البحث الثاني عشر مراعاة كرامة الآخرين

البحث الثالث عشر تجنّب المسألة

البحث الرابع عشر التخصّص والشعور بالمسؤولية

البحث الخامس عشر المطالعة العامة

البحث السادس عشر التقوى

البحث السابع عشر العقل، العلم، التربية

 

البحث الثاني عشر

مراعاة كرامة الآخرين

نتطرق في هذا البحث إلى التأكيد على عظم إثم سحق كرامة الآخرين، وربما لا نجد في الإسلام ذنباً أعظم منه، وهذا ما نجده ماثلاً أمامنا في أحاديث أهل بيت العصمة(ع)؛ فمثلاً إن اتهام الناس يسحق كرامة الآخرين، وإن المتهم يوم القيامة يمكث فوق تلّ من القمامة والدم لمدة خمسمائة سنة حتى يفرغ من محاسبة الناس أجمعين، وعندها يلقونه في نار جهنم!.

وكذلك الغيبة، فقد ورد في الروايات (الغيبة إدام كلاب النار) وقد استفاد علماؤنا الكبار، كصدر المتألهين وتلامذته وأستاذنا قائد الثورة، والعلامة الطباطبائي وتلامذته، من هذه الرواية بحثاً بعنوان (تجسم العمل)، ولسنا في صدد الخوض فيه، إلا أن الذي يهمنا من هذه الرواية هو أن المغتاب يرد يوم المحشر على هيئة كلب جائع وتضع الملائكة أمامه الغيبة عل شكل لحم فاسد فيأكله، قال تعالى:

(ولا يغتب بعضكم بعضاً ايحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه)؟. (الحجرات: 12)

إن بثّ الدعايات معصية كبيرة جداً، ولا يختلف بث الدعايات؛ فمثلاً في عصر الثورة يقوم أعداؤها بصنع الدعايات ويضعونها على أفواه الثوريين، ومع الأسف يتبدل لسان الثوري إلى بوق إعلامي مناوئ للثورة فينشر الدعايات: قال تعالى: (قتل الخراصون الذين هم في غمرة ساهون)، (الذاريات: 11) وربما كانت هذه الآية أيضاً تشير إلى تجسيم العمل الذي تقدم ذكره. فإن أمثال هؤلاء الذين يكونون بوقاً إعلاميّاً معادياً، حتى وإن كانوا من الثوريين، فإنهم يؤذون المسلمين في الدنيا ويحشرون يوم القيامة على هيئة الدود، ويدعو القرآن عليهم بالويل والثبور.

الذنب الكبير الآخر هو التحقير وغمز الآخرين، وقد قال تعالى: (ويل لكل همزة لمزة) (الهمزة: 1) والمشهور بين العوام أنك إذا نصحت أحدهم بأن لا يغتاب، قال لك: أنا أتكلم ضده حتى بحضرته! ظناً منه انها شجاعة، وليس في ذلك ذنب؛ لأنه لو طعن به بحضوره فقد بهته وسحق بذلك كرامته، كما أنه إذا اغتابه فذلك أسوأ لأنه حينئذٍ لا يستطيع الدفاع عن نفسه، وفي هذه الحالة أيضاً يقوم بهدر كرامته.

جاء شخص إلى الرسول(ص) وقال له: (يا رسول الله! امرأة عابدة تصوم نهارها وتقوم ليلها إلا أنها سيئة اللسان وتؤذي الجيران) فقال(ص): (لا فائدة في عبادتها وإنها ستدخل جهنم إن لم تتب)! وفي رواية أخرى أن الرسول الأكرم(ص) قال: (كل امرأة أساءت مخاطبة زوجها حتى ولو بكلام بسيط كأن تقول له لم أر الراحة في داراك ستعلق من لسانها في جهنم).

ومن جهة أخرى فلو كان الرجل سيئ الأخلاق في بيته يطعن أولاده وزوجته، يبعث على هيئة العقرب، ولا ينجو من ضغطة القبر حتى وإن كان صالحاً من أهل الجنة. فقد ارتحل أحد أصحاب الرسول وقام(ص) يمشي وراء جنازته وأودعه القبر بيده المباركة وأهال التراب عليه ثم قال: (ضغطهُ القبر ضغطة تكسرت لها أضلاع صدره)! فقالوا له: (ولكنه كان صالحاً)؟ قال (ص): (أجل لكنه كان سيء الأخلاق في بيته). إن هذه الأنواع من العذاب سببها عدم رعاية كرامة الإنسان التي لا يرتضيها الإسلام.

إن مداخل الشيطان كثيرة، فتراه أبداً لا يتعرض للمرأة العفيفة، من ناحية العفة؛ لأنه يعلم أنه لا يحقق نجاحاً في ذلك، وإنما يقول لها: (اغتابي، اتهمي، أشيعي الدعايات) ولا يقول لمن له كرامة: اصعد على جدار الناس واسرق ما لديهم، وإنما يأمره بالنظر إلى النساء بريبة، ولا بد أن نعلم بأن المغتاب الذي يتهم الآخرين، ما هو إلاّ سارق للكرامة، وإثم هذا النوع من المعاصي أكبر من سرقة أموال الناس، وإن الشيطان ليسعى من خلال هذه الأعمال إلى إدخالنا جهنم.

سألت امرأة رسول الله(ص) مسألة بحضور عائشة، وبعد أن ذهبت المرأة، التفتت عائشة إلى الرسول وقالت له: (وكانت هذه المرأة قصيرة ـ وأشارت بيدها إلى قصرها ـ فتألم الرسول وقال لها: لم اغتبتها، تقيئي حالاً، فلما تقيأت رأت في قيئها لحماً فاسداً، فتعجبت وقالت للرسول: (مرت عليّ ثلاث أيام لم أذق خلالها طعم اللحم، فما هذا الذي أراه)؟ فقال لها الرسول (ص): (ألم تقرئي قوله تعالى: (ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه) (الحجرات/12).

وفي رواية أخرى: دخل شخص على رسول الله(ص) وقال: (يا رسول الله! عظني)، فقال له الرسول ثلاث مرات: (هل ستعمل بما أشير عليك؟) فأشار الرجل في كل مرة بنعم، فقال له الرسول الأكرم(ص): (احفظ لسانك).

وقال أحد كبار العلماء: (ذهبت إلى طبيب من أجل المعالجة، فأراد الطبيب أن يفحصني قبل من سبقني إليه، فلم أوافق على ارتكاب هذا النوع من الظلم فجلست حتى يأتي دوري، وفي هذه الأثناء دخلت عجوز قروية وقالت للطبيب: سيدي الطبيب قد وضعت الوصفة بالماء المغلي، ثم تناولتها إلا أني لم أتماثل للشفاء! فصاح بها الطبيب غاضباً:

ربما اعتبر زوجك الخبزة التي تتناولينها خسارة تصيب أمواله؟ فضحك الحاضرون، فقام الطبيب بكتابة وصفة أخرى لها وقال لها: أمَّاه لم أقل لك أغلي الوصفة وإنما خذيها إلى الصيدلي. ثم اغلي الدواء وتناوليه وستتماثلين إلى الشفاء.

وبعد أن ذهبت العجوز وجاء دوري لم يكن هناك في العيادة غيري وغير الطبيب، فقلت له: قد ارتكبت ذنباً عظيماً،فقد طعنت بإنسان! وقد ورد في الروايات إن الله يهزأ بمن يهزأ بالآخرين، وقد ورد في القرآن ايضاً: (ويل لكل همزة لمزة) (الهمزة: 1) والشيء الآخر أنك أضحكت الآخرين عليها ولدينا في الروايات (أن من أوقع الآخرين في المعصية فإنه علاوة على مؤاخذة العاصي يؤاخذ من اوقعه وأعانه على المعصية).

وفي القرآن الكريم ورد أن الله يستهزئ بقوم يوم القيامة وينادي فيهم: إن هؤلاء كانوا يسخرون من المسلمين. وفي الروايات أنّ الواحد منهم يعطى حبتي حنطة يؤمر بعقدهما وحينما يعجز عن ذلك تنهال عليه هراوات من نار جهنم.

ولا تتصورا أن الله يسخر منهم، بل إن استهزاءهم يتجسم لهم يوم القيامة وينزل على رؤوسهم، قال تعالى: (كلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصباً ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم، ولكن، كانوا أنفسهم يظلمون) (العنكبوت/40).

على المعلم أن يحفظ لسانه خشية أن يتفوه بما يخجل التلميذ ويسحق كرامته، ولدينا أن من لام وقبح شخصاً على ذنبه فإنه سيبتلى بنفس المعصية ونفس التقبيح، وهذا ما ثبت لي بالتجربة. فينبغي نصح المذنب وإرشاده ولكن لا يحق لأحد تقبيحه وحتى لو حكم على شخص بالإعدام فعلى القاضي أن يصدر الحكم بأدب كامل، ولو قام القاضي بالاستهزاء به، فإنه بذلك يرتكب ذنباً كبيراً إذ المراد إعدام الشخص لا إعدام الكرامة.

وقد ورد في الروايات أن هناك مجموعتين يوم القيامة تصل ألسنتهم إلى الأرض وتمتد عليها ويقوم الناس بسحقها: المجموعة الأولى: هي مجموعة المغتابين، والمجموعة الثانية: هي الأزواج والزوجات الذين لا يحفظون ألسنتهم في حياتهم من الكلام البذيء.

إذا لم تحفظ كرامة الطفل فإنها قد تتطور لتتحول إلى تكبر والعياذ بالله فعلينا الالتفات إلى هذا الأمر الخطير.

البحث الثالث عشر

تجنّب المسألة

الشرط السادس: هو أن لا تكون هناك مسألة وطمع بما في أيدي الناس في حياة الإنسان المحترم، فإن سؤال الناس مهما كان صغيراً يخدش كرامة الإنسان، سواء كان السائل رجلاً أم امرأة، أم الزوج وزوجته فيما بينهما، او الصديق من صديقه، وهذا الأمر يؤكده الإسلام ويأمر بعدم المسألة، قدر المستطاع، ويقول: إن الإنسان غير المحتاج إذا سأل كان كالفقير الذي يملك قوت سنته، ويحشر يوم القيامة مهاناً ليس على وجهه لحم، أو بعبارة أخرى إن الإسلام يقول: إن الطلب من الآخرين يخدش الكرامة ولا أرضى لشخص أن يخدش كرامته ولو بمقدرا بسيط.

ونجد في الروايات أن الرسول الأكرم(ص) قام بتربية أصحابه بحيث لو أن الراكب منهم سقط سوطه على الأرض لم يطلب من الراجل أن يناوله إياه، بل إنه ينزل من على ظهر جواده ويأخذ ما سقط من يده.

نقل المرحوم الكليني أن رجلاً في عصر الرسول لم يكن وضعه جيّداً من الناحية المعاشية فقام بعد إصرار زوجته إلى الرسول يطلب منه المساعدة، فلما وصل إلى الرسول(ص) بادره الرسول قبل أن يسأله:

(من سألنا أعطيناه ومن لم يسألنا أغناه الله)، فالتفت الرجل إلى أن الكلام متوجه إليه وأن الإنسان لا ينبغي له أن يسأل حتى ولو من الرسول! فلم يسأله ورجع على بيته، ولما نقل الكلام إلى زوجته قالت له لست المقصود بالخطاب وإنما الرسول قام فقط بإصدار حديث، فأجبرته ثانية على الذهاب إلى الرسول(ص)، فعاوده الكرة فبادره الرسول أيضاً بنفس الكلام السابق، فتيقن بأنه هو المقصود بالخطاب فلم يعد إلى البيت وإنما استعار حبلاً وفأساً من صديقه وتوجه نحو الصحراء وقام بجمع الحطب ثم حمل الحطب إلى المدينة فباعه، واشترى بثمنه طعاماً لأهله وشعر بالراحة لأنه قام بتوفير الطعام من كد يده، ولذا استمر في عمله حتى تمكن من توفير فأسٍ وحبل لنفسه ومن بعدها امتلك جملاً حتى صار غنيًاً يمتلك بيتاً وغلاماً.

وفي يوم من الأيام، عندما كان هذا الرجل راكباً على جمله ومعه الغلام، مرّ بالرسول، فسلم عليه، فقال له الرسول: (أيها الرجل، لو أني أعطيتك ذلك اليوم حنطة لبقيت إلى اليوم سائلاً مهدور الكرامة، إلاّ أني منعتك من السؤال حتى وصلت على ما أنت عليه الآن)!.

وقيل لحاتم الطائي: (هل رأيت شخصاً أكرم منك)؟ فقال: (نعم رأيت حاطباً في يوم من الآيام مقروح اليدين من شدة العمل فتأثرت لحاله، فقلت له لماذا لا تذهب إلى بيت حاتم الطائي، وستعطى أنت وأهلك ما تأكلون بالمجان)؟ فقال الحاطب: (إن من حصل على عيشه من كدِّه أمن نظرة حاتم المتفضلة).

هكذا ينبغي أن يكون المسلم، ونحن إذا دققنا في الخلافات العائلية وجدنا أن الكثير من المسائل ناشئة من هذا المطلب، فأحياناً ترى الرجل يريد من المرأة ما لا طاقة لها به فيصدربها الأمر تلو الأمر، وأحياناً ترى المرأة كذلك وتطلب منه الطلب بعد الطلب، فعلى الرجل قدر الإمكان أن لا يطلب شيئاً من زوجته وأولاده؟ فما ظنك بغيرهم؟ فإن كان عطشان فليقم ليشرب الماء بنفسه، وعليه أن يعمل بإخلاص في البيت رجاء تحصيل الأجر لقيامه بخدمة فرد مسلم، وعندها فلن يحصل خلاف.

وكان الرسول(ص) وأمير المؤمنين(ع) يعملان في البيت، وهناك رواية تقول: إن الزهراء(ع) طوال تسع سنوات، مدة بقائها في بيت أمير المؤمنين(ع) لم تطلب منه حتى وعاء الماء، وان علياً(ع) دخل على الزهراء(ع) وسألها هل الشيء الفلاني موجود عندنا؟ فأجابته: لا، أو أنها قالت: لا شيء عندنا في البيت. فقال لها: لماذا لم تخبريني حتى أشتريه؟ فأجابت:(يا أبا الحسن، أمرني ربي أن لا أطلب منك شيئاً حتى تفقده أنت فتشتريه)؟.

وفي رواية أخرى مشكوكة الصحة: أن الزهراء(ع) قبيل وفاتها طلبت رماناً من أمير المؤمنين(ع) فقام(ع) ليجلب لها ما أرادت، وفي طريق العودة شاهد فقيراً في خرابة يعالج سكرات الموت فوضع رأسه في حجره وسأله ماذا يريد، فقال الفقير: (رماناً)، فأعطاه علي(ع) الرمان الذي أتى به إلى الزهراء(ع) وتوجه نحو البيت وعندما دخل وجد سلة مليئة بالرمان أمام الزهراء(ع) وهذه أول مرة تطلب الزهراء فيها شيئاً من أمير المؤمنين، قضاه لها الله سبحانه وتعالى.

إن واجب المعلمة أن تعلّم تلميذاتها بشكل مباشر أو غير مباشر عن طريق حكاية القصص، كيفية الحياة الزوجية، وتفهمهن أن المرأة عليها أن تكون ذات شخصيّة أن لا تسأل الآخرين، وخاصة المسألة التي لا طاقة للمسؤول عن قضائها.

إن طلب المرأة من زوجها شيئاً لا يطيقه معصية كبيرة جداً، وقد ورد في الروايات: أن الزوجة لو أرادت من زوجها ما تعلم أنه خارج عن قدرته فإن الله سيخزيها يوم القيامة. وفي رواية أن جهنم ستجب عليها ما لم تتب، وكذلك لو أن امرأة أذت زوجها ولو بأن قالت له: (لم أر خيراً في بيتك) فإنها ستخرج عن رقة المسلمين ما لم تتب.

وهذه الروايات تحظى بأهمّية كبيرة لدى الخبراء وعلماء النفس، وخاصة من يعملون منهم في سلك التعليم، إذ أنهم يشاهدون فيها كيف أن الإسلام لأجل الحفاظ على كرامة الفرد أقدم على بحوث دقيقة، أدق من الشعرة.

البحث الرابع عشر

التخصص والشعور بالمسؤولية

إن إحدى خصائص المعلم الناجح أن يكون ذا اختصاص في عمله وإلاّ فإنه ليس فقط لا يجدي نفعاً، وإنما سيكون ضرراً أيضاً، وهكذا الشأن في كل علم.

إن العصر الحاضر يؤكد على الإدارة بشكل كبير وقد فتحت لذلك معاهد وجامعات، وهو أمر كبير الفائدة، يؤكده الإسلام بحيث قال: (من تقدم على قوم وفيهم أفضل منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين)، ومفهوم هذه الكلمات أن من يتقبل واجباً، عليه أن يكون متخصصاً فيه.

في الاقتصاد هناك قانون باسم (القيمة) و(القيمة الاضافية) الذي يقول به ماركس وقد أوردنا الكثير من الإشكالات عليه، ومن بينها مسألة الإدارة هذه، فإن ماركس قد أغفل المديرية في العلم، ومن وجهة نظر الاقتصاد فإن نصف الأرباح يعود الفضل فيها إلى حسن الإدارة وطريقة المدير المدبر في تشغيل العمل ومعاملته للعمال، وجذبه للمشترين، وازدياد الأرباح كما تقدم.

إن مسألة الاختصاص والإدارة مفيدة في جميع الحقول، في علم النفس، والاقتصاد، والاجتماع، وكذلك في العلوم الإسلامية من الفقه والأخلاق، فالإسم يرى أن الرجل عليه إدارة البيت. فقد ورد في القرآن الكريم: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله) (النساء/34). وهذا اختصاص معقد، فإذا لم يكن الرجل ذا اختصاص في إدارة الزوجة وكيفية تربية الأولاد، فسوف تحدث المشاكل وتنشأ العقد، بالضبط كما لو أنك أعطيت مركبات الطعام إلى امرأة غير خبيرة بشؤون الطبخ فإنها لن تحسن التقدير، وبالنتيجة لن يقبل هذا الطعام حتى الإنسان الجائع، وهذا ناشئ من عدم الاختصاص، فالمعلمة مثلاً ترى واجبها فقط أن تذهب إلى المدرسة وتعود إلى بيتها من دون أن تلتفت إلى أنها قبل كل شيء أم وبيدها وزارة دولة مصغرة (البيت) وعليها أن تحصن إدارة هذه الوزارة، وهكذا الأب يتصور أن عمله منحصر فقط في عمله وتوفير المادة من دون التفات إلى أنه قبل كل شيء على عاتقه واجب الأبوة وهو بحاجة إلى اختصاص للقيام بهذا الواجب.

إن المعلم بحاجة إلى اختصاص في عمله وإن الاختصاص بالنسبة له أهم من الاختصاص بالنسبة إلى مدير المعمل؛ إذ أن عدم اختصاص هذا الأخير يسبب خسارة المعمل إلاّ أن عدم اختصاص المعلم يزوّد المجتمع بجيل فاشل وهو بذلك يوجّه ضربة إلى المجتمع.

إن للإمام الصادق(ع) مثلاً قيّماً في هذا المورد فهو يقول: (احذروا الضغط على من أسلم على يدكم)، يحكى أن مسلماً هدى نصرانياً إلى الإسلام، فذهب إليه قبل صلاة الصبح وقال له: انهض حتى نذهب إلى المسجد) فذهبا معاً وعلمه صلاة الليل، وبعد أن صليا الصبح قال له: يستحب المكوث في المسجد بين الطلوعين، وبعد طلوع الشمس قال له: يستحب الصيام والبقاء في المسجد إلى الظهر فبقيا إلى الظهر وصليا الظهر والعصر فأراد الحديث الإسلام أن يخرج من المسجد فقال له: لم يبق شيء إلى المغرب، فبقيا النهار كله في المسجد، وفي المساء عاد من أسلم حديثاً إلى بيته تعباً جائعاً ناحلاً وبعد أن أتم إفطاره استلقى نائماً، فلم يطلع الفجر حتى عاد إليه المسلم ثانية ليأخذه إلى المسجد: فقال له: (إذهب إلى شأنك فقد رجعت عن الإسلام ليلة البارحة لأني عرفت أن الإسلام معناه البطالة والجلوس في المسجد، أما أنا فلديّ عمل ينبغي أن انجزه)! ولذا قال الإمام الصادق(ع): إن هذا قد أقدم على عمل جيد إلاّ أنه لم يكن ذا اختصاص فأحياه في البدء إلا أنه لم يمض كثير من وقت حتى أماته!!.

وأحياناً يقوم المعلم بالإثقال على التلاميذ بإعطائهم واجبات مكثفة بحيث يكون على الطفل أن ينكب على كتبه ودفاتره من حين وصوله إلى البيت إلى أن يغلبه النوم فوق كتبه، ويتصور المعلم أنه يمكنه أن يعلمه خلال ذلك.

إن رعاية الحال الوسطى ضرورية، فكما أن اللاّمبالاة شيء غير صحيح فإن الضغط أو الإلحاح غير صحيح أيضاً فهو نظير الإناء الذي تكون حرارته أعلى من حرارة الحساء الذي فيه، إن مراعاة الحالة الوسطى معقدة وهي بحاجة إلى تخصص وإدارة.

قال الشهيد الشيخ المطهري(ره): توجهت من طهران إلى زيارة مشهد بالباص وفي أثناء الطريق توقفت حافلتنا من أجل الصلاة، فسألت السائق عن المدة التي سنمكثها في مكان توقفنا فأجابني بلهجة فظة، فعلمت أنه يكره المعممين، إلا أنني رأيته بعد ذلك في محل الوضوء وقد أسبغ الوضوء وأدى الصلاة على أحسن ما تكون فتعجبت كثيراً وقلت في نفسي: لماذا يكره المعممين من هذا شأنه يا ترى، إلا أن اللغز انحل لي فيما بعد عندما تحركنا وأجلس السائق إلى جانبه اثنين من الجامعيين يتحدثان إليه حتى لا يغلبه النعاس، وفي الأثناء أخذ يلعن المعممين وقال: لو لم يكن هؤلاء المعممون لكنت الآن مهندساً أو طبيباً، ولم أكن سائقاً كما انا عليه الآن!.

لقد كان والدي يحب أحد المعممين وكنت صغيراً فقال المعمم لوالدي إن المدارس كفر وإلحاد فلا تدخل ابنك هذا فيها، فاستجاب والدي له فبقيت أميّاً وعملت في السيارات حتى صرت سائقاً لواحدة منها... وعندها قال الشيخ المطهري:

(أنظروا كيف أدّى سوء فهم الوالد للكلام الذي أدى إلى كارثة حلّت بابنه).

كان أستاذنا الكبير قائد الثورة يوصينا دائماً بأن المعمم لا بد أن تتوفر فيه ثلاثة شروط:

الأول: أن يكون عالماً، الثاني: إن يكون متخصصاً شاعراً بالمسؤولية، الثالث: أن يكون عاقلاً والآن أنا بدوري أوصي المعلمين بما أوصانا به الإمام (ره): (كونوا في عملكم علماء متخصصين، وعقلاء).

عفى المعلم أن يقرأ المادة في الليل، فنحن نرى أحياناً للمعلم اهتماماً آخر فنراه معلماً في الصباح تاجراً في المساء (طبعاً رواتب المعلمين ضئيلة وينبغي حل هذه المشكلة) وهذا ما يمنعه من تحضير الدرس الذي يعطيه إلى الطلاب في الصباح، ولو أن المعلم ذهب إلى قاعة الدرس دون تحضير فإنه سيشغل وقت الطلاب بنقل القصص والمغامرات!.

البحث الخامس عشر

المطالعات العامة

الشرط التاسع لنجاح المعلم هو أن يكون واسع المعلومات لكثرة مطالعاته، والمعلومات العامة تقسّم إلى ثلاثة أقسام: الأول: القراءة والكتابة، الثاني: طريقة المعاملة الاجتماعية، أو ما يعبر عنه بالخبرة الاجتماعية، الثالث: المعلومات الدينية العامة.

أما القسم الأول فهناك فيه نقص كبير لدى الكثير من الدول، إن الكتابة والقراءة واجب على كل مسلم وخاصة في المرحلة الراهنة، والذي ينبغي تأكيده هو أن يحظى المعلم بخط مقروء وأن لا يخطئ إملائيّاً وإلاّ فسيكون هذا الأمر عار عليه، وقد قسّم أحدهم الناس إلى ثلاث طوائف: طائفة تكتب فتقرأ ما تكتب ويقرأ الآخرون ما كتبته، وطائفة تكتب وتستطيع أن تقرأ ما كتبت وحدها دون الآخرين، وطائفة تكتب ولا تستطيع أن تقرأ ما كتبت، ولا يستطيع الآخرون قراءته أيضاً.

إن الخطّ الحسن يعد فخراً كالتكلم البليغ، ولو لم يكن الخط حسناً فعلى الأقل ينبغي أن يكون مقروءاً.

القسم الثاني من المعلومات، كما ذكرنا، المعرفة بمصطلحات العصر، والخبرة الاجتماعية، كما لا بد من توفر المعدات الضرورية في البيت، وينبغي للفرد أن يكون حسن المعاشرة، فأحياناً نشاهد شخصاً ذا اختصاص في فرع من الفروع إلا أنه متخلف في المعلومات العامة، فينبغي علاوة على معرفتنا بما هو مشهور بين عموم الناس كمعرفتنا بـ (مخترع الكهرباء، أو أول كاتب للفقه الشيعي) أن نكون على علم بتقاليد المجتمع، وقد تكلمت عن ذلك سابقاً في معرض ذكري لمّا يسميه علماء النفس بـ (الصغيرات الكبيرة) وهي تسمية جيدة لما نحن فيه، فغالباً ما نجهل طريقة الجلوس الصحيحة، أو الأكل، أو التكلم مع الآخرين، أو معاملة الكبار، وهذا ما يؤدي غالباً إلى خدش كرامتنا.

ووصيتي إلى النساء أن يكنّ ـ ضمن عطفهن ـ ذوات أدب في التكلم، وهذا يعطي للإنسان كرامة كبيرة.

يوجد في كتاب مفتاح العلوم للسكاكي أربعة عشر علماً كلها تتحدث عن الأدب، أي أدب اللسان وعدم الغلط في الكلام وكونه حسناً، لطيفاً وكونه خالياً من اللغو وأمثال ذلك، فلا ينبغي للأب أن يحدث الضجة في البيت بصراخه وهكذا الأم، وبالخصوص المعلمة في قاعة درسها، وبالإمكان هنا أن أستعرض لكم عشرات الأمثلة في كيف أن الكلام الجارح يؤدي إلى انحراف الشخص وجعله مجرماً، وأنا شخصياً من خلال مواجهتي لبعض المنحرفين وجدت أنّ انحرافهم كان بسبب كلمة جارحة من الأب أو الأم أو المعلم.

إن الصراخ والصياح لا يؤدي إلاّ إلى ضعف الأعصاب، ووصيتي هي أن لا يجري على ألسنتكم كلمة استهزائية أو نابية، كما يقول الشاعر:

ولا يلتام ما جرح اللسان

جراحات اللسان لها التئامُ

وأرجو أن لا يؤدي العلم إلى الغرور؛ لأن هذا العلم نفسه قد يؤدي به إلى الضلال والانتحار، وأساساً فإن الغرور ينزل بصاحبه إلى الحضيض، ولا فرق في ذلك بين الجميع، فالإسلام يقول: لو أن جيش الإسلام أصيب بالغرور لمني بالهزيمة مهما كانت عدته وعدده.

ونذكر هنا حادثة توضح لنا كيف أن الغرور يزلق صاحبه فيما لا يحمد عقباه، فقد كان ابن المقفع أديباً كبيراً، وكان ذا خطوة في البلاط العباسي، إلاّ أنه كان مغروراً، ولذلك كان سليط اللسان، فلم يكن يحفل بحاكم البصرة وقام في مجلسه بإهانته، فأخذ حاكم البصرة يتحيّن الفرص للوقيعة به فلما تمرد عمّ المنصور الدوانيقي وفشل في تمرده نوى المنصور معاقبته إلا أن أقرباء المنصور طلبوا منه الصفح عنه، فرضي المنصور وأمر بكتابة أمان حتى يوقّع عليه، فذهبوا إلى ابن المقفع ولأجل غرور المذكور كتب كتاب الأمان بخط رديء وذكر فيه: (عهد المنصور على نفسه أن يصفح عن عمه وإلا فسيعزل من منصبه وتصادر أمواله)! فحملوا الأمان إلى المنصور، فغضب وأمر حاكم البصرة أن يهين ابن المقفع وينزله عن مركب الغرور، فأوقد حاكم البصرة تنورا وأحضر ابن المقفع فأراد أن يسترسل على سجيته إلاّ أنه رأى الوضع وخيماً فلجأ إلى التضرع فلم ينفع، فقام حاكم البصرة بتقطيع أطرافه ورميها في التنور! ثم رموه بعدها، فأحرقه غروره!!.

وقد نبهت المعلمين مراراً إلى أن يعاملوا تلاميذهم معاملة حسنة، ليقل المعلم لتلاميذه: (يا أعزائي) و(يا أحبائي) فإن التلميذ حتى لو كان متخلفاً فإنه ستتفتح قابلياته بسبب هذا الكلام.

تدربوا وصمموا حتى يوفقكم الله وتقوموا بختم السعادة على ملفات التلاميذ.

وأما القسم الثالث من المعلومات العامة فهو المعلومات الدينية فلا بد للمعلم أن يتمكن من إثبات الله عن طريق البرهان وكذلك إعجاز القرآن بطرق متعددة تناسب القارئ والأمي ليتمكن كل منهما من فهمهما بحسب ما لديه من مدركات، وكذلك ينبغي للمعلم أن يكون على علم بالمسائل الشرعيّة التي يكثر الابتلاء بها كشكوك الصلاة وهذا هو المراد من (طلب العلم فريضة على كل مسلم) وينبغي أن تكون رسالة المقلَّد كالعجينة بيد المعلم وأن يعلم أصول الدين ببراهينها وأن الأصل الخامس هو المعاد والاعتقاد بالآخرة والحشرة بأجسادنا هذه فيدخل الصالحون الجنة والطالحون النار، والإجابة عنها بمستوى ذهنيّة السائل.

كما أنه ينبغي للمعلمين أن يتمكنوا من قراءة القرآن، فمن وجهة نظر الإسلام مهما كان المعلم عبقريّاً إلا أنه إذا لم يعرف قراءة القرآن وتلاوته فهو ليس معلماً ناجحاً، وعلى المعلم أن لا يغفل ما أوصانا به القرآن من (فاقرءوا ما تيسّر من القرآن) (المزمل/20)، فكما أن عدم تمكن الشخص من القراءة والكتابة يعد عاراً عليه، فكذلك عار على المعلم أن لا يستطيع قراءة القرآن.

مرَّ رسول الله(ص) بعجوز بيدها مغزل، فسألها عن دليل وجود الله، فأجابته: (إن مغزلي هذا لا يتحرك حتى أديره وإن الأثر ليدل على المؤثر والبعرة لتدل على البعير أَفسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج لا تدلاّن على اللطيف الخبير)؟ فقال الرسول: (عليكم بدين العجائز)، أي أستخدموا في كلامكم البراهين.

ولا أقول للمعلمين أن يتخصصوا في علم الكلام، وإنما أن يكونوا على اطلاع بأمور الدين، وإن حصلت لكم شبهة فعليكم أن لا تقوموا بالاجتهاد فيها بأنفسكم، لئلا تقعوا في الشبهات، وإنما عليكم أن تراجعوا المتخصصين في هذا الفن.

البحث السادس عشر

التقوى

من الشروط الأولى للمسلم كونه ذا تقوى، وإلاّ فقد خرج عن الإسلام بحكم القرآن، فقد ورد في أول القرآن قوله تعالى: (هدىً للمتقين) وبعد ذلك بعض صفات المتقين قال: (إن الذين كفروا سواءً عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون، ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم) (البقرة/6ـ7)، فلم يقل إن الذين فسقوا، وإنما قال إن الذن كفروا، ثم يقرع جرس الخطر ويقول: لو لم تكن تقياً فلن يكون بإمكان القرآن هدايتك، ولا ينفع معك الوعظ، ولا تستطيع الرضوخ إلى الحق؛ لذا فإن الإسلام يريد من الجميع أن يكونوا متقين، متمسكين بدينهم، خاصة المسؤولين في المجتمع، إذ أن المسؤول إذا لم يكن تقيّاً فإنه سيجر المجتمع إلى مصير وبيلٍ، كما هو الحال في عصرنا الحاضر.

استفدنا من الأبحاث السابقة أن المعلم أمين، مستأمن على الأطفال والشباب، ولو أن الأمين (المعلم) خان الأمانة فإن سيقوم بتضييعها وإضلالها، فما أكثر المصائب التي جرّها المعلم الفاسق على المجتمع!!.

إن الثقافة الاستعمارية اليهودية التي أدخلت في عالم الإسلام ولقيت مع الأسف ـ رواجاً كبيراً في البلدان الإسلامية تقوم على ركنين:

الركن الأول: عرض مجموعة النظريات التي لا تجدي نفعاً لذا فإنكم تشاهدون الكثير من الجامعات في الدول المستعمرة ولكن لا أثر للمتعلمين، وهذه هي السياسة المقصودة لكي تبقى هذه الدول تابعة، وإلا فإنه مصالح الاستعمار ستتعرض إلى الخطر، ولذا تراها تقف وقفة عداء أمام الثورة الإسلامية الإيرانية.

والركن الثاني: عدم التقوى، وهي الثقافة التي يكون المعلم فيها خائناً،والتي يكون معناها عدم التربية وعدم التعليم، وأما الإسلام فيقول: لو أردتم الثقافة الصحيحة، فعليكم أن تتعلموا حتى تحصلوا على الاختصاص، وعليكم أن تتعهدوا التربية حتى تحصلوا على التقوى.

واغوثاه! على قاعة الدرس التي يحضرها المعلم وهو لا يعترف بالله، وإن المفاسد التي تشاهد في بعض المدارس لناشئة من هذا الأمر.

قال القرآن الكريم حول التربية والتعليم في بداية سورة الجمعة: (هو الذي بعث في الأمييّين رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)، فقد بعث الرسول(ص) من أجل التربية والتعليم، وتقول هذه الآية أن المجتمع كما هو بحاجة إلى اختصاص كذلك هو بحاجة إلى تربية، وأن التربية أهم من التعليم، فقد قال بعد ذلك: (مثل الذين حمّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً، بئس مثل القوم الذين كذّبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظالمين) (الجمعة/5). وإن القرآن الذي اعتدنا على نغماته الهادئة نراه هنا (لأجل الإنذار بالخطر) يستخدم ألفاظاً غريبة لأن القضية على جانب عظيم من الأهمية.

فهذه السورة تقول للمعلم: إذا لم تكن تقيّاً فلستَ إنساناً!.

وفي مكان آخر شبَّه القرآن الفاسق من العلماء بالكلب: (ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون) (الاعراف/176). كبلعم بن باعورا، فإنه كان عالماً إلاّ أنه لم يكن تقياً.

فعلى المعلم ـ علاوة على كونه مصلياً ورعاً خائفاً من الله ـ عليه أن يؤدي ويراعي حق الناس وأن يربّيّ تلاميذه على التقوى، ويجدر هنا أن أؤكد ثانية على أمانة المعلم حيث تعد خيانتها معصية كبيرة وهي من العظم بحيث أن الرسول(ص) أشار إليها في وصيته، فقد قال أمير المؤمنين: (إن الرسول عند ارتحاله كان رأسه في حجري وأكد على ثلاث مسائل الأولى: أن تحافظوا على أمتي (كأمانة) ونقل عنه أيضاً أنه قال: ولو في الخيط والمخيط) أي كونوا أمناء على أموالهم حتى ولو كان خيطاً أو إبرة الثانية: (الصلاة في أول أوقاتها)، الثالثة: (في ما ملكت أيمانكم) ويشمل المرأة والعبيد والإماء والأطفال. فأنتم ترون الوصيّة الأولى والثالثة ترتبطان مباشرة بعمل المعلم ووظيفته، إن الاستخفاف بهذه الأمور والتقصير فيها، خيانة للأمانة، وعلى المعلم أن يؤدي صلاته بشكل جيّد، وأن يعلم تلاميذه الصلاة من خلال عمله.

البحث السابع عشر

ما بإمكانه ضبط غرائز الإنسان: العقل، العلم، التربية

هناك خلاف بين العلماء حول ما يمكنه ضبط غرائز الإنسان وشهواته، فلو أن الإنسان انقاد لشهواته فإن الشقاء سيكون حليفه، ورد في القرآن قوله: (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) (القيامة/5)، أي أن الإنسان يريد أن لا تكون هناك قيود أمام شهواته، وعندها تحدث الكوراث؛ فإذن لا بد من ضبطها، والذي يضبط هذه الشهوات على رأي بعضٍ كالفلاسفة، هو العقل، وانصافاً فإن الأَمْرَ لكذلك، وما أحسن ما قاله الخواجة عبد الله الأنصاري:

(ما الذي لم تعطه لمن أعطيته عقلاً؟ وما أعطيت لمن سلبته عقله)؟ فإن الأحمق لو ملك الدنيا فإنه لا يملك شيئاً، ومن جهة أخرى فالعاقل حتى لو لم يمتلك شيئاً فإنه يملك الدنيا وما فيها، وقد امتدح القرآن العقل ومن له القدرة على من يميّز الصالح من الطالح بقوله: (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب) (الزمر/18)، وتقرأ في الروايات أن الله أول ما خلق، خلق العقل فقال له: أقبل فأقبل، ثم قال له أرجع فرجع، أي أنه كان تابعاً مطلقاً، فقال الله: (بعزّتي وجلالي إن كل من ملكته إياك فإن السعادة ستكون من نصيبه، ومن لم أملكه إيّاك فإنه لا يمتلك شيئاً، وإني بك أعاقب وبك أثيب).

إن الحمق داء عضال؛ لذا فإن الغزالي قال في وصيته لابنه: (بني! لا تصحب الأحمق فإنك لا تستطيع هدياته)، وقد روي عن عيسى أنه قال: (استطعت أن أحييَ الموتى ولم أتمكن من علاج الحمق) والاحمق لو عبد ليله ونهاره فلا، فائدة من عبادته، وقد ذهب شخص إلى أحمق يتعبد، فقال له: إن وضعك جيد وأنت منعزل عن الناس ويأتيك رزقك من السماء، فهل لك حاجة أخرى؟ فقال: نعم أتمنى لو كانت لله بغلة تأتي وتأكل هذا الحشيش! فالعقل شيء ثمين فلو رمتم أن يغدو عقلكم كاملاً فعليكم أن تستجيبوا لنداء العقل، وإلاّ فإن الحمق سيسري إليكم، يقول القرآن: (إن شرَّ الدواب عند الله الصمّ البكم الذين لا يعقلون) (الأنفال/22). فلا بد من العمل لتقوية العقل.

فالعقل قوة ضابطة، إلاّ أن هذه القوة ليس باستطاعتها دوماً ضبط الإنسان، فإن العقل ضابط في الحالة العادية، أما لو صارت الغرائز جامحة فليس بإمكان العقل أن يفعل شيئاً، فمثلاً حالة العشق، فإنها نزوة إنسانية جامحة ولا يمكن للعقل أن يقف أمامها.

يقال أن القرد من بين الحيوانات يحب أطفاله كثيراً، فقام المختصون بوضع قردة مع صغيرها في غرفة يمكن تسخين أرضيتها وقاموا برفع درجة حرارتها بالتدريج، في البداية أخذت القردة تحاول إنقاذ صغيرها، ولكن بعد أن بلغت الحرارة درجتها القصوى ولم يعد بالإمكان وضع القدم على الأرض، قامت القردة بوضع صغيرها تحت رجلها! فضحّت بابنها من أجل حياتها!!.

وقد حدث كثيراً أن قام الإنسان بأكل ابنه من شدة الجوع!.

هناك نظرية خاطئة لفرويد قام بردِّها أحد تلاميذه قائلاً: (أيها السيد فرويد، لا قدر الله أن يجوع شاب فيفضل أن يأكل عشيقته الجميلة بدل أن يطفي بها غريزته الجنسية)! وما أروع ما قاله! فقد تصور فرويد أن بعض غرائز الإنسان  تتفرع من الغريزة الجنسيّة.

القوة الأخرى التي تضبط الغريزة والتي يصر عليها أفلاطون في كتابه (المدينة الفاضلة) هي قوة العلم، يقول (لو ارتفع المستوى العلمي للفرد أو المجتمع فإن بإمكانه ضبط الغرائز وفرز المصالح عن المفاسد. وهو كلام جيّد، فالقرآن يقول: إن بعث الرسل وإنزال القرآن من أجل رفع المستوى العلمي لدى البشر:

(ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة) (الجمعة: 2) ويروى أن الرسول(ص) دخل مسجداً وشاهد فيه مجموعة تتعبد، وأخرى تتعلم، فجلس معها وقال ثلاثاً: (بعث للتعليم).

وقال القرآن في تكريم العالم: (يا ايها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا يفسح الله لكم، وإذا قيل لكم انشزوا فانشزوا، يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات، والله بما تعملون خبير) (المجادلة/11)، فالعالم يختلف اختلافاً كبيراً عن الجاهل، إلاّ أن نفس ما قلناه بالنسبة إلى العقل نقوله في العلم، فإن العلم يمكنه كبح جماح الغرائز في صورتها العاديّة وقبل أن تخرج إلى حالة التهور والانفجار، وأما في حالة خروجها عن سيطرة العلم فإن الإنسان يغدو مستعداً لتحطيم ثلثي الكرة الأرضية بعلمه حتى يتسلط على الثلث الباقي! ودليلنا على ذلك هو وضع الدنيا حالياً، فقد فلقوا الذرة حتى يستفيدوا منها سلميّاً إلا أنهم استخدموها في المجال العسكري وحولوا (هيروشيما) و(ناكازاكي) إلا حطام، وقتلوا مائة وخمسين ألف شخص بريء، هذا هو وضع العالم حالياً، حديقة للحيوانات بجميع ما للكلمة من معنى! وإذا استمر الوضع على ما هو عليه، فإن العلم سيفني نفسه بنفسه.

إن بعض المتأثرين بالحضارة الغربية عندما يذهبون إلى أمريكا والسويد وفرنسا و... يرون انعدام آثار السرقة ظاهراً، ويرون العطف والرأفة (طبعاً في الاماكن التي شاهدوها) فيتصورون أن الإنسانية ماكثة هناك، إلا أنه عندما يدقق في وضعهم يرى الغربيين شراذم متوحشة أخطر من المكروبات السرطانية؛ ففيهم من سفك الدماء، والسرقة، وعدم العفة بشكل صارخ، وكلما اشتد التحضر اشتدت معه الجرائم الآنفة الذكر بشكل طردي، مع وجود العلم بين ظهرانيهم، فلم يتمكن العلم من كبح جماحهم.

قال صديق لي: (في عهد الطاغوت قام طبيب في أحد المؤتمرات بإلقاء كلمة حول أضرار المسكرات ومفاسدها من الناحية الطبيّة على الفرد والمجتمع وبعد أن أتم محاضرته انفجر الجمهور له مصفقاً، وبعد أن نزل أحاطوا به من كل جانب وأمطروه بالقبل، فحاولت بدوري الاقتراب منه والتعبير له عن استفادتي من محاضرته القيمة إلاّ أن الزحام منعني عن ذلك. وفي صباح الغد الباكر صادفته في الطريق ففرحت بأن أتيحت لي الفرصة لكي أشكره، فبادرته مسلماً فلم يردَّ سلامي، فكررت السلام ثانية وثالثة فلم يجب، أمعنت النظر فوجدت الخمرة قد أخذت منه مأخذها! فقلت له: وما معنى محاضرتك ليوم أمس حول الخمر ومضاره الطبية؟ فقال نعم: فقد تعبت أمس فتناولت قدحاً أكثر من المعتاد، وعلى أثر التعب كتبت محاضرة حول أضرار المسكرات. فهذه القضية تقول لإفلاطون: إن العلم شيءٌ جيد إذا اقترن بشيء آخر.

فانظروا ماذا صنع العلم الموجود بيد أمريكا والاتحاد السوفييتي؟ ولو قامت هاتان القوتان بالكف عن صنع الأسلحة سنة واحدة، لما بقي فقير على وجه الأرض. ورد في الروايات عن عصر الظهور أن المزكي لا يمكنه إعطاء الزكاة لأنه يبحت عن الفقير فلا يجده.

فما هذا الوضع الذي يسود العالم؟ ولماذا مع وجود العلم لا وجود للإنسانية؟ لأن العلم من دون إيمان وتقوى وأخلاق يمكنه تزويد الإنسان بالإنسانيّة، وربما كان مراد أفلاطون من العلم هو العلم المقرون بالأخلاق، وهو الذي يعبّر عنه القرآن بقوله (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) (الجمعة/2).

القوة الثالثة التي تضبط الغرائز هي التربية؛ فإن التربية شيءٌ له ميزته، وربما لا يكون هناك شيء أهم من التربية، لكن الإشكال نفسه الذي يوجه إلى العقل والعلم يرد أيضاً إلى التربية، ولأجل أن يتضح لكم عدم كفاية التربية وحدها نأتي بمثال: ناقش ملك وزيره حول غلبة الطبيعة والتطبع، وكان الوزير يرى غلبه الطبيعة. أما الملك فكان يرى الغلبة للتطبع، فلم يتوصلا إلى نتيجة، وأصر كل منهما على رأيه، فأعد الملك سماطاً مليئاً بأنواع الأطعمة وأحضر ستة كراسي وأجلس على كل كرسي قطة تمسك شمعة بيدها وهي هادئة لا تأتي بأيّة حركة، وأرسل خلف الوزير، ولما علم قصد الملك أحضر معه عدداً من الفئران وخبأها في كيس، فلما دخل وشاهد هدوء القطط قال الملك فرحاً:

(انظر ماذا صنعت التربية، وكيف تغلبت على الطبيعة)؟ عندها بادر الوزير لإخراج الفئران ورماها أمام القطط، فرمت الشموع وأخذت تطارد الفئران. فقال الوزير: (نعم إن التربية شيء جيّد ما لم يشتد جماح الطبيعة، ويخرج عن طوره.