الكلمة السابعة

الشباب وعالم الأحلام والرؤى

ابتليت مجتمعاتنا الإسلامية ـ وربما كل المجتمعات الدينية ـ بمشكلة التعامل مع الغيب والغيبيات، ومن أهم تلك الإثارات التي ترتبط بالجانب الغيبي هي مشكلة الأحلام والرؤى، إذ ان هذه المشكلة قدر لها أن تضخم وأن يتم التعامل معها أما من موقع الرفض المطلق لكل أسسها المعقولة واللامعقولة، أو من موقع القبول المطلق لكل أسسها المعقولة واللامعقولة أيضاً، وهكذا صار الناس في موقفهم من الأحلام والرؤى بين إفراط وتفريط.

وقبل أن نحاول معالجة المشكلة واستكشاف الموقف الشرعي والعقلي تجاهها، لابد أن نشير إلى حالة مؤسفة جداً تنتشر في أوساط مجتمعاتنا الإسلامية، ويسمح لها أن تؤسس البناء الفكري والعقيدي والسلوك الفردي والإجتماعي للإنسان المسلم، وهي حالة الاندفاع في التعامل مع الغيبيات بصورة تفتقد كل مقومات الوعي والإدراك، إذ من الملاحظ أن هناك الكثير من الارتباكات والتخبطات الفكرية والنفسية والروحية والسلوكية يعيشها عدد غير يسير من المسلمين ولاسيما من الشباب المسلم المتدين نتيجة انعدام الرؤية الواضحة عندهم في ما يتعلق بالغيب والغيبيات.

وبصورة عامة فإن المشكلة الروحية للإنسان المسلم المعاصر تكمن في سماحه للغيب المختلق والمتوهم بأن يتدخل في حياته بشكل يفسد عليه كل ارتباطاته الغيبية واللاغيبية. وهذا الأمر ينتج من قصور أو تقصير في وعي وإدراك واستيعاب حقائق الإسلام ما يرتبط منها بالغيب والعالم الآخر الذي ينتظره المسلم، وما يرتبط منها بحاضره وعالمه الدنيوي الذي يعيشه بالفعل.

وحينما نقول بأن المشكلة الروحية للإنسان المسلم المعاصر في أساسها مشكلة تعامل مع غيب مختلق ومتوهم، فذلك لأننا ندرك بأن الكثير من التصورات والأفكار التي يحملها العديد من المسلمين عن عالم الغيب تصورات وأفكار لا تمت إلى الإسلام بصلة ولا ترتبط معه بأي رابط، وفوق ذلك فإن هذا التعامل يفسح له المجال أن يفسد ويدمر حياة الإنسان المسلم حتى في بعدها الروحي، وهذا ما نجزم بأن الإسلام ما كان يبتغيه وما كان يرتضيه من المسلم، ولقد دخل عليّ (ع) على العلاء بن زياد الحارثي يعوده فشكا إليه العلاء أمر أخيه عاصم "فقال له العلاء: يا أمير المؤمنين أشكو إليك أخي عاصم بن زياد. قال: وما له؟ قال: لبس العباءة وتخلى عن الدنيا. قال: عليّ به فلما جاء قال: يا عدي نفسه لقد استهام بك الخبيث، أما رحمت أهلك وولدك! أترى الله أحل لك الطيبات، وهو يكره أن تأخذها! أنت أهون على الله من ذلك". وما نريد إثارته من حديث عن الأحلام والرؤى في هذه الكلمة ننطلق فيه من محاولة تصحيح مظاهر التعامل اللاواعي والسلبي التي يمارسها الكثير من الأفراد المتدينين في أوساط مجتمعاتنا الإسلامية في موقفهم من الرؤى والاحلام سواء التي يشاهدونها بأنفسهم أم التي يشاهدها غيرهم من الناس ويصل خبرها إليهم.

إننا نشعر ان هناك الكثير من السذاجة والبساطة واللاواقعية يتمتع بها المسلمون في نظرتهم للمسائل الغيبية وموقفهم منها، وأفضل دليل على ذلك الاستجابة السريعة والتأثيرات العميقة التي تجدها وتتركها كل ظاهرة تتعلق بالأمور الغيبية في نفوس أكثر المسلمين ولو كانت الظاهرة عاجزة عن إثبات نفسها بأي دليل مقنع، ويكفي أن يخترع أي إنسان ـ ولو كان فاسقاً وبعيداً كل البعد عن الدين ـ معجزة وكرامة وأي قصة ذات طابع غيبي وينسبها إلى شخصية مقدسة في الوسط الديني ليجد أكثر الناس تتباشر بنقلها وكأن الجميع قد شاهدها بأم عينيه، ومن يحاول التشكيك في حصولها وصدورها ولو لم يكن يحمل نية سيئة فإنه لن يواجه بأقل من النفور والاشمئزاز، وربما يتهم بمحاولة تشكيك الآخرين في حقائق الدين.

وعلى هذا الأساس يبرز لنا في الوسط الديني الإسلامي بين فترة وأخرى من يدعي أنه يطلع على قضايا غيبية بصورة أو أخرى، ومن الطبيعي أن لا يعجز مثل هؤلاء المدعون عن الحصول على العديد من الأنصار والأتباع الذين يدافعون عنهم ويتبنون كل النتائج المتحصلة من مشاهداتهم الغيبية.

وخطورة هذه الدعاوي أنها تستطيع أن توجد قناعات قلبية ونفسية عند من يؤمنون بها ويصدقون مدعيها بحيث لا يمكن لأي دليل عقلي أو شرعي مهما كان محكماً وثابتاً أن يزلزل أو يزحزح تلك القناعات الثابتة. ومن المؤسف جداً أن تصير الرؤى والمنامات من الأمور التي يعتمد عليها بصورة كلية عند الكثير من المتدينين حتى في أمور لا مجال للرؤيا في إثباتها أو نفيها، وربما كان أحد أسباب هذا التعامل اللاواعي من قبل المتدينين مع قضايا الرؤى والمنامات هو تقصير أصحاب الفكر والعلماء في بيان وإيضاح حقيقة الرؤى والأحلام والاشتباهات التي يمكن أن تحيط بها وتلتبس على من يشاهدها مع كثرة ابتلاء المتدينين بمسائل الرؤى والمنامات، وانجرار الكثير منهم للتعامل معها بصورة لا واعية وسلبية.

ومع أن عدداً من العلماء والفلاسفة والعرفاء الإسلاميين تعرضوا في جملة من كتاباتهم لأبحاث مهمة وأساسية في الرؤى والأحلام إلا أن هذه الأبحاث كانت تتخذ في أكثر الأحيان منهجاً اختصاصياً وأسلوباً علمياً معقداً مما لا يوفر دواعي الاطلاع عليها ومحاولة هضم واستيعاب أفكارها من قبل عامة الناس. ولقد أفصح الشيخ المفيد (رض) في كلمة مختصرة له عن المنامات عن أهم مظاهر التعامل السلبي مع أبعاد هذه القضية حينما قال: "إن الكلام في باب رؤيا المنامات عزيز، وتهاون أهل النظر به شديد، والبلية بذلك عظيمة، وصدق القول فيه أصل الجليل".

وعلى هذا الأساس فإننا سنحاول أن نعالج مشكلة الموقف من الرؤى والأحلام في هذه الكلمة، وسنسعى لتقديم صورة واضحة وجلية عن حقيقة الرؤى والمنامات نأمل من خلالها أن تتلاشى مظاهر التعامل السلبي مع الرؤى والمنامات عند شبابنا المسلم الذي نخصه ونعنيه بالحديث قبل غيره من الناس.

وستتم معالجة المشكلة من خلال النقاط التالية:

النقطة الأولى: حقيقة الرؤى والمنامات: في هذه النقطة سنحاول التعرف على حقيقة الرؤى والمنامات وكيف تحصل للإنسان عند نومه، وأول بيان عن حقيقة الرؤى والمنامات نقدمه للقارئ هو ما ينقله العلامة المجلسي في "بحار الأنوار" عن بعض الحكماء إذ يقول: "إن للنفوس الإنسانية اطلاعاً على الغيب في حال المنام وليس أحد من الناس إلا وقد جرب ذلك من نفسه تجارب أوجبته التصديق، وليس ذلك بسبب الفكر، فإن الفكر في حال اليقظة التي هو فيها أمكن يقصر عن تحصيل مثل ذلك، فكيف في حال النوم، بل بسبب أن النفوس الإنسانية لها مناسبة الجنسية إلى المبادئ العالية المنتقشة بجميع ما كان وما سيكون وما هو كائن في الحال، ولها أن تتصل بها اتصالاً روحانياً وأن تنتقش بما هو مرتسم فيها، لأن اشتغال النفس ببعض أفاعيلها يمنعها عن الاشتغال بغير تلك الأفاعيل، وليس لنا سبيل إلى إزالة عوائق النفس بالكلية عن الانتقاش بما في المبادئ العالية، لأن أحد العائقين هو اشتغال النفس بالبدن، ولا يمكن لنا إزالة هذا العائق بالكلية مادام البدن صالحاً لتدبيرها، إلا أنه قد يسكن أحد الشاغلين في حالة النوم، فإن الروح ينتشر إلى ظاهر البدن بواسطة الشرايين وينصب إلى الحواس الظاهرة حالة الانتشار ويحصل الإدراك بها، وهذه الحالة هي اليقظة فتشتغل النفس بتلك الإدراكات، فإذا انخنس الروح إلى الباطن تعطلت هذه الحواس وهذه الحالة هي النوم، وبتعطلها يخف إحدى شواغل النفس عن الاتصال بالمبادئ العالية والانتقاش ببعض ما فيها، فيتصل حينئذ بتلك المبادئ اتصالاً روحانياً، ويرتسم في النفس بعض ما انتقش في تلك المبادئ وما استعدت هي لأن تكون منتقشة به، كالمرايا إذ احوذى بعضها ببعض، والقوة المتخيلة جبلت محاكية لما يرد عليها، فتحاكي تلك المعاني المنتقشة في النفس بصور جزئية مناسبة لها، ثم تصير تلك الصور الجزئية في الحس المشترك فتصير مشاهدة، وهذه هي الرؤيا الصادقة.

ثم إن الصور التي تركبها القوة المتخيلة إن كانت شديدة المناسبة لتلك المعاني المنطبعة في النفس حتى لا يكون بين المعاني التي أدركتها النفس وبين الصور التي ركبتها القوة المتخيلة تفاوت إلى في الكلية والجزئية، كانت الرؤيا غنية عن التعبير، وإن لم تكن شديدة المناسبة إلا أنه مع ذلك تكون بينهما مناسبة بوجه ما، كانت الرؤيا محتاجة إلى التعبير، وهو أن يرجع من الصورة التي في الخيال إلى المعنى الذي صورته المتخيلة بتلك الصورة. وأما إذا لم تكن بين المعنى الذي أدركته النفس وبين الصورة التي ركبتها القوة المتخيلة مناسبة أصلاً لكثرة انتقالات المتخيلة من صورة إلى صورة لا تناسب المعنى الذي أدركته النفس أصلاً، فهذه الرؤيا من قبيل أضغاث الأحلام، ولهذا قالوا: لا اعتماد على رؤيا الشاعر والكاذب، لان قوتهما المتخيلة قد تعودت الانتقالات الكاذبة الباطلة". وفي تعليقته على "بحار الأنوار" يعطى محمد تقي المصباح اليزدي بعض التصورات عن حقيقة الرؤيا فيقول: "لا ريب أن النائم عند ما يرى شيئاً من المنامات تحصل له إدراكات من غير طرق الحواس الظاهرة، وتسمية تلك الإدراكات بالخيالات لا تخرجها عن واقعها، فإن الخيال حتى الفاسد الباطل منه له حصول في الذهن ووجود علمي للنفس، وإنما فساده وبطلانه من ناحية عدم انطباقه على الخارج. ولا ريب في حكاية كثير من المنامات عن وقوع أشياء في الخارج في ما مضى أو ما يأتي مع عدم سبيل للرائي حتى في حال يقظته إلى الاطلاع على شيء منها، وهي أكثر من أن يمكن حملها على الصدفة والاتفاق، وخاصة منامات الأنبياء والأولياء المشتملة على الوحي والإلهام، كما أنه لا ريب في أن كثيراً منها تمثيلات ذهنية لا ميال وآمال وتركيبات وتحليلات لما اختزن من الصور في خزانة الخيال. وهذه النوع الأخير من الرؤيا ـ وإن أنقسم إلى أقسام مختلفة ـ يرجع إلى بروز ما كمن في النفس إلى ساحة الحواس الباطنة وإدراك النفس لها بتوسيط تلك الحواس مرة أخرى. ومعرفة علل هذه الأفاعيل النفسية ومدى ارتباطها بالحالات البدنية والروحية رهينة لتجارب كثيرة لا يزال علماء النفس مشتغلين بها.

أما النوع الأول منه فلا يمكن تعليله بأمثال تلك العلل فحسب كما لا يخفى.

وبعبارة أخرى حصول هذا النوع من الإدراكات للنفس ليس معلولاً لحالات فسيولوجية أو ظاهرات بسيكولوجية معينة. فأي حالة بدنية أو نفسية توجب العلم بوجود كنز على مقدار معين في مكان خاص أو بحدوث حادثة مشخصة في زمان خاص في المستقبل؟! وما هو الذي يمكن أن يجعل وجه الربط بين الظاهرات الجسمية والروحية في الإنسان وبين العلم بقضايا عازبة عن ذهنه بموضوعاتها ومحمولاتها؟! فهذه المعلومات ليست مما يستقل به النفس من الادراك بصرف النظر عما هو خارج عن ذاتها رأساً، والغير الذي يمكن أن يشارك النفس في حصول هذه الإدراكات لها بوجه إما أن يكون أمراً عقلياً محضاً، أو مثالياً برزخياً، ولا يكون أمراً مادياً البتة، للقطع بعدم حصول ارتباط مادي بين الإنسان وبين موجود مادي آخر مما يقع تحت الحواس في حال النوم بحيث يمكن إسناد تلك العلوم إليه بوجه، فعلى فرض جعل المشارك للنفس أمراً عقلياً يصير الرؤيا اتصالاً للنفس بموجود عقلي في المنام وتمثل ما تستفيد منه حسب استعدادها بصور جزئية في عالمها المثالي. وإن شئت قلت: في ساحة الحواس الباطنة ولوح الذهن، وعلى فرض جعل المشارك أمراً مثالياً يصير الرؤيا إشرافاً للنفس على عالم المثال ومشاهدة أمور هناك مباشرة. وكلاهما مما يصح فرضه عقلاً، ولا ينفيه دليل شرعي، بل يوجد في الأخبار ما يؤيدهما بل يدل عليهما، فعليك بإجادة التدبر فيها". ومن خلال هذين البيانين عن حقيقة الرؤى والمنامات وكيفية حصولها نعلم أن الأصل في ذلك هو تجرد النفس وعدم كونها جسمانية مادية وهذا الأمر مما تسالم عليه الفلاسفة الإلهيون والحكماء الربانيون وأقرته الشرائع السماوية وأكدت عليه، ومعنى كون النفس مجردة أنها تنتمي إلى عالم آخر غير عالم المادة والأجسام الصورية، ولتجردها تشتاق النفس والروح إلى عالمها الروحي والعقلي وتسعى للتواصل معه والإتصال به، ولكن لأن النفس مادامت في هذه الدنيا فهي منشغلة بتدبير أمور البدن ومهماته فلا تتوجه إلى عالمها العلوي الذي تنتسب إليه، إلا حينما تكون النفس قوية ومجذوبة بجذبة إلهية إلى عالمها الأصلي كما هو الشأن في نفوس الأنبياء والرسل والأولياء الذين لا يصرفهم الاشتغال بالأمور الدنيوية عن التوجه إلى عالم الأرواح والعقول والمجردات، وأما سائر الناس فلانهماكهم بتدبير أمورهم الدنيوية وتوجههم التام إلى هذا العالم الدنيوي الفاني فإنهم لا يكادون يفكرون في العوالم الأخرى التي تغيب عن سمعهم وبصرهم، وحينما يخلد الإنسان إلى النوم وتنصرف حواسه الظاهرة والباطنة عن تدبير أمور بدنه وتنقطع علائقه مع عالمه الدنيوي، فإن الروح ربما سرحت ومرحت في عالمها الأصلي الذي تشتاق إليه بطبعها وطبيعتها، وحينئذ تطلع الروح على بعض صور وحقائق العالم العقلي ولاسيما عالم المثال الذي توجد فيه صور الأشياء مجردة من المادة، وحينما يستيقظ الإنسان فإنه ربما يبقى متذكراً لما شاهده في ذاك العالم وربما ينسى الكثير منه، وعلى هذا الاساس تحصل الرؤى والأحلام التي يشاهدها كل الناس، ولهذا فإن الإنسان في حال النوم يعيش حالة تشابه بعض الشيء حالة الموت التي ينقطع فيها الإنسان بالكلية عن هذا العالم الدنيوي وتصير روحه مع الأرواح وترجع إلى عالمها الأولى، ومن هنا جاءت المقارنة بين النوم والموت في قوله تعالى: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون). وقد روي عن الإمام أبي جعفر الباقر (ع) في تفسير هذه الآية أنه قال: "ما من عبد ينام إلا عرجت نفسه إلى السماء وبقيت روحه في بدنه وصار بينهما سبب كشعاع الشمس فإذا أذن الله في قبض الأرواح أجابت الروح النفس، وإن أذن الله في رد الروح أجابت النفس الروح وهو قوله سبحانه: (الله يتوفى الأنفس حين موتها) فمهما رأت في ملكوت السموات فهو مما له تأويل، وما رأته بين السماء والأرض فهو مما يخيله الشيطان ولا تأويل له". وهناك العديد من الأخبار التي تذكر بأن سبب الرؤيا والمنامات هو عروج الروح أو النفس في حال النوم إلى السماء والعالم العلوي واطلاعها على ما فيه، ففي "بحار الأنوار" إن علياً (ع) قال: "سألت رسول الله (ص) عن الرجل ينام فيرى الرؤيا فربما كانت حقاً، وربما كانت باطلاً، فقال رسول الله (ص): يا علي ما من عبد ينام إلى عرجت بروحه إلى رب العالمين، فما رأى عند رب العالمين فهو حق، ثم إذا أمر الله العزيز الجبار برد روحه إلى جسده، فصارت الروح بين السماء والأرض، فما رأته فهو أضغاث أحلام". ومن المرويات التي رواها أهل السنة في حقيقة الرؤيا عن علي (ع): "إن عمر بن الخطاب قال: العجب من رؤيا الرجل انه يبيت فيرى الشيء لم يخطر له على بال، فيكون رؤياه كأخذ باليد، ويرى الرجل الرؤيا فلا يكون رؤياه شيئاً. فقال علي بن أبي طالب (ع): أفلا أخبرك بذلك يا أمير المؤمنين؟ إن الله يقول: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى) فالله يتوفى الأنفس كلها، فما رأت وهي عنده في السماء فهي الرؤيا الصادقة، وما رأت إذا أرسلت إلى أجسادها تلقتها الشياطين في الهواء فكذبتها وأخبرتها بالأباطيل فكذبت فيها. فعجب عمر من قوله". ومن خلال هذا البيان الذي قدمناه عن حقيقة الرؤيا يتضح أن الرؤيا ـ الصادقة طبعاً ـ في حقيقتها وواقعها نحو من أنحاء اطلاع الإنسان على الغيب ولكن بصورة ضعيفة ومخففة، ومن هذه الجهة فهي تشابه نوع مشابهة النبوة التي تكون للأنبياء والتي من خلالها يتصلون بالعالم الغيبي ولكن بصورة قوية وجلية لا يتطرق إليها الخطأ والزيغ ولا تؤثر أية مؤثرات خفية في حرفها عن وجهتها لأن الله يصون أنبيائه ورسله عن تأثيرات الشياطين والقاءاتهم كما أشار إلى ذلك بقوله تعالى: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم). (الحج: 52)

ومن هنا انطلقت الكثير من الروايات لتؤكد أن رؤيا المؤمن تقترب بنسبة يسيرة من النبوة لأنها تمثل صورة ضعيفة من صور اطلاع الإنسان على الغيب، ومن تلك الروايات ما رواه في "بحار الأنوار" عن الصادق (ع) انه قال: "رأى المؤمن ورؤياه في آخر الزمان على سبعين جزء من أجزاء النبوة".

وروى عن النبي (ص) في قوله تعالى: (لهم البشرى في الحياة الدنيا).  انه قال: "الرؤيا الصالحة يبشر بها المؤمن جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة". وعنه (ص) أيضاً: "ألا أنه لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له".

وعنه (ص) أيضاً: "لا نبوة بعدي إلا المبشرات. قيل: يا رسول الله! وما البشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة". وعنه (ص) أيضاً: "الرؤيا الصالحة بشرى من الله وهي جزء من أجزاء النبوة".

إلى غير ذلك من الروايات التي تؤكد على أن الرؤيا الصالحة والصادقة هي من أجزاء النبوة، مما يعني أنها وسيلة يتعرف الإنسان من خلالها على بعض الأمور الغيبية، ولكن بمستوى دون مستوى النبوة الخاصة التي تنكشف فيها للنبي جميع حيثيات الغيب الذي أراد الله سبحانه وتعالى اطلاعه عليه، وعلى هذا الأساس تتفاوت صحة الرؤيا وصدقها من شخص إلى آخر بحسب القدرات الذاتية والمؤهلات الشخصية التي تتواجد في الأشخاص بصورة متفاوتة ومختلفة، وهذا ما تصرح به بعض المرويات كالرواية التي يقول فيها الإمام الصادق (ع): "رأى المؤمن ورؤياه جزء من سبعين جزء من النبوة، ومنهم من يعطى على الثلث".

ومعنى ذلك أن القدرات بين المؤمنين في الاطلاع على الغيب من خلال الرؤيا تكون متفاوتة وغير متساوية.

وهناك بعض الروايات التي تدخل الرؤيا الصالحة بكل صراحة تحت الوحي وتلحقها به، ومن تلك المرويات ما رواه في "بحار الأنوار" عن "جامع الأخبار" عن الأئمة (ع): "إن رؤيا المؤمن صحيحة لأن نفسه طيبة، ويقينه صحيح، وتخرج فتتلقى من الملائكة، فهي وحي من الله العزيز الجبار".

ولأن الرؤيا الصادقة هي كشف للغيب بنسبة معينة فقد اعتبرها العرفاء أول باب من أبواب المكاشفة، وقالوا: أن الناس تتفاوت في مكاشفاتها الغيبية بحسب قوة الشخص واستعداده واعتدال مزاجه، وفي ذلك يقول الآملي: "ولما كان كل من الكشف الصوري والمعنوي (مر بيان معنى الكشف الصوري والمعنوي في الكلمة الخامسة). على حسب استعداد السالك ومناسبات روحه وتوجه سره إلى كل من أنواع الكشف، ولما كانت الاستعدادات متفاوتة المناسبات، متكثرة، صارت مقامات الكشف متفاوتة بحيث لا تكاد تنضبط.

وأصح المكاشفات وأتمها أنما تحصل لمن يكون مزاجه الروحاني أقرب إلى الاعتدال التام، كأرواح الأنبياء والكمل من الأولياء (صلوات الله عليهم أجمعين) ثم لمن يكون أقرب إليهم نسبة".

ومن الأبحاث المهمة التي ترتبط بمسألة الرؤيا هو البحث في حقيقة عالم المثال باعتباره العالم الذي تترائى للإنسان فيه الصور والمشاهدات حال نومه، كما أنه العالم الذي يطلع العارف عليه من خلال كشفه وشهوده في حال اليقظة. وكما يقول القيصري فإن "... جميع أرباب المكاشفة أكثر ما يكاشفون الأمور الغيبية يكون في هذا العالم وفيه يتجسد الأعمال والأفعال الإنسانية الحسنة والقبيحة كل بما يناسبها". ثم يقول: "ولكل إنسان فيه نصيب وهو القوة الخيالية التي فهيا يرى المنامات".

وعلى هذا الأساس فسيكون حديثنا في النقطة الثانية عن عالم المثال، ونود أن نعتذر مسبقاً من القارئ الشاب إذا كان الخوض في مثل هذه الأبحاث العلمية يرهق تفكيره لأننا لم نجد بداً من الاسهاب في الحديث عنها بعد أن أصبح الكثير من شبابنا المسلم ينجذب للخوض في مثل هذه القضايا والمسائل المعقدة والتي نعلم أن أكثر الشباب لا يعي ولا يدرك الأكثر من أبعادها وجوانها، ومن هنا كنا مضطرين لأن نبحثها بشيء من التفصيل والتوسع.

النقطة الثانية: حقيقة عالم المثال: بينا في النقطة الثانية من الكلمة الخامسة أن العوالم الوجودية خمسة، وهي عالم الأعيان الثابتة، وعالم الجبروت، وعالم الملكوت، وعالم الملك، وعالم الإنسان الكامل، ولما كان الحديث عن حقيقة كل عالم من هذه العوامل وخصائصه لا يسعه المجال أولاً، وربما لا تستوعبه الكثير من الأذهان ثانياً، فإننا لن نتحدث عن هذه العوالم من قريب أو بعيد، وما كان ينبغي لنا ـ في الواقع ـ أن نتطرق لذكر هذه الأمور في مثل هذا الكتاب لولا أننا وجدنا مسألة الرؤيا والمنامات تثار بشدة وبقوة في أوساط مجتمعاتنا الإسلامية، وتأصل مسارات غير صحيحة في التعامل مع القضايا الشرعية والمسائل الاجتماعية عند الكثير من المتدينين، من دون أن يكون هناك أدنى وعي للإثارات والأبحاث العلمية المعمقة التي تناولها الفلاسفة والعرفاء والعلماء في كتاباتهم وأبحاثهم عن الرؤيا والمنامات والأحلام.

وعلى كل حال فإننا سنتحدث ـ مضطرين ـ في هذه النقطة من الكلمة السابعة عن عالم من العوالم الغيبية الذي يرتبط الحديث عنه بقضايا الرؤيا أشد الارتباط، وهو عالم المثال الذي يعد من عالم الملكوت، وقد ذكرنا أن الرؤيا الصادقة للإنسان إنما تحصل بسبب اطلاع الإنسان على هذا العالم وما فيه من حال النوم.

فما هي حقيقة هذا العالم وكيف تتصل النفس أو الروح به وتطلع على أسراره وخفاياه؟

يقول القيصري: "اعلم ان بين عالم الأجسام وعالم الأرواح المجردة عالماً آخر يسمى برزخاً. وإليه الإشارة في قوله تعالى: (مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان)  أي بين بحري عالم الأرواح والأجسام برزخ يمنع عن بغي أحدهما على الآخر. وللبرزخ (البرزخ في اللغة: ما يكون حاجزاً بين شيئين ومتوسطاً بينهما). ان يكون نصيباً منهما، فهو من حيث أنه غير مادي شبيه بعالم الأرواح ومن حيث أنه ذو صورة وشكل ومقدار شبيه بعالم الأجسام". وقال عبد الرحمن جامي أحد العرفاء المشهورين: "ثم اعلم ان العالم المثالي هو عالم روحاني من جوهر نوراني شبيه بالجوهر الجسماني في كونه محسوساً مقدارياً، وبالجوهر المجرد العقلي في كونه نورانياً. وليس بجسم مركب مادي، ولا جوهر مجرد عقلي، لأنه برزخ وحد فاصل بينهما، وكل ما هو برزخ بين الشيئين، لابد وأن يكون غيرهما". وقال: "إنما سمى "العالم المثالي" لكونه مشتملاً على صور ما في العالم الجسماني، ولكونه أول مثال صوري لما في الحضرة العلمية الإلهية من صور الأعيان والحقائق". ويبين كيفية التأثير المتبادل بين هذا العالم والعالم الجسماني المادي فيقول: "اعلم أنه لما كان عالم الأرواح متقدماً بالوجود والمرتبة على عالم الأجسام، وكان الامداد الرباني الواصل إلى الأجسام موقوفاً على توسط الأرواح بينهما وبين الحق سبحانه، وتدبيرها ـ أعني تدبير الأجسام ـ مفوض إلى الأرواح، وتعذر الارتباط بين الأرواح والاجسام للمباينة الذاتية الثابتة بين المركب والبسيط ـ فإن الأجسام كلها مركبة، والأرواح بسيطة، فلا مناسبة بينهما، فلا ارتباط، وما لم يكن ارتباط، لا يحصل تأثير ولا تأثر ولا إمداد ولا استمداد ـ فلذلك خلق الله سبحانه عالم المثال برزخاً جامعاً بين عالم الأرواح وعالم الأجسام ليصح ارتباط أحد العالمين بالآخر، فيتأتي حصول التأثر والتأثير ووصول الامداد والتدبير".

وبعد أن وعينا حقيقة هذا العالم فإن علينا أن ندرك بأن للإنسان القدرة على الاتصال بهذا العالم والاطلاع على ما فيه، وقد بينا هذا الأمر في النقطة المتقدمة من الكلمة، ونضيف هنا مزيداً من التوضيح فنقول: ان الارتباط بين عالم الغيب وعالم الشهادة وإن كان أمراً لا يستشعره أكثر الناس نتيجة احتجابهم عن العالم الغيبي وانصرافهم بشكل كلي إلى العالم المادي واشتغالهم به، إلا أنه من المعلوم ان هناك جملة من الناس تستطيع أو استطاعت التوصل إلى نوع ارتباط بينهما وبين العالم الغيبي، ولا أقل من الأنبياء والرسل (ع) الذين اختارهم الله تعالى لتبليغ رسالاته، وهذا هو المستوى الأعلى والاتم من مستويات الارتباط بين الإنسان وعالم الغيب، ولكن اختصاص الوحي الخاص بالأنبياء والرسل (ع) لا يعني انسداد باب الارتباط بين بقية الناس وبين العالم الغيبي، بل هناك العديد من النصوص الشرعية التي تؤكد على أنه لولا اشتغال الإنسان بعالمه المادي وانغماسه فيه وتقلبه في الشهوات واللذات التي تحجبه عن الحق تعالى لكان يطلع على الغيب ويراه كما يرى ويحس هذا العالم المادي. وهذا ما نعيه في قوله تعالى: (كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين).  فقد دلت هذه الآيات على أن الإنسان لو كان عنده علم اليقين لكان ينظر إلى الجحيم ويراها كما يرى ما سواها من أمور مادية محسوسة.

وروي عن رسول الله (ص) انه قال: "لولا ان الشياطين يحومون حول قلوب بني آدم لرأوا ملكوت السماوات والأرض".

وروى عنه (ص) أيضاً: (لولا تكثير في كلامكم، وتمريج في قلوبكم لرأيتم ما أرى، ولسمعتم ما أسمع".

وعلى هذا الأساس نعى ان الارتباط بين الإنسان والعالم الغيبي لا ينحصر في ما يصطلح عليه بـ: "الوحي الخاص" الذي لا يكون إلا للأنبياء والرسل (ع) وإن الإنسان لو توجه تمام التوجه إلى الله تعالى واستفرغ همه لعبادته وقطع عن نفسه العلائق الدنيوية التي تصرفه عن الحق تعالى لكان من الممكن ان يطلع ويتعرف على امور غيبية لا يطلع عليها ولا يعرفها سائر الناس، ومن هنا أكد العرفاء على أن الوحي الخاص بالأنبياء والرسل (ع) يعتبر الرتبة الأعلى والأتم والأكمل من مراتب الاطلاع على الغيب التي يعبر عنها العرفاء بمراتب الكشف، وإن هناك مراتب آخر للكشف كالمكاشفات والمشاهدات التي تحصل للعرفاء في حال اليقظة، وكالرؤى والمنامات الصادقة التي تحصل لكثير من الناس حال نومهم وسباتهم، وقد بينا الوجه والسبب في ذلك في النقطة السابقة من الكلمة. وهناك من الأخبار ما يعبر بالصراحة عن الرؤيا الصادقة بأنها اطلاع على ملكوت السماء، إذ يقول أحد أصحاب الإمام الصادق (ع): "قلت لأبي عبد الله الصادق (ع): المؤمن يرى الرؤيا فتكون كما رآها، وربما رأى الرؤيا فلا تكون شيئاً. فقال: إن المؤمن إذا نام خرجت من روحه حركة ممدودة صاعدة إلى السماء، فكلما رآه روح المؤمن في ملكوت السماء في موضع التقدير والتدبير فهو الحق، وكلما رآه في الأرض فهو أضغاث أحلام. فقلت له: وتصعد روح المؤمن إلى السماء؟ قال: نعم. قلت: حتى لا يبقى شيء في بدنه؟ فقال: لا، لو خرجت كلها حتى لا يبقى منها شيء إذا لمات. قلت. فكيف تخرج؟ فقال: أما ترى الشمس في السماء في موضعها وضوؤها وشعاعها في الأرض؟ فكذلك الروح أصلها في البدن وحركتها ممدودة".

ولأن مكاشفات الإنسان التي تحصل له في حال اليقظة أو حال النوم لا ترقى إلى مستوى المكاشفات التي تحصل للأنبياء والرسل (ع) بسبب الوحي الخاص من الله عز وجل، ولأنها ـ أي مكاشفات غير الأنبياء والرسل والمعصومين (ع) ـ ربما داخلتها بعض الملابسات التي تحول بين من يراها وبين معرفة المراد الحقيقي والواقعي منها، فإن العرفاء أكدوا أيما تأكيد على ضرورة اتباع المعصوم في كشفه وإن كشفه مقدم على كشف العارف، وإننا لا نستغني بمكاشفاتنا عن رأى المعصوم (ع) نبياً كان أم إماماً، حتى ان العرفاء كانوا يرون ضرورة الرجوع إلى المعصوم (ع) في التعرف على أول رتبة من مراتب الكشف، وهي التمييز بين الإلهام الإلهي والإلهام الشيطاني وقي ذلك يقول السيد حيدر الآملي: "والتمييز بين هذين الإلهامين محتاج إلى ميزان إلهي ومحك رباني، وهو نظر الكامل المحقق والإمام المعصوم والنبي المرسل، والمطلع على بواطن الأشياء على ما هي عليه، واستعدادات الموجودات وحقايقها.

ولهذا احتجنا بعد الأنبياء والرسل (ع) إلى الإمام والمرشد، لقوله تعالى: (فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) لأن كل واحد ليس له قوة التمييز بين الإلهامين الحقيقي وغير الحقيقي، وبين الخاطر الإلهي والشيطاني، وغير ذلك".

وسنتحدث في النقاط القادمة عن أسباب وعوامل صواب الرؤيا وخطئها وعن حاجة الرؤيا إلى التعبير الذي لا يتوفر لكل أحد القدرة عليه، وقد من الله تعالى به على بعض عباده الصالحين كنبيه يوسف (ع) الذي قال تعالى فيه: (وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب كما أتمها على أبويك من قبل ابراهيم واسحاق إن ربك عليم حكيم).

وقال: (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث).

وشكر يوسف (ع) ربه على هذه النعمة وغيرها من النعم التي آتاها الله إياه فقال كما يحكى لنا القرآن ذلك: (رب قد اتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين).

وتأويل الأحاديث إشارة إلى العلم بتعبير الرؤيا الذي أتاه الله سبحانه وتعالى نبيه يوسف (ع) كما أشارت إلى ذلك الروايات وأقوال مفسري القرآن.

النقطة الثالثة: عوامل صواب الرؤيا وخطئها: لابد أن نقرر ابتداءً أن ما يراه الإنسان في حال نومه وحتى في حال يقظته كما هو شأن في مكاشفات العرفاء ووحي الأنبياء (ع) من حقائق عالم المثال وصوره لابد وان تكون كلها حقاً لا باطل، لأن صور الموجودات وحقائق الأشياء تتجلى في ذلك العالم على ما هي عليه فحينما يطلع الإنسان على ذلك العالم بالوحي أو المكاشفة أو الرؤيا الصادقة فلإإنما يتعرف على حقائق الأمور وصور الأشياء كما هي، وقد أشار إلى هذا الأمر عدد كبير من الروايات، كما في قول رسول الله (ص) لعلي (ع): "يا علي ما من عبد ينام إلا عرج بروحه إلى رب العالمين، فما رأى عند رب العالمين فهو حق...".

وفي رواية عن علي (ع) انه قال حينما سأله عمر بن الخطاب عن حقيقة الرؤيا وسبب صدقها وكذبها: "فما رأت وهي عنده في السماء فهي الرؤيا الصادقة".

إذا أدركنا هذا الأمر فلنتسائل عن سبب خطأ وعدم واقعية بعض الرؤى والمنامات لماذا يكون؟

يجيب الرازي في كتابه "المطالب العالية من العلم الإلهي" عن هذا السؤال قائلاً: "اعلم أن الصور التي تركبها المتخيلة قد تكون كاذبة، وقد تكون صادقة. أما الكاذبة فوقوعها على ثلاثة أوجه:

الأول: إن الإنسان إذا أحس بشيء، وبقيت صورة ذلك المحسوس في خزانة الخيال، فعند النوم، ترتسم تلك الصورة في الحس المشترك فتصير مشاهدة محسوسة.

والثاني: ان القوة الفكرية إذا ألفت صورة، ارتسمت تلك الصورة في الخيال، ثم في وقت النوم تنتقل تلك الصورة إلى الحس المشترك، فتصير محسوسة، كما أن الإنسان إذا تفكر في الانتقال من بلد إلى بلد، أو حصل في خاطره رجاء شيء، أو خوف من شيء، فإنه يرى تلك الأحوال في المنام.

والثالث: إن مزاج الروح الحامل للقوة المفكرة إذا تغير، فإنه تتغير أفعال القوة المفكرة. ولهذا السبب، فإن الذي يميل مزاجه إلى الحرارة يرى في النوم: النيران والحريق والدخان، ومن مال مزاجه إلى الرطوبة يرى الثلوج، ومن مال مزاجه إلى الرطوبة يرى الأمطار. ومن مال مزاجه إلى اليبوسة يرى التراب والالوان المظلمة. فهذه الأنواع الثلاثة لا عبرة بها البتة، بل هي من قبيل أضغاث الأحلام".

وعلى هذا الأساس نعي أن الرؤيا هي نتاج القوة المتخيلة عند الإنسان، واتصال الإنسان بعالم المثال إنما يتم بتوسط هذه القوة التي تخطأ أحياناً في تصوير الصور الموجودة في العالم المثالي فتخطأ الرؤيا وتبتعد عن الصواب، وهذا لا ينافي أن يكون أصل ما شاهده الإنسان في عالم المثال حال الرؤيا حقيقياً وواقعياً، لأن الخطأ إنما يقع حينما تريد الحواس أن تصور ما رأته القوة المتخيلة في عالم المثال بصورة محسوسة وهنا المبدء في خطأ الكثير من المنامات التي نراها لأن كل إنسان يجسد حسه المشترك ما يراه في عالم الخيال بحسب قوته واستعداده ومقامه ومن هنا يمكن للمكاشفة التي يراها الإنسان في حال اليقظة إن يخطأ في تفسيرها فضلاً عن ما يراه من مكاشفات في حال نومه.

يقول عبد الرحمن جامي: "وهي أي حضرة الخيال والصور المرتسمة فيه، كلها صدق، مطابقة للواقع، بشرط أن يكون انطباعها في الخيال من الجهة العلوية أو القلب النوراني، لا من الجهة السفلية، فإن المعنى الكلي العلمي ينزل من أم الكتاب إلى عالم اللوح المحفوظ ـ وهو بمثابة القلب للعالم ـ ومنه إلى عالم المثال، فيتجسد فيه، ثم إلى عالم الحس، فيتحقق في الشاهد: وهو المرتبة الرابعة من الوجود النازل من العالم العلوي إلى العالم السفلي ومن الباطن إلى الظاهر ومن العلم إلى الكون والخيال من الإنسان هو عالم المثال المقيد، كما أن عالم المثال هو الخيال المطلق أي خيال العالم. فللخيال الإنساني وجه إلى عالم المثال ـ لأنه منه، فهو متصل به ـ ووجه إلى النفس والبدن. وكلما انطبع فيه نقش من هذه الجهة السفلية، وتمثلت فيه صورة، كان ذلك محاكاة لهيأة نفسانية أو هيأه مزاجية، أو لبخار يرتفع إلى مصعد الدماغ، كما للمحرورين وأصحاب الماليخوليا، ولا حقيقة له، ويسمى أضغاث أحلام. وكلما انطبعت فيه صورة من الجهة العلوية، أي من عالم المثال أو من القلب النوراني الإنساني، فيتجسد فيه، كان حقاً، سواء كان في النوم أو في اليقظة".

ومن هنا نعي أن القوة المتخيلة عند الإنسان لها جهتان جهة تتصل بالعالم العلوي وما رأته في النوم أو اليقظة من هذه الجهة فهو حق، وجهة تتصل ببدن الإنسان والعالم السفلي وما رأته... من هذه الجهة فهو باطل، وهذا ما نحتمل قوياً ان رسول الله (ص) أشار إليه بقوله: "يا علي ما من عبد ينام إلا عرج روحه إلى رب العالمين، فما رأى عند رب العالمين فهو حق، ثم إذا أمر الله العزيز الجبار برد روحه إلى جسده، فصارت الروح بين السماء والأرض، فما رأته فهو أضغاث أحلام". (بحار الأنوار 61: 158).

كما ان علياً (ع) ربما أشار إلى ذلك بقوله: "فما رأت وهي عنده في السماء فهي الرؤيا الصادقة، وما رأت إذا أرسلت إلى أجسادها تلقتها الشياطين في الهواء فكذبتها وأخبرتها بالأباطيل فكذبت فيها". (بحار الأنوار 61: 193).ونجد في روايات أهل بيت العصمة والطهارة (ع) تمييزاً واضحاً بين عوامل الصحة والخطأ في الرؤيا، فعن رسول الله (ص) انه قال: "الرؤيا ثلاثة: بشرى من الله، وتخزين من الشيطان، والذي يحدث به الإنسان نفسه فيراه في منامه". (بحار الأنوار 61: 191).

وعنه (ص) أيضاً: "الرؤيا على ثلاثة: منها تخويف من الشيطان ليحزن به إبن آدم، ومنها الأمر يحدث به نفسه في اليقظة فيراه في المنام، ومنها جزء من ستة وأربعين جزء... من النبوة". (بحار الأنوار 61: 193).

وهذه المرويات وإن كانت في مقام تبيين عوامل ومبادئ الرؤيا إلا أنها في الوقت نفسه تطرح أسباب الصحة والخطأ في الرؤيا والمنامات، وما نستفيده من هذه الأخبار وأمثالها إن مرجع صحة الرؤيا وصوابها هو عامل واحد وهو كونها من الله، أي أن حدوثها يكون بعامل وتأثير إلهيين، لمصلحة تتعلق بالإنسان، وهذا ما نعيه من التعبير عن الرؤيا الصالحة بأنها بشارة أو بشرى من الله كما جاء ذلك في روايات كثيرة، منها ما روى من أن رسول الله (ص) أتاه رجل فقال: "يا رسول الله اخبرني عن قول الله (عز وجل): (الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) فقال: أما قوله (لهم البشرى في الحياة الدنيا) فهي الرؤيا الحسنة يراها المؤمن فيبشربها في دنياه". (بحار الأنوار 61: 176 ـ 177).

وتبين بعض المرويات المصالح التي تكون من وراء الرؤيا التي يريها الله لعباده في نومهم، فتقول ـ كما عن الصادق (ع) ـ: "إذا كان العبد على معصية الله (عز وجل) وأراد الله به خيراً أراه في منامه رؤيا تروعه فينزجر بها عن تلك المعصية، وإن الرؤيا الصادقة جزء من سبعين جزء من النبوة". (بحار الأنوار 61: 167).

كما أن تلك المرويات تدلنا على ان عوامل الخطأ وأسباب الرؤيا الكاذبة عاملان: عامل داخلي يتعلق بالإنسان نفسه وهو إما ان يكون عاملاً نفسياً يرجع إلى تحديث الإنسان نفسه بشيء واشتغال فكره به، وأما ان يكون عاملاً بدنياً يرجع إلى كثرة الأكل أو غيره، وعامل خارجي يتعلق بإلقاءات الشياطين التي تمتلك تأثيراً بمستوى معين على رؤى الإنسان وأحلامه، وقد دل على ذلك ما روى عن الإمام الصادق (ع) في سبب نزول قوله تعالى: (إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذي آمنوا وليس بضارهم شيئاً إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون) (المجادلة: 10)، فقد قال (ع): "كان سبب نزول هذه الآية ان فاطمة (ع) رأت في منامها إن رسول الله هم أن يخرج هو وفاطمة وعلي والحسن والحسين صلوات الله عليهم من المدينة، فخرجوا حتى جازوا من حيطان المدينة، فعرض لهم طريقان فأخذ رسول الله ذات اليمين حتى انتهى إلى موضع فيه نخل وماء، فاشترى رسول الله (ص) ـ شاة ذرعاء وهي التي في احدى أذنيها نقط بيض، فأمر بذبحها، فلما أكلوا ماتوا في أماكنهم فانتبهت فاطمة باكية ذعرة فلم تخبر رسول الله (ص) بذلك فلما اصبحت جاء رسول الله (ص) بحمار فاركب عليه فاطمة وأمر أن يخرج أمير المؤمنين والحسن والحسين (ع) من المدينة كما رأت فاطمة في نومها، فلما خرجوا من حيطان المدينة عرض لهم طريقان فأخذ رسول الله ذات اليمين كما رأت فاطمة (ع) حتى انتهوا إلى موضع فيه نخل وماء فاشترى رسول الله شاة كما رأت فاطمة فأمر بذبحها فذبحت وشويت فلما أرادوا أكلها قامت فاطمة وتنحت ناحية منهم تبكي مخافة أن يموتوا، فطلبها رسول الله حتى وقف عليها وهي تبكي، فقال: ما شأنك يا بنية؟ قالت يا رسول الله رأيت البارحة كذا وكذا في نومي وقد فعلت أنت كما رأيته فتنحيت عنكم لئلا أراكم تموتون، فقام رسول الله فصلى ركعتين ثم ناجى ربه فنزل عليه جبرئيل، فقال: يا محمد هذا شيطان يقال له الرها، وهو الذي أرى فاطمة هذه الرؤيا، ويؤذي المؤمنين في نومهم ما يغتمون به، فأمر جبرئيل فجائه إلى رسول الله فقال له: أنت الذي أريت فاطمة هذه الرؤيا؟ فقال: نعم يا محمد، فبزق عليه ثلاث بزقات (البزاق هو البصاق). فشجه في ثلاث مواضع، ثم قال جبرئيل لمحمد: يا محمد إذا رأيت في منامك شيئاً تكرهه، أو رأى أحد من المؤمنين فليقل: أعوذ بما عاذت به ملائكة الله المقربون وأنبياء الله المرسلون وعباده الصالحون من شر ما رأيت من رؤيا، ويقرء الحمد والمعوذتين وقل هو الله أحد، ويتفل عن يساره ثلاث تفلات، فإنه ما يضره ما رأى، فأنزل الله عز وجل على رسوله: (إنما النجوى من الشيطان)". (الحويزي: تفسير نور الثقلين 5: 261 ـ 262).

وهذا الالقاء الذي يكون من الشياطين في رؤيا الإنسان ومناماته لا ينافي مقام العصمة والطهارة الثابت لأهل بيت النبوة (ع)، والذين منهم الزهراء (ع)، لأن الله تعالى يقول في آخر هذه الآية: (وليس بضارهم شيئاً إلا بإذن الله)، وهو على غرار ما يثبته تعالى من القاءات للشياطين في نفوس الأنبياء (ع) ينسخها الله تعالى ويثبت آياته، كما يرشدنا إلى ذلك قوله عز شأنه: (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقى الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم). (الحج: 52)

ويبين بعض علماء العرفان أسباب الإصابة والخطأ في الرؤيا فيقول: "وللصدق والاصابة أسباب بعضها راجع إلى النفس، وبعضها إلى البدن، وبعضها إليهما جميعاً:

أما الأسباب الراجعة إلى النفس كالتوجه التام إلى الحق سبحانه والاعتقاد بالصدق وميل النفس إلى العالم الروحاني العقلي وطهارتها عن النقائص وإعراضها عن الشواغل البدنية واتصافها بالمحامد، لأن هذه المعاني توجب تنورها وتقويها. وبقدر ما قويت النفس وتنورت، تقدر على خرق العالم الحسي ورفع الظلمة الموجبة لعدم الشهود، وأيضاً تقوى المناسبة بينها وبين الأرواح المجردة لاتصافها بصفاتها. فيفيض عليها المعاني الموجبة للانجذاب إليها من تلك الأرواح، فيحصل الشهود التام، ثم إذا انقطع حكم ذلك الفيض ترجع إلى الشهادة متصفة بالعلم، منتقشة بتلك الصور بسبب انطباعها في الخيال.

والأسباب الراجعة إلى البدن صحته واعتدال مزاجه الشخصي ومزاجه الدماغي.

والأسباب الراجعة إليهما الاتيان بالطاعات والعبادات البدنية والخيرات واستعمال القوى وآلاتها بموجب الأوامر الإلهية وحفظ الاعتدال بين طرفي الافراط والتفريط فيه ودوام والوضوء وترك الاشتغال بغير الحق دائماً بالاشتغال بالذكر وغيره خصوصاً من أول الليل إلى وقت النوم.

وأسباب الخطأ ما يخالف ذلك من سوء مزاج الدماغ واشتغال النفس باللذات الدنيوية واستعمال القوى المتخيلة في التخيلات الفاسدة والانهماك في الشهوات والحرص على المخالفات، فإن كل ذلك مما يوجب الظلمة وازدياد الحجب. فإذا عرضت النفس من الظاهر إلى الباطن بالنوم، يتجسد لها هذه المعاني، فتشغلها عن عالمها الحقيقي، فيقع مناماته أضغاث أحلام لا يوبه بها، أو يرى ما تخيلته المتخيلة بعينه". (نقد النصوص في شرح نقش الفصوص 160 ـ 161).

وأما الفخر الرازي الذي نقلنا عنه في ما سبق أسباب خطأ الرؤيا وفساد المنامات، فإنه يبين أسباب صحة الرؤيا بقوله: "وأما الرؤيا الصادقة. فالكلام في ذكر سببها، يتفرع على مقدمتين:

إحداهما: إن جميع الأمور الكائنة في هذا العالم الأسفل مما كان، ومما سيكون، ومما هو كائن موجود في علم الباري تعالى، وعلم الملائكة العقلية، والنفوس السماوية.

والثانية: إن النفس الناطقة من شأنها أن تتصل بتلك المبادئ، وتنتقش فيها لاصور المنتقشة في تلك المبادئ. وعدم حصول هذا المعنى ليس لأجل البخل من تلك المبادئ، أو لأجل ان النفس الناطقة غير قابلة لتلك الصور، بل لأجل أن استغراق النفس في تدبير البدن، صار مانعاً لها من ذلك الاتصال العام.

إذا عرفت هذا فنقول: النفس إذا حصل لها أدنى فراغ من تدبير البدن، اتصلت بطباعها بتلك المبادئ، فتنطبع فيها بعض تلك الصور الحاضرة عند تلك المبادئ، وهي الصورة التي هي أليق بتلك النفس. ومعلوم أن أليق الأحوال بها، ما يتعلق بأحوال ذلك الإنسان وبأصحابه وأهل بلده وإقليمه. وأما إن كان ذلك الإنسان منجذب الهمة إلى تحصيل علوم المعقولات، لاحت له منها أشياء. ومن كانت همته مصالح الناس رآها، ثم إذا انطبعت تلك الصور في جوهر النفس الناطقة أخذت المتخيلة التي من طباعها محاكاة الأمور، في حكاية تلك الصور المنطبعة في النفس، بصور جزئية تناسبها، ثم إن تلك الصور تنطبع في الحس المشترك فتصير مشاهدة. فهذا هو سبب الرؤيا في المنام". (المطالب العالية من العلم الإلهي 8: 130 ـ 131).

والعلامة الطباطبائي في "الميزان في تفسير القرآن" قال في بحث له عن الرؤيا بعد أن قسم العوالم إلى ثلاثة عوالم هي: عالم الطبيعة، وعالم المثال، وعالم العقل: "والنفس الإنسانية لتجردها لها مسانخة مع العالمين عالم المثال وعالم العقل فإذا نام الإنسان وتعطلت الحواس انقطعت النفس طبعاً عن الأمور الطبيعية الخارجية ورجعت إلى عالمها المسانخ لها وشاهدت بعض ما فيها من الحقائق بحسب ما لها من الاستعداد والإمكان فإن كانت النفس كاملة متمكنة من إدراك المجردات العقلية أدركتها واستحضرت أسباب الكائنات على ما هي عليها من الكلية والنورية، وإلا حكتها حكاية خيالية بما تأنس بها من الصور والأشكال الجزئية الكونية كما نحكي نحن مفهوم السرعة الكلية بتصور جسم سريع الحركة، ونحكي مفهوم العظمة بالجبل، ومفهوم الرفعة والعلو بالسماء وما فيها من الأجرام السماوية ونحكي الكائد المكار بالثعلب والحسود بالذئب والشجاع بالأسد إلى غير ذلك.

وإن لم تكن متمكنة من إدراك المجردات على ما هي عليها والارتقاء إلى عالمها توقفت في عالم المثال مرتقية من عالم الطبيعة فربما شاهدت الحوادث بمشاهدة عللها وأسبابها من غير ان تتصرف فيها بشيء من التغيير، ويتفق ذلك غالباً في النفوس السليمة المتخلفة بالصدق والصفاء، وهذه هي المنامات الصريحة.

وربما حكت ما شاهدته منها بما عندها من الأمثلة المأنوس بها كتمثيل الأزدواج بالاكتساء والتلبس، والفخار بالتاج والعلم بالنور والجهل بالظلمة وخمود الذكر بالموت. وربما انتقلنا من الضد إلى الضد كانتقال أذهاننا إلى معنى الفقر عند استماع الغني وانتقالنا عن تصور النار إلى تصور الجمد ومن تصور الحياة إلى تصور الموت وهكذا، ومن أمثلةهذا النوع من المنامات ما نقل إن رجلاً رأى في المنام أن بيده خاتماً يختم به أفواه الناس وفروجهم فسأل ابن سيرين عن تأويل فقال: إنك ستصير مؤذناً في شهر رمضان فيصوم الناس بأذانك. (الميزان في تفسير القرآن 11: 271 ـ 272).

النقطة الرابعة: حاجة الرؤيا إلى التعبير: من الأمور المهمة في فهم حقيقة الرؤيا وتمييز صحيحها من باطلها هو العلم بتعبير وتفسير الرؤى والأحلام، وهو من العلوم التي لا يحظى بتمام مراتبها ولا يحيط بجميع جزئياتها إلا المعصوم من الأنبياء والأئمة (ع)، وذلك لأننا قلنا فيما سبق أن الرؤيا الصادقة هي رتبة من مراتب الكشف والاطلاع على الغيب، ومن المقرر بين العرفاء إن الكشف التام لا يكونإلا للمعصوم (ع) وأما بقية الناس فإن مكاشفاتهم سواء كانت في اليقظة أم في المنام لا تخلو في كثير من الأحيان من نقص، ولذا فإن العرفاء يقولون لما سوى كشف المعصوم (ع) بأنه كشف ناقص، ومن هنا اشترط العرفاء في صحة كشف العارف أن لا يكون مخالفاً لكشف المعصوم ـ كما أشرنا إلى ذلك أكثر من مرة ـ.

ويبين بعض العرفاء حقيقة علم التعبير فيقول: "وهذا العلم لا يحصل إلا بانكشاف رقائق الأسماء الإلهية والمناسبات التي بين الأسماء المتعلقة بالباطن وبين الأسماء التي تحت حيطة الظاهر، لأن الحق سبحانه إنما يهب المعاني صوراً بحكم المناسبة الواقعة بينها، لا جزافاً ـ كما يظن المحجوبون أن الخيال يخلق تلك الصور جزافاً، فلا يعتبرون ويسمونها أضغاث أحلام ـ بل المصور هو الحق من وراء حجابية الخيال، ولا يصدر منه ما يخالف الحكمة. فمن عرف المناسبات التي بين الصور ومعانيها وعرف مراتب النفوس التي يظهر الصور في حضرة خيالاتهم بحسبها يعلم علم التعبير كما ينبغي. ولذلك يختلف أحكام الصورة الواحدة بالنسبة إلى أشخاص مختلفة المراتب. وهذا الانكشاف لا يحصل إلا بالتجلي الالهي من حضرة الأسم الجامع بين الظاهر والباطن". (نقد النصوص في شرح نقش الفصوص 161 ـ 162).

وقال نفسه في مقام آخر: "وأتم الأنوار التي تكشف ويكشف بها في الكاشفية وأعظمها نفوذاً في الأشياء بالكشف عن حقائقها هو النور التام العلمي الذي يكشف به ويدرك ما أراد الله بالصور المتخيلة المرئية في النوم. المتغيرة عما كانت عليه في عالم المثال، ويصير مشاهداً في عالم الحس بتصرف القوة المتصرفة. وهو أي الكشف عما أراد الله بها هو علم التعبير.

وإنما كان ذلك النور التام العلمي أتم الأنوار واعظمها نفوذاً لأن الصورة الواحدة المتخيلة المرئية في النوم قد تظهر في خيال أشخاص متعددة بمعان كثيرة مختلفة لتفاوت استعدادات تلك الأشخاص واختلافات أمزجتهم وتباين أمكنتهم وأزمنتهم وغير ذلك. لكن يراد منها، أي من هذه الصورة، في حق صاحب الصورة، أي صاحب كان، معنى واحد من تلك المعاني الكثيرة. فمن كشفه، أي المعنى المراد، وميزه عن غيره وعبر الصورة المرئية به بذلك النور التام العلمي، فهو صاحب النور الأتم، ونوره أتم الأنوار لأنه يتميز به ما هو في غاية الالتباس ونهاية الاشتباه". (نقد النصوص في شرح نقش الفصوص 179 ـ 180).

ويوضح هذا العارف بعد ذلك كيفية ظهور الصورة الواحدة بمعان كثيرة لا يقدر على التمييز بينها جميعها إلا صاحب الكشف التام، فيقول: "وإنما قلنا أن الصورة الواحدة تظهر بمعان كثيرة، فإن الشخص الواحد من جماعة قديري في النوم أنه يؤذن، فيحج في عالم الحس. وشخص آخر منهم يرى فيه أنه يؤذن، فيسرق في الحس. أما الحج، فمن قوله تعالى: (وأذن في الناس بالحج). وأما السرقة، فمن قوله تعالى: (ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون). وصورة الأذان واحدة، لكن التعبير مختلف لاختلاف الرئين. وكذلك شخص آخر يرى فيه أنه يؤذن، فيدعو إلى الله على بصيرة. وشخص آخر يرى أنه يؤذن، فيدعو إلى الضلالة، وذلك لاشتراك الأذان مع هاتين الدعوتين في مطلق الدعوة إلى أمر ما، وإنما اختلف المدعو إليه لاختلاف الرأي". (نقد النصوص في شرح نقش الفصوص 180).

إلى أن يقول في ختام كلامه: "ولا يعرف هذا المقام إلا من يكاشف جميع المقامات العلوية والسفلية، فيرى الأمر النازل من الحضرة إلى العرش والكرسي والسموات والأرض ويشاهد في كل مقام صورته". (نقد النصوص في شرح نقش الفصوص 180).

ومن هنا يتضح لنا أن حاجة الرؤيا إلى التعبير تنطلق من أن ما يراه الإنسان من صور في عالم المثال وما يطلع عليه من حقائق في عالم العقل تكون مجردة من المادة دون الصورة كما هو الشأن في عالم المثال، أو منهما معاً كما هو الأمر في عالم العقل، وحينما ترى النفس تلك الصورة وتطلع على تلك الحقائق في عالم النوم بفضل قوتها المتخيلة فانها لابد وأن ترجعها إلى الحس المشترك الذي يقوم بتصويرها بصور مألوفة ومأنوسة عند الإنسان، فيصور معنى العظمة مثلاً بالجبل، وإذا لم يكن الإنسان مطلعاً تمام الاطلاع على تصرفات القوة المتخيلة وأفاعيلها وكيفية تأثيرها في الحس المشترك الذي يقوم بتجسيد المعاني المتخيلة وتصويرها في صورة حسية فإنه لا يستطيع أن يعبر من الخيال إلى الحس وأن يدرك المعنى المراد من الصور الحسية التي يشاهدها الإنسان في رؤياه، وإذا لم يكن الإنسان صاحب كشف تام فإنه ربما أخطأ في التعبير وتصور ما ليس مراداً بأنه مراد، وهذه الرواية التي يرويها بعضهم عن الصادق (ع) تدل على أهمية التعبير وأن الانتقال فيه من الصورة الحسية إلى المعنى المراد ربما كان في غاية الغموض والابهام بحيث لا يتيسر لكل أحد، فقد قال: "كنت عند أبي عبد الله (ع) فجاءه رجل فقال: رأيتك في النوم كأني أقول لك: كم بقى من أجلي؟ فقلت لي بيدك: هكذا ـ وأومأ (أي أشار بيده). إلى خمس ـ وقد شغل ذلك قلبي. فقال (ع): "إنك سألتني عن شيء لا يعلمه إلا الله عز وجل، وهي خمسة تفرد الله بها (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير). (لقمان: 34). (بحار الأنوار 61: 160 ـ 161).

وفي قصة يوسف (ع) التي يحكيها القرآن، المجيد في سورة كاملة نجد أن يوسف (ع) يعبر رؤيا الملك بتعبير لا تجد الأذهان بينه وبين الرؤيا مناسبة، وحينما يعجز المفسرون والمعبرون للرؤيا عن إدراك معناها فإنهم يقولون للملك أنها أضغاث أحلام في الوقت الذي يعترفون بانهم لا يعلمون بتأويل الأحلام وتفسير الرؤى، وهذا ما حكاه لنا القرآن الكريم في قوله تعالى: (وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون قالوا أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين. وقال الذين نجا منهما وأدكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون يوسف ايها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون قال تزرعون سبع سنين دأباً فما حصتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلاً مما تحصنون ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون). (يوسف: 43 ـ 49)

ويبين العلامة الطباطبائي انقسام المنامات الصادقة إلى منامات صريحة لا تحتاج إلى التعبير ومنامات غير صريحة تحتاج إليه ويتوقف فهمها عليه فيقول: "وقد تبين مما قدمناه أن المنامات الحقة تنقسم إنقساماً أولياً إلى منامات صريحة لم تتصرف فيها نفس النائم فتنطبق على مالها من التأويل من غير مؤنة، ومنامات غير صريحة تصرفت فيها النفس من جهة الحكاية بالأمثال والانتقال من معنى إلى ما يناسبه أو يضاده، وهذه هي التي تحتاج إلى التعبير بردها إلى الأصل الذي هو المشهود الأولى للنفس كرد التاج إلى الفخار، ورد الموت إلى الحياة والحياة إلى الفرج بعد الشدة ورد الظلمة إلى الجهل والحيرة أو الشقاء.

ثم هذا القسم الثاني ينقسم إلى قسمين أحدهما ما تتصرف فيه النفس بالحكاية فتنتقل من الشيء إلى ما يناسبه أو يضاده ووقفت في المرة والمرتين مثلاً بحيث لا يعسر رده إلى أصله كما مر من الأمثلة. وثانيهما ما تتصرف فيه النفس من غير أن تقف على حد كأن تنتقل من الشيء إلى ضده ومن الضد إلى مثله ومن مثل الضد إلى ضد المثل وهكذا بحيث يتعذر أو يتعسر للمعبر أن يرده إلى الأصل المشهود، وهذا النوع من المنامات هي المسماة بأضغاث الأحلام ولا تعبير لها لتعسره أو تعذره.

وقد بان بذلك أن هذه المنامات ثلاثة أقسام كلية: وهي المنامات الصريحة ولا تعبير لها لعدم الحاجة إليها، وأضغاث الأحلام ولا تعبير فهيا لتعذره أو تعسره والمنامات التي تصرفت فيها النفس بالحكاية والتمثيل وهي التي تقبل التعبير". (الميزان في تفسير القرآن 11: 272 ـ 273).

النقطة الخامسة: الموقف العملي من الرؤيا: يسرف البعض من المتدينين في الاعتماد على الرؤى والمنامات، وقد تجاوز هذا الاسراف الحد المعقول عند البعض فباتت كل مواقفه العملية وأفكاره النظرية تؤسس على ضوء الرؤى والأحلام وكأنها وحي أنزل عليه من السماء، ووصل الأمر عند بعض الجهلة من الناس أن يسمح لنفسه بإلغاء وتجاوز المقررات الشرعية الثابتة بالدليل والنص اعتماداً على ما يراه من رؤى وأحلام يراها مبررة لتجاوزه هذا على أحكام الشريعة.

وفي الحقيقة والواقع أن مثل هذا التعامل المنحرف واللامشروع مع مسألة الرؤيا لم يعدم وجوده على الدوام في الأوساط الدينية الجاهلة واللاواعية التي كانت تحدث نفسها على الدوام بضرورة وجود رابط مباشر بينها وبين العالم الغيبي تستطيع من خلاله التوصل إلى حل مشاكلها واشكالياتها التي تعجز عن حلها بالطرق الطبيعية المتعارفة بين الناس، ولما كانت تعجز عن العثور على هذا الرابط المباشر في عالم اليقظة فإنها كانت تختلقه في عالم النوم بتأثير الايحاء المستمر والتحديث الدائم للنفس بهذا الأمر، وقد أشارت العديد من الأخبار والمرويات عن أهل بيت النبوة (ع) ان من أسباب الرؤيا الكاذبة هو حديث النفس الذي يضغط على الإنسان باتجاه خلق الصور الخيالية التي ترتبط بما يحدث الإنسان به نفسه، ومن الملاحظ والمجرب أن الإنسان إذا حدث نفسه بشيء تشتهيه نفسه وتعجز عن تحقيقه في الخارج بالوسائل والإمكانيات المتوفرة لديها فإنها ترى تحقيقه وإنجازه في عالم الرؤيا الذي لا يعجز الإنسان عن تحقيق كل آماله وطموحاته من خلاله.

ونجد في مقولة الإمام الصادق (ع) للمفضل توضيحاً جامعاً للموقع الذي ينبغي ان لا تتجاوزه الناس في تعاملها مع الرؤيا وموقفهم منها، إذ يقول: "فكريا مفضل في الأحلام كيف دبر الأمر فيها فمزج صادقها بكاذبها، فإنها لو كانت كلها تصدق لكان الناس كلهم أنبياء، ولو كانت كلها تكذب، لم يكن فيها منفعة، بل كانت فضلاً لا معنى له، فصارت تصدق أحيانا فينتفع بها الناس في مصلحة يهتدي لها، أو مضرة يتحذر منها، وتكذب كثيراً لئلا يعتمد عليها كل الاعتماد". (توحيد المفضل 84 ـ 85).

ومن الروايات الكثيرة التي ذكرنا بعضها في ما سبق والتي تعبر عن الرؤيا الصادقة ـ لا مطلق الرؤيا ـ بأنها "بشارة" أو "بشرى" من الله نعى ان الرؤيا لا يمكن لها أن تتجاوز هذا الحد لتصير مصدراً ومقياساً لاثبات أو نفس حقيقة من الحقائق الدينية أو حكم من أحكام الله الشرعية، وهذا مانعية في موقف الإمام الصادق (ع) ممن يرى الله في المنام، إذ يقول إبراهيم الكرخي: "قلت للصادق جعفر بن محمد (ع): إن رجلاً رأى ربه عز وجل في منامه فما يكون ذلك؟ فقال: ذلك رجل لا دين له، إن الله تبارك وتعالى لا يرى في اليقظة ولا في المنام ولا في الدنيا ولا في الآخرة". (بحار الأنوار 61: 167 ـ 168).

إذن نجد في هذا الموقف تثبيتاً لمعتقد ديني يحكم به العقل والنقل ويرقى عن أن يكون مجالاً للاثبات أو النفي من خلال الرؤيا والحلم، ونلحظ هذا النحو من التفكير المتزن والموقف المعقول من الرؤيا في كلام ينقله الكراجكي في "كنز الفوائد" عن شيخه المفيد ـ رضي الله عنه ـ إذ يقول: "وقد كان شيخي ـ رحمه الله ـ يقول: إذ جاز من بشر أن يدعى في اليقظة أنه إله كفرعون ومن جرى مجراه، مع قلة حيلة البشر وزوال اللبس في اليقظة، فما لامانع من أن يدعى إبليس عند النائم بوسوسته له أنه نبي، مع تمكن إبليس بما لا يتمكن منه البشر وكثرة اللبس المعترض في المنام.

ومما يوضح لك أن من المنامات التي يتخيل للإنسان أنه قد رأى فيها رسول الله والأئمة ـ صلوات الله عليهم ـ منها ما هو حق ومنها ما هو باطل.

إنك ترى الشيعي يقول: رأيت في المنام رسول الله (ص) ومعه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) يأمرني بالاقتداء به دون غيره، ويعلمني أنه خليفته من بعده.

ثم ترى الناصبي يقول: رأيت رسول الله (ص) في النوم، ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، وهو يأمرني بمحبتهم، وينهاني عن بغضهم، ويلعمني أنهم أصحابه في الدنيا والآخرة، وأنهم معه في الجنة، ونحو ذلك.

فتعلم ـ لا محالة ـ أن أحد المنامين حق والآخر باطل، فأولى الأشياء أن يكون الحق منهما ما ثبت بالدليل في اليقظة على صحة ما تضمنه.

والباطل ما أوضحت الحجة عن فساده وبطلانه.

وليس يمكن للشيعي أن يقول للناصبي: إنك كذبت في قولك: رأيت رسول الله (ص)، لأنه يقدر أن يقول له مثل هذا بعينه". (كنز الفوائد 2: 64).

ومن هنا يتضح لنا أنه لا يمكن للرؤية أن تكون وسيلة يعول عليها في إثبات الحقائق الدينية والأحكام الشرعية، وفي ذلك يقول العلامة المجلسي (قده): "قد ورد بأسانيد صحيحة عن الصادق (ع) في حديث الأذان أن دين الله تبارك وتعالى أعز من أن يرى في النوم". (بحار الأنوار 61: 237).

وكلامه هذا إشارة إلى ما يزعمه أهل السنة من أن أصل الأذان رؤيا رآها عبد الله بن زيد وأخبر بها النبي (ص) فأخذ بها وشرع الأذان على أساس منها.

وقال في "كتاب الصلاة من بحار الأنوار": "ثم اعلم أن الأصحاب اتفقوا على أن الأذان والإقامة إنما شرعا بوحي من الله، وأجمعت العامة على نسبة الأذان إلى رؤيا عبد الله بن زيد في منامه ونقلوا مواقفه عمر له في المنام، وفي رواية الكليني ما يدل على أنهم كانوا يقولون أن أبيَّ بن كعب رآه في النوم وهو باطل عند الشيعة، قال ابن أبي عقيل: أجمعت الشيعة على أن الصادق (ع) لعن قوماً زعموا أن النبي (ص) أخذ الأذان من عبد الله بن زيد، فقال: ينزل الوحي على نبيكم، فيزعمون أنه أخذ الأذان من عبد الله بن زيد، انتهى، والأخبار في ذلك كثيرة في كتبنا". (بحار الأنوار 84: 121 ـ 123).

ورواية الكليني التي يشير إليها المجلسي (رض) في كلامه هذا هي ما رواه في الكافي عن إبن أذينة، عن أبي عبد الله (ع) قال: "قال: ما تروى هذه الناصبة؟ فقالت: جعلت فداك في ماذا؟ فقال: في أذانهم وركوعهم وسجودهم، فقلت: إنهم يقولون: إن أبيّ بن كعب رآه في النوم، فقال: كذبوا فإن دين الله عز وجل أعز من أن يرى في النوم...". (الكافي 3: 482).

وعلى هذا الأساس لا يبقى مجال لأحد لأن يتمسك بحديث "من رآني في نومه فقد رآني، لأن الشيطان لا يتمثل في صورتي" (بحار الأنوار 61: 234). لاثبات أو نفي قضايا ومسائل ترتبط بدين الله وأحكامه، مع ما يرد على هذا الحديث من إشكالات علمية كثيرة أهمها عدم ثبوته بسند معتبر وكونه ضعيفاً حتى قال فيه السيد المرتضى (قده): "هذا خبر واحد ضعيف من أضعف أخبار الآحاد، ولا معول على مثل ذلك". (الشريف المرتضى: أمالي المرتضى 2: 394).

أضف إلى ذلك إننا قد أمرنا من قبل أئمتنا (ع) بأخذ الأحكام الشرعية من قبل رواة أحاديثهم حينما يتعذر علينا الوصول إليهم، ولم يشر الأئمة (ع) إلى الاعتماد على الرؤيا في التوصل إلى أحكام دين الله، ولو كانت الرؤيا حجة في مثل هذا لما كان من المعقول أن يسكت الأئمة (ع) عن بيان ذلك، بل كان بيانهم على خلاف ذلك كما تصرح بذلك الرواية المتقدمة التي تقول: "فإن دين الله عز وجل أعز من أن يرى في النوم".

ومن الأحاديث التي دلت على لزوم الرجوع في معرفة الأحكام الشرعية إلى رواة أحاديثهم (ع)، ما رواه الحر العاملي في "وسائل الشيعة" عن أبي خديجة قال: "بعثني أبو عبد الله (ع) إلى أصحابنا فقال: قل لهم: إياكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى في شيء من الأخذ والعطاء أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق، اجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا، فإني قد جعلته عليكم قاضياً، وإياكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر". (وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة 18: 100).

وروي عن الإمام صاحب العصر والزمان (عج) انه قال: "وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله". (وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة 18: 101).

وحتى في مقام التنازع والمخاصمة قد أمرنا بالرجوع إلى رواة أحاديثهم ومن نظر في حلالهم وحرامهم (ع)، فقد روى عن عمر بن حنظلة انه قال: "سألت أبا عبد الله (ع) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة (المراد من القضاة قضاة العامة). أيحل ذلك؟ قال: من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً وإن كان حقاً ثابتاً له، لأنه أخذه بحكم الطاغوت وما أمر الله أن يكفر به، قال تعالى: (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به) قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظر أن من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم الله وعلينا رد، والراد علينا كالراد على الله، وهو على حد الشرك بالله". (وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة 18: 99).

وعلى هذا الأساس لم يعول علماؤنا وفقهاؤنا على الرؤيا في استنباط الأحكام الشرعية، وقد كان هذه سيرتهم منذ زمن الأئمة (ع) إلى يومنا هذا، وقد سأل بعضهم العلامة الحلي (قده) فقال: "ما يقول سيدنا في من رأى في منامه رسول الله (ص) أو بعض الأئمة (ع) وهو يأمره بشيء أو ينهاه عن شيء، هل يجب عليه امتثال ما أمر به أو اجتناب ما ينهاه عنه أم لا يجب ذلك مع ما صح عن سيدنا رسول الله (ص) أنه قال: "من رآني في منامه فقد رآني فإن الشيطان لم يتمثل بي" وغير ذلك من الأحاديث المروية عنه (ص) وما قولكم لو كان ما أمر به أو نهى عنه على خلاف ما في أيدي الناس من ظاهر الشريعة، هل بين الحالين فرق أم لا".

فأجاب ـ (رض) ـ قائلاً: "ما يخالف الظاهر فلا ينبغي المصير إليه، وأما ما يوافق الظاهر فالأولى متابعته من غير وجوب، ورؤيته ـ (ص) ـ لا يعطي وجوب اتباع المنام". (العلامة الحلي: أجوبة المسائل المهنائية 97 ـ 98).

ولا ينافي كل هذا ما توحيه بعض أخبار الأئمة (ع) من اعتماد بعض الناس في زمان وجودهم (ع) على الرؤيا التي كانوا يرون فيها أحد الأئمة (ع) يأمرهم بشيء أو ينهاهم عنه أو يجيبهم على حكم مسألة شرعية، كما في هذه الرواية التي يرويها بشير الدهان عن الإمام الصادق (ع) إذ يقول: "قلت له: إني رأيت في المنام أنى قلت لك: إن القتال مع غير الإمام المفروض طاعته حرام مثل الميتة والدم ولحم الخنزير، فقلت لي: هو كذلك؟ فقال أبو عبد الله (ع): هو كذلك هو كذلك". (الكافي 5: 23).

لأننا نقول ـ وكما أشرنا إليه سابقاً ـ ان الرؤية الصادقة هي رتبة من رتب معرفة الغيب والاطلاع على الحقائق، ولكن تمييز الرؤيا الصادقة ومعرفتها وفهم تعبيرها لا يكون في بعض الأحيان إلا للمعصوم (ع)، وفي هذه الرواية قد أقر المعصوم (ع) الجواب الذي أجابه عن حكم المسألة في الرؤيا، ومع وجود المعصوم (ع) الذي تعرض عليه الرؤى والمكاشفات فيميز صحيحها من سقيمها لا يبقى مجال للتردد والإبهام في ما يراه الإنسان من مكاشفات يعرضها على الإمام المعصوم (ع) فيميز بينها ويكشف حقها من باطلها سواء كانت المكاشفات حصلت... في اليقظة أم في المنام، وبالتالي يكون المرجع الأصلي في إثبات أو نفي الحقيقة الدينية والحكم الشرعي ليست هي المكاشفة أو الرؤيا وإنما هو إقرار الإمام المعصوم (ع) وتصديقه.

وإلى هنا ننتهي من البحث عن الرؤيا وما يرتبط بها من أبحاث علمية، ونختم هذه الكلمة بالحديث عن قضية ترتبط بالرؤيا وملابساتها، وهي النقطة الأخيرة من هذه الكلمة.

النقطة السادسة: شبابنا والموقف من الرؤيا في قضية المهدي (ع): نود في ختام هذا البحث أن نتعرض لقضية ترتبط في واقعها الفعلي عند البعض من الناس ولاسيما الشباب المسلم بمسألة الرؤى والمنامات، وهي قضية الإمام المهدي (ع)، إذ ان هذه القضية واجهت على مر التاريخ الإسلامي عدة محاولات لاستغلالها لمصالح شخصية وطموحات ذاتية، وقد عرف تاريخنا الإسلامي منذ عهد الغيبة الصغرى للإمام المهدي (ع) التي أعقبت وفاة أبيه الإمام الحسن العسكري (ع) العديد من الأشخاص الذين أدعوا البابية والوكالة والسفارة عن صاحب العصر والزمان (ع)، وتنوعت أشكال هذه الدعاوى واختلفت أساليبها، ولكنها كانت على الدوام تسقط وتتلاشى في نهاية المطاف، وتبقى اللعنات هي التي تصاحب مدعيها ومن ينخدع لهم إلى يوم القيامة، وفي زماننا هذا تتخذ هذه الدعاوي المنحرفة شكل الارتباط بالمهدي (ع) من خلال الرؤيا والأحلام، وادعاء السفار أو الوكالة أو البابية من خلال التنصيب في عالم الرؤيا، ونحن وإن كنا نعتقد بأن مثل هذه الدعاوي لا تعدوا أن تكون مجرد ترهات وسخافات سرعان ما يرفضها الواقع ويكذبها من ينخدعون بها في أول أمرها، إلا إننا أحببنا في ختام حديثنا أن نقدم لشبابنا المسلم كلمة مختصرة عن الإمام المهدي (ع) وقضيته الكبرى، فنقول: إن من الخصائص والميزات التي يتمتع بها الفكر الإسلامي الشيعي ما يمتلكه من رؤية مستقبلية واضحة ومفصلة في ما يرتبط بقضية الإمام المهدي (عج)، إذ إننا نلحظ إن هناك تصوراً واضحاً عن كثير من الجزئيات والتفاصيل التي تتحدث عن صاحب العصر والزمان (ع) وما يتعلق بحركته الاصلاحية والتغييرية التي يحقق الله سبحانه وتعالى من خلالها انجاز وعدة في نصر المستضعفين وجعلهم أئمة يرثون الأرض ويقيمون حكم الله فيها، كما يرشدنا إلى ذلك قوله تعالى: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) (القصص: 5)، وقوله تعالى: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون). (الأنبياء: 105)

ولقد جاءت الروايات الكثيرة جداً جداً عن أهل البيت (ع) في التأكيد على ضرورة ظهوره (ع) وأنه من المحتوم الذي لا تبديل فيه ولا تغيير، فعن الإمام الرضا (ع) عن آبائه (ع) إن رسول الله (ص) قال: "لا تقوم الساعة حتى يقوم القائم الحق منا وذلك حين يأذن الله (عز وجل) له ومن تبعه نجا ومن تخلف عنه هلك: الله الله عباد الله فأتوه ولو على الثلج فإنه خليفة الله (عز وجل) وخليفتي". (بحار الأنوار 51: 65).

وعنه (ص) أيضاً: "لا تذهب الدنيا حتى يقوم بأمر أمتي رجل من ولد الحسين يملأها عدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً". (بحار الأنوار 51: 66).

وعن أبي أيوب الأنصاري (رض) قال: "قال رسول الله (ص) لفاطمة في مرضه: والذي نفسي بيده لابد لهذه الأمة من مهدي وهو والله من ولدك". (بحار الأنوار 51: 67).

وعن ابن عباس انه قال: "قال رسول الله (ص): إن خلفائي وأوصيائي وحجج الله على الخلق بعدي أثنا عشر أولهم أخي وآخرهم ولدي، وقيل: يا رسول الله (ص) ومن أخوك؟ قال: علي بن أبي طالب، قيل: فمن ولدك؟ قال: المهدي يملأها قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً والذي بعثني بالحق نبياً لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لأطال الله ذلك اليوم حتى يخرج فيه ولدي المهدي فينزل روح الله عيسى بن مريم (ع) فيصلي خلفه وتشرق الأرض بنور ربها ويبلغ سلطانه المشرق والمغرب". (بحار الأنوار 51: 71).

ومع أن قضية الإمام المهدي (ع) ـ التي كانت تمثل في واقعها قضية الاستضعاف والمظلومية والاصرار على حمل معاناة الإنسان والدفاع عن حقه في عيشة كريمة حرة ـ اعتبرت أكبر وأوضح وأعظم رؤية دينية في استشراف المستقبل وتحديد ورسم معالم المسار النهائي للإنسان في عالمه الدنيوي، إلا أنها قدر لها أن تواجه على مر التاريخ الإسلامي العديد من التشويهات المقصودة وغير المقصودة، ومما يؤسف له أن أكثر هذه التشويهات لقضية المهدي (ع) جاءت وصدرت من أناس يؤمنون كل الإيمان بالقضية ويتحمسون لها أشد التحمس.

وأهم تلك التشويهات التي واجهتها قضيته (ع) ـ وكان لها الأثر الشيء على تصورات ومواقف الرأي العام الإسلامي في ما يرتبط بقضيته (ع) ـ محاولة التسطيح لأبعاد القضية وحرفها عن مسارها الصحيح الذي يراد من خلاله تحسيس الإنسان المسلم بمسؤوليته الخطيرة في ما يتخذه من مواقف ترتبط بماضيه وحاضره ومستقبله.

نعم... لقد عمل البعض من العلماء والمفكرين الإسلاميين ـ من دون وعي وإدراك ـ على حرف القضية عن مساراتها الصحيحة التي تبتغي تأصيلها وتجذيرها في حركة الإنسان المسلم، فبدلاً من أن تصور القضية ـ كما يريد لها الإسلام ـ قضية إنسان يعيش كل معاناة الإنسانية وهمومها ويتحمل طوال سنين عديدة صرخات المظلومين وأنات المضطهدين والمعذبين من بني البشر، وإذا بها تختلق لها التصورات الخيالية من هنا وهناك لتبتعد شيئاً فشيئاً عن واقع الإنسان المعذب، وتتحول ـ على خلاف إرادتها ـ إلى قضية رؤى وأحلام وقصص خيالية يلهث وراءها الإنسان الذي يريد الابتعاد عن واقعة والعيش في عالم الخيال.

ولسنا بحاجة إلى أن نضرب الأمثال ونذكر بالمصاديق التي أنتجها وأسسها هذا المنحى في التعامل مع قضية الإمام المهدي (ع)، إذ يكفينا أننا نعلم أن قضية خيالية مثل قصة "الجزيرة الخضراء" صارت ترتبط أشد الارتباط في أذهان المسلمين بقضيته (ع)، وهي توحي لكل من يسمعها أو يقرؤها بكثير من الإطمئنان والاستقرار واللامبالاة وتناسي هموم الإنسانية ومعاناتها التي يعيشها الإمام (ع) في أجواء جزيرته المختلقة، والتي تشابه في إيحاءاتها أجواء قصور الملوك والطواغيت الذين لا يحملون أية قضية ولا يستشعرون أية معاناة إنسانية.

وللأسف استطاع هذا الفهم المغلوط أن يتعمق في أذهان الكثير من المتدينين ولاسيما الشباب المسلم حتى صار الكثير من شبابنا المسلم يبحث في قضية المهدي (ع) أبعاداً وجوانب تضفي على القضية الكثير من لمسات السطحية واللاوعي وتبتعد بها عن آفاقها الأصيلة التي تحفز المسلم على التفكير والحركة والسعي والتغيير في كل لحظة وفي كل آن.

ولا نستطيع ـ إذا ما أردنا أن نكون منصفين ـ ان نحمل الشباب المسلم المسؤولية كاملة في ما يتخذه ويؤسسه من أساليب ومواقف خاطئة تجاه قضية المهدي (ع)، لأننا ندرك ان النتاج الفكري الإسلامي في ما يختص بالقضية مورد البحث، كان يبتعد في كثير من معطياته عن مقتضيات الواقعية ومستلزمات الموضوعية في طرح ودراسة وتحليل قضية المهدي (ع)، وكان يجنح في كثير من الأحيان إلى الخيال واللاواقعية ويستنجد بهما إذا أعيته الحيلة عن إثبات أو نفي فكرة معينة ترتبط من قريب أو بعيد بقضيته (ع)، ومن الطبيعي أن يولد مثل هذا النتاج الذي يقبل عليه شبابنا المسلم بشغف وشوق شخصيات تهرب من الواقع وترفض التعامل معه بمنطقه، وتلجأ إلى الأحلام والرؤى والتنبؤات وشواد الأخبار وضعاف الروايات ومختلقات القصص لتكون من خلال ضم بعضها إلى بعض نسيجاً متكاملاً عن واقع القضية وأبعادها، ولكنه نسيج خيالي ووهمي إلا أنه له من القوة ما يحطم به كل ثوابت الواقع شرعية كانت أم عقلية أم اجتماعية.

وكلامنا هذا ليس مجرد فرض وتوهم يعجز الواقع عن إثباتهما وتقديم المصاديق والدلائل عليهما، بل أن الأمر بات واضحاً وضوح الشمس ولم يعد مجتمع من مجتمعاتنا الإسلامية يخلو من قضية مثيرة ينتجها ويؤسسها الفهم اللاواعي والموقف اللامتزن من قضية الإمام المهدي (ع) فلقد صار الكثير من الجهلة والنفعيين يستغلون قضيته (ع) ليحولوها إلى قضية أحلام ورؤى تثبت من خلالها وعن طريقها اعتقادات ومقولات تستهدف في نهاية المطاف ضرب الوجودات الإسلامية بعضها ببعض وتحطيم بنائها الداخلي بنفس يدها.

ولسنا نريد هنا أن ندخل مع الشباب في بحوث دينية وعلمية حول من يرى صاحب الزمان (ع) في الرؤيا، وصحة مثل هذه الرؤى أو عدم صحتها، وجواز الاعتماد عليها أو عدم جوازه، ومحاولة تفنيد دعاوي من يدعون النيابية الخاصة والسفارة عنه (ع) في زمن الغيبة أما عن طريق الرؤيا أو عن طريق المشاهدة، لأننا نعتقد أن مثل هذه البحوث قد وجدت كل الإجابات المقنعة عنها، ومنذ زمن بعيد والعلماء يؤلفون الكتب والمقالات في إبطال وتزييف قول من يدعي النيابة الخاصة عنه (ع) بعد انتهاء فترة الغيبة الصغرى. بل ما نريده من شبابنا المسلم أن يعي كل الوعي أن قضية المهدي (ع) أسمى من أن تتحول إلى قضية أحلام ورؤى يراها أناس ينتحلون الإسلام كذباً وزوراً ونفاقاً، ويبتغون من وراء أحلامهم الكاذبة أن يثبتوا لأنفسهم مقامات عند السذج من الناس، يعجزون عن اكتسابها بطريق الجد والسعي والعمل والاخلاص لله تعالى.

ونحن نرجوا في ختام هذه الكلمة ـ والتي ستكون الكلمة الأخيرة من الكتاب ـ أن يكون شبابنا المسلم قد وعى من خلال ما قدمناه له من بحث مطول ومفصل عن الرؤيا الموقع المناسب الذي تستحقه مثل هذا الدعاوي الباطلة والمنحرفةن وأن يتعامل معها بوعي ودراية، ونحن على ثقة تامة بأن شبابنا المسلم سيفعل ذلك، وأنه يمتلك من البصيرة والفهم ما يجعله قادراً على التمييز بين الحق والباطل (والله يقول الحق وهو يهدي السبيل). (الأحزاب: 4)

 

الخاتمة

بعد هذه الرحلة الطويلة مع "شبابنا ومشاكلهم الروحية" نصل إلى خاتمة الكتاب، ونأمل أن يكون شبابنا المسلم قد استفاد مما قرأه من كلمات الكتاب التي ربما كانت بعضها مرهقة لتفكيره لاشتمالها على مطالب علمة ومباحث فلسفية وعرفانية قد لا يستطيع الشاب ان يهضمها ويستوعبها بسهولة، ولكن ليعلم شبابنا المسلم إننا كنا نرفض أن نعالج قضايا شبابنا المسلم ولاسيما قضاياه الروحية بالسطحية التي يرغب فيها الكثير من الناس، والتي لا يهمها أن تعالج المشكلة علاجاً حاسماً بقدر ما يهمها أن تقدم للآخرين أفكاراً تدغدغ عواطفهم وتثير مشاعرهم وربما كانت سبباً في تجذير المشكلة وتعميق أبعادها.

نعم... لقد ابتعدنا باختيارنا عن مثل هذا النوع من المعالجات التبسيطية للقضايا والمشاكل، وحاولنا أن نخلص لشبابنا النصيحة بدراستنا لمشاكلهم الروحية دراسة موضوعية تستقطب جميع أبعاد المشكلة وجوانبها المختلفة، وإن كان ذلك يستدعي من الشاب الذي يقرء الكتاب مزيداً من التوجه والانتباه، وكان عذرنا الوحيد في ذلك اننا نريد أن نكون مخلصين في ما نقدمه للشباب من كلمات ومعالجات وتوجيهات، ولقد نصح أمير المؤمنين (ع) ابنه الحسن فقال: "أي بني، إني وإن لم أكن عمرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم، وفكرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم، حتى عدت كأحدهم، بل كأني بما أنتهي إلى من أمورهم قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره، ونفعه من ضره، فاستخلصت لك من كل أمر نخيله (النخيل: المختار المصفى).، وتوخيت (توخيت: أي تحريت). لك جميله، وصرفت عنك مجهوله". (نهج البلاغة، باب الرسائل، رقم 31).

وهكذا أردنا من كتابنا هذا أن يتمثل في ما طرحه وصية أمير المؤمنين (ع) فيقدم للشاب المسلم الرأي النافع والكلمة الواعية فيحببها إليه ويحثه عليهما، ويحذره من الوقوع في المطبات التي تستهلك شبابه وقدراته فيما لا ينفعه ولا يعود على امته بالمصلحة.

وهذه المحاولة في معالجة مشاكل الشباب الروحية التي جسدتها كلمات هذا الكتاب لانزعم أنها متكاملة وتامة، وما كنا نرجوه من ورائها هو فتح الباب لعلمائنا ومفكرينا وكتابنا من أجل أن يتوجهوا إلى شبابهم المسلم ويعتنوا بقضاياهم ومشاكلهم المختلفة، ويفكروا بصورة جدية في واقع الشباب وما يكتنف هذا الواقع من إثارات يواجهها الشباب المسلم على مختلف المستويات. ونأمل أن تكون هذه الكلمات حافزاً ومشجعاً للآخرين على دراسة ومعالجة بقية مشاكل الشباب التي لم نوفق لطرحها وإثارتها في هذا الكتاب من أجل أن تبقى قضايا شبابنا المسلم تحتل الصدراة والأولوية في تفكيرنا وتوجيهاتنا.

ونحن نأمل أن يكون هذا الكتاب قد بصر الشاب المسلم بموقعه الحقيقي الذي ينبغي أن يتخذه في النهضة الجديدة للإسلام التي يشهدها عصرنا الراهن، وأن يدرك أن أمته الإسلامية الكبيرة تعقد آمالها وطموحاتها في مستقبل مزهر ومشرق عليه وعلى غيره من شباب عالمنا الإسلامي، ومازالت أمتنا الإسلامية تنظر إلى شبابها المسلم الملتزم وترى فيه الأيدي الأمينة التي لا يستطيع غيرها أن يحقق للأمة نهضتها المرجوة. ولن يستطيع شبابنا المسلم أن يحققوا هذا الأمل إلا إذا تمكنوا من تجسيد الإسلام الأصيل في كل حياتهم وقدموا للبشرية النماذج الإنسانية الصالحة والمتكاملة في سعيها العملي، والبعيدة كل البعد عن كل مظاهر الاختلال في الفكر والسلوك.

وآخر كلمة نقولها لشبابنا المسلم: انكم أيها الشباب ملك لله وللإسلام وللأمة فلا يحق لكم أن تفرطوا في عمركم الشريف ولا أن تضيعوا ولا لحظة واحدة في غير ما يخدم دينكم ويرضى ربكم ويعلى شأن امتكم الإسلامية.

والحمد لله رب العالمين وسلام على عباده الصالحين.