.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

ربات الوجوه الصبيحة والأخلاق المليحة في الجنة

شرف الإسم من شرف المسمى

علي (ع) إسم الله الأعظم وآيته الكبرى

 

[ 54 ]

(فيهن خيرات حسان * فبأي آلاء ربكما تكذبان * حور مقصورات في الخيام * * فبأي آلاء ربكما تكذبان * لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان * فبأي آلاء ربكما تكذبان * متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان * فبأي آلاء ربكما تكذبان) (سورة الرحمن، الآيات: 70 77).

ربّات الوجوه الصبيحة والأخلاق المليحة في الجنة:

(فيهن خيرات حسان) أي في تلك الجنان نسوة صالحات (أو منتخبات) حسناوات. وتعد نساء الجنة (من الحور العين ونساء الدنيا المؤمنات) من نعم الجنة السنيّة، حيث يشير القرآن إلى هذه النعمة في العديد من المواضع فيه. ومعنى كلمة (خيرات) وهي مجمع (خيره) المنتخبات والمنتقيات والمختارات من النسوة من ذوات الأخلاق الفاضلة والملكات الحسنة الذي تحصّل لديهن نتيجة ايمانهن بالله عز وجل وقيامهن بالأعمال الصالحات في الحياة الدنيا لذلك جاء الانتقاء والاختيار لهن بفضل ما اكتسبن، ومن جملة ملكاتهن الحسان فرط عشقهن لأزواجهن وغض الطرف عمن سواهم، والاستجابة إلى رغبات وشهوات أزواجهن مع ما لديهن من جمال مفرط وحسن أخّاذ يفوق ما لدى مثيلاتهن من احور العين، يقول الإمام الصادق (ع) (الخيرات الحسان من نساء أهل الدنيا وهن أجمل من الحور العين)[1] ولعل كلمة (خيرات) مشتقة من مادة خير، فيكون المعنى نسوة صالحات، ويصبح معنى الآية: ـ في تلك الجنان نسوة صالحات حسناوات ـ.

وكلمة (حسان) مشتقة من الحُسن وهو جمال وملاحة الوجه وعليه يكون المعنى ـ أن حسن النسوة الصالحات أو المنتقيات يصل إلى كمال الهيئة وجمال الصورة. وقد ذكر النبي (ص) معنى (خيرات حسان) في حديث روته عنه أم سلمة (رض) يقول فيه (ص): (خيرات حسان) أي نساء خيرات الاخلاق حسان الوجوه)[2].

(فبأي آلاء ربكما تكذبان) فبأي نعمة من نعم ربكما يا معاشر الجنة والناس تكفران؟ أبنعمة الزوجات الحسان الخيرات لا تؤمنان؟! ولعل هذه الآية هي إشارة صريحة إلى نساء الدنيا، يقول الراوي سألت أبا عبد الله الصادق (ع) عن قول الله (عز وجل) (فيهن خيرات حسان) فقال هن صالحات المؤمنات العارفات[3]. وهذه الآية تقف بأزاء الآيات السابقة واللاحقة التي تتحدث عن الحور العين ونسوة الجنان في عالم الآخرة.

حور مخدرّات في الخيام:

(حور مقصورات في الخيام) أي ان الحور العين أودعن في خيام وحجبن عن نظر الأجانب إليهن، وهذا النص القرآني يعرب عن بيان رفيع حيث يؤكد منتهى العفاف والطهر لحور الجنان، فهل لا يخرجن من خيامهن كما تذهب هذه الرواية إلى تأكيد هذا المعنى (الحور هن البيض المكنونات المخدرّات في خيام الدر والياقوت والمرجان، لكل خيمة أربعة أبواب على كل باب سبعون كاعباً حجّاباً لهن ويأتيهن في كل يوم كرامة من الله (عز ذكره) وبشر الله عز وجل بهن المؤمنين)[4]. فالحور العين محتجبات في خيامهن عن نظر الغرباء وليس حالهن كحال بعض نساء الدنيا اللواتي تتعقبهنّ نظرات السوء والريبة لأنهن خرجن عن بيوتهنّ وتبرّجن تبرّج الجاهلية الأولى. وجاء في تفسير علي بن ابراهيم القمي في معنى قوله تعالى (حور مقصورات في الخيام) أن الحور يقصر الطرف عنهن وروي عن النبي (ص) أنه قال: (الخيمة درة واحدة طولها في السماء ستون ميلاً)[5].

المؤمن غيور مثل ربّه:

(لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان) أي لم يمسسهن أنس من قبل ولا جان، فكما أنهن لم ينظر إليهن أحد نظرة حرام فهن لم يمسسهن أحد بيد سوء، وتشير هذه الآية الكريمة إلى حقيقة كون الحور أبكاراً، ولعل تكرر مجيء هذا المعنى في السورة المباركة هو بمثابة التذكير بهذه النعمة لأن المؤمن غيور ولا يرتضي لنفسه نظر أحد من الخلق إلى عرضه، أو أن تمتد يد سوء إليه، لأنه يبغي العفاف الدائم لأزواجه، لذلك أكدّ الباري تعالى على هذه الحقيقة، بعد ذلك يعقب الباري عز وجل قائلاً (فبأي آلاء ربكما تكذبان) أي فبأي نعمة من نعم الله لا تؤمنان يا معشر الجنة والناس؟ أبنعمة عفاف زوجاتكن اللواتي لم يستطع من أحد أن يسترق منهم حتى النظرة، فوق أنهن لم يمسسن بيد سوء من أي مخلوق كان؟!!

الجنة دار الراحة والهناء، لا الدنيا:

(متكئين على رفرف خضر وعبقري حسان) و(الرفرف) هو المتكأ في أحد معانية، أما (العبقري) فيعني البساط أو كل ما يفترش للجلوس عليه، وبذلك يكون معنى الآية ـ متكئين على تكايا خضر وقد افترشوا لهم بُسطاً جميلة ـ فأهل الجنة قد اتكأوا على رفرف المجد والعزة الأخضر وافترشوا عبقري الفخر والملك الرائع. ومن يراقب حال الإنسان في دنياه يجده ورغم جميع محاولاته في تأمين الراحة لنفسه، لا يستطيع بأي حال من الأحوال أن يعثر على ما فقده، لن دار الدنيا دار محفوفة بالبلايا والشدائد والمكاره، ففي شرابها يحصل الشَرَق، وفي طعامها تأتي الغصص، وسعي المرء مشتت بين تهيئة الطعام وإعداد الملابس وإيجاد المأوى والتوجّع لأجل تأمين الرزق وتدبير المعيشة، وعندما يفكر الإنسان بالترويح عن بدنه وفكره لساعة واحدة، يجد أن ساعة الراحة المنشودة هذه كثيراً ما تتبدل عليه إلى مرارة وعناء، فتستحيل حياته إلى مجلس عزاء وهم وحزن.

لذلك جعل الله تعالى الجنة مكان الراحة الحقيقية المناسب، ومحل الهناء التام كما نجد ذلك في إشارات الروايات الشريفة. ولعلنا عرّجنا كثيراً وبعدنا عن صلب موضوعنا، وعليه فنعود إلى تفسير آياتنا موضوع البحث، يقول بعض المفسرين ان معنى كلمة (رفرف) هو بساط من بسط الجنة وهو غاية في الجمال والروعة، وقد جاء في أخبار المعراج ان رسول الله (ص) قد جلس على رفرف ليلة عروجه إلى السماء.

هل يهزّكم الشوق إلى الجنّة:

لقد استعرضنا سوية جميع نعم الجنان وآلاء الرحمن الواردة في هذه السورة الكريمة ولم يبق منها سوى آية واحدة، ونقول الآن ترى بعد إحصاء كل تلك النعم العظيمة هل هز الشوق أحدنا إلى تلك النعم الجليلة فراح يشغل الفكر في كيفية بلاغها ونيل الوطر منها؟ ولعل الشوق كان لدى البعض منذ البداية، فهل تضاعف عندهم الشوق حتى ملك عليهم كل حالهم؟ إلا هل من طالب، إلا هل من راغب في نعم الله المعدّة لمن أراد أن ينجح صفقته مع ربه؟ انها والله سهلة المنال لمن هجر الغفلة وودع الكسل وفارق الضجر.

نعم ان الشوق لو غلب على الإنسان لما ضاع عمره الثمين وساعاته النفيسة في هوس بناء عمارات الدنيا الزائلة وشراء الرياض والبساتين المنتقلة إلى الورثة، ولو غلب الشوق على الإنسان في الوصول إلى مناه في الحور العين الحسناوات الفاتنات اللواتي وصفهن الباري تعالى في كتابه الحكيم لما تعرّض إلى حرمات الناس بنظرات الحرام ولما عكف على معاكسة النسوة الأجنبيات، لأن شوقه إلى الحور قد أخذ بمجامع فؤاده وساقه إلى طلب النعم الدائمة الرائعة، وحينئذ يهجر الذنوب ويصلح حاله ليكون طالباً حقيقياً للجنان وآلائها، فيدخل حينئذ إلى دار السلام التي لا يردها إلاّ الأصحاء المعافون (لهم دار السلام عند ربهم) (سورة الأنعام، الآية: 127). واما من اختار لنفسه المرض على السلامة فحينئذ سيكون مصيره المؤكد إلى مستشفى الآخرة في جهنم ليتلقى العلاج المناسب لأمراضه فان صلح حاله فبها وحينئذ سيدخل مدخل أصحاب السلامة في دار السلام، وان لم يصلح وبقيت أمراضه غير قابلة للعلاج فحينئذ عليه البقاء الدائم في مستشفى جهنم ليؤمّن الأصحاء سلامتهم من داءه الوبيل خوف العدوى. اما أهل الجنة فهم من الأصحاء وأصحاب السلامة والعافية وقد تحرروا من ربقة الأمراض العضال من حقد وحسد وحب للدنيا وغيرها كما يقول المولى عز وجل في كتابه الكريم (ونزعنا ما في قلوبهم من غل إخواناً) (سورة الحجر، الآية: 47).

[ 55 ]

(تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام) (سورة الرحمن، الآية: 78).

شرف الاسم من شرف المسمى:

(تبارك) من باب تفاعل، وتعني تعاظم وتنزّه، ومعنى (تبارك اسم ربك) هو ـ عظمت البركة في اسم ربك العظيم ـ أو ـ حلّت البركة في اسم ربك ذي العظمة والأنعام وكلمة (اسم منبثقة عن المسمّى، وهو صاحب الاسم الذي منه يكتسب الاسم شرفه، وكلمة (ربّك) تعني رب العالمين (تعالى) صاحب العظمة والجلال والانعام والاكرام. إذ أن (العظيم) أحد أسماء الله (عز وجل)، وقد اكتسب هذا الاسم الشرف من عظمة رب العالمين لأنه الله تعالى مبارك ومبارك، واسم (المبارك) هو من أسماء الله تعالى، وعلى أساس ذلك يكون معنى (تبارك اسم ربك) هو تعاظم اسم ربك ومليء بالبركة. وعليه كان لزاماً على المؤمنين ألاّ يدعو ذكر اسم الله (عز وجل) على أية حال، وفي كل حركة وسكنة عند الطعام والشراب، وعند ارتداء الملابس، وعند الدخول أو الخروج من الدار، وعند المواقعة والجماع بل وحتى عند الذهاب إلى بيت الخلاء لقضاء الحاجة، لأن البركة الإلهية تكمن في اسمه تعالى.

بسم الله الحقيقي يتحصّل في معرفة التوحيد:

البركات الإلهية كثيرة بالطبع، ولا تحدها حدود تحصرها، ويبقى مقدار الاستفادة ونيل تلك البكرات منوط باستعدادات الافراد ولياقاتهم الذاتية، وعليه تتحقق استفادة المرء من (اسم الله) مثلاً بذلك المقدار الذي يحويه من الإيمان ومعرفة الله (عز وجل) وبواسطة مبلغ همته ودرجة معرفته. ولو ارتقى الإنسان إلى مقام المعرفة بحيث يصل إلى حقيقة العبودية فسيدرك حينئذ حقيقة بسم الله، وسيحصل على بركات لا حصر لها ولا حدود بحيث تحير فيها الألباب وتعجز عن إدراكها العقول ولو استيقن المرء قول (لا حول ولا قوة إلاّ بالله) وهو يفهم ان معنى ذلك هو (ما من قدرة مؤثرة ولا قوة فاعلة في هذا العالم سوى قدرة الله تعالى وقوته) إذّاك يستطيع أن يقول بسم الله بحقيقتها وحقيقة (بسم الله) هي أن يستنتج المرء منها أن لا عون إلاّ من عند الله ولا بركة إلاّ باسمه الكريم، ويبقى قول (بسم الله) مجرد ألفاظ صماء جامدة عندما يرى المرء في نفسه أو الآخرين ان الفعل والمشيئة والارادة منه أو منهم.

ولتقريب الموضوع على الأذهان نقول، إن المرء لو خرج من داره وهو يعلم ان ما من خطوة خطوها وما من قدم ينقلها إلاّ ولإرادة الله تعالى فيها شأن، وما من قول يلفظه إلاّ ولله فيه ارادة وحكمة فحينئذ سيدرك (بسم الله) على حقيقتها، ولو افترضنا ان المرء نسي ذكر الله (لا سمح الله) أو انعقد لسانه وهو يدرك في قرارة ذاته ان لا حول له ولا للآخرين في أي شأن إلاّ بالله تعالى، فسينساب اسم الله عز وجل الواقعي على لسانه ويجري من فيه بكل يسر وسهولة، مع تأكيدنا على أن الخصائص والأسرار الكامنة في (بسم الله) ترتبط ارتباطاً وثيقاً بدرجة معرفة الإنسان الناطق بذلك القول وبسلوكه العملي لما يعتقده.

الله هو الحق وما دونه الباطل:

وإذا ما تدرّج الإنسان وتقدّم في منازل المعرفة والتوحيد فعندها سيصل إلى مرحلة التصديق واليقين ويقطع بأن الله هو الحق المطلق وما سواه (تعالى) باطل زائل.

يقول الشاعر الجاهلي لبيد بن ربيعة العامري:ـ

وكل نعيم لا محالة زائل

 

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

وطبقاً لرواية منقولة عن رسول الله (ص) انه قل في شعر لبيد هذا، (إنه أفضل ما قيل من الشعر قبل الإسلام)، ويقول المولى عز وجل في كتابه المجيد (ذلك بأن الله هو الحق، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل) (سورة الحج، الآية: 62).

فالله تعالى هو القوي وما سواه ضعفاء، والله هو الغني وما خلاه فقراء، وستتجلّى هذه الحقيقة بعد الموت لأهل الحسن والظاهر الذين لا يؤمنون إلاّ بما تدركه حواسهم الخمس.

ولتفكيه كلامنا، والاشارة إلى البركات التي حصلت لمن تبرّك بأسماء الله تعالى نسرد لكم هذه الحكاية عن بعض الأخيار:ـ

إبطال آثار السم بقول بسم الله:

نقل صاحب كتاب الكبريت الأحمر وآخرون، أن رجلاً صالحاً من المؤمنين عرف حقيقة بسم الله، فكان لا يفعل أي شيء دون أن يسبق ذلك بقول (بسم الله)، وكان لهذا الرجل زوجة شابة كانت قد عمدت في أحد الأيام إلى دس السم لزوجها في طعامه، فجاء الرجل الصالح ليتناول طعامه وهو لا يدري بقضية السم، فذكر اسم الله على طعامه ثم شرع بتناول الطعام حتى فرغ منه فلم يلحقه أي ضرر من السم، وبعد فترة من الزمان شاع أمر السم المدسوس في الطعام عند أهل البلدة فسمع الرجل الصالح بذلك، ولما عاد إلى منزله سأل زوجته عن سبب دسها السم له في الطعام؟ فردّت عليه قائلة: أريد منك تجيبني كيف لم يفعل السم أثره فيك وانا اعلمك بسبب دسي السم في طعامك؟ قال لها الرجل الصالح: لعلني حينما سبقت الأكل بذكر الله لم يفعل السم أثره ببركة (اسم الله) عز وجل، فردت عليه الزوجة بالقول: لقد فعلت ذلك وأنا اريد الخلاص منك لانك شيخ فانٍ وأنا لا زلت شابة في مقتبل العمر وأبغي لنفسي رجلاً شاباً يشاركني الحياة الزوجية!

سد الرمق من الجوع باسم الله:

وذكر صاحب كتاب الكبريت الاحمر قصة أخرى مفادها: ان رجلاً مؤمناً فقير الحال كان يقيم في مدينة مكة المكرمة، وكان لا يجد في يومه كفاف نفسه، مع أنه كان يصوم الدهر، وكثيراً ما كان رفقاؤه يشاهدونه عند موعد الافطار يخرج رقعة مكتوبة من جيبه فيحملق فيها ثم يدسها في جيبه دون أن يتناول شيئاً من الزاد أو الشراب، وحينما حل به الاجل ونزل به الموت فتشوا جيوبه فإذا بهم يعثروا على الرقعة، فنظروا فيها فلم يجدوا شيئاً سوى آية (بسم الله الرحمن الرحيم) فعلموا حينئذ أنه كان يرفع حاجته من الطعام ويسد رمقه ببركة هذه الآية الكريمة المتضمنة لأسماء الله الحسنى. وهذا أمر صحيح ويجب علينا ان لا نبادر إلى إنكاره، لأن الانكار كما قلنا دليل ضحالة الفكر وقلة العقل، ويعود منشأ ضحالة الفكر إلى غلبة الأسباب المادية على عقل الإنسان نتيجة صمم الأذنين وعمى العينين وأسر النفس الإنسانية بجدران الحواس الخمس، وحينئذ يتعذّر على الإنسان أن يحلق في عالم الأسباب المعنوية الفسيح.

السير على وجه الماء ببسم الله:

وحول كرامات السيد الشريف المرتضى الملّقب بعلم الهدى (هذا اللقب وهبه إياه جده الإمام موسى بن جعفر (ع)، وقد ناله عن جدارة واستحقاق) نقل أن كان للسيد علم الهدى مجالس درس وبحث في مدينة الكاظمية نهاراً يقصدها جمع من الناس من أطراف المدينة طلباً للفائدة، وكان من جملة تلاميذه شخص يسكن في بغداد ويحرص على حضور الدرس بعبور نهر دجلة يومياً بعد أن يتم نصب الجسر في وقت متأخر من كل صباح فيصل بشكل مستمر إلى درس سماحة السيد علم الهدى متأخراً، فشكا للسيد حاله وكيف أن الدرس يمضي جلّه فتعدم الفائدة منه وهو حريص على كسب العلم فأشفق عليه السيد وتناول رقعة فكتب بها شيئاً ثم طواها وسلمها له وأوصاه أن يبكّر في الغد إلى الدرس ويدع الجسر ويضع قدميه على الماء ويمشي فيعبر نهر دجلة.

فعمل الرجل وفق توصية السيد علم الهدى وامتثالاً لأمره فعبر الماء مشياً على الاقدام فوجد ان قدميه لا تبتلان بالماء واستمر به الحال على هذا المنوال عدة أيام. وفي أحد الأيام حدثته نفسه أن يتعرف على هذا الأمر العجيب المكتوب في الرقعة، ففتح الرقعة فلم يجد فيها سوى قوله تعالى (بسم الله الرحمن الرحيم)، وهنا برز جهله وضحالة عقله فقال (عجباً انها ذات الـ بسم الله الرحمن الرحيم التي نقرؤها كل يوم) ثم طواها وعاود الحال قاصداً اجتياز النهر فما أن وضع قدمه حتى غاصت في الماء وأوشك على الغرق، فتنحى عن الماء وقصد الجسر وانتظر هناك حتى انعقد الجسر فعبر إلى الجانب الثاني، ولما وصل حلقة الدرس متأخراً سأله السيد عن سبب التأخير؟ فذكر له الأمر بما جرى، فقال له السيد عندئذ لقد ضاع أثر الآية الكريمة لأنك أقللت من أهميتها في نفسك! إذاً ما حصل إنمّا هو لعدم توفر اللياقة المناسبة، وعليه ينبغي علينا أن نعلم ان كل نقص أو قلة انما تحصل لنا نتيجة ضعف إيماننا وقلة معرفتنا بالله تعالى. إذاً معنى (تبارك اسم ربك) هو عَظُمتْ بركة اسم ربّك.

آل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين) هم جلال الله وكرامته:

وجاء في حديث شريف روي عن الإمام الباقر (ع) في معنى قوله تعال (تبارك أسم ربك ذي الجلال والاكرام) أنه قال: (نحن جلال الله وكرامته، وهم أسماء الله الحسنى كما ورد ذلك عنهم (ع) (نحن والله الأسماء الحسنى)، فالأسماء اللفظية لله تعالى نحو (الغفار، الرحيم وغيرها) هي أسماء تناسب جميع مراتب الوجود إما الاسم التكويني لله تعالى فهو يظهر في كل مرتبة من مراتب الوجود وبما يناسبها، ومعنى الاسم التكويني هو (الاسم الذي يدل ويشهد على المكوِّن والمنشأ والموجِد) فلو نظر امرؤ ما إلى الموجودات والكائنات من خلال اسم الهي ما أو آية الهية ما لوجد أن جميع أجزاء العالم (عالم الوجود( تدخل في هذا الاسم وتحمل عنوانه، يقول الإمام علي (ع) (وبأسمائك التي ملأت أركان كل شيء)[6]، وتدخل أسماء الأنوار الأربعة عشر الطاهرة في جملة الأسماء التكوينية لله عز وجل وهي من الأسماء الحسنى لله تعالى كما يتأكد ذلك في مقولة الإمام الرضا (ع) (نحن والله الأسماء الحسنى)، ويشترك العقل مع النقل في تأكيد هذه الحقيقة الناصعة كما سنتناول هذا الأمر بالشرح والتعليق لاحقاً. إذاً إن للجلال والاكرام مظاهر متعددة وتظهر في كل مرتبة ومنزلة من مراتب ومنازل الوجود، وأتم وأكمل تلك المراتب هو ما طهر في العترة الطاهرة من ذرية النبي محمد (ص).

[ 56 ]

(تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام) (سورة الرحمن، الآية: 78).

علي (ع) اسم الله الأعظم وآيته الكبرى:

قلنا فيما سبق إن أهل البيت (ع) هم أسماء الله الحسنى. ولتوضيح هذا الأمر ومعرفة معنى الأسماء نعمد إلى استبيان هذا الحديث الشريف المروي عن مولى المتقين وإمام الموحّدين الإمام علي (ع) يقول الإمام (ع) (أنا اسم الله الأعظم، وما من اسم لله هو أعظم مني) وفي حديث آخر يقول الإمام (ع) (أنا آية الله الكبرى وما من آية لله هي أكبر مني)[7] إذاً علي بن أبي طالب (ع) هو اسم الله الأعظم وآيته الكبرى. وفي حديث آخر مروي عن الإمام الرضا (ع) في تعليقه على قوله تعالى (ولله الأسماء الحسنى فأدعوه بها) (سورة الأعراف، الآية: 180). نقل صاحب تفسير الصافي عن تفسير العيّاشي انه قال: (إذا نزلت بكم شدّة فاستعينوا بنا) وهو قول الله (ولله الأسماء الحسنى فأدعوه بها) قال: قال أبو عبد الله (ع) (نحن والله الأسماء الحسنى الذي لا يقبل من أحد الا بمعرفتنا، قال فادعوه بها)[8]، لذلك كان الدعاء بأسماء الله الحسنى باعثاً على قضاء الحوائج ونيل رفيع الدرجات، والآن فلنتبين كيف أن أهل البيت (ع) هم أسماء الله الحسنى؟

أسماؤنا تدلّ على المسميّات:

كلمة (اسم مشتقة بالأصل من (السمة) وهي العلامة، رغم أن البعض اعتبروا اشتقاق كلمة (اسم) من مادة (سمو)، ولكن ما يطابق ما جاءت به الرويات وبالذات الرواية المنقولة عن الإمام الرضا (ع) (ما أن يلفظ اسمنا حتى يتبادر إلى الذهن صاحب الاسم، فاللفظ الحسن لنا يدلّ على المسمّى وهو صاحب الاسم ما فاللفظ دال وصاحب الاسم مسّمى ومدلول عليه). وفي بعض الأحوال يكون الدّال هو الدليل على اللفظ كما في هذه الالفاظ الحسنى التي تدل على صاحب الاسم ولكن يبقى للاسم معنىً كليّاً، وحينئذ لا يكون دالاً على اللفظ بل يكون مجرد خط وكتابة، فهذا اللفظ الحسن لو صوّر على هيئة تصوير مثلاً فيكون المصور أو المخلوط الذي يشاهده المشاهد يدلّ على صاحب الاسم المكتوب أو الصورة المصورة. واستناداً إلى ذلك، يجب أن لا يلتفت إلى الاسم اللفظي لوحده حينما تقال كلمة (اسم) لأن للاسم معنىً أوسع من مجرد الألفاظ.

الأسماء اللفظية، والخطيّة، والذهنيّة، والمسمى الخارجي:

ولو افترضنا أن شخصاً ما أهان اسم شخص آخر لفظياً لبدت علامات التأثر والانزعاج على وجه صاحب الاسم المهان، ولو مزّق صورته أو اسمه المكتوب بقصد الاهانة، لتأثر أيضاً، لأن لفظ الاسم وأثره في الخطوط أو الصور منسوبات إلى صاحب الاسم.

وقد يحصل أن يتخيل أحدنا صورة شخص ما في مخيلّته، وذهنه، وهذه الصورة المرسومة في الذهن والمخيلّة هي في الواقع اسم لصاحب الصورة أيضاً. ويبقى الاسم اللفظي محدوداً بحدود الألفاظ، والاسم المكتوب أو المصور محدوداً بحدود عالم الخطوط والرسوم والصور الفتوغرافية، ويبقى الاسم المرسوم في الذهن والمخيلّة محدوداً بعالم الذهن.

وتبقى الحقيقة في المسمى والوجود الخارجي لصاحب الاسم، أي ما يجسده هذا الاسم من وجود حي خارجي، أما الالفاظ والخطوط والصور الفتوغرافية والذهنية فلا تمثّل إلاّ محل الاسم وملامحه.

الشهادة لله بالوحدانية:

لذلك كانت كل مرتبة من مراتب الوجود الناطقة بلسان الحال الفصيح دليل وبرهان على الخالق والصانع (تبارك وتعالى)، فيصرح كل متحرك قائلاً بلسان التكوين (ان لي محركاً وصنعاً عالم قادر.

(وحده لا شريك له) بقول مليح

 

كل نبت انبتته الأرض يصيح

ويقول الشاعر الايراني سعدي الشيرازي أيضاً ما معناه:

كتاب دليل في كل ورقة على معرفة الصانع

 

أوراق الأشجار الخضر في نظر اللبيب

نعم، إن كل ورقة من أوراق الأشجار هي اسم من أسماء الله تعالى فيما لو لم ينظر المرء إلى الأسماء نظرة استقلالية، بل بنظرة ان وجود الاسم هو للشيئية، يقول الإمام أمير المؤمنين (ع) (ما رأيت شيئاً إلاّ ورأيت الله قبله وبعده ومعه)[9].

لأن كل العال ذا منه

 

واني لأعشق العالم كله

فكل شعرة في البدن، وكل عرق وكل عظم هو اسم من أسماء الله تعالى، وجميعها تشير إلى أن خالق تلك الأشياء هو عالم وقادر، بل وكل كلمة تصور عن فم إنما هي دليل على الناطق نفسهن فالموحّد يرى المسمّى ويعبدهن ولو لم ير المرء المسمّى وعبد الاسم وحده كافر بالله تعالى، يقول الإمام الصادق (ع) (من عبد الله بالتوهم فقد كفر، ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك، ومن عبد المعنى بايقاع الأسماء عليه بصفاته التي وصف بها نفسه فعقد عليه قلبه ونطق به لسانه في سرائره وعلانيته فأولئك هم المؤمنون حقاً)[10].

عشقت العالم كلّه، لأن العالم كلّه منه:

ولما كان الكون بأسره هو أسماء الله تعالى، لذلك يتعلق الاشخاص الذين تنورت قلوبهم بنور العلم والمعرفة بحب أشياء ذلك العالم، فالنبي (ص) كان كلمّا قدمت له فاكهة في أول أوانها يقبلها ثم يضعها على عينه، ونتساءل، لماذا يقبل الرسول (ص) العنب؟ أهناك عناق وتقبيل خاص بالأعناب؟! والجواب نعم، فالشخص الذي لا يرى في العنب إلاّ العنب ينبغي عليه ألاّ يقبله، أما من يرى في العنب صانع العنب فهو يرى فيه اسم الله لذلك تراه يكرمه ويقبله، وله الحق في ذلك أيضاً، لأن صنع الله عز وجل محبوب، هذا المصنوع (كشجرة العنب) التي ينشئها الله تعالى بين الصخور والتراب والحصى خشبة يابسة فتخضر وتورق وتحمل عناقيد حامضة الطعم لا تلبث حتى يجعل الله عز وجل مذاقها عذب طيب فتأمّلوا كم هو لطيف خلق الله عز وجل؟ حتى أننا نأكل العنب دون أن نضطر إلى نزع قشوره.

آل محمد (ص) مرآة يتجلّى فيها الله عز وجل:

وأما معنى (الحسنى) وهي على وزن (فعلى) وهي مؤنث الأحسن فتعني الأفضل والأجود. ولقد قلنا إن جميع أجزاء الكون ومركبات عالم الوجود هي أسماء الله تعالى، وجميعها تشهد لله عز وجل بالعلم والقدرة والحكمة، ولكن الأنوار الأربعة عشر (ع) أهل بيت العصمة والطهارة هم افضل تلك الأسماء وأحسنها وأجودها.

ولتوضيح القصد نسوق المثال الآتي: كلنا يعلم ان المرايا لها عدة أشكال، فبعض المرايا محدبة تنحل وتنحف وتطيل صور الأشياء، والبعض الآخر مقعرة تقمأ وتبدن صور الأشياء وبعضها مستوية تظهر صور الأشياء وفقاً لمظهرها الخارجي المألوف، وأحجام المرايا المستوية تظهر من صور الأشياء بمقدار حجومها، فبعض المرايا لا تظهر إلاّ صورة الوجه لصغر حجمها، وبعضها يظهر صورة البدن كاملة لكبر حجمها فلا تخفي شيئاً منه. والموجودات في واقعها تشابه المرايا في فعلها فهي تظهر صور الله عز وجل بمقدار يتناسب وسعة وجود الموجود، والواقع أن جميع الموجودات لا تظهر إلاّ جانباً معيناً من التجلّي الإلهي بحيث لا يصدق القول على تلك الموجودات أنها استطاعت أو تستطيع أن تكون دليلاً على تجلي الله (جل جلاله)، باستثناء المعصومين الأربعة عشر (ع) فهم المرآة الكاملة التي أظهرت صفات الله عز وجل بصورتها التامة، بينما باقي الموجودات لم تظهر إلاّ صفة واحدة أو صفتين من صفات الله تبارك وتعالى. وتأسيساً على ما سبق فان أهل البيت (ع) هم الذين عكسوا كافة أسماء وصفات الله عز وجل لذلك كانت جميع الموجودات ناقصة من حيث الجهة الاسمية في مقابل آل محمد (عليهم الصلاة والسلام).

على (ع) الاسم الأعظم، والاسم الالهي الجامع:

إذاً الوجود المقدس الذي ظهرت فيه جميع الأسماء الإلهية، بل وحتى جمال الله تعالى وسخطه هو علي (ع) كما نقرأ في الزيارة السادسة لأمير المؤمنين (ع) (السلام على نعمة الله على الأبرار، ونقمته على الفجار).

(تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام) أي تبارك وعظم اسم ربك (ويعني بذلك محمداً (ص) وعلياً وفاطمة والحسن والحسين والتسعة المعصومين من ذرية الحسين (ع)). فكل امرئ من أهل النجاة تقوده يد علي (ع)، وكل امرئ من أهل النار يتبعه سخط علي (ع).

ومن المسلّم به عند المسلمين كافة (سنة وشيعة) أن علياً (ع) يقف عند جسر جهنم فيبعث أهل النار إلى النار، وأهل الجنة إلى الجنة، لأنه قسيم النار والجنة كما في النص الآتي (السلام على قسيم الجنة والنار)[11]، فهو عين الله ويده واذنه كما في النص التالي (السلام على عين الله الناظرة، ويده الباسطة واذنه الواعية)[12].

 

[1] تفسير نور الثقلين نقلاً عن كتاب من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق.

[2] تفسير نور الثقلين، نقله كتاب مجمع البيان.

[3] نفس المصدر.

[4] تفسير نور الثقلين ـ نقلاً عن روضة الكافي.

[5] تفسير نور الثقلين ـ نقلاً عن جامع الجوامع ومجمع البيان.

[6]  دعاء كميل / مفاتيح الجنان للقمي.

[7] (لقد رأى من آيات ربه الكبرى). سورة النجم، الآية: 18).

[8] تفسير الصافي، ص 175.

[9] نهج البلاغة.

[10] تفسير الصافي، (ص26).

[11]  الزيارة السادسة للإمام أمير المؤمنين (ع) / كتاب مفاتيح الجنان.

[12] الزيارة السادسة للإمام أمير المؤمنين (ع)/ كتاب مفاتيح الجنان.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست