.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

خلق الإنسان ونعمة البيان

الحركة المنتظمة للشمس والقمر

 

[ 6 ]

(الرحمن * علّم القرآن * خلق الإنسان * علّمه البيان) (سورة الرحمن، الآيات: 1ـ 4).

خلْق الإنسان ونعمة البيان:

قلنا أن الرحمن علم حبيبه محمد (ص) القرآن المجيد، وقام النبي (ص) بدوره بتعليم القرآن إلى أمّته بعد أن يسر عليهم مطاليبه من حيث الكشف عن خفي اموره اللطيفة وأسراره الربانية ومكنونات عالم الخلق ومسائل المبدأ والمعاد، ثم تسوق السورة الكريمة نعمة أخرى عظيمة هي افضل النعم بعد تعليم القرآن إلا وهي نعمة خلق الإنسان وتعليمه البيان، والمقصود بالبيان هو الافصاح عن رغباته الداخلية، وقد يكون البيان نطقاً أو خطاًَ بالقلم أو اشارة وايماءً يعرب فيها الإنسان عما يريد الافصاح به للآخرين، وهو يختلف عما لدى سائر الحيوانات التي تستخدم وسائل محدودة من البيان للأعراب عن الاحساسات والمعاني تكون محدودة باعتبار محدودية المعاني والادراكات لديها عما هي عليه لدى الإنسان لأنها انما تستخدم وسائل لأجل رفع حاجاتها ليس إلاّ، فمواء القطط عند الجوع يأخذ نبرة معينة يختلف عن نبرة الغضب ويختلف أيضاً عن نبرة التملّق أو الدلال ويختلف كذلك عن نبرة الإجابة عندما تسمع صوت وليدها، ولكننا لو انتبهنا إلى وسيلة بيان القطط لا نراها تعدو عبارة (ميو ميو) ولكنها تدرك ألف الميو وباءه بشكل مختلف تماماً عما ندركه نحن في جميع تلك الموارد، وهكذا الحال لدى سائر الحيوانات وان تباين زيادة أو نقيصة في الافهام أو الاستفهام ولكن يبقى بيانها بياناً محدوداً وناقصاً.

اما عن الإنسان فان الله (عز وجل) ميّزه بنعمة البيان والمنطق بأحلى صور البيان وأروعها بحيث يستطيع من خلالها أن يدرك أخفى الموضوعات، وان يعرب عن الالم الذي يكتنفه وان يبين المعاني الجزئية فضلاً عن الكليّة، والحقائق والمعارف فهو يمتلك من القدرة ما يستطيع به ان يفصح عن كل ما يدركه نطقاً وهو ما نسميه بالبيان نعم، لقد خلق الله تعالى الإنسان على نحو يستطيع فيه ان يقول (خلق الإنسان * علّمه البيان).

اللسان ومخارج الحروف، من عجائب الخلق:

فتعالوا إلى اللسان، هذه القطعة اللّحمية المستقرة في الفم وانظروا إلى روعتها، فهي تتحرك بكل حرية في محيط الفم بين الحنجرة والشفاه لتخرج ثمانية وعشرين حرفاً عربياً واثني وثلاثين حرفاً فارسياً، اذ لدينا ستة حروف عربية تنشأ عن حركة اللسان في الحلق وهي (الهاء والحاء والخاء والعين والغين والهمزة) ومنشأ أصوات هذه الحروف في حلق الفم انما يتم بتحريك الإنسان للسان ليضرب بمخارجها فتظهر أصواتهن جليّات.

وهناك اثنا وعشرون حرفاً عربياً تصدر عن أول الحلقوم إلى الشفتين بضمنها حرفان يصدران عن الشفتين هما (الباء والميم) فيصبح مجموع الحروف على ما ذكرنا ثمانية وعشرين حرفاً عربياً، علماً ان للأسنان من ثنايا وأنياب دور مهم في ظهور أصوات عدد من هذه الحروف، رغم ان المسافة الممتدة بين الحلقوم وفضاء الفم (الحلق) لا تعدو شبراً واحداً ولكن يصدر عن هذا المحيط المحدود ثمانية وعشرون حرفا في قدرة ابداع إلهية جلية، يتم بعد ذلك التوليف والعقد بين هذه الحروف لتخرج الكلمات والجمل والعبارات والموضوعات المفيدة التي تتزاحم بل وقد تتصارع في ذهن الإنسان لينقلها إلى الآخرين في المحيط الخارجي فيتعرف بنو الإنسان على حاجات ورغبات وأفكار بعضهم البعض. وما التعلّم والتعليم إلاّ من النتائج الحاصلة لبركة نعمة النطق والبيان، بل وما هذا التطور والرقي في ميادين التصنيع والاختراعات والمكتشفات إلاّ من آثار فضل النطق والبيان الذي نقله الاسلاف إلى الأجيال الآتية وصولاً إلى تكاملها، فتأمل كيف ان النطق والبيان لو لم يكن لضاعت أتعاب وجهود الناس لثلاثين أو أربعين سنة في ميادين التصنيع والمخترعات، وقد أشار الإمام الصادق (ع) إلى هذه الحقيقة ضمن وصاياه للمفضل بن عمر حيث قال (ع) ما مضمونه: (ولو لم يكن الله (تعالى) قد أنعم على الناس بنعمة النطق والبيان لضاعت ومحيت جميع العلوم والصناعات والحرف ان معنوية كانت أم علوماً دينيه) لأن المعارف الإلهية لا تتحقق إلا بفضل النطق والبيان.

أدوار القلب والدماغ والذاكرة في النطق:

والشيء العجيب هنا هو أن نعمة البيان لها صلة وثيقة بسائر الأعضاء والجوارح، وخصوصاً بالقلب والدماغ، فلو أصيب القلب بالجلطة لأصبح لسان المرء ثقيلاً فيبتلى حينها (بالتلعثم) أو ما يسمى باللكنة أو اللثغة الكلامية.

ولو أصيب الدماغ بجلطة أو بضربة أو صدمة أو ارتجاج على فرض سلامة باقي أعضاء وأجزاء البدن لتعطل اللسان عن العمل في اغلب تلك الحالات.

وللنطق اللساني صلة وثيقة أيضاً بالقوى الباطنية لدى الإنسان، فهو يرتبط بالحس ويرتبط أيضاً بالذاكرة التي تسمى أيضاً (الحافظة)، ودور الذاكرة يتحدد في مهمة تسجيل المعاني باعتبارها خزانة لحفظ المعاني والألفاظ، فعندما يريد المرء ان يشرع بقراءة سورة الفاتحة في صلاته يفترض انها قد حفظت في الذاكرة، ولو افترضنا ان الذاكرة لم تسجلها، فتصورا كيف سيتأتى لهذا الإنسان ان ينطق بسورة الفاتحة؟ بل لو لم تحتفظ الذاكرة بالمواضيع والمعلومات لتعطل دور الخطيب في الارشاد والتذكير لأنه سوف لا يجد ما يريد قوله للناس من على منبره، لذلك كان دور الذاكرة وقوة حفظها دوراً فاعلاً يساعد حتى في عملية الكتابة، فالخطاط الذي يفقد ذاكرته لا يستطيع بعدها ان يخط بيمينه حرفاً واحداً ألفاً كان أو باءً (لا سمح الله تعالى)، بل ان عدم وجود الذاكرة لعله ينقلنا بشكل قاطع إلى العدم لما يترتب على ذلك الأمر من مخاطر ومفاسد.

فالرحمن علم القرآن وخلق الإنسان ثم علمه البيان بحيث جعله يثبّت ويسجّل المواضيع والأمور التفصيلية وان ينشئ الالفاظ المناسبة للمعاني، وعلى ذلك يكون معنى الآية المباركة ان الرحمن علم الإنسان الافهام والاستفهام بالشكل الذي يمكنه إيصال ما يريده للآخرين بكل يسر وسهولة، وان يدرك أيضاً ما يريده ويقصده الآخرون.

تكامل النبات والحيوان في الإنسان:

إن نعمة البيان التي مَنّ الله تعالى بها على الإنسان ودعّمها بدرك المعاني وتثبيتها وتسجيلها، استلزمت ان يصبح النبات والحيوان إنساناً في تخطي مراحل الوصول إلى التكامل أي ان يصبح جزءاً من بدنه، فيكون من شرف الخضار والثمار ولحوم الضأن ان يشتهيها الإنسان المؤمن فتصبح جزءاً من بدنه ثم من لسانه الذي سينطق انذّاك قائلاً الله اكبر والحمد لله بنطقه التكويني، لأن امنية تلك الموجودات ان تصل بدورها إلى الكمال.

التمر مثلاً ليس لديه لسان يستطيع ان يسبح الله تعالى به تسبيحاً لسانياً، لذلك فهو يتمنى ان يصبح جزءاً من بدون الإنسان المؤمن وان يصدع قائلاً (سبحان الله فالق الحب والنوى) وأن يردد قائلاً (الحمد لله رب الانهار والاشجار) وهكذا الحال تكويناً لدى الحيوانات من الانعام وغيرها. فحرام على الإنسان الذي قدّم له البارئ كل ذلك لينعم به ثم يضع لسانه وفكره وقلمه في غير رضا الله (جل وعلا).

وعلى ذلك يكون شأن البيان هو اظهار شؤون الربوبية، وما سائر الأمور الأخرى الاّ مقدمة لهذه الحقيقة، لأن الادراك العقلي سوف يترجم إلى ألفاظ لسانية، فحقيقة التوحيد العقلي والإيمان بالله تعالى يستدعي جريان قول لا اله إلاّ الله على لسان المرء، وعندما يتعرف المرء على كرم الله ينادي بلسانه يا كريم ويا رحيم، وعندما يقف الإنسان على ذنوبه وآثامه يردد قائلاً يا غفور، يا شكور طلباً للصفح والمغفرة.

إذاً اللسان ترجمان العقل والقلب الفهم، فهل ترون كل ذلك لا يستدعي ولو القليل من الشكر لله عز وجل؟!

دعاء رائع للإمام زين العابدين (ع):

يقول الإمام زين العابدين (ع) في دعاء مكارم الأخلاق (واجعل ما أجري على لساني من لفظة فحش أو هجر أو شتم عرض أو شهادة باطل أو اغتياب مؤمن غائب أو سب حاضر وما أشبه ذلك، نطقاً بالحمد لك وإغراقاً في الثناء عليك)[1] نعم، فاجعلني اللّهم محصياً لآلائك مستكثراً لنعمك، فلك الحمد على ما انعمت به علي من عينين واذنين ولساناً، ولك الحمد على ما دفعت عني من بلاء فسلّمتني، ولك الحمد على ما حلت به بيني وبين العلل والاسقام فشفيتني.

هذا اللسان الذي يستطيع ان يحصي ذكر نعم الله، وان يقدم آيات الشكر والحمد لله على ما أولى من نعم واحسان، كيف يأن له أن يجري بلفظ الأمور الباطلات؟! يقول الإمام الصادق (ع) (ولطالما كان والدي يكثر من قول لا اله إلاّ الله حتى يجف ريقه)، ولقد ورد من الروايات ما يدفع المرء نحو ترديد الاذكار كما في الوراية الواردة في اصول الكافي التي تفيد (من قال في يومه لا اله إلاّ الله مائة مرة، كان اثقل الناس عملاً، إلاّ من قالها اكثر منه)[2].

آدم (ع) ومحمد (ص) من مصاديق الإنسان:

ورد في روايات أهل البيت (ع) وآراء العلماء والمفسرين أن من مصاديق هذه الآية الكريمة هو خلق آدم (ع)، وآية (علّمه البيان) تعني علّمه الله تعالى الاسماء كلّها، لأن أحد موارد تعليم البيان هو ما علّمه الله (عز وجل) آدم أبا البشر وهي الاسماء الحسنى، وقد جاء في رواية أن الله تعالى علّم آدم (ع) سبعمائة ألف لسان، وهذا هو أحد وجوه الإنسان في هذه الآية.

أما الوجه الثاني لآية (خلق الإنسان) فهو ان المقصود بالإنسان هنا هو محمد (ص) وآية (علّمه البيان) تعني ان الله علّمه الحلال والحرام كيما يبلغه للناس ليأخذوا بالطيبات ويذروا الخبائث كما يشير إلى هذه الحقيقة قوله تعالى (ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) (سورة الأعراف، الآية: 157).

إنعام الباري على علي (ع) بإحاطته بكافة العلوم:

أما الوجه الآخر من مصاديق قوله تعالى (خلق الإنسان) فهو خلق علي بن أبي طالب (ع)، وآية (علمه البيان) تعني ان الله تعالى علّمه بيان كل شيء بفضل عنايته كما يستشف من قوله تعالى (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين) (سورة يس، الآية: 12). فقد نقش الله (جلّت قدرته وعظمته) في لوح قلب الإمام علي (ع) المقدس علم كل شيء، وعلوم الحوادث والكائنات وهكذا الحال أيضاً في قلوب أبنائه الأئمة الأحد عشر المعصومين (ع)، وقد بيّن الله (تعالى) جميع الأمور لهم بما أوقره في صدورهم الشريفة، واستناداً إلى ذلك قيل أن القرآن مجموعة ألفاظ، وأن قلب الإمام هو معنى تلك الالفاظ وحقيقتها، لأن القرآن صامت بألفاظه، والامام قرآن ناطق بحقائق الالفاظ، ورغم كل هذا وذاك تقع الفاجعة ممن لبس لباس الإسلام، فهم يزعمون انهم قد احترزوا من النائبات باسم النبي (ص) ثم لا يتورعون عن فري كبده الحسين (ع).

وعلى آل طه راشوا السهاما

 

قد جعلوا من يس حرزاً

[ 7 ]

(الشمس والقمر بحسبان * والنجم والشجر يسجدان) (سورة الرحمن، الآيات: 5ـ 6).

الحركة المنتظمة للشمس والقمر:

بعدما بين الرحمن كيف انه تعالى علّم القرآن لمحمد (ص) ليبلّغه للناس، وقلنا ان القرآن هو اعظم النعم الإلهية وخلق الإنسان ثم علّمه البيان لكي يتسنى له من خلاله ان يستفيد وان يوصل ما يروم التعبير عنه للآخرين مع ما اشتمل هذا البيان من مقدمات في القوى المدركة والمفكرة والمحافظة التي تسبق نعمة البيان كما أشرنا من قبل، وقد تبين لنا جلياً ان الباري تعالى قد عرف لنا النموذجين من رحمته العامة (الرحمانية)، ثم عقّب تعالى ذلك بذكر نموذجين آخرين من نعمه العلويات ونموذجين تاليين من نعمه السفليات، اما عن نعمه العلوية فهما (الشمس والقمر بحسبان). وكلمة ـ بحسبان ـ هي جار ومجرور يتعلقان بفعل مقدر نحو (يجريان) ومعنى كلمة بحسبان تعني بحساب منتظم، وحسبان مصدر على وزن غفران من باب نصر ينصر وهو الحساب والنظم والترتيب، وتكون خلاصة معنى الآية هي (ان الشمس والقمر يتحركان بحركة منتظمة محسوبة دون أدنى تغيير أو عشوائية في دورانهما.

انتظام السنتين القمرية والشمسية:

تبلغ الدورة القمرية الواحدة 28 يوماً، ويبلغ عدد أيام السنة القمرية 356 يوماً على التمام، بينما تبلغ السنة الشمسية 365 يوماً وربع اليوم في دورة تامة على اثني عشر شهراً على التمام.

فيا أهل السبعين، هل شعر أحدكم في ماضي عمره بأدنى تغيير في هذا الحساب؟ بل وتتعاقب الفصول الأربعة للسنة (الربيع، الصيف، الخريف، الشتاء) في نظام محدد فهل صادف أن شوهد الربيع يسبق الشتاء؟ أو ان يأتي معقبّاً للصيف؟

حركة المنظومة الشمسية باتجاه النجم (النسر الواقع):

ولعله من الباعث على الدهشة ما تمّ كشفه في هذا العصر من أن الشمس ومنظومتها تتحرك بسرعة مذهلة نحو نجم يقع في كبد السماء يسمى النجم فيغا (أو النسر الواقع). فالشمس كرة هائلة ملتهبة يبلغ حجمها مليون وثلاثمائة ألف ضعف من حجم الكرة الأرضية التي نسكنها، فعلى سبيل المثال التحقيقي الذي أورده العماء يقال إنه لو افترضنا حجم الارض بحجم (الأجّاصة) فأن حجم الشمس سيكون بقدر كرة قطرها مائتي متر، ولكن الشمس تبدو للرائي صغيرة بسبب المسافة الشاسعة التي تفصل بينها وبين أرضنا والتي تقدّر بـ 90 مليون ميل.

وعن حركة المشمس فهي تجري ضمن مدار محدد ومعروف يقدّر بعشرين مليون كيلومتراً في الثانية الواحدة من حيث سرعة الحركة، أي انها تطوي بسرعتها في الدقيقة الواحدة ألفاً ومائتي مليون كيلومتراً مع منظومتها التي تصحبها برفقتها وهي (الارض، عطارد، المرّيخ، المشتري، زحل، الزهرة، اورانوس، نبتون، بلوتو) بأتجاه النجم فيغا، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الأمر في قوله تعالى (والشمس تجري لمستقر لها) (سورة يس، الآية: 38)[3]. ومن كل ما سبق نخلص إلى أن الله تعالى خلق بقدرته القاهرة الشمس، ثم جعل لها فلكاً تسبح فيه، فأنظر إلى عظمة الله وقدرته التي لا يعجزها شيء وقد شهدت له بها إحدى مخلوقاته التي لا تحصى، هذه الشمس بحجمها الهائل وبحركتها المذهلة في مدار منتظم لا تزيد على العشرين مليون كيلومتر في الثانية ولا تنقص عنه شيئاً.

الأهلّة، ظاهرة القدرة الإلهية المدهشة:

وعن الأهلة، وهي تغير صورة القمر من هلال إلى بدر إلى هلال إلى محاق، هذه الصور التي تثير اعجاب الرائي والباعثة على تحيّر المشاهد لها من خلال دقة النظام والحساب في تدرّج مراحلها لتقدّم تقويماً جميلاً للناس كافة يعرفه الأميّ والمتعلّم، وتبدأ الأهلة بأولى مراحلها عندما تكون صورة القمر في ليلته الأولى على شكل خيط دقيق، ثم لا يلبث في الليلة اللاحقة حتى يصبح هلالاً نحيفاً ثم يتدرج في باقي الليالي اللاحقة حتى يصبح بدراً في الليالي الثالثة عشر والرابعة عشرة والخامسة عشرة من الشهرة بحيث تظهر صفحة القمر كاملة متألقة، بعد ذلك تأخذ صورة القمر (البدر) بالانحسار في الليالي المقبلة تدريجياً فتستحيل إلى هلال عريض لا يلبث أن تزداد نحافته ليلة بعد أخرى حتى تحل الليالي السادسة والعشرين والسابعة والعشرين وكأنه خيط دقيق، ثم تستحيل صورة القمر إلى محاق فتنعدم صورته تماماً في الليلتين الثامنة والعشرين والتاسعة والعشرين، ثم تبدأ من جديد رحلة الظهور ليبدأ الشهر الآخر من الاشهر القمرية على وتيرة ما ذكرنا آنفاً وهكذا دواليك، ولقد أنعم الله تعالى علينا ان جعلنا نتعرف ببركة الأهلة على حساب الشهر القمري لنحدد موعد الصيام وشهره، وأوان الحج وأعياد المسلمين وفقاً لنظام طبيعي يسهل ادراكه للجميع فتحدد الأشهر الحرم بواسطته. ويبقى هذا النظام دون أدنى تغيير حتى يأذن الله تعالى بقيام الساعة كما يشير إلى هذه الحقيقة قوله تعالى (إن عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض، منها أربعة حرم، ذلك الدين القيّم) (سورة التوبة، الآية: 36).

النبات الزاحف والقائم:

ثم يذكرنا الله عز وجل بآيتين ونعمتين من نعمه السفلية في قوله عز وجل (والنجم والشجر يسجدان)، ولعل المراد هنا (بالنجم) في هذه الآية هو ما ينجم أي يخرج عن الأرض ويفترشها ناشراً عليها أغصانه وثماره من النبات، كالقرع والخيار والرقي والبطيخ، وهو ما نصطلح عليه بالنبات الزاحف.

وهناك نوع آخر من النبات يقوم على الأرض، أي يثبت عليها قائماً بواسطة سيقانه كما في أشجار التفاح والبرتقال والرمان وما سواها، ولذلك قالت العرب للنبات الزاحف نجماً وقالت للنوع الآخر أشجاراً أو شجراً، ولو التفتنا إلى مقدار فصاحة وبلاغة هذه الآيات لادركنا السر في الترتيب إذ ان الآية تدعونا فيما سبق إلى رفع رؤوسنا نحو السماء لنرقب الشمس والقمر ونظام حركتهما لندرك من خلال ذلك عظمة الباري تعالى ثم تدعونا الآية اللاحقة إلى ان نطأطئ رؤوسنا نحو الأرض لننظر النبات الذي افترش الأرض أو ما قام عليها وهما يسجدان لله سبحانه وتعالى.

الجميع يسجد لله (تعالى) تكويناً:

السجود لغة يعني الانقياد، وقد جاء معنى السجود هنا بمعنى الانقياد التكويني، والسجود التكويني للنباتات انما هو في حدود ما حدده الله تعالى لها، فهي لا تتعدى ما رسم لها، فالحب والنوى ينفلق في حدود ما أراده الله لها، فحبة القمح لا تنفلق عن نبتة شعير اطلاقاً، وهكذا الحال في سائر الشجر والنبات لأنها لا تباشر فعالياتها الاّ وفقاً للخصوصيات التي أودعت فيها تكويناً، لذلك كانت مقادة في شؤونها التكوينية كسائر الموجودات، وعلى هذا الأساس فهي تسجد انقياداً لأمر الله تعالى وإرادته وفقاً لما هو مطلوب منها.

والشيء المهم في موضوع الانقياد هو السجود الاختياري في الإنسان رغم أنه يسجد سجوداً تكوينياً أيضاً لله كسائر المخلوقات (ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً) (سورة الرعد، الآية: 15).

فالإنسان منقاد لأمر الله تعالى مذ كان نطفة، وعندما يلج عالم الدنيا، ذكراً كان أم انثى، وجميلاً كان أم دميماً، قميئاً كان أم فارعاً، فقيراً كان أم غنياً، سليماً كان أم سقيماً وحتى يدركه الضعف والعجز والشيخوخة ثم يصير إلى الموت، فهو في جميع تلك الأحوال منقاد لله يسجد له ولا سبيل له إلاّ التسليم لمشيئة الله (جل جلاله). ويبقى الشرف والكرامة للإنسان عندما يسجد لله بمحض إرادته واختياره.

يقول السيد ابن طاووس (عليه الرحمة) في وصيته لولده (وعندما تبلغ عام تكليفك الشرفي باحتفل به وتصدق بمائة وخمسين سكة نقدية، لأن يومك هذا هو اليوم الذي لفت الله تعالى نظرك فيه إلى طاعته، ولأنك قد بت فيه مؤهلاً لقبول الأمر والنهي الربانيين، فحري بك ان تقول ـ انه لمن دواعي الشرف والكرامة ان يأمرني الباري عز وجل أن اُطأطئ رأسي إرضاءً له وامرّغ وجهي بالتراب تعّظيماً لله بمحض ارادتي واختياري فأبرز للملأ عظمة الله سبحانه وتعالى).



[1] الصحيفة السجادية، دعاء مكارم الأخلاق.

[2] اصول الكافي، للكليني، (ج2، ص519).

[3] ويمكن الرجوع إلى ما ذكره السيد المؤلف(رض) حول هذا الموضوع في كتابه الموسوم (قلب القرآن) المتضمن لتفسير سورة يس لمن أراد المزيد.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست