحاديث التي تحث على لزوم اعطاء الإنسان نفسه حظوظها من الدنيا تتنافى وتلك الأخبار الكثيرة التي تذم الدنيا وتدعوا الإنسان لقطع علاقته بها والزهد في متاعها ولذتها، بل مجموع هذين القسمين من الآيات والأخبار إنما يريد حفظ اعتدال الإنسان واتزانه بحيث لا يحصل عنده إفراط في جانب ولا تفريط في جانب آخر، وهكذا الأمر بالنسبة على الأحاديث التي تأمر بالإكثار من العبادة وفي مقابلها الاحاديث التي تمدح الاقتصاد في العبادة، وفي الجمع بين هذه الأحاديث والأخبار يقول الإمام الخميني (قده): "وما ورد في الأحاديث الشريفة: من الأمر بالجد والسعي في العبادة وما ورد فيها من المدح للذين يجتهدون في العبادة والرياضة، وما ورد في عبادات أئمة الهدى (ع) من جهة، وما ورد في هذه الأحاديث الشريفة المادحة للاقتصاد في العبادة من جهة أخرى مبنى على اختلاف أهل السلوك ودرجات النفوس وأحوالها، والميزان الكلي هو نشاط النفس وقوتها أو نفور النفس وضعفها".

ثالثاً: من المطبات الخطيرة التي يقع فيها البعض من جهلة المتظاهرين بالنسك والعبادة هو القول: بأن غاية العبادات والأعمال هو طهارة باطن الإنسان فإذا طهر باطنه وصفى سره فلا حاجة به إلى العبادات.

ونجد هذا الفهم المعوج والخاطئ لدور العبادة في حياة الإنسان قد بدء في الظهور منذ العصر الأول للإسلام حينما كان البعض يستدل بقوله تعالى: (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوى وأحسنوا والله يحب المحسنين) (المائدة: 93) على أن الإنسان المؤمن يصح له أكل وشرب الحرام وأنه ليس عليه جناح في ذلك كما تدل عليه الآية مادام يؤمن بالله ويعمل الصالحات.

ورأينا بعد ذلك هذا الفهم المنحرف يتبلور أكثر وأكثر عند جهلة المتصوفة الذين كانوا يدعون ان غاية العبادات والأعمال الصالحة وصول العبد إلى درجة اليقين فإذا وصل إلى درجة اليقين فلا حرج ولا إثم عليه في ما فعل، ومن أعظم البلايا على الإسلام وأهله أن يعد البعض تجاوزات الجهلة من المتصوفة على الشريعة ومقرراتها كرامة لهم ودلالة على عظم شأنهم وارتفاع درجاتهم، بحيث يتجاهر بذكر هذه التجاوزات المشينة في كتبه، كما هو الشأن في كتاب "روض الرياحين في حكايات الصالحين" لعفيف الدين أبي السعادات والذي حفل بحكايات الطالحين من المتصوفة الذين ضل سعيهم في الحياة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ونكتفي بذكر هذه الحكاية من الكتاب المذكور مع الإشارة إلى التبريرات السخيفة والواهية التي يبرر بها صاحب الكتاب التجاوزات اللامشروعة التي كان يقوم بها علي الكردي بطل الحكاية، فقد قال في الحكاية الثالثة والأربعين بعد الأربعمائة: "وقال الشيخ صفي الدين أيضاً رضي الله تعالى عنه في رسالته: لما جاء الشيخ الأجل شهاب الدين السهروردي رضي الله تعالى عنه إلى دمشق في رسالة الخليفة إلى الملك العادل بالخلعة والطوق وغير ذلك، قال لأصحابه: أريد أن أزور علياً الكردي، فقال له الناس: يا مولانا، لا تفعل أنت إمام الوجود، وهذا رجل لا يصلي ويمشي مكشوف العورة أكثر أوقاته، فقال: لابد لي من ذلك. قال: وكان الشيخ علي الكردي مقيماً أكثر أوقاته في الجامع، حتى دخل عليه مولاً له آخر يقال له ياقوت، فساعة دخوله من الباب خرج الشيخ علي من دمشق وسكن جبانتها بالباب الصغير، وما دخلها بعد ذلك إلى أن مات، وياقوت فيها يتحكم، فقالوا للشيخ شهاب الدين هو في الجبانة، فركب بغلته ومشى في خدمته من يعرفه موضعه، فلما وصل إلى قريب مكانه ترجل وأقبل يمشي إليه، فلما رآه علي الكردي قد قرب منه كشف عورته، فقال الشيخ شهاب الدين: ما هذا شيء يصدنا وها نحن ضيفانك، ثم دنا منه وسلم عليه وجلس معه... الخ".

وهذه المخالفة الصريحة من ذا الولي لقوله تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم) (النور: 30)، تبرر عند صاحب الكتاب بالقول: "وهذا الوله المذكور عن الشيخ علي الكردي موجود في كثير من الأولياء مشهور، وقد زاد علي كثير منهم حتى نسبوا إلى الجنون وهم المعروفون في الكتب بعقلاء المجانين، وكثير منهم قيدوا وحبسوا، وقد ذكرت جماعة منهم في هذا الكتاب يحسب الناس أنهم مجانين وهم العقلاء والأولياء، ولكن محبة الله ومعرفته وعظيم ما شاهدوا من عظمته وجلاله وكماله حيرهم وهيمهم وشجاهم وتيمهم،...".

ويبرر صاحب الكتاب هذا الانحراف والخروج عن حدود الشريعة في الفصل الأول من خاتمة كتابه حينما يتحدث عن زيارة السهروردي لعلي الكردي هذا، فيقول: "ولم يصده عنه ما قابله به من كشف عورته وما نسب إليه من ترك الصلاة وغير ذلك لما عرف فيه من الولاية التي سبقت بها العناية".

وفي الحقيقة والواقع أن صدور مثل هذه الأفعال المخالفة للشرع من قبل المدعين للولاية والقرب من الله، وتبريرها من قبل البعض الآخرين من الجهلة هو الذي أوجب التشنيع على العرفاء الإسلاميين ونسبتهم إلى التصوف والخروج عن الدين من قبل الفقهاء وعامة الناس، وعلى هذا الأساس تم الخلط بلا وعي وإدراك بين العرفان الصحيح والتصوف الباطل. وهي مسألة لا يسعنا بحثها بكل تفاصيلها في هذا المقام، وإنما أردنا فقط من خلال هذه الإشارة المختصرة إليها تنبيه شبابنا المسلم على ضرورة عدم الوقوع في هذه الاشتباهات الخطيرة، وعدم الاقتناع بالتبريرات التي تقدم لها، ويكفي في إبطالها أننا لم نشاهد في سيرة رسول الله (ص) والأئمة من أهل بيته (ع) هذه المخالفات، بل كانوا حريصين كل الحرص على التمسك بأحكام الشريعة والتأدب بآدابها مع ما لهم من قدم صدق في الولاية والقرب من الله عز شأنه.

رابعاً: إن على الشاب المسلم وكل من يريد السلوك إلى الله والتقرب منه أن يعي أن التقرب إلى الله وتوثيق الاستصال بعالم الغيب لا يعني الانفصال عن هذا العالم الدنيوي، وعدم احساس الإنسان بمشاكل المجتمع ومعايشته لهمومه، وهناك فرق بين أن نقول: إن الإسلام وكل الشرائع السماوية تدعوا الإنسان إلى الترفع عن عالم المادة والتوجه إلى العالم الغيبي، وبين أن نقول: إن الإسلام والأديان الإلهية تريد قطع صلة الإنسان بعالمه الدنيوي وجعله مترفعاً عن الإحساس بهموم الناس ومشاكلهم.

فالأمر الأول صحيح وأما الأمر الثاني فلا، لأننا حينما نتفكر في نفس الغاية التي من أجلها شرع الله جل وعلا الدين وبعث الأنبياء والرسل (ع) نلحظ أنها ترتبط بالناس وبالمجتمع كل الارتباط ويكفينا التأمل في الآيات القرآنية التالية:

الأولى: قوله تعالى: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط). (الحديد: 25)

الثانية: قوله تعالى: (قد أنزل الله إليكم ذكراً رسولاً يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور). (الطلاق: 10 ـ 11)

الثالثة: قوله تعالى: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور). (إبراهيم: 5)

فهذه الآيات الكريمة وغيرها كثير تدلنا على أن الغاية من بعث الأنبياء والرسل (ع) هي إقامة العدل في المجتمع وإخراج الناس من ظلمات الوهم والجهل والشرك إلى نور العلم والحقيقة والتوحيد الخالص لله وسبحانه وتعالى.

فهل كان بإمكان الرسل والأنبياء (ع) أن ينجزوا هذه المهمة ويقوموا بتلك الوظيفة وهم بعيدون عن الناس لا يدرون ما هي همومهم ولا يعون ما هي مشاكلهم؟

ولقد سعى الإسلام لمحاربة هذه النظرة الانزوائية والانعزالية التي يريد البعض من خلالها حصر الإسلام في دائرة ضيقة تنصب كل اهتماماتها على تضخيم المعاناة الذاتية للشخص وتتغافل كل أنواع المعاناة التي يعيشها الآخرون، حينما اعتبر العديد من مظاهر السعي الاجتماعي التي تستهدف حل مشاكل الآخرين والتفاعل معهم أفضل بكثير من مظاهر السعي الفردي التي تتأطر بالتفكير الضيق في قضايا الذات وهمومها الشخصية، ففي الحديث عن الإمام الصادق (ع): "لقضاء حاجة امرء مؤمن أحب إلى الله من عشرين حجة كل حجة ينفق فيها صاحبها مئة آلف". (أصول الكافي2: 193، حديث 4).

وحدث اسحاق بن عمار عنه (ع) انه قال: "من طاف بهذا البيت طوفاً واحداً كتب الله عز وجل له ستة آلاف حسنة ومحا عنه ستة آلاف سيئة، ورفع الله له ستة آلاف درجة حتى إذا كان عند الملتزم فتح الله له سبعة أبواب من أبواب الجنة، قلت له: جعلت فداك هذا الفضل كله في الطواف؟ قال: نعم وأخبرك بأفضل من ذلك، قضاء حاجة المسلم أفضل من طواف وطواف وطواف حتى بلغ عشراً". (أصول الكافي2: 194، حديث 8).

وعنه (ع) أيضاً: "لأن أمشى في حاجة أخ لي مسلم أحب إلى من أن أعتق ألف نسمة وأحمل في سبيل الله على ألف فرس مسرجة ملجمة". (أصول الكافي2: 197، حديث 4).

خامساً: من المهمات التي يلزم التوجه إليها أن لا تكون الغاية لسعي الإنسان الروحي شيئاً آخر غير الله سبحانه وتعالى، فهو الغاية التي ينبغي أن يجعلها الإنسان لكل أعماله الخيرة وقرباته الصالحة، ولذا لا ينبغي للإنسان أن يندفع في العبادة ويكثر منها بغرض نيل الكرامات التي نسمع بصدورها كثيراً من أولياء الله تعالى، وليعلم الإنسان الذي يريد السعي إلى الله بقدمي الاخلاص والعبودية أن نيل الكرامة ليس هدفاً في حد ذاته، وربما كان اشتغال الإنسان واهتمامه بالكرامات من الحجب التي تحجب الإنسان عن الوصول إلى مقصده الأصلي من سعيه الروحي.

يقول الإمام الخميني (قده): "وإذا كان السالك في سلوكه إلى الله طالباً لحظ من الحظوظ النفسانية ولو كان هو الوصول إلى المقامات بل ولو كان هو الوصول إلى قرب الحق بمعنى وصول نفسه إلى الحق فليس هذا السلوك سلوكاً إلى الحق..، فالسفر إذا كان في مراتب النفس وللوصول إلى الكمالات النفسانية فليس بسفر إلى الله بل هو سفر من النفس إلى النفس".

هذه خمسة أمور مهمة أردنا من شبابنا المسلم الذي يسعى إلى التكامل والقرب من الله أن يأخذها في حسبانه ولا يغفل عنها، لأن الغفلة عنها ربما أدت إلى أن يتحرك الشاب المسلم في اتجاه معاكس لما يريده الله منه في الوقت الذي يعتقد أن سعيه الروحي يقربه من الله.