البحث السادس الفصاحة والبلاغة

البحث السابع سعة الصدر

البحث الثامن الإخلاص

البحث التاسع كرامة الفرد من وجهة نظر الإسلام

البحث العاشر كرامة الفرد من وجهة نظر سائر المذاهب

البحث الحادي عشر الغاية من خلق الإنسان

 

 

البحث السادس

الفصاحة والبلاغة

تحدثنا في البحث السابق عن الشرط الرابع الذي يجب أن يتوفر في المعلم الناجح وفي هذا البحث نقوم بتكملته.

ينبغي أن يكون الكلام عذباً لكي يؤثر في القلوب وان يعرف المتحدث ذهنية السامع حتى يتكلم بمستوى فهمه، كما ينبغي ان يكون الكلام بليغاً فصيحاً، ونحن مع الأسف نعاني من هذه المشكلة بشكل كبير وعلى المعلمين الأعزاء أن يحلوا لنا هذه المشكلة.

يوجد كتاب باسم (المطوَّل) يُقرأ في مدارس الحوزة العلمية، بعضه حول الفصاحة وبعضه حول البلاغة إلا أننا لا نغدو فصحاء، بلغاء بقراءتنا لهذا الكتاب في ظرف سنتين أو ثلاث من أوله إلى آخره، ومن هنا ينبغي الالتفات إلى نقطة البلاغة والفصاحة وعدم إغفالهما والمرور بها مر الكرام.

قال أمير المؤمنين(ع) في نهج البلاغة: (الإنسان مخبوء تحت لسانه) فأحيانا يكتسب الإنسان احتراماً بإلقائه جملة أو جملتين حتى وإن كان أميّا، ويوجد، أيضا، في قباله بعض، مع علمهم الكثير، ليس لديهم القدرة على البيان، وليس باستطاعتهم نقل أفكارهم إلى الآخرين.

يقال أن أبا نصح ابنه قائلا: (أي بني! حسّن قولك وكن فصيحا بليغا؛ لأنك لو اردت الذهاب إلى مكان ولم يكن لديك ثوب فبإمكانك أن تستعير ثوباً، وكذلك شأن الراحلة، إلا أنك لو كنت عييّا فليس بإمكانك استعارة الكلام البليغ.

وقيل: أراد خطيب أن يذهب إلى بيت خطيبته فقالت له أمه: (ولدي، إذا ذهبت إليهم فاختر لك مسندا عاليا وتكلم كلاما كبيرا). فلم يع الولد ما رمت إليه امه، ولما دخل، جلس فوق الرف، وأخذ يتفوه بهذه الكلمات: (بقرة، بعير، فيل...)!.

ولا تتصوروا أن هذه الأقوال مجرد أمثال تضرب، وإنما هي حقائق، وحتى لو كانت أمثالاً فكما يقول علماء النفس: (إن أمثال المجتمع مرآة فكره).

على المعلم أن لا يكون كسولاً، وهذا ما أكد عليه الإسلام؛ فلا ينبغي لكل مسلم أن يكون كسولاً، لقد قال الإمام موسى بن جعفر(ع): (إياك والفشل فإنهما يمنعانك من خير الدنيا والآخرة) فلو دخل المعلم قاعدة الدرس متكاسلا فإن هذا سيؤدي إلى كسل التلاميذ؛ إذ كيف يمكن للمعلم هذا أن يدرّس؟.

يروى أن أمير المؤمنين(ع) دخل المسجد ورأى مجموعة مستغرقة في النوم فسأل عنهم، فقالوا له: (إنهم جماعة يدعون برجال الحق تركوا الدور والدنيا ودأبوا على العبادة في المساجد، يأكلون إذا أعطوا ويصبرون إذا منعوا). فقال الإمام(ع): (هذا شأن الكلاب ايضاً تأكل إذا اعطيت وتصبر ان منعت)! ثم انهال عليهم بالسوط قائلاً: (انهضوا وابحثوا عن عمل لكم، لا حاجة للإسلام برجال الحق، لا حاجة للإسلام بالكسالى).

إن الإنسان النشيط جندي مدجج، لو طلب الدنيا كانت الدنيا له ولو طلب الآخرة كانت الآخرة من نصيبه. كان لهارون الرشيد ولدان وهما الأمين والمأمون أحدهما أسوا من الآخر، كما أن هارون أسوأ منهما معاً، لعنة الله عليهم جميعا، وكان لهارون الكثير من النساء والإماء إلا أن زبيدة كانت على رأسهم وكانت امرأة فاهمة، وقد صدرت منها أفعال كريمة، وكان الأمين ابنها، أما المأمون فهو من أمة لهارون، وكانت زبيدة تتألم من اعتناء هارون بالمأمون وعدم اعتنائه بالأمين، فقالت له: (إن ولدي هو ابنك ايضاً، فلماذا تهتم بابن الأمة دونه)؟ فقال لها:

(لا خير في الأمين. وسينال الخلافة بعدي المأمون، فإنه القادر على إدارة الدولة، وسأثبت لك صدق كلامي هذه الليلة)، فأرسل في طلبهما في منتصف الليل، فحضر الأمين وهو أشعث الشعر مضطرب، فقال له هارون: (أريد أن أمنحك هدية، فاطلب ما شئت)، فقال الأمين: (اريد بستانك الكبير خارج المدينة، وأمتك الفلانية وذلك الحصان و...) فسأله هارون عن السبب، فأجابه الأمين: (سأجعل البستان بيتاً لي والحصان لأذهب عليه إلى هذا البستان، و...).

ولما جاء دور المأمون، دخل بثياب عسكرية متقلدا سيفه، ووقف وقفة الجندي المؤدب أمام قائده، فقال له هارون نفس ما قاله للأمين، فقال له المأمون:

(قلل الضرائب باسمي، واعف عن السجناء باسمي، وارفع من رواتب العمال باسمي حتى ولو لشهر واحد). وبعد أن ذهب المأمون، التفت الرشيد إلى زبيدة وقال لها: (أعلمت ماذا صنع المأمون إنه قد كسب ود الناس لانهم إما عمال وقد زادت رواتبهم الشهرية، وإما تجار ومزارعون وقد خففت الضرائب عنهم، وإما جناة وسجناء وقد أطلق سراحهم، فإذن هو اهل لذلك)!.

وهذا ما حصل بالفعل بعد موت هارون، فقد انهمك الأمين في الشراب واللعب حتى وصل به الأمر أن أخذت الخمرة منه مأخذها في يوم، فأخذ يقول: من يريد أن يصبح حمارا لي، فقال رجل أنا يا سيدي! وانحنى له واعتلاه الأمين فأخذ يدور حول الحاضرين ناهقاً، فهجم المأمون على بغداد وقتل الأمين واستولى على السلطة.

علينا أن ننظر إلى هذه الحوادث التاريخية نظر المدقق المتعمق.

 البحث السابع

سعة الصدر

الشرط الخامس هو ضبط النفس بمعنى سعة الصدر والمقدرة على حل المعضلات، وقد ورد في الروايات: (آلة الرئاسة سعة الصدر). فعلى رب البيت ومدير الدائرة والوزير والقائد في الدول أن يكونوا واسعي الصدور، فسعة الصدر آلة في الحقيقة كالمنشار بالنسبة إلى النجّار، والمطرقة للحداد، والقلم للكاتب، وكذلك المعلم بحاجة إلى سعة الصدر، ولو أنه فقد هذه الآلة لأصبح كالنجّار بلا منشار، أو الكاتب بلا قلم.

والقرآن يبيّن لنا هذا الشيء في قالب قصصي، مخاطباً موسى(ع) لدى بعثه: (اذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولاً ليّناً لعلّه يتذكر أو يخشى) (طه/43ـ44). فلم يطلب موسى جيشا جرارا لمقابلة فرعون وإنما قال: (رب اشرح لي صدري) حتى أتمكن من مواجهة المعضلات (ويسّر لي أمري) حتى تسهل الصعاب، (واحلل عقدة من لساني) حتى أتمكن من التكلم بيسر أمام الآخرين لأَن الذين لا يتمكنون من ضبط النفس يصابون باللكنة في كلامهم، ولا يتمكنون من انتقاء المفردات المناسبة. أما لو ضبطوا أنفسهم لأوصلوا إلى المخاطب القول حتى يفقهه (يفقهوا قولي) (طه/25ـ28).

فلو لم يكن المعلم ضابطاً لنفسه، لم يستطع تفهيم طلابه طرق حل مسائل الرياضيّات، ولو كانت للمتعلم سعة صدر لكان بإمكانه أن يظهر مواهب الشخص الخامل، فهل بالإمكان إبراء شخص مصاب بمرض فقدان الثقة بالنفس، أو جعل الخامل عبقرياً؟ أجل، إذا كان المعلم مجرّباً رؤوفاً واسع الصدر، فلا ينبغي الاعتقاد بأن كلّ العظماء كان لهم استعداد خارق منذ البداية، بل إن الكثير من المخترعين والعلماء عاشوا فترة من الخمول، فمثلاً قيل عن (انشتاين) إنه فشل لمرات عديدة في الامتحانات، وعاش في فقر مُدقع، وأن (باستور) كان يشكو من ألم مزمن في رأسه وأن (نيوتن) مع ما له من شهرة كان يبدو خاملاً، وان احد المخترعين كان يذهب إلى المدية حافياً، وآخر لم يكن يملك فطورا يأكله فلما علم زميله أخذ يجلب له صباح كل يوم طعاماً. فلم يكن هؤلاء عباقرة من الناحية الفكرية، بل تأتى لهم ذلك من خلال الجد والسعي. فقد سُئل باستور:

(من هو العبقري)؟ فقال: (كل من دأب على العلم واستقام فيه). إن العمل والصبر يمكنهما إيصال الإنسان إلى حيث يريد، فلو أن معلماً ضابطاً لنفسه أجهد نفسه في تعليم الخاملين فبإمكانه جعلهم ذوي مواهب وعباقرة، وكذلك الشأن بالنسبة إلى الوالدين.

ومن جهة أخرى فإن القابلية على الحفظ غالبا ما تجعل صاحبها مغتراً بنفسه، متكاسلاً لا يحظى بتقدم كبير، بخلاف الذين يتقدمون ببطء مستمر فإنهم سيصلون إلى هدفهم في النهاية. وأنا أذكر عندما كنت في المدرسة الابتدائية درساً عن سلحفاة وأرنب تسابقا وبما أن الأرنب كان فخوراً بسرعته فقد استغرق في نوم عميق قبل أن يصل الهدف ناوياً بلوغه بعد الاستيقاظ، أما السلحفاة فقد استمرت في زحفها، وعندما استيقظ الأرنب شاهد السلحفاة قد قاربت خط الانتهاء، فأسرع راكضاً ولكن بعد فوات الأوان فقد اجتازت السلحفاة وحازت السبق.

الشيء الآخر هو أنه لا ينبغي تشجيع النوابغ فقط، بل ينبغي تشجيع الجميع، وإحياء الأمل لدى السائرين ببطء والصبر عليهم من خلال سعة الصدر، قال تعال: (ألم نشرح لك صدرك، ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك) (الانشراح/1ـ3).. هنا يمتن الله على رسوله، وهي اول نعمة يعدها الله على رسوله، فلم يقل له: ألم نعلمك أو نبعثك نبياً، وإنما قال له: (ألم نشرح لك صدرك)؟ فهذه السورة تقول لنا إن أكبر نعمة، خاصة للمعلمين والآباء (الأب الجسدي والأب الروحي) هي نعمة شرح الصدر.

إن المصائب التي نزلت بالرسول كانت كبيرة جداً، ففي ظرف عشر سنوات جوبه بأربع وسبعين معركة في المدينة (بمعدل معركة في كل شهرين). معارك لم تكن له فيها وسائل مادية ولا قوى محاربة، وكانت هذه المعارك تقع في الصحاري الحارة في شبه الجزيرة العربية، ولم يكن للكثير من أصحاب الرسول حصان أو جمل يركبونه بل إن بعضهم لم يمتلك حتى نعلاً، وكانوا يذهبون إلى ساحات القتال حفاة، لم تمتلئ بطونهم بالماء والغذاء، تقول له الآية الكريمة: (ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك). فالذي أدى بالرسول إلى هذه المقاومة أمام هذه الصعاب هي سعة صدره وصبره واستقامته.

إن إحدى الصعاب في مكة كانت مسألة الحصار الاقتصادي وقد كتب أمير المؤمنين (كما في نهج البلاغة) رسالة إلى معاوية، قال له فيها: (يا معاوية قد حاصرتمونا فأجبرنا ونحن أربعون شخصاً على العيش في شعب أبي طالب ثلاث سنوات في حرّ النّهار وبرد الليل بلا ماء ولا طعام... حتى مات أطفالنا من العطش والجوع، وأديّ بنسائنا إلى ان يتصارخن، ويعلن وقد التصق جلد معصمهن على عظامهن، ولم يكن يسعفنا إلا امرأة ذات همة ـ وهي خديجة الكبرى ـ من خلال مشقة كبيرة كانت تتحملها).

وكما قلنا فإن الذي ادى إلى أن يضع الله هذا الحمل من على كاهل الرسول هو صبره وسعة صدره، وقد خاطبه الله مشجعاً إياه على الاستمرار في صبره: (فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسرا) (الشرح/5ـ6). وهذا القانون يمكن لمن يلاحظ التاريخ بدقة أن يراه جلياً من عصر آدم إلى يومنا هذا، فإن الذي أدى إلى انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية هو صبر الناس، فقد تمكن قائد الثورة من خلال سعة صدره أن يجتاز جميع العقبات، والجميع شاهدوا كيف أن هذا الشيخ لا تهزه الصعاب، قال أحد المعارف:

(لو أخبره شخص بأن أمريكا هجمت علينا من جهة والاتحاد السوفياتي من الجهة الأخرى لما اضطرب لذلك) فهؤلاء الذين يبلغون الهدف وبعكسهم من لا سعة صدر لهم.

إن المعلم الذي يتأثر ويضطرب لأدنى شيء سيفشل أكثر تلاميذه، والأب الذي لا يملك أعصابه سيحدث الخلاف في بيته وكذلك الأم التي لا تمتلك سعة صدر فلن تتمكن من تربية أولادها تربية صحيحة.

إن المسؤول الذي يترك ساحة الصبر لا يغدو بإمكانه أن يدير أو يرأس، فلو أردت أن تكون اباً ناجحا فعليك أن تتجلد أمام الصعاب؛ فإن الدنيا كثيرة الصعاب، فلا يتصور أحدنا أن الدنيا ستخلو من المشاكل، إن هذا لا يحصل ولا يعقل، وقد قال أمير المؤمنين(ع): (الدنيا بحر عميق، وقد غرق فيها خلق كثير. الدنيا يومان يوم لك ويوم عليك).

فلو لم يتجالد الشخص أمام الصعاب فطرحته الصعاب ارضاً، فإنه لن يبلغ الهدف ولن يبقى صديق لمن لا يضبط نفسه، ولو كان معلماً فالويل لتلاميذه!.

فعلى المعلمين أن يضبطوا أنفسهم وأن لا يغضبوا أبداً،ولا يستسلموا أمام المشاكل، إن أهم شروط لياقة المعلم هي سعة الصدر.

البحث الثامن

الاخلاص

الشرط الآخر هو الإخلاص، وهو أن يكون عمله منصباً في رضا الله، وعندها فلن يكون درسه عقيدة ومسجداً فحسب، بل إن عمله سيكون أفضل الأعمال والعبادات الإسلامية. ولو لم يكن العمل خالصا لله فهو، وإن أفاد المجتمع من الناحية الثقافية، لكنه خلو من الثواب.

وعلى الإنسان في كل مكان أن يكون مخلصاً في الحياة سواء في البيت أم خارجه، لوّنوا أعمالكم بالإخلاص، واجعلوها مصبوغة به، كما يقول تبارك وتعالى: (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغةّ ونحن له عابدون) (البقرة/138). وإذا تمكنت من ذلك فحينئذٍ سيكون لسلامك، أو عطفك على مسكين، أو إجابتك عن سؤال شخصي، أو أية خدمة صغيرة جداً تقوم بها، سيكون لها من الثواب من قد يوجب لك الجنة. وعلى حد تعبير أستاذنا الكبير العلامة الطباطبائي(ره): (إن الإخلاص كيمياء عجيبة، ما صبغ به شيء ولو كان حقيراً إلاّ واكتسب قيمة عالية). والعكس صحيح أيضاً. فإن العمل حتى وإن كان كبيراً فإنه إذا لم يخالطه الإخلاص، لن يساوي جنح ذبابة!.

هناك آيات كثيرة يكون السبب في نزولها عملاً بسيطاً في ظاهره فمثلاً: قام أمير المؤمنين(ع) بالتصدق بخاتمه على فقير وهو في أثناء الصلاة إلاّ أن هذا العمل البسيط اقترن بالاخلاص إخلاص علي(ع)، فاكتسب تلك القيمة التي أنزلت آية الولاية بحق أمير المؤمنين(ع): (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) (المائدة/55). وهذه الآية لا تعادل الدنيا وما فيها فحسب، وإنما تعادل الآخرة وما فيها أيضاً.

عندما هاجر الرسول(ص) من مكة إلى المدينة، بات أميرالمؤمنين في فراشه، وهذا عمل بسيط بالنسبة لعلي(ع) فكما يقول معاوية: (كان في استراحته في ساحة القتال، أسداً يهابه الجميع ولا يخاف أحداً) إلا أن هذا العلم اقترن بالإخلاص فصار ذا قيمة، فنزلت هذه الآية:

(ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد) (البقرة/207).

كان علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السّلام صائمين، ولما حان وقت الافطار لم يكن لديهم سوى خبزة شعير، فطرق عليهم الباب فقيرٌ، فتصدقوا بها عليه، وفي اليوم الثاني طرق عليهم الباب يتيم فناولوه ما عندهم، وفي المرة الثالثة جاءهم أسير فأعطوه طعام إفطارهم، فاكتفوا ثلاثة أيام متتالية بالماء فقط، وهنا نزلت هذه الآية في سورة الدهر:

(ويطعمون الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً، إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا) (الدهر/9).

إن التعمق في الاعمال الصغيرة التي قام بها العظماء تظهر لنا كيف أدت بهم إلى مقام رفيع، محمود. فقد كان السيد الرشتي من العلماء الكبار وقد قدم للإسلام خدمات جليلة وقام ببناء مسجد السيد في اصفهان، وهو من أشهر مساجدها، وقبره الآن فيه، يذهب الناس إليه ويسألونه الحاجة، وكان في حياته مرجعاً مقتدراً، ومع أنه عاصر الملك فتح علي القاجاديّ، إلا أن السيد كان بالفعل هو الذي يدير دفة الحكم في أصفهان، وربما تيتمت ألف عائلة بموته وعلى حد قوله أن هذه المنزلة وصلت إليه من أجل عطفه على كلبة، فقد كان طالباً وقد مرت عليه ثلاثة أيام لم يذق فيها الطعام فاستقرض من الذي يشاركه غرفته مبلغاً لشراء فطور فاشترى الطعام وكله رغبة فيه، فرأى في الطريق كلبة ترضع جراءها وقد جفت أثداؤها من شدة الجوع، فرق حاله لها فوضع أمامها الطعام بأجمعه فالتهمته، ثم قام بتطهير الإناء وإعادته إلى صاحبه، فلم تمض سوى بضعة أيام حتى جاءني كتاب من رشت فيه:

(إن الحاج الفلاني قد ودّع الحياة وقد اوصى لك بثلثه) ولما نظرت إلى تاريخ الوصية وجدته يطابق اليوم الذي أطعمت فيه تلك الكلبة. وما حصل السيد على هذه المنزلة إلا بسبب إخلاصه.

فلو أردتم الدنيا والآخرة فاصبغوا أعمالكم بصبغة الإخلاص لله، فعندما يذهب المعلم إلى قاعة الدرس لا يكون هدفه أن يحصل تلاميذه على درجات عالية ليمتدح من قبل وزارة التربية، بل ليذهب وهو على اعتقاد بأن هؤلاء الفتية أمانة بيده، وأن سعادة الجيل القادم رهن بهم، وأن لو بذل جهداً في تعليمهم فسينالون درجات عالية تفرحهم وتسر آباءهم، وهذا الاعتقاد سيضفي لوناً آخر على الصف، وسترفع من قيمته بالدرجة التي لا يضارعه فيها حتى المسجد.

نقرأ في رواية: يؤتى بشخص إلى المحشر فيسألونه: (ماذا قدمت)؟ فيقول: (كنت من المجاهدين، وفي المقدمة من الجيش وقد استشهدت في سبيل الله) فيقال له: صدقت فيما تقول إلاّ أن عملك هذا لم يكن خالصاً لله بل لأجل السمعة والرياء ثم ينادى فيه ألقوه في جهنم.

إن الرياء بمستوى الكفر. قال تعالى:

(يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى، كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلداً لا يقدرون على شيء مما كسبوا والله لا يهدي القوم الكافرين) (البقرة/264).

ويخاطب المرائي يوم القيامة بالمشرك والكافر، قال تعالى في القرآن: (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون، الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون) (الماعون/4ـ5).

أيها الأعزاء! إن الإخلاص كلمة مقدسة تشع بالنور، يشعر الإنسان بالحيويّة عندما يتصورها، وبعكسها كلمة الرياء أن التظاهر فإنها مليئة بالشؤم والظلام، تبّاً للمرائي وهنيئاً للمخلص.

لتكن كل أعمالكم من الزواج والعمل وكسب الأموال لأهلكم بغية إسعادهم، وهكذا الذهاب إلى المدرسة وحتى أكل الطعام والنوم، خالصة لله، وعندها ستكتبون في عالم الملكوت (مخلصين). وكما أن الله يرفع المخلص ويحببه إلى القلوب، فكذلك هو يضع المرائي ويفضحه.

 البحث التاسع

كرامة الفرد من وجهة نظر الإسلام

إن مسألة الكرامة في الإسلام مسالة كبيرة، ويرى الإسلام أن الكثير من سعادات الفرد والمجتمع رهن بها، ونحن إذا تصفحنا أوراق التاريخ، وجدنا أن الجرائم الفردية والاجتماعية ناتجة عن عدم الكرامة، وعادة ما تصدر الأعمال الصالحة من قبل المتأصلين من أفراد المجتمع، وبعكسها الاعمال غير اللائقة فإنها تصدر من قبل فاقدي الكرامة.

قال الإمام الصادق(ع): (أقدم أوّلاً على إهدار كرامتك ثم افعل ما شئت)!.

وإن مسألة الكرامة من منظار علم النفس أيضاً حائزة أهمية كبيرة، والشيء الذي ينبغي على المعلمين الأعزاء أن يدر كوه، هو أن يصل الشعور بالاعتزاز والإباء والكرامة إلى مرحلة الفعلية منذ البداية، نظير الشهوة إلى الطعام التي ينالها إبّان ولادته وهي من بدائع الخلق وعجائبه.

وبناء على النظرة الإسلامية فإنّ غريزة التعلم موجودة في الطفل من ولادته كسائر الغرائز، لذا يؤذن في أذنه اليمنى ويقام في اليسرى. وكذلك ورد في الروايات لزوم عدم الإقدام على ما يثير الشهوة الجنسيّة على مرأى من الرضيع، وهذا ما يؤكده أيضاً علماء النفس والمؤرخون، فقد قال رسول الله(ص): (اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد)، وليس في هذا الحديث أيّة مبالغة بل هي حقيقة خالصة وعلى الوالدين أن يدركا هذه الحقيقة وأن يشبعا هذه الغريزة الجائعة.

ومن بين الغرائز التي ينبغي الاهتمام بها، غريزة الاعتزاز بالنفس والكرامة لدى الطفل؛ فعندما يتلطف معه ويمسح على رأسه ويبش في وجهه يغمر وجوده نشاطاً وحيوية، وبعكسه فلو عومل بخشونة وغضب فإنه سيتألم ويبكي ويغمره الغضب. بعبارة أخرى: إن غريزة الاعتزاز موجودة لدى الطفل منذ البداية بشكل فعلي، وهناك بعض الغرائز تكون لدى الطفل كقوة تصل تدريجيا إلى مرحلة الفعلية كالغريزة الجنسية؛ فإنها موجودة بالقوة لديه وتصل إلى مرحلة الفعلية بالبلوغ، وأما غريزة الاعتزاز بالذات والكرامة فهي موجودة بالفعل لدى الطفل، وكلما تقدم به العمر برزت هذه الغريزة بشكل أوضح، وتطلبت غذاء أكثر فعلينا أن نستجيب لمطالبها.

إن هذه الغريزة ستبقى معه مدى الحياة، ومن جهة أخرى فإن الشخص نفسه عليه أن لا يعرض نفسه ما يهدر كرامته، فقد حرم الإسلام على الإنسان أن يعرض نفسه للإهانة من خلال إقدامه على أعمال غير لائقة، وقد تقدم في بحث (الصغيرات الكبيرة) أنه لا يحق للإنسان أن يقدم على عمل ينبذه المجتمع من أجله وتمتهن كرامته، فإنها معصية كبيرة، كما لا يحق له ان يمتهن كرامة الآخرين.

وعلى الوالدين والمعلم أن يربوا شخصية الطفل النابعة من تلك القابليات والأذواق، وفي عصرنا الحاضر يتم تسجيل ضربات قلب الام على الكاسيت ليسمعها الطفل في غياب أمّه وهذا جرس خطر قد دقّه الإسلام قبل ألف سنة، وهذا الجرس يصرخ فينا أن الطفل بحاجة إلى الحنان واللطف والعطف، إن كلاماً واحداً سيئاً يقال للطفل يسحق كرامته، كالجوزة التي تتحطم تحت الحجارة، وعندها يصاب بأنواع العقد ويفقد الكثير من المواهب والقابليات. إن شخصية الطفل كالنبتة لو لم تسقها بالماء ستذبل، بل هي أرقى من النبتة، ونرى أن الإسلام قد أوصى كثيراً باليتيم، لماذا؟ لأنه لو ظهر عليه اليتم فستسحق كرامته، وهذا ما سيؤدي إلى كسله وموت مواهبه؛ لذا فإنّ العطف على اليتيم له ثواب عظيم، وإن مسح اليد على رأسه له من الأجر بعدد شعر رأسه، ومن جهة أخرى فإن من لا يعير اهتماماً للأيتام يحمل أوزار ثقيلة، قال الله تعالى:

(فذلك الذي يدعُّ اليتيم) (الماعون/2). إن الإسلام يقول: إن النساء جميعهن أمهات اليتيم ـ إذا لم يكن لديه أم ـ وكل الرجال بمنزلة أبيه، وإلاّ سيكون اليتيم عضواً زائداً في المجتمع كالإصبع السادس في الكفّ فإنه ليس فقط لا يجدي نفعاً بل هو كذلك يشوّه المنظر.

على المعلم في الصف أن يعطي للتلاميذ كرامتهم من خلال تشجيعهم وملاطفتهم، هذه من الوظائف الثقيلة والأعمال الشاقة، وبعكسها فإن إهدار كرامته عمل بسيط يمكن التوصل إليه بكلمة واحدة.

إن المعلم وحده هو الذي يمكنه وضع الحجر الأساسي لكرامة الفرد، وهو الذي يمكنه إهدار كرامته بالنحو الذي لا يتمكن معه من إعادتها إليه حتى أبواه، ولا تنسوا قول الله سبحانه:

(من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، ومن حاربني حاربته) كما أن سورة (عبس) درس لكل شخص وخاصة المعلمين. وإن شأن نزول هذه الآية أن الرسول(ص) كان جالساً مع جماعة فهيا شخص متمول، فدخل عليهم فقير أعمى إلا أنه متدين اسمه (ابن مكتوم)، يتلمس الأرض بعصاه، وجلس إلى جانب المتمول فاستاء هذا الأخير وجمع ثيابه عنه فقال الرسول (ص) له متألماً: (أخشيت أن يصيبك شيء من فقره)؟ فقال: (لا يا رسول الله)! فقال له الرسول: (لماذا أقدمت على هذا العمل)؟ فقال المتمول متأثراً:

(يا رسول الله، إني أهبه نصف أموالي حتى يرضى عني وتعفو أنت عني)، فالتفت الرسول إلى ابن مكتوم وقال له: (أتريد أن تكون ثرياً)؟ فقال ابن مكتوم: (كلا، أخشى إن صرت غنيا، أن اغدو متكبراً مثله).

تقول لنا آيات هذه السورة: إن للشخص كرامة ينبغي احترامها وعدم إهدارها.

 البحث العاشر

كرامة الفرد من وجهة نظر سائر المذاهب

لا يزال كلامنا في الشرط الخامس. يرى القرآن أن الإنسان خليفة الله في أرضه، فقد قال سبحانه للملائكة بعد أن خلق آدم: (إني جاعل في الأرض خليفة، قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ قال: إني أعلم ما لا تعلمون) (البقرة/30).

فإن الملائكة لمعرفتهم المسبقة بمكوّنات الإنسان الشخصية وما له من بعد حيواني يميل إلى شهواته وحبه لسفك الدماء، وهذا ما سيؤدي إلى الفساد في الأرض، قالوا لخالقهم: لو أردت أن تخلق من يقدسك ويسبح لك فنحن مستعدون للقيام بذلك، لأنه لا يوجد فينا بعد حيواني، فخاطبهم: إنكم لا تعلمون بأن هذا الإنسان رغم ما فيه من مفاسد فإن فيه من الصالحين ما تفوق درجاتهم حتى الملائكة انفسهم يقول سبحانه:

(وعلّم آدم الأسماء كلها، ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) (البقرة/31). فرأوا كيف تجلت صفات الله فيه فأقرّوا باشتباههم.

إن الله يعطي من الكرامة للإنسان ما لا يتصور هناك أسمى منها، فإنه علاوة على جعله مظهراً لصفاته جعله خليفة له، فالإنسان هو الذي سجدت الملائكة له وصار قبلة لها والذي بثّ الله فيه من روحه ولا يعلم الروح أحد مهما بلغت درجته: (ويسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلا) (الاسراء/85)، إن قدرة الروح تشبه قدرة رب العالمين بشكل كامل، فكما أن الله مبدع فإن أرواحنا مبدعة أيضاً، بمعنى أنه يمكننا إيجاد الكائنات الذهنية في أذهاننا كما يمكن لله أن يخلق من يشاء في عالم الخارج، ولو أن روح الفرد صارت قوية جداً فإن بإمكانها أن تصنع هذا الشيء خارجاً، ونحن نعرف أناساً اتصلت أرواحهم بروح الله، فقاموا بأنواع الرياضات، فتعبدوا وصاروا مظهراً لصفات الله وأسمائه بالمستوى الذي تمكنوا معه من إيجاد أشياء بشكل آيات خارقة للعادة.

نقل المرحوم الشيخ غلام رضا اليزدي قال: (ذهبنا برفقة المرحوم السيد عبد الهادي الشيرازي وهو من مراجع النجف الكبار إلى كربلاء، وكان المتعارف بين الطلاب أن يتوجهوا مشياً على الأقدام في أيام الزيارة، وفي أثناء الطريق أصابنا العطش، فقال السيد تعالوا معي خلف هذا التل، تجدوا ماءً، فرأينا هناك عيناً فشربنا منها وتوضأنا وتطهرنا وبللنا عباءاتنا ووضعناها على رؤوسنا وعدنا أدراجنا، ثم التفتّ إلى نفسي قائلاً:

(نحن دائماً ما نسير في هذا الطريق ولا نعرف أن هنا ماء) فاغتنمت غفلة أصحابي ورجعت إلى خلف التل فلم أجد عين الماء.

وهذا هو معنى المعجزة فعندما تقوى الروح وتتصل بقدرة الله يكون بإمكانها أن تقدم على فعل الخوارق، كما نتمكن من صنع ما نشاء في أذهاننا.

السؤال الآخر ما هي مرتبة ودرجة كرامة الإنسان؟ يقول القرآن: إن الإنسان من روح الله (فإذا نفخت فيه من روحي) ويقول للملائكة: (فقعوا له ساجدين) (ص/72). ويقول: (إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ ابليس أبى واستكبر وكان من الكافرين) (البقرة/34)، وهذه أيضاً كرامة أخرى للإنسان، وهناك آية أخرى في القرآن وهي آية التكريم: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البرّ والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) (الاسراء/70).

لأجل توضيح هذه الآية ومدى تكريمها للإنسان نقول: لو أنك كنت تحب شخصاً محبة كبيرة تقوم بدعوته إلى بيتك، وتهيئ له أفضل وسيلة يصل بها إليك، وتعدّ له أشهى أنواع الأطعمة، ولدى مغادرته تقوم بإيصاله إلى بيته بمنتهى التقدير والاحترام، وهذه الآية تقول نفس الشيء بحق الإنسان، وطبيعي فإن تكريم الله للإنسان من أجل أن يستكمل صفات الله ويغدو مظهراً لأسمائه، وهذه الآية تعدّ من مفاخر الإنسان.

وفي آية أخرى: (إنا عرضنا الامانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا) (الأحزاب/72)، أيها الإنسان قد خلقناك على الأرض أميناً على شيء أشفقت من حمله السماوات والأرض، وأنت لديك القابلية ولكن ـ مع الأسف ـ لا تعرف قدرك، وأنت بهذا ظالم لنفسك، إن الإنسان جوهرة ثمينة إلا أنه لا يعرف قدر نفسه، كالطفل الذي تودع عنده جوهرة فإنه في البداية يلعب بها وبعد أن يشعر بالكلل يقوم بكسرها.

قد يقال: ما هي الأمانة التي تحملها الإنسان؟ هناك أجوبة مختلفة، ربما كانت الأمانة هي قلب المؤمن، فقد ورد أن: (قلب المؤمن عرش الرحمن)، وفي رواية أخرى: (لا تسعني أرضي ولا سمائي ولكن يسعني قلب المؤمن). ولكن ـ مع الأسف ـ مهما قام الإسلام برفع درجة الإنسان يقوم عصرنا الحاضر بالحطّ من قدره، بحيث لو طالعنا المذاهب والعقائد الخرافيّة لأصبنا بالذهول، فقد وصلت بهم الصلافة درجة يجهلون معها ألف باء الإنسانيّة، وإن تمكنوا من فلق الذرة، فما الذي صنعته أفكار فرويد وماركس ونتشه ودور كهايم بالإنسان؟.

لقد وضع مهندس ألماني سعراً للإنسان يبلغ 80 ماركاً!.

ولما سئل عن السبب، قال: (إن نسبة السكر في الإنسان مقدارها كذا ونسبة الحديد مقدارها كذا ونسبة الفسفور....) فقام باستخراج النسبة الكيماوية وما يقابلها من الأسعار فصارت (قيمة الإنسان 80 ماركاً).

ولنشاهد الآن قيمة الإنسان التي قررها القرآن الكريم: (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل، أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً) (المائدة/32). فبقطع النظر عن التأويل والتفسير تقول هذه الآية: (قيمة الإنسان تعادل الدنيا وما فيها).

يقول فرويد: (إنما جاء الإنسان إلى الدنيا ليشبع غريزته الجنسية)! وأما ماركس فإنه يقول: (من كلِّ حسب طاقته، ولكل حسب حاجته). معنى هذا أن قيمة الإنسان لا تعدو قيمة الحمار إن لم يكن أقل قيمة منه! وأضيف أن الإنسان إذا قيس بهذا المقياس فإنه لا يعادل شيئاً.

بينما نجد أمير المؤمنين يقول في نهج البلاغة: (الإنسان أعظم حرمة من الكعبة) أو (الإنسان أعظم حرمة من الملك المقرب ـ جبريل ـ). والإنسان يحصل على هذه الدرجة عندما يكون مؤمناً. وكذلك يقول: (من كان همه بطنه كانت قيمته ما يخرج منها) وهذه قيمة يرفعها أمير المؤمنين(ع) على جباه أمثال ماركس وفرويد وذلك المهندس وبقيّة الماديين.

 البحث الحادي عشر

الغاية من خلق الإنسان

غالباً ما يسأل الناس: (لماذا خلقنا)؟ وأن عدم الحصول على إجابة عن هذا السؤال خاصة عند الشباب قد أدّى إلى حالات انتحار كثيرة، ويجدر بنا أن نوسّع نطاق هذا التساؤل ونقول: (لماذا خلق هذا العالم)؟ أو يقول آخر: (لماذا خلق الله الدنيا)؟ أجاب كل بما يوافق اعتقاده، فأعطت المذاهب الفلسفية والمادية والعرفانية أجوبة مختلفة، ولعلماء الاجتماع في هذا الخصوص رأي طويل معقد، لست في صدد التعرض له، واكتفي هنا بالإشارة إلى ما قاله القرآن الكريم وهو أن العالم بأجمعه بما فيه من مجرات وسماوات، بما فيها من أسرار، تبقى رهن الغموض إلى أن يظهر صاحب الأمر(عج) فيكشف الستار عنها، قال القرآن مخاطباً الإنسان.

(ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة، ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير) (لقمان/20). فلم تأت إلى الدنيا لمجرد أن تأكل وإنما خلق العالم من أجلك. والآن يبقى هذا التساؤل: لم خلق الإنسان؟ يجيب القرآن: (واصطنعتك لنفسي) (طه/41). أي خلقت لك كل الأشياء، وخلقتك لي، وهذا هو موضوع بحثنا.

فالإنسان له من الكرامة في الإسلام ما جعله غاية خلق الكائنات، وفوق كل هذا إنه خلق لأجل الله تبارك وتعالى، وهذه الكرامة ليست كبقيّة الكرامات التي سبق ذكرها وإن كانت عظيمة جداً، إلاّ أن هذه الآية الأخيرة تعطي الإنسان الدرجة القصوى من التكريم قال الصدوق(ع):

ما عبد الله بشيء أفضل من أداء المؤمن، فللمسلمين حقوق على بعضهم، فعليّ أن أقوم بواجبي تجاهكم وعليكم أن تقوموا بواجبكم تجاهي، ويقول القرآن: (من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون) (البقرة/245). فلو كنت محتاجاً وعلمت بذلك وأقرضتني فثوابك يتضاعف ثماني عشرة مرة، بينما ثواب الصدقة عشرة أضعافها، وبدل أن يقول الله سبحانه: من ذا الذي يقرض المؤمن، قال: من يقرض الله، أي أن الآية ترى القيام بواجب المؤمن قياماً بأداء حق الله، فلو أن امرأة خدمت زوجها، فقد أدت حق الله، ولو تحمل شخص المشقة من أجل إسعاد زوجه وعياله فإنه بذلك يعبد الله وله من الثواب ما للمجاهد في سبيل الله.

تقدمت امرأة أمام رسول الله(ص) وقالت: (يا رسول الله! أنا ممثلة النساء لأقول: لماذا أوجبت الجهاد على الرجال دون النساء)؟ فاستبشر الرسول(ص) وقال لها قولي لهُنَّ: (جهاد المرأة حسنُ التبعُّل)، وهكذا الحال إلى الرجل الكادح، فقد قال رسول الله(ص): (الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل الله).لماذا كل هذا الأجر؟ لأن الإسلام يعطي للإنسان قيمته الحقيقية.

دخل رجل أهوازي على الإمام جعفر الصادق(ع) وقال له: (يا ابن رسول الله! إن حالتي المادية ليست على ما يرام وأنا مطلوب ضرائب للدولة وإن عامل الأهواز من الشيعة فاكتب له بأن يعفيني من الضرائب هذا العام، فأبى الإمام أن يكتب إليه بالعفو من الضريبة وإنما كتب إليه هذه العبارة: (من سر أخاه فقد سر الله، وهذا اخوك)، فذهب بها إلى الأهواز وبعد أن تفرق الناس عن النجاشي، عامل الأهواز، أعطاه إياها فوضعها النجاشي على رأسه وعينيه، والتفت إلى الرجل وقال له:

(ما حاجتك؟ فقال: إني مطلوب بعض الضرائب ولست قادراً على دفعها ـ فأمر النجاشي بإحضار الدفاتر وقام بدفع الضرائب عن هذا الرجل من ماله الخاص، وأمر غلامه أيضاً بأن يدفع ضرائب هذا الرجل للعام القادم، ثم أعطاه مالاً كثيرا وحصاناً، ثم وضع فراشه على الحصان وأركب الرجل وقال: هل سررت؟ فقال: أجل.

ومضت سنة فذهب هذا الرجل إلى الإمام الصادق(ع) ونقل إليه القضية، فتبسم الإمام، فسأله الرجل: (يا ابن رسول الله! كأنك فرحت كثيراً) فأجابه الإمام: (من سرَّ مؤمناً فقد سرَّ الله ورسوله والأئمة الأطهار(ع)).

في إمامة موسى بن جعفر كان ابن يقطين وزيراً لهارون، وكان شيعياً، فأراد أن يترك هذا الجهاز الظالم، فلم يسمح له الإمام(ع) وقال له: (إن كفارة ذنبك تحت راية الظلم هي إعانتك الشيعة)، ومن جملة ما كان يفعله علي بن يقطين أنّه كان يرسل كل عام حوالي ألف فقير من فقراء الشيعة إلى مكة لكي يتشرف بخدمة الإمام، وفي إحدى السنوات كان الوضع السياسي مضطرباً، فقصد بيت الإمام ليلاً على حين غفلة من زوجته وغلامه وطرق الباب فلم يفتح له عاد في الليلة الثانية فلم يفتح له وعاد في الليلة الثالثة ولم يفتح له فقال في نفسه لا بد أن يكون هناك ذنب قد صدر مني، فرفع صوته:

(يا ابن رسول الله! لا أستطيع مغادرة المدينة دون أن أراك، فما الذي بدر مني)؟ فقال له الإمام (لماذا لم تسمح لإبراهيم الجمال بالدخول عليك)؟ فقال ابن يقطين: (وما الذي يجب علي فعله الآن)؟ فقال الإمام: (لا أرضى عنك حتى يرضى عنك ابراهيم) فقال ابن يقطين: (مولاي، إن ابراهيم الجمال في الكوفة ونحن بالمدينة)! فقال له الإمام: (إذهب إلى البقيع وستجد هناك ناقة فاركبها نوستطوى لك الأرض فتصل إلى الكوفة)!.

وعن هذا الطريق وصل إلى الكوفة فضرب باب دار ابراهيم، فتعجب ابراهيم حين رآه وعرض عليه أن يدخل الدار، فقال ابن يقطين: (كلا علمت أنك متأثر منّي، فارض عني حتى يرضى عني موسى بن جعفر(ع)) فقال له: (قد رضيت عنك) فلم يقتنع ابن يقطين بذلك بل نام على الأرض، وطلب من إبراهيم أن يضع قدمه على رأسه فامتنع ابراهيم، إلا أن ابن يقطين أصر عليه فدفعه إلى فعل ذلك، ففرح ابن يقطين ثم ركب الناقة وعاد إلى المدينة كما أتى وتوجه نحو الإمام فقال له الإمام قبل أن يتكلم: (قد رضيت عنك).

من هاتين الحادثتين نفهم أن المعلم ليس مكلفاً بإعطاء الكرامة، فحسب وإنما عليه أيضا أن يحذر خدش الكرامة فإن ذنبها أحياناً يفوق قتل الإنسان، إن الشخص الذي أهدرت كرامته يغدو مجرماً سفاكاً، أو على الأقل يغدو كسولاً خمولاً.

وإن الذي يمكنه تزويد الطفل بالكرامة هو من كان ذا كرامة، فالأم التي لا حظ لها من الكرامة لا يمكنها أن تزود المجتمع بشخص ذي كرامة.

من جملة إبداعات القرآن أنه تحدث في أكثر من عشر آيات عن الحجاب، أي عن كرامة المرأة، فإن لم تراع المعلمة حجابها يكون هذا دليلاً على عدم كرامتها، فعلى المعلمة أن تحافظ على الحجاب لأن الإسلام يرى المرأة جوهرة لا بد أن يحافظ عليها بإخفائها تحت العباءة، ويقول لها: إن الحجاب هو كرامتك!.

وأنتم أيها المعلمون، صانعو جيل المستقبل، فحافظوا على كرامتكم وزوّدوا طلابكم بالكرامة،ولا تغفلوا عن هذه الوظيفة المهمة بحال.