البحث الثامن عشر الوجدان الخُلقي 1

البحث التاسع عشر الوجدان الخُلقي 2

البحث العشرون الوجدان الخُلقي 3

البحث الحادي والعشرون القانون

البحث الثاني والعشرون الامر بالمعروف والنهي عن المنكر 1

البحث الثالث والعشرون الامر بالمعروف والنهي عن المنكر 2

 

البحث الثامن عشر

الوجدان الخُلقي ـ 1

ذكرنا في البحث السابق ثلاث طرق لضبط الإنسان، وقلنا إنها جميعاً جيدة ولكن ليس بمستطاعها ـ مائة بالمائة ـ ضبط شهوات الإنسان، وفي هذه الجلسة نذكر طريقاً رابعاً لضبط غرائز الإنسان وهو الوجدان الخُلقي: والوجدان الخلقي من الأمور التي بإمكانها تزويد الفرد بالتقوى وتضبطه من خلال ذلك وقد اهتم الإسلام بالوجدان الخلقي كثيراً، وأقسم به في سورة الشمس المباركة وسورة القيامة: (لا أقسم بيوم القيامة، ولا أقسم بالنفس اللوّامة) (القيامة/1ـ2). ولهذا القسم سببان؛ الأول التأكيد على هذا الأمر، والثاني: إبراز اهتمامه من خلال هذا القسم.

إن العمل الذي يفعله الوجدان الخلقي كثير الأهميّة بالنسبة إلى الإنسان؛ فالوجدان الخلقي يشجع الإنسان ويرغبه بفعل الخير وقوله سواءٌ قبل العمل أم في أثنائه، وبعد أن ينجز فعل الخير بشكل صحيح تقوم هذه القوة بالفخر بفاعل الخير، وكأنها تحدث في داخله حالة من الفرح والبشر ويناديه باطنه:

(بارك الله فيك). وهذه القوّة يعبر عنها بالوجدان الخُلقي، ومن جهة أخرى فإن هذه القوة تقوم بتقبيح الاعمال الخاطئة سواء قبل الإقدام عليها أم في حين فعلها، وتسعى إلى ردعه عن هذا الفعل، فإذا لم تتمكن من صدّه وارتكب الإنسان هذا الفعل الخاطئ فإنها ستقوم بتأنيبه، ولذا سمى القرآن هذه القوة بالنفس اللوَّامة. لذا فإن الوجدان الخلقي كثير الأهمية.

والشيء الذي أردت التنبيه عليه هو أن القرآن الكريم قرن هذه النفس بيوم القيامة في القسم إذ أنه لا يوجد في القيامة وساطات أو حالات من الرشوة، وهكذا الشأن بالنسبة إلى الوجدان الخلقي فلو أنك ـ لا قدر الله ـ ارتكبت معصية تعاقبت عليك سياط هذا الوجدان ولن توفّق إلى صدّها مهما بذلت من جهد لإقناعها.

لو كان الوجدان حيّاً فإنه مساعد كفوءٌ ومقتدرٌ بالنسبة إلى الجميع، وعلى أثره تزول أكثر المفاسد، إن هذا الوجدان سيصدّ الإنسان عن ارتكاب المعاصي. قال رجل للإمام الصادق(ع): (يا ابن رسول الله! اعتدت على فعل المعاصي فماذا أفعل)؟ فأيقن الإمام أن لا فائدة من تخليصه بواسطة تخويفه من النار وترغيبه بالجنة، فدخل له من ناحية الوجدان، وقال له:

(ارتكب الذنب ولكن في مكان لا يراك الله فيه، وأن لا تخالف من أنعم عليك وسوّاك). فقال له الرجل: (إن هذا غير ممكن لأن الله في كل مكان). فقال له الإمام: (إذن إذا حاولت فعل المعصية فلا تمدّ يدك إلى نعمة خلقها الله)، فقال الرجل: (هذا أيضاً لا يمكن لأن كل شيءٍ آكله هو من عند الله)، فقال الإمام: (إذن أخرج عن الأماكن الخاضعة لسيطرة الله)، فقال: (لا أستطيع)، فقال له: (إذا جاء عزرائيل لقبض روحك فلا تمكنه من نفسك، وإذا أرادوا إرسالك إلى جهنم فلا تذهب معهم)! فأجاب الرجل بعدم قدرته على ذلك فقال له الإمام(ع):

(إذا كان الأمر كذلك فلماذا تعصي الله)؟ إن هذه الجملة من وجهة نظر علماء النفس والأخلاق ذات أهمية كبيرة. فلو أن الإنسان انتبه إلى أنه في ساحة الله وتحت بصره فإنه لن يقدم على المعصية، وهذا ما أكده قائد الثورة الإسلامية مراراً في الجلسات الخاصة والمناسبات العامة.

إن المعلم الذي يتمتع بالوجدان الخلقي يرى تلاميذه وكأنهم أولاده الذين خرجوا من صلبه، حتى إذا لم يكون مؤمناً بالثورة، وإذا كان ثورياً فذلك أفضل إذ أنه سيعطف على ابناء الشهداء، وإذا لم يتمتع المعلم بهذا الوجدان فإنه سيضع كل هذه القيم تحت قدمه!.

إن المشاكل التي تحدث أحياناً داخل العائلة هي بسبب عدم الوجدان الخلقي، فالزوجة التي تتحمل المشاق في البيت وفي تربية الأطفال ينبغي أن تُشكر على ذلك لا أن يقوم الزوج بإهانتها وسبّها.

قال أحد المراجع: (إن ابنة فتح علي شاه لأجل أن لا تدخل في حكم أبيها تركت بلادها وسكنت في كربلاء، وكانت متمكنة ماديّاً وهي تتمتع أيضاً بشبابها وجمالها، فكتبت لي: سيدي، ليس لديّ وليّ، وأريد منك أن تقبلني زوجة لك! فبعثتُ إليها من يخبرها بأني لست كفوءاً لها كما أنها ليست كفؤاً لي؛ فأنا هرم وهي شابة، وأنا فقير وهي ثريّة فبعثت لي ثانية وقالت:

(لا حاجة لي بمالك وعلاوة على ذلك فإني على استعداد لأن أدير بيتك ولكن لا أريد أن تكون لي ضرّة، فقلت لها ـ وهنا بيت القصيد ـ إن زوجتي كابدت العناءَ أربعين أو خمسين سنة وتحملت معي الفقر وتحملت إساءتي لها أيضاً فكيف أطلقها من أجل أن أتزوجك)؟.

إن عدم رعاية الحجاب الإسلامي حيث تشاهد النساء في المعابر متبرجات كانت في البداية باسم الحضارة، فقمن بخنق وجدانهن باسم التحضر؛ لذا يرى الإسلام أن المرأة النموذجية هي المرأة العفيفة.

أصيب رجل في عهد معاوية بالإفلاس، ومع أن كان شديد التعلق بزوجته وهي أيضاً كذلك، إلاّ أن والديها أخذوا يثيران المشاكل، إلى أن وصلت القضية إلى المحاكم، وكان العامل في تلك المدينة (الكوفة) مروان بن الحكم، فلما رأى مروان جمال المرأة حكم لصالح أبويها وطلّق المرأة من زوجها ظلماً وعدواناً، ثم أودع الرجل السجن، فلما أطلق سراحة فيما بعد ذهب إلى الشام ورفع أمره إلى معاوية، فغضب معاوية وأمر بإحضار مروان والمرأة وأبويها، فلما دخلوا عليه ووقع بصره على جمال المرأة، أنفرد بها وقال لها:

(هل تريدين زوجك السابق مع فقره، أم عامل الكوفة، أما أنا وما أملك)؟ فأجابته بحزم: (لا أبيع شعرة من رأسه زوجي بجميع ما تملكه أنت ولا عاملك! وإني قد رضيت بغنى زوجي، وسأرضى بفقره)، هذه القضية تعلمنا أن هذه المرأة صالحة؛ لأنها تتمتع بوجدان خلقي، إن المرأة الصالحة هي المتواضعة لزوجها.

فإذن الوجدان الخلقي له القدرة على ضبط الإنسان، وسنوضح ذلك بشكل أوسع في البحوث الآتية إن شاء الله تعالى.

البحث التاسع عشر

الوجدان الخلقي ـ 2

إن الشيء الذي يجدر التذكير به هو المحافظة على يقظة الوجدان الخلقي، وذلك عن طريق الإصغاء لندائه حينما يرغّبنا بفعل الخير، ونمتثلل لنهيه إذا زجرنا عن فعل القبيح، وعندها يصير الإنسان عطوفاً، أما إذا لم تستجيبوا لنداء الوجدان فإنكم ستصيرون كالشجرة التي لا تسقى بالماء، فإن الذبول سيكون من نصيبها وتموت بالتدريج، وقد عبّر القرآن الكريم عن هذه الحالة بقساوة القلب فقال: (فويل للقاسية قلوبهم) (الزمر/22)، (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يشقّق فيخرج منه الماء، وإن منها لما يهبط من خشية الله) هذا شأن الحجارة، أما قلبُ الإنسان فإنه إذا قسى فسيكون أسوأ من الحجارة ولا يرجى منه خير، ولا تجد صاحبه يخشى الله.

حقاً ما أقسى الأمريكان والاتحاد السوفييتي والمانيا وبقيّة الدول العظمى! فقد وصل بهم الأمر إلى نهب ثروات الشعوب المستضعفة وجعلهم في مستوى متدنٍ من الثقافة والفقر المدقع حيث يموت على أثره آلاف الاطفال، في حين أنهم يعيشون على مناجم الذهب أو النفط وهذا منتهى القساوة.

(ثم قست قلوبكم من بعد ذلك، فهي كالحجارة أو أشدّ قسوة) (البقرة/74). هذه الآية تتكلم عن اليهود وما هذه المصائب الحاليّة إلاّ من اليهود، وهذه الآية جرس خطر لهم فإنها تقول: إن الإنسان إذا قسى قلبه تجرد من العاطفة والوجدان الخلقي سواء في ذلك الرجل والمرأة، ولو أنه كان معلماً فإنه يدخل إلى قاعة الدرس، بهذه النفسيّة، إنساناً متسلطاً يريد فرض إرادته على الآخرين.

على المعلم أن يكون أباً عطوفاً، وعلى المعلمة أن تكون أُمّاً عطوفة، فإن الإنسان إذا قسى قلبه فإنه يتمنّى فناء العالم بأسره من أجل أن يبقى هو حيّاً، فيرى نفسه ولا يرى الآخرين، من قبيل: (إذا مت ظمآناً فلا نزل القطر).

ورد في الروايات أن الظالمين يجمعون في مكان واحد كريغان وشخص آخر ظلم أهله، وصدام، ومعلم أهان تلميذه، فما هو السبب؟ إن الذين ينظرون إلى الأحاديث من زاوية الأخلاق أجابوا: إن كلّ ظالم يظلم بالمقدار الذي يتأتى له أن يظلم، فلو أن المعلمة القاسية كانت لها قدرة (تاتشر) لفعلت نفس ما تفعله تاتشر، ولكن بما أن سلطتها محدودة فهي ترتكب الظلم في نطاق أضيق، ولو يتيسر للمعلم أن يظلم في قاعة الدرس أو البيت فإنه سيقوم بظلم القطة أو الكلب بأن يرميهما بالحجارة إذا صادفهما!.

إن الله عندما يخلق الإنسان يخلق معه العطف والوجدان، وقد اهتمّ القرآن كثيراً بهذا الوجدان حتى أقسم به، إلاّ أن الإنسان يقتل وجدانه الخلقي وأنا أطلب منكم أن تغذّوا وجدانكم الخلقي ولا تتركوه يذبل.

وأحياناً يكون وجدان الإنسان قويّاً بالنسبة إلى الكذب أو النظر بشهوة أو السرقة، وأما بالنسبة إلى الغيبة والتهمة، فإن وجداننا الخلقي معدوم أو ضعيف جداً، وقد ورد عن النبي(ص) أنه قال: يأتي على أمتي زمان لا يتألمون من الغيبة بل يلتذّون بها، وهذا سببه موت النفس اللوّامة وإحلال النفس الأمّارة محلّها أو مع ما يعبّر عنه علماء الأخلاق بالنفس المحسِّنة. فاسعوا إلى إحياء النفس اللوامة، وإنما تموت النفس اللوّامة بسبب عدم الاستماع إلى ندائها.

إن أول شيءٍ ينبغي أن يتمتع به المعلم هو الوجدان الخلقي، والشيء الآخر الذي ينبغي التذكير به ولا بد من الاهتمام به هو أن تعلموا أن إحياء الوجدان لدى الإنسان ذو أهمية كبيرة؛ فإنه يوقظ الشعور الحيّ لدى الإنسان، كما أنه مفيد جداً للآخرة، وعلاوة على ذلك فإنه مفيد أيضاً لمن لهم طريقة ومنهجية في السير والسلوك، ومن جملة وصايا علماء الأخلاق لتلاميذهم أن يكسبوا ودَّ عددٍ من الأشخاص خاصة الأبرياء كالأطفال.

هناك قصة تنقل عن العلامة المجلسي وهو من كبار الفضلاء، ولا أنسى تلك الجلسة التي حضرها قائد الثورة الإمام الخميني، فقال شخص: (كان المجلسي من وعاظ السلاطين، فساء هذا الكلام الإمام)، فقال لهذا المتكلم:.

(لا تقل ذلك، بل قل إن الشاه عباس كان خادم العلامة المجلسي)، فإن المجلسي والبهائي وكاشف الغطاء هم الذين حافظوا على التشيّع في إيران من خلال حضورهم في هذا الجهاز الحاكم، حيث كانت قم وسبزوار وقرية بين آراك وهمدان من الشيعة فقط، كما أن ابن الشيخ عباس القمي يقول: (تفوهت في يوم بشيءٍ على العلامة المجلسي، فرأيت والدي في المنام غاضباً وقال لي: أين أنت من العلامة المجلسي؟ إن العلامة في صدر العلماء). وأما القصة فهي أن المجلسي قرر مع تلميذه الجزائري أن يأتي من يموت أولاً منهما إلى الآخر في منامه. فمات العلامة قبل تلميذه، فرآه الجزائري في المنام، فسأله عن أمره فقال له: (نفعني شيئان: الأول؛ أني دثرت قطة صغيرة تحت ثيابي في يوم ثلجي بعد أن رقّ حالي لها لمّا شاهدتها بلا ملجأ، ودخلت بها المسجد، والآخر: كنت أمشي في زقاق، وكانت في كفي تفاحة، فرأيت طفلاً ينظر إلهيا فعلمت أنه يشتهيها فأعطيتها له).

فأطلب منكم أن تكسبوا ودَّ الأطفال، من خلال تشجيعكم لهم إذا استحقوا التشجيع.

 البحث العشرون

الوجدان الخلقي ـ 3

كان كلامنا يدور حول المحبة والعطف. وإنصافاً لو لم تكن المحبة موجودة في الدنيا لانقرضت جميع الكائنات بما فيها الإنسان. إن المحبة فيها خصوصيّة تدعونا إلى أن نطلق عليها اسم الوجدان الخلقي. ولو تجرد الإنسان عن العطف والمحبة، فسيكون أحقر من كل ميكروب، ينقل القرآن قضية حصلت لداوود عن حب الإنسان للمال وهي أن أخوين تخاصما لديه، فقال أحدهما:

إن هذا أخي لديه تسع وتسعون نعجة وأما أنا فأملك نعجة واحدة فقط، وهو يريد أن يأخذها منّي لتكون عنده مائة كاملة. هذه الجملة أدت بداوود إلى أن ينساق مع العاطفة، فقال له:

(لقد ظلمك بسؤال نعجتك)! وكان عليه أن يطلب منه بيّنة على مدّعاه، ولذا قال القرآن: إننا قد ابتلينا داوود وامتحناه في هذه القضية، ولذا ندم داوود وأناب، إلاّ أن الشيء الذي نريد أن نقوله ونستفيده من هذه الآيات هو أن الإنسان لو تجرد من العطف لوصل به الأمر إلى أن يحاول امتلاك كلّ شيء. وأما الآخرون فلا يريد لهم الخير.. لو أن غرائز الإنسان أطلق لها العنان لوصلت إلى مرحلة لا يمكن التمييز فيها بين الحلال والحرام، والصغير والكبير، وهذا ما وضّحه القرآن بقوله:

(ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوبٌ لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آدانٌ لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بلْ هم أضل أولئك هم الغافلون) (الاعراف/179).

نشاهد من خلال دراسة سيرة الأنبياء والأئمة أنهم استفادوا من دغدغة العواطف؛ إذ دخل شخص على الرسول الأكرم(ص) وشكا إليه جاره، فأمره الرسول بالصبر على جاره ـ فليس حسن الجوار أن لا يظلم جاره، بل أن يحسن إليه، وليس الزوج الجيّد هو الذي يحسن إلى زوجته بل من وجهة نظر الرسول(ص) إن الزوج الناجح هو الذي يصبر على أذى زوجته ـ وبعد مدة عاد هذا الرجل إلى الرسول(ص) وشكا إليه مساوئ جاره الكثيرة. وفي هذه المرة دعاه الرسول(ص) إلى التمسك بالصبر أيضاً، ففي الصبر أجر كبير وثواب عظيم: (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب) (الزمر/10). وفي المرة الثالثة جاء الرجل وقال للرسول(ص): لا أطيق الصبر أكثر من هذا. فأمره الرسول(ص) أن يخرج أثاثه وعياله قبل الصلاة إلى وسط الطريق، ولما سأله الناس عن تصرفه هذا، شرع يعدد لهم ظلم جاره، فتحلق الناس حوله (وهذا ما يوضح أن الناس تعاطفوا معه من خلال دغدغة عواطفهم) مما أدى بالجار لأن يخرج معتذراً إليه، يلتمس عفوه، وأرجعه إلى داره.

إذن نفهم أن إثارة الأحاسيس قادرة على إنجاز أشياء كثيرة، أطلب من المعلمين أن يستفيدوا من هذه الوسيلة بأفضل صور الاستفادة.

إن المعلمات بإمكانهن إثارة العواطف بشكل طبيعي، فإن المرأة مهما كانت تركيبتها الجسدية أضعف بكثير من الرجل، إلا أن الله زوّدها بسلاح إثارة العواطف بحيث يخضع الجميع لهذه الإثارة، كسلاح البكاء وأداء الكلام. وأما لو شاهدتم امرأة سليطة اللسان، تصرخ في وجه زوجها مثلاً، فتيقنوا بأنها قد سلكت سلوكاً منافياً لطبعها. إن أحسن وسيلة لإذكاء مواهب التلاميذ هي إثارة أحاسيسهم، وأحياناً كلمة (أحسنت) تؤدي إلى نمو استعدادهم. وأما لو جاوبه التلميذ باستهزاء، فإن ذلك سيعطي نتائج معكوسة.

ولا يتُصور أنه ليس بالإمكان إنماء المواهب؛ فإن أغلب العباقرة كانوا ضعفاء من ناحية الاستعداد العلمي، كاينشتاين الذي أتى بنظرية معقدة لا يفهمها إلا القليل، قالوا عنه: إنه أخفق في الامتحان عدة مرات في الابتدائية والمتوسطة. ولم يكن وضع باستور، وغاليلو، ونيوتن، وكثيرين غيرهم بأفضل منه.

قلت إن المعلمات قادرات على إنماء قابلية التلاميذ ودفعهم إلى الأمام.

يقال عن أحد علماء الإسلام: إنه كان بعد إتمام درسه يقفل راجعاً إلى منزله، إلاّ أنه كان كثيراً ما يضل طريقه إلى بيته. إلاّ أن هذا العالم نفسه كتب شرحاً لأصول الكافي يتمتع من بين خمسين شرحاً على نفس هذا الكتاب بأهمية عالية من قبل العلماء.

أجل إن القابلية قليلة إلاّ أن الإنسان بإمكانه من خلال الجد والمثابرة أن يصل إلى أي مكان يشاء، يقول نابليون: (قد استوليت على فرنسا بخمسة وعشرين مقاتلاً! فلا يوجد في قاموس البشر: (لا أدري)، (لا أستطيع)، (لا يمكن). إن الإنسان لو أراد، فبإمكانه، وسيتحقق ما يريد من خلال الجد وسعة الصدر.

قال لي أحد الأساتذة: (إنني في المساء لا أحضّر الدرس فحسب، وإنما أفكر أيضاً في طريقة إلقاء الدرس). يمكن أن يقال لمثل هذا الشخص إنه أستاذ، وينبغي على المعلم أن يكون بهذا الشكل، وأن يفكر أيضاً في طريقة تشجيع التلاميذ من خلال الوجدان الأخلاقي، كما استفاد منه الأئمة الأطهار(ع).

ينقل أن امرأتين تنازعتا عند أمير المؤمنين(ع) في طفل، وكل واحدة منهما كانت تقول إن الطفل هو ابنها، فلما رأى أمير المؤمنين(ع) أن لا دليل لإحداهما على إثبات ما تدعي استخدم الوجدان الخلقي فأمر قنبراً بأن يشق الطفل نصفين ليعطي كل واحدة منهما شقاً منه! فاعترضت أمه الحقيقة على ذلك وقالت اعطوه سالماً للأخرى، فأمر أمير المؤمنين بإعادة الرضيع إلى هذه المعترضة لأن وجدانها وعاطفتها لم تسمح لها بقتل الرضيع، أما الأخرى فبما أنها لم تكن أمه، فلم يهمّها ذلك. فإذن يمكن الاستفادة من هذا الوجدان بشكل كبير.

إن هذا البحث بحث واسع، إلاّ أننا نكتفي بهذا المقدار. ولكن تبقى هناك نقطة وهي: هل الوجدان الخلقي قوة ضابطة كابحة مائة بالمائة؟ والجواب هو: كلاّ، فنفس ما قيل في العقل والعلم والتربية يقال أيضاً في هذا الوجدان عندما تثور غريزة الإنسان.

في الأبحاث القادمة نسعى وراء العثور على إجابة لهذا السؤال: ما هي القوة التي بإمكانها ردع الإنسان مائة بالمائة؟.

البحث الحادي والعشرون

القانون

يدور كلامنا في هذا البحث حول قوة أخرى كانت موجودة بين الناس على الدوام ولا تزال وهي: (القانون).

إن القانون شيءٌ ضروري بالنسبة إلى الإنسان. وإنه كان سائداً أيضاً لدى البشر الأوائل. وحاليّاً هو يحكم البشر في جميع البلدان سواء منها الإسلامية وغيرها، المتحضرة، وغيرها، والدليل على إقبال الإنسان على القانون هو أنه متمدن بطبعه، أي أنه اجتماعي وليس كبقيّة الحيوانات، يعيش في البراري وحده، وإنما هو في حياته بحاجة إلى الآخرين. ومن هنا يقول علماء الاجتماع عن الإنسان إنه (مدني بالطبع)، أي إن هذه الصفة متأصلة في ذاته. وهذا ما يؤدي إلى أن يعيش الإنسان حياةً اجتماعية. وأن تقسم الأعمال حتى تدور عجلة المجتمع.

ومن جهة أخرى فإن الإنسان موجود أنانيّ بشكل غريب، تدفعه الغريزة الحيوانية إلى حبّ الرئاسة، وأن يكون مالك كلّ شيء ـ يقول القرآن: إن المعاد غير قابل للإنكار وأما ما تروه من حالات إنكار لدى بعض أفراد البشر، فذلك لأنهم لا يريدون أن يكون هناك مانع يحول دون نزواتهم (بل يريد الإنسان ليفجر أمامه) (القيامة/5). فبما أنه اجتماعي أنانيّ، فسوف يحصل صِدام بين هاتين الطبيعتين. لأجل رفع هذا الصِدام، ولكي يصل كل شخصٍ إلى حقّه المشروع دون أن يتعدّى إلى خارج حدوده، تم وضع القانون. فالقانون هو الذي يمكنه توفير الأمن والرفاه، فمثلاً لو عطل قانون المرور ليوم واحد، لشاهدتم حدوث الدمار والكوارث؛ لذا فالقانون لا يستغنى عنه، وهو قوة ضابطة.

ومن وجهة نظر القرآن الكريم فإن إحدى وظائف الأنبياء هي وضع القانون. يقول القرآن الكريم: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) (الحديد/25).

فكان أحد أهم أعمال الأنبياء هو وضع القانون، وكثير منهم جاءوا بقانون، وبعضهم أتبع طريقة تنفيذ قوانين من تقدم عليهم من الأنبياء، وهؤلاء يقال لهم الأنبياء المبلغين. يقول القرآن الكريم: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب) (البقرة/179)، فإذن الحياة متوقفة على القانون.

إلا أن الشيء الذي لا ينبغي إغفاله هو أن القانون الظاهر أيضاً عاجز عن ضبط الإنسان بشكل كامل. فالقانون جيّد ولكن في الأمور الظاهرة لا الباطنة، فمثلاً لو لم يعتد الشخص ولم يكن ذا خطر على الآخرين في العلانية، فإنه يمكن أن يرتكب أفظع الجرائم لو سنحت له الفرصة، فلا بد من أن تكون هناك قوة كامنة في نفس الإنسان تراقبه وتمنعه من الخطأ، فلو أن ظل الرشوة والربا خيّما سرّاً في مكان ما، فلا يجدي حينئذ القانون الظاهر، فعندما لا يخضع المسؤول للقانون الظاهر، لا يمكن عقابه ولا معنى للقانون الظاهر حينئذٍ.

والشيء الآخر هو أن القانون الظاهر ينجح في ملاحقة الجرائم الظاهرة، ولكن عندما تستولي واحدة من غرائز الإنسان عليه، فلا يمكن اللّجوء إلى القانون الظاهر. فعندما يغضب الإنسان فمع أنه يعلم أنَّ وراءه سجناً وإعداماً، تراه مع ذلك يقدم على إزهاق أرواح الآخرين عامداً قاصداً.

الأمر الآخر هو أن الإنسان أساساً إذا كان إنساناً بالفعل يقصر القانون عن أن يصل إلى مستواه. وإن الإنسان غنيّ عن القانون. ويرى علماء الاجتماع: (أن اتساع القانون دليل على انحطاط المجتمع). وما أروعها من جملة! فلو شاهدتم كثافة القانون وجريان التعديل فيه تلو التعديل فأيقنوا بأن هذا المجتمع منحط. ومن إبداعات القرآن أنه يحترم مقام الإنسان الشامخ. والإسلام الذي هو غنيّ بالقانون وبإمكانه إدارة المجتمع من جميع النواحي، عندما نقوم بمراجعة كتابه السماوي نجده من بين 6236 آية يحتوي ستمائة آية تتحدث عن القانون. وأما سائر الآيات فأخلاقية. يقول القرآن:

(إنما جئت لكي أصنع البشر. ولو تمكنت من ذلك، فلن يكون حينئذ فرق بين الليل والنهار، أو وجود الشرطة وعدمهم. فهو في جميع الأمور لا يخالف الإشارة الحمراء. ولو شاهدتم شرطياً يقول للناس: سيروا على الأرصفة، لأصحاب  الدراجات: قودوا دراجاتكم على الشارع ولا تقودوها على الأرصفة، فاعلموا أن هذا دليل انحطاطهم. فلو أن الإنسان توصل إلى إنسانيته، فإنه حينئذ لا يقدم على السرقة، ولا حاجة لوضع قانون يحدد عقوبة السارق. وما أكثر ما شاهدنا من حالات العثور على أشياء فقدها أصحابها في المساجد فتركت على حالها أيّاماً عديدة حتى أتى صاحبها وأخذها من المكان الذي فقدها فيه. ولذا يستحب في الإسلام عدم التقاط المفقودات حتى يُعلم صاحبها.

فإذن، القانون بحاجة إلى شيء آخر حتى يمكنه أن ينتج أناساً ذوي فضل وتقوى.

البحث الثاني والعشرون

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ 1

إحدى القوى الضابطة للإنسان هي: (المراقبة العامة). وعلى حدّ تعبير القرآن: الأمر المعروف والنهي عن المنكر) وهو من فروع الدين كالصلاة والصيام والجهاد. وقد أكّده القرآن كثيراً، ويرى أنه أحد أجنحة السعادة. فلو أن شخصاً أو مجتمعاً لم يتمسك بهذه القوة، فإن القرآن يقول عنه بعد (القسم) إنه مخرِّب. فقد قال في سورة العصر: (والعصر، إن الإنسان لفي خسر، إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) (سورة العصر) أي إلاّ هذه الطائفة التي وصفها في موضع آخر بهذا الشكل: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله، ولو آمن أهل الكتاب لكان خيراً لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون) (عمران/110). وفي آية أخرى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) (التوبة/71). وهناك الكثير من أمثال هذه الآيات في القرآن الكريم، لذا على الجميع، وخاصة المعلمين، أن يعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالصلاة.

يقسم الإسلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى أربعة أقسام: القسم الأول يختص بالفقه والفقاهة، وعلى حدّ تعبير القرآن لأجل الحفاظ على الفقه وعلماء الدين والإسلام. فعلى مجموعة أن تتفرغ لطلب العلم والاجتهاد وعلى الآخرين أن يقوموا بدعمهم مادياً. وهذا ما يؤكده القرآن بشكل صريح بقوله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليه لعلهم يحذرون) (التوبة/122). أي لا بد من أن تكون هناك حوزات علمية يتمّ فيها تعليم جماعة لأجل تبليغ الدين، ونسمي هذا الشيء: (النظرة الجذرية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، فوظيفة الروحاني هي المحافظة على الدين وحراسته من الخطر مهما كلّف الأمر.

إن الفتوى التي أصدرها أستاذنا إمام الأمة حول الكتاب المضلِّ (الآيات الشيطانية) لكاتبه سلمان رشدي المرتد هي من هذا القبيل، فقد أحدثت هذه الفتوى ضجة كبيرة في العالم. وانتبه الشياطين إلى أن هذه الفتاوى بإمكانها أن تهزّ العالم مثل فتوى تحريم التنباك للميرزا الشيرازي. ولو لم يكن هؤلاءِ العلماء موجودين لبادرت بريطانيا منذ البداية إلى جعل إيران جزءاً من مستعمراتها، كما جعلت العراق ولبنان وسورية ومصر في الحرب العالمية الأولى، فقد قام أشخاص كآية الله الكاشاني والخوانساري بحمل السلاح والذي أرعب بريطانيا هو حضورهم في الساحة لا حملهم السلاح. فتلقت بريطانيا الضربة وتراجعت. وهكذا أيضاً الضربة التي سدّدها الإمام لبريطانيا.

وأما القسم الثاني: فيقول القرآن ينبغي أن تكون هناك لجنة للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر. أي أن الدول الإسلامية لا بد لها من وزارة وظيفتها مراقبة الآخرين. ومن هذا القبيل سلك الشرطة إذا كان مؤمناً بوظيفته وليس في عمله إفراط أو تفريط. يقول القرآن الكريم: (ولتكن منكم أمة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) (التوبة/71). ونحن لا نعهد في البلدان الإسلامية لجاناً للآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر إلا في الحجاز. وأعمالهم سيئة للغاية وقبيحة فهم يحولون دون أن يقبّل شخص قبر الرسول(ص) أو الحجر الأسود، وإن عدم هؤلاء أفضل من وجودهم.

القسم الثالث: أن يراقب الجميع سلوكيات بعضهم. وهذا ما يسمى بالمراقبة العامة. والقرآن يقول إن الأمة الإسلامية هي من أحسن الأمم بسبب هذه المراقبة: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً. وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلاّ لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلاّ على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم) (البقرة/143). فعلى الصديق أن يراقب صديقه، وأن يعترض عليه لو صدر منه ذنب، وعلى الزوجين أن يراقبا بعضهما، وأن يراقبا أبناءهما، ولو رأى الصديق أن النصح لا ينفع، فليقطع علاقته به، وهذا ما يعبر عنه بالجهاد السلبي. وهو ضروري في حياة المسلم.

ويرى القرآن أنه يحظى بتأثير كبير. وأن عدم الاهتمام بأفعال الصديق والمجتمع والزوجة لمن أكبر الذنوب بحيث خاطب الله نبيّه شعيباً: (يا شعيب قررنا أن نهلك مائة ألف شخص من أمتك. أربعون ألفاً منهم خاطئون وستون ألفاً منهم صالحون) فقال شعيب: (يا ربّ إن لحوق العذاب بالخاطئين صحيح ولكن ما ذنب الصالحين)؟ فقال تعالى: (لأنهم لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر). فلذا من الآن عليكم أن تقرروا أن تراقبوا أصدقاءكم بشكل مهذب، فإن المؤمن مرآة المؤمن.

والقسم الرابع: هو الانتقاد، عيوب الآخرين بشكل لا يؤثر في شخصيتهم وأحاسيسهم، أي بشكل أخوي. فإن نقد الخطأ على ثلاثة أنواع: الأوّل: أن يكون مع عدم حضور صاحب الخطأ. وهذا النحو من أقسام الغيبة. وهي معصية كبيرة جداً، الثاني: أن يكون مع حضوره بقصد الاستخفاف به، وهذا الذنب إن لم يكن أكبر من ذنب الغيبة فليس بأقل منه. الثالث: هو الانتقاد الصحيح: فمثلاً لو كان الشخص أكولاً أو كثير النوم و... ينبغي إخباره بهذه الخصال بشكل مرآتي وينبغي تنبيه الشخص إلى عيوبه، حتى لو لم تكن ذنوباً لأنها لا تناسب شخصية المسلم، فيبادر على رفعها.

والذي ينبغي معرفته هو أنه مهما كان الانتقاد واجباً فهناك شيء أوجب منه ألا وهو تقبّل النقد، ولنتعلم من المسلمين الأوائل في شأن المراقبة: عندما يصادق البعض منهم البعض الآخر، فبدل أن يقول له: كيف الأحوال؟ أنا سعيد برؤيتك (التي غالباً ما تنطوي على الكذب) كان يخاطبه بهذا الشكل: (بسم الله الرحمن الرحيم، والعصر إن الإنسان لفي خسر) فيجيبه الآخر: (إلاّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) وكانوا بهذا الشكل يمارسون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشكل طبيعي، وينتقد بعضهم البعض.

وقد كان الرسول بعد الصلاة يلتفت إلى المسلمين ويقول لهم: (رحم الله إمرء أهدى إلي عيوبي) قال: أهدى ولم يقل أفشى. فلو أهدى إليك الشخص عيوبك فإن فعله هذا كالمرآة التي إذا رأيت فيها وجهك غير مقبول المنظر، فلن تبادر إلى كسر المرآة وإنما ترحب بما أظهرته لك بصدق، وتقوم بتنظيفها، وكأنك تلتمس منها أن تظهر لك من عيوبك المزيد، فلو أنك انزعجت من شخص أهدى إليك عيوبك وقمت بإهانته والاعتراض عليه فإن عملك هذا كعمل من يكسر المرآة. وهو عمل جنوني!.

فهنيئاً للذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

 البحث الثالث والعشرون

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ 2

نتحدث في هذا البحث عن الأهمية الكبير للبحث المتقدم فقد قلنا إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان إلهيّان. وهما معاً قوة رادعة، ضابطة للإنسان، ولو أن المجتمع بادر لامتثال هذين الواجبين فإن المحرمات ـ وخاصة المحرمات الاجتماعية ـ ستزول. إن بعض أهل السير والسلوك يطلبون من الآخرين أن يهدوا إليهم عيوبهم كما يراقبون هم أنفسهم.. فلنفعل نحن الشيء نفسه إذا كنّا حقاً نريد الإصلاح.

قال تعالى في سورة التوبة، في غزوة تبوك، وكانت من أشد المعارك على المسلمين إذ آن وقت الحصاد إلاّ أن المسلمين تركوا كل شيء فأمامهم طريق طويل من المدينة إلى الشام وقطعوه مشياً على الأقدام، وغالباً ما أدت حرارة الشمس إلى أن يفقد الكثير وعيهم، وكانت التمرة طعاماً لكل شخصين من المسلمين. إلا أن ثلاثة من المسلمين تخلفوا ولم يلحقوا بالرسول، وبعد انتهاء الغزو ورجوع الرسول خرجوا لاستقبال الرسول وقد أخذهم الخجل، ولأجل أن يوضح لهم الرسول أن لا وجود للذنب في حياة المسلم، لم يتكلم معهم بل أمر الآخرين بعدم التكلم معهم، حتى أهليهم وعيالهم، وهذا ما أدى إلى أن تصبح البلدة لديهم كأنها سجن مظلم. وعلى حد تعبير القرآن: (ضاقت عليهم الأرض بما رحبت) (التوبة: 118) فلم يروا بداً ولا سبيلاً إلاّ الخروج إلى الصحراء، وفي الصحراء أيضاً تفرقوا وانقطعت الصلة بينهم وانشغلوا بالعبادة، حتى قبل الله توبتهم: (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار... وعلى الثلاثة الذين خُلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم) (التوبة/118ـ119). فلو شاهد الناس تاجراً يفعل المحرمات فلم يشتروا منه لبضعة أيام فإنه سيبادر إلى غلق دكّانه أو ترك الحرام. وهذا الجهاد السلبي قوة رادعة ضابطة، فما ظنك بالجهاد المباشر الإيجابي؟.

النقطة التي يجدر التنبيه عليها هي أن الجهاد المسلح ينبغي أن يكون بأسلوب لطيف. فحين أمر الله موسى بأن يذهب لإرشاد فرعون قال له: (قل له قولاً لينا) (طه/44).

وصيتي إلى المعلمين هي مداراة التلاميذ الذين هم أمانة إلهية بأيديهم وأن يكون أمرهم ونهيهم بشكل ليّن من خلال لفظة (عزيزي) أو (يا ولدي)، وخاصة بالنسبة إلى المعلمات لأن البنت أكثر حساسية من الولد.

ينبغي أن تسود قاعة الصف قاعدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بإطار العطف والمحبة، فلو كان المعلم فظاً، فلن يؤدي هذا إلى عدم الاستماع إلى كلامه فقط، بل يؤدّي للحقد عليه. ومن المسلم به حينئذٍ أن ليس باستطاعة هذا المعلم أن يكون ذا تأثير إيجابي على التلميذ. وسيعجز المعلم عن التأثير عليه خلقياً بل حتى يعجز عن التأثير عليه علمياً.

إن بذاءة اللسان تجلب ثلاث مصيبات: الأولى ضغطة القبر والثانية تلف الأعصاب، والثالث، وهي السوءى، هي أنها تسحق كرامة المخاطب.

أوصيكم بأن لا يكون في عملكم إفراط ولا تفريط. فقد قال أمير المؤمنين(ع): (الجاهل إما مُفرط أو مفرِّط)، وكلاهما رديء. أحياناً ترى الأب أو الأم أو المعلم لا ابالياً تجاه الأمانة التي بيده، مع أن هذا الولد لا يهتم بالصلاة أو هذه البنت لا تراعي الحجاب، أو يتصف كلاهما ببذاءة اللسان، فإن هذا تفريط وخيانة لأمانة. ويوم القيامة يرد هذا التلميذ جهنم، كذلك أبواه ومعلمه؛ لأنهم خانوا الامانة. كما أنهم لم يعملوا بواجبهم. وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومن جهة أخرى فإن الكبت والضغط ليسا بأقل من عدم المبالاة. وهذا الضغط على التلاميذ خطأ فادح. فقد كان قائد الثورة ينصحنا في الجلسات الخاصة بأنه عن طريق التشجيع يمكن الإصلاح أكثر من التهديد. وهو كلام جيّد من وجهة نظر علم النفس.

وخلاصة القول: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوة ضابطة ورادعة جيّدة، ولكن ليس مائة بالمائة فاستخدموا هذه القوة لإصلاح المجتمع.

والمعلمون هم القادرون على تغيير المستقبل. علَّموا التلميذ من خلال العمل أنه لو صار معلماً فماذا عليه أن يصنع.