.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

طلاب الجنة قليلون

نساء الجنة كأنهن الياقوت في تألقهن

وجنتان أخريان

 

[ 51 ]

(متكئين على فرش بطائنها من استبرق وجنا الجنتين دان * فبأي آلاء ربكما تكذبان * فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان* فبأي آلاء ربكما تكذبان) (سورة الرحمن، الآيات: 54 ـ 57).

طلاب الجنة قليلون:

إذاً أعد الباري تعالى لعباده الخائفين مقامه (تعالى) جنتين فيهما من ألوان النعيم التي أشار القرآن إلى شيء منها، ومن جملة النعم الفُرش الرائعة ذوات البطائن الحريرية، فكيف بالفراش نفسه؟ مع العلم ن بطائن الفرش من افضل والطف وأنعم وأنور وأزهى الأقمشة حيث عبر عنها القرآن بأن مادتها الاستبرق. يقول الإمام علي (ع) (ألا وإني لم أر كالجنة نام طالبها) مع ان المرء كم تأخذ السعادة منه مأخذاً ويحلّق به السرور أوجاً لو حصل في هذه الدنيا على بستان أو روضة؟ بل وكم ينفق من جهده وعرقه وسعيه حتى يحقق ما صبت نفسه إليه في دنياه باقتناء بستان مثلاً؟ وهو يعلم تماماً أنه سينتفع منه لأجل محدود ثم يغادره إلى حيث لا رجعة إليه، بينما الجنة أولى بالشوق إليها والسعي نحوها وبذل العرق وتحمل الصعاب وتجشم العناء طلباً لها لأنها الباقية، ولأنها المُلك المقيم (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون) (سورة المطففين، الآية: 26).

فواكه الجنة في متناول أيدي أهلها:

(وجنا الجنتين دان)، كلمة (جنا) تعني الثمرة المقطوفة من الشجر، ولا يصح تسمية الثمرة التي لم تجنى بعد من شجرتها (جنا)، ففواكه الجنة وثمارها في متناول أيادي أهل الجنة وأنّى شاءوا، فما أن يشتهي المؤمن فاكهة ما حتى يهبط إليه غصنها وتقترب الثمرة المطلوبة عند فمه، فهو لا يحتاج إلى النطق والافصاح عن حاجته أو رغبته أبداً.

ومعنى كلمة (دان) هو قريب، وهي مشتقة من الدنو أي القرب إذاً خلاصة معنى الآية هو (إن ثمار الجنتين وفواكههما قد دنت إلى المؤمن وأضحت في متناول يده وعند رغبته، بل ان القطاف والجني ذاتي ولا يحتاج فيه المؤمن إلى الامساك بالثمرة وقطفها بل تصير بذاتها إلى فمه وقتما شاء ذلك. فطوبى لك أيها العبد المؤمن الذي أفنى عمره في طاعة الله تعالى وتبع إرادة ربه فقد جعل الله عز وجل لك في غدك الآتي ثواب طاعتك وعبادك في نعيم الجنة فيصيّر لك الأشياء حينذاك وفقاً لارادتك ومطيعة لرغبتك وشهواتك.

من قال كلمة التوحيد فله بها شجرة في الجنة:

يقول أحد العلماء، لو أن ملكاً سمع بخبر يقول أن في الأرض الفلانية شجرة لها ثمار يعطي مائة ألف طعم في مذاق ثمرتها وقد خلص الثمر من النوى والقشور وهي تثمر على مدار فصول السنة جميعاً، ترى كم سينفق هذا الملك، وكم سيعطي من جهده وعنائه جرياً وراء الحصول على هذه الشجرة ليتمكن من حيازتها والاستفادة منها؟

وأنت أيها المرء المؤمن حسبك أن لا تستهين بوعد الله أو تستصغره، فان من قال كلمة (لا اله إلا الله) مخلصاً غرس الله له شجرة في الجنة بها وفي سائر الأذكار يعد الله عباده بجزيل الثواب وعظيم المّن، فلم التهاون والتقاعس إذاً؟! ان فاكهة الجنة لا تحتاج منك إلى بذل جهد أو حركة، فهي جنيّة، ولو انك طعمتها واكثرت منها سوف لا تثفل على معدتك ولا يحصل لديك انتفاخ البطن أو وجع القلب الناشئ عن تناول الأطعمة دون الشهيّة.

نساء الجنة مولهات بأزواجهن:

(فيهن قاصرات الطرف) أي وفي الجنتين نساء يقصر نظرهن على ازواجهن. ويعد وجود الحور العين في الجنة أحد اكبر النعم الالهية، فقد خص الباري تعالى خلقهن للآخرة وحدها، ومع الحور العين توجد أيضاً النسوة المؤمنات الصالحات في الجنة، والمؤمنات يفوق جمالهن جمال الحور العين بأضعاف مضاعفة، مع أن زيادة تقوى وايمان الامرأة الصالحة يؤدي إلى زيادة درجات الجمال الآخروي.

ويبلغ من عشق الحور العين لازواجهن حداً يقصر فيه طرفهن عن رؤية غير ازواجهن، لذلك وصفهن الله عز وجل بـ (قاصرات الطرف)، وقد ورد عن النبي (ص) قوله (قاصرات الطرف، قصر طرفهن على ازواجهن فلم يردن غيرهم) وقال أبو ذر(رض) (إنها (أي الحورية) تقول لزوجها، وعزة ربي ما أرى في الجنة خير منك، فالحمد لله الذي جعلني زوجك وجعلك زوجي)[1].

قاصرات الطرف من الحور لمن قصر طرفه عن النظر إلى الحرام:

ويقول أحد المفسرين، إن نعمة قاصرات الطرف من الحور العين اللواتي يقصر نظرهن عن رؤية غير أزواجهن، إنما هن لمن يقصر طرفه عن النظرة المحرمة، فلا يجعل عيناه تزيفان بالنظر إلى ما حرم الله تعالى وهناك من يقول علة تسمية الحور العين بقاصرات الطرف هي نهن يقصر طرف الرائي عنهن من شدة تألّق ضيائهن[2]، فلا يستطيع من مواصلة النظر إليهن.

وتذهب إحدى الروايات إلى تأكيد هذا المعنى إذ تقول (ولو أطلّت حورية من حور الجنة على أهل الدنيا لغشي عليهم من فرط جمالها، حتى أن ضوءها ليطغى على ضوء الشمس، ولو أنها بصقت في البحار المالحة لعذب ماؤها، وان المرأة من أهل الجنة ليُرى مخ ساقها من وراء سبعين حلة من الحرير)[3]، فيكون ذلك زيادة في جاذبيتها[4].

رحلة خطوبة الحور العين تبدأ من المساجد:

وينقل كتاب بحار الأنوار عن رجل انه قال: رأيت يوماً الإمام زين العابدين (ع) وقد خرج لتّوه من الحمام وقد تخضّب ولبس جبّة وهو يروم الذهاب إلى المسجد ماشياً مشية ملؤها الوقار كأنه في مشية عرس، فدنوت منه وسألته: إلى أين يا سيدي؟ قال: إلى حيث تخطب الحور العين. (ومن الحور العين برحمتك فزوّجنا)[5].

إذاً الجنة مكان طاهر نظيف لا يشتمل على نجاسات أو أوساخ، فما فيها هو محض نور، ولذاتها نابعة من الجمال المحض فلا يعكّرها صفواً من نجاسة كما في لذات الدنيا وشهواتها. وعوداً على بدء، نقول إن معنى قاصرات الطرف هنّ من لا تتعدى أبصارهن أزواجهن.

الحور، ابكار لم يتزوجن من قبل:

(لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان) أي لم يمسسهن أحد من الناس أو الجنّة، من قبل، ويرى البعض ان المقصود من هذه الآية الكريمة هو أن الحور العين المخصصات للرجل الانسي لم يطمثها أنسي قبله والحور العين المخصصات للجنّي المؤمن لم يطمثها جنّي قبله.

وبالتأكيد ان جمال الحور يتزايد ويتناقص تبعاً لأعمال المؤمن الصالحات واستناداً إلى ايمانه وتقواه. ثم تأتي الآيات اللاحق لتقدم لنا أوصاف الحور، وما يهمّنا الآن هو ان الجنة في سعادة لا تشوبها شائبة، ونعيم في نعيم لا ينغصه شيء.

ولعله من المناسب لمقالنا هذا أن نذكر احدى فضائل أهل البيت (ع)، تقول إحدى الروايات ان الحور العين بجمالهن الأخّاذ وضيائهن الباهر، يشع عليهن نور فجأة فيبهر أبصارهن ويغلب كل الأنوار (بما فيه نورهن) فيضاء له كل شيء هناك، فيتساءلن عن مصدر النور، فيأتيهن الجواب أن علياً وفاطمة (ع) قد أنسا ببعضهما فضحكا ضحكة فشع النور من فيهما.

[ 52 ]

(كأنهنّ الياقوت والمرجان * فبأي آلاء ربكما تكذبان * هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان * فبأي آلاء ربكما تكذبان) (سورة الرحمن، الآيات: 58 - 61). (لا بشيء من آلائك رب اكذب).

نساء الجنة كأنهن الياقوت في تألقهن:

ذكر سابقاً إن الحور العين أبكار لم يمسهن من قبل أحداً.

(كأنهن الياقوت والمرجان) حمرة وبياضاً، ألا هل من مشتاق لهن؟ ألا هل من راغب لزوجات مدحهن الله تعالى في كتابه الكريم؟ اللّهم فأنزع حب الدنيا من قلوبنا، واجعل بدله حبك والرغبة إلى الآخرة ونعيمها المقيم.

في هذه الآية نرى أن الله عز وجل يصف الحور العين بالياقوت والمرجان تشبيهاً، والياقوت كما نعرف هو حجر كريم ثمين جداً يمتاز على سائر الأحجار الكريمة بخصائص ومزايا، وللياقوت أنواع متعددة، فهناك الياقوت الأبيض والأحمر والأصفر والأخضر، وأشهر أنواعه هو الياقوت الأحمر، وهو يشبه إلى حد كبير حبة الرمان الحمراء، وهو نفيس للغاية، ومن خصائصه أن كثرة مسه ولمسه لا تعدمه بريقه وتألقه. وقد شبّه الباري تعالى جمال الحور العين ونساء الجنة المؤمنات بالياقوت، ويكفي المرء من هذا التشبيه أن يدرك السر بعد أن تعرّف على شيء من خصائص الياقوت.

حمرة الحور كالياقوت، وبياضهن كالمرجان:

وأحد دواعي تشبيه الحور بالياقوت هو جانب الصفاء والتألق، فللحور العين من اللطافة والصفاء ما يبلغ حداً يقول عنه رسول الله (ص) (فهي تلبس سبعين حلّة ويرى زوجها مخ ساقيها من وراء حللها وبدنها، كما يرى أحدكم الدراهم إذا ألقيت في ماء صاف قيد رمح).

اما الجانب الثاني في علة تشبيه الحور بالياقوت فهو جانب اللون، فهن حمراوات كالياقوت، بيضاوات كالمرجان، وقد يبدو مظهر الجمال وفق هذين اللونين أشبه بالسراب في دار الدنيا فلا يتجلّى لنا جمال هذين اللونين على حقيقته، لأن هذين اللونين يعبران في دار الدنيا عن مظهر القيح والدم، بينما تظهر حقيقة الجمال والألوان في الجنة التي يغفل عنها الكثيرون، كما هم الحال في جمال الحور وصفائهن وسائر اللذات والنعم الآخروية.

وجه ياقوتي وبدون بدن كالمرجان:

ونقل صاحب كتاب معالم الزلفى أن المرء المؤمن عندما يرد الجنة ويحتضن حوريته، يذهب معها في عناق وتقبيل يطول خمسمائة عام! وهذه الصورة لا يمكن تصورها طالما كنا في هذا العالم، ولكن يصار بنا إلى ذلك العالم فعندها سنتمكن من مشاهدة هذه الحقيقة في دار النعيم والكرامة حيث تتجلّى هناك قدرة الباري تعالى فيبرّز الجمال الأخّاذ.

وعليه فان معنى قوله تعالى (كأنهن الياقوت والمرجان) هو كأنهن كالياقوت في حمرة الوجوه، وكالمرجان في بياض وصفاء الأبدان. (فبأي آلاء ربكما تكذبان) فبأي نعمة يا معشر الجنة والناس أنتما تكفران؟! أبنعمة أزواج الجنة حمراوات الوجه كالياقوت أم في صفاء وبياض أبدانهن كالمرجان؟!!

وما جزاء الإحسان إلاّ الإحسان:

(هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان) لـ (هل) الاستفهامية الواردة في هذه الآية أربعة معانٍ، كما ذكر ذلك المفسرون، وأهم هذه المعاني المناسبة لموضوع الآية هو الاستفهام التقريري، وعليه يكون معنى الآية ـ ان من البديهي ان يكون جزاء الاحسان هو الاحسان، وهي الإجابة التي لا يجد المسؤول بدّا من القول والاعتراف بحقيقتها.

فأنتم أيها المؤمنون الاعزاء لم تمرغّوا وجوهكم بصعيد الأرض في هذه الدنيا إلاّ لتعربوا لله عز وجل عن انكساركم وعجزكم وذلكم إليه، فظهرتم بمظهر العبودية والخضوع لذلك حصل الله لكم من الثواب على ذلك أن يكسبكم مظاهر العزة والعظمة والجلال في تلك الدار (بأذنه تعالى) ولأجل توضيح هذا الأمر نعمة الآن إلى استعراض هذه الرواية زيادة في فهم الموضوع:

الملائكة تستأذن المؤمن في زيارة التهنئة:

يروى عن رسول الله (ص) أنه قال: عندما يستقر الحال بالمؤمن في الجنة، يبعث الله ألف ملك يهنئونه بالجنة، فيصلون إلى أول باب من جنان ملكة فيقولون للملك الموكّل بأبواب جنان عبد الله المؤمن: 1 ـ استأذن لنا علي ولي الله فان الله بعثنا من عنده مهنئين، فيقول الملك: حتى أقول للحاجب فيعلمه مكانكم، فيقول للحاجب: إن على باب العرصة ألف ملك بعثهم رب العالمين ليهنئوا ولي الله وقد سألوني ان استأذن لهم بالدخول عليه، فيقول له الحاجب: انه ليعظم عليّ ان استأذن لأحد للدخول على ولي الله وهو مع زوجه، قال (ص): وبين الحاجب وبين ولي الله جنتان، فيدخل الحاجب إلى القيّم فيقول له: إن على باب العرصة ألف ملك بعث بهم رب العالمين مهنئين من عنده لوليه فاستأذن لهم، فيقوم القيّم إلى الخدمة ويقول لهم: إن رسل الجبار على باب العرصة وهم ألف ملك بعث بهم إلى ولي الله مهنئين فاعلموه مكانهم فهم يستأذنون بالدخول عليه، قال (ص)ك فيعلم الخدمة ولي الله، فيؤذن لهم فيدخل الملائكة على ولي الله وهو في الغرفة ولها ألف باب، وعلى كل باب يقف ملك موكل بتلك الباب، فيدخل كل ملك مبعوث من باب من أبواب الغرفة ويبلغونه رسالة الجبار (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب* سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار) (سورة الرعد، الآيات: 23، 24). فانظروا إلى هذه العظمة والهيبة التي يعطيها الله تعالى لعبده المؤمن بديلاً عن انكساره وذله في دار الدنيا، وكما يقول الحدث الشريف (إن أهل الجنة ملوك) بلى فهم الملوك والسلاطين في عين الحقيقة وذات الواقع لا سواهم.

وما جزاء التوحيد إلاّ الجنة:

وورد كذلك في تفسير هذه الآية عن رسول الله (ص) وهو يحدث أصحابه (أتدرون ما يقول ربكم؟ (يريد بذلك قوله تعالى (هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان) فردوا عليه: الله ورسوله أعلم، فقال (ص): فان ربكم يقول هل جزاء من أنعمنا عليه بالتوحيد إلاّ الجنة؟)[6]، أي أن جزاء الإحسان وهي كلمة التوحيد (لا إله إلاّ الله) التي يفني المرء المؤمن عمره في تحقيق وتأكيد حقيقتها فلا يشرك بالله شيئاً، ان شركاً خفياً أو ظاهراً، فيعبد الله وحده ويخشاه ولا يرجو إلاّ هو، ان ينعم عليه ويكرمه بإحسانه حقاً عليه تعالى. ولكن بشرط مهم وخطير، هو شرط الولاية في التوحيد كما وضح لنا ذلك إمامنا الثامن علي بن موسى الرضا (ع) عندما قال: بشرطها وشروطها، وأنا (الولاية) من شروطها. إذاً إلحاق الولاية بالتوحيد شرط لازم من شروط التوحيد الكامل.

وهل جزاء الاستغفار إلاّ المغفرة:

ولقد أجاد القول أحد المفسرين عندما قال: إن معنى قوله تعالى (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) هو ـ هل جزا التوبة إلا القبول؟ وهل جزاء الاستغفار إلا المغفرة والصفح؟ وهل جزاء الشكر إلا الزيادة في العطاء؟ وهل جزاء الدعاء إلاّ الإجابة؟وهل جزاء السؤال إلاّ العطاء؟ ـ. ويبقى المعنى الأشمل لكل تلك الأمور هو قوله عز وجل (هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان) لأنها ضمنت جميع تلك المعاني في نصها المجيد.

لقمة بلقمة:

وفي معرض حديثه عن هذه الآية المباركة ذكر أحد المفسرين هذه القصة (في سنة جدب وقحط وغلاء، حملت امرأة مؤمنة طفلها ومعها قرص من الخبز وانطلقت إلى البادية لتجمع الحطب والأشواك، فمرت برجل مسكين قد أضرب به المسكنة واشرف على الهلكة من فرط جوعه، فرقت المرأة لحاله وناولته قرص الخبز ليسدّ به رمقه، ثم تركته وذهبت إلى شأنها ثم لم تمض بعيداً حتى وضعت طفلها في جانب من البادية وشرعت تجمع الحطب والأشواك. فجأة أقبل ذئب وأمسك طفلها بأسنانه يريد افتراسه فذهلت الامرأة ولم تدر ما تفعل؟ وهنا ظهر رجل على حين غرّة فانتزع الطفل من أنياب الذئب وحمله إلى أمه وهو يقول لها: إنها لقمة بلقمة! يريد بقوله إن جزاء إحسانك إلى المسكين الجائع بقرص الخبز هو أن أنقذ الله وليدك الذي أوشك أن يكون لقمة سائغة للذئب.

كافئ بالمعروف من أحسن إليك:

وينبغي التنبّه إلى أن هذه الآية هي آية عامة لا تخصيص فيها، فهي تشمل المؤمن والكافر، البر والفاجر. يقول علي بن سالم سمعت أبا عبد الله (الصادق (ع)) يقول: آية في كتاب الله مسجلة، قلت وما هي؟ قال (ع) قول الله (عز وجل) (هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان) جرت في المؤمن والكفار والبر والفاجر، ومن صنع إليه معروف فعليه أن يكافئ به، وليست المكافأة أن يصنع كما صنع حتى يُربي، فان صنعت كما صنع، كان له الفضل بالابتداء)[7].

ولما منعت السماء قطرها في الكوفة، جاء الناس إلى علي (ع) فشكوا له ذلك، فأمر ولده الإمام الحسين (ع): اذهب وأدع، فذهب الإمام الحسين (ع) ودعا دعاء الاستسقاء فأمطر الله سماءه وارتوى الجميع، فكيف كان جزاء أهل الكوفة لهذا الإحسان؟!

واستنسوا الحال في هتك حرماته

 

منعوا الماء على الحسين وأهله

[ 53 ]

(ومن دونهما جنتان * فبأي آلاء ربكما تكذبان * مدهامّتان * فبأي آلاء ربكما تكذبان * فيهما عينان نضّاختان * فبأي آلاء ربكما تكذبان * فيهما فاكهة ونخل ورمّان * فبأي آلاء ربكما تكذبان * فيهن خيرات حسان * فبأي آلاء ربكما تكذبان) (سورة الرحمن، الآيات: 62 ـ 71). (لا بشيء من آلاء رب اكذّب).

وجنتان أخريان:

(ومن دونهما جنتان) أي وغير الجنتين الأوليين أعد الله تعالى للخائفين المقربين جنتين أخريين. وقد ذكر المفسرون وجهين في معنى هذه الآية هما:

الوجه الأول: المراد بكلمة (دون) هو (غير) وعلى ذلك يكون معنى الآية ـ ومن غيرهما جنتان ـ أي ولمن خاف مقام ربه جنتان اخريان، وتصف الروايات الواردة هاتين الجنتين كما يلي (عن النبي (ص) أنه قال: جنتان من فضة أبنيتهما وما فيهما وجنتان من ذهب أبنيتهما وما فيهما، إذاً الجنتان الاوليان من ذهب، والأخريان من فضة. وسنأتي لاحقاً إلى ذكر الوجه الثاني في معنى الآية.

ولهاتين الجنتين جملة أوصاف، نذكر منها: (مدهامتان) وهي مشتقة من مادة (أدهم) وهو اللون الأسود لفظاً ومعنى، ومدهام هو اسم مفعول، ومدهامتان تثنية لكلمة مدهام، وهي صفة للجنتين من حيث كثرة خضرتهما وزرعهما حتى استحالتا للرائي وكأنهما سوداوان، وبذلك فانهما مبعثان على انشراح القلب وانفراج أساريره لأن كثرة الخضرة والزروع ما تسّر الناظر وتفرحه عادة.

عينان من المسك فوّارتان:

(فيهما عينان نضّاختان) أي فيهما عينا ماء فوارتان، والنضخ هو الفوران، وعن ابن عباس (رض) ورد في تفسير هذه الآية أنه قال (وتنضخ هاتان العينان بالمسك).

وفيهما فاكهة وتمر ورمّان:

(فيهما فاكهة ونخل ورمّان) وفي تينك الجنتين فواكه وتمر ورمان، وانمّا جاء التأكيد على الرمان، لأنه أحد ثمار الجنة كما قال الإمام الصادق (ع) (الفاكهة مائة وعشرون لوناً، سيدها الرمّان)[8] لأن الرمان فاكهة تنير القلب، وقد جاء في السنة استحباب تناول الرمان في ليلة ونهار الجمعة، فقد جاء عن (الامام الصادق (ع) قوله ما من شيء أشارك فهي أبغض إليّ من الرمان وما من رمانه إلاّ وفيها حبة من الجنة، فإذا أكلها الكافر بعث الله (عز وجل) له ملكاً فأنتزعها منه)[9]، وقيل عن رسول الله (ص) أنه كان لا يحب أن يشاركه أحد في أكل الرمان، يقول الصادقان (ع) (ما على وجه الأرض ثمرة كانت أحب إلى رسول الله (ص) من الرمّان وكان والله إذا أكلها لا يشاركه فيها أحد)[10]. ولقد كان الإمام الصادق (ع) يفترش منديلاً عندما يشتهي أكل الرمّان لكي لا يغادر منها حبة واحدة.

وقد جاد في فوائد أكل الرمان أن من تناول رمانة طرد بذلك الوسوسة من قلبه أربعين يوماً. إذاً وجه الاهتمام بالرمان لأنه غذاء وفاكهة ومادة تنير القلب.

ونعود الآن إلى ذكر الوجه الثاني في معنى قوله تعالى (ومن دونهما جنتان).

جنات أصحاب اليمين دون جنات الخائفين رفعة وعلوّاً:

الوجه الثاني: وهو ما عليه أغلب المفسرين، وإليه تذهب روايات أهل بيت العصمة (ع) في تأييد هذا المعنى، حيث ان معنى (دون) وفق هذا الوجه هو أقل واخفض وأدنى، فللمقربين وأهل الخوف من مقام الرب جنتان على ما مر القول في شأنهما، أما هاتان الجنتان فهما أقل منهما شأواً واخفض منهما رفعة، وهما تقول الأخبار قد أعدتا لأصحاب اليمين، فللمقربون والخائفون جنات عالية، ولأهل اليمين جنات دون جنات اولئك الأبرار منزلة، ويعود السبب في ذلك إلى عدم استواء المذنب مع المتقي، لأن من أفنى العمر كلّة مخلصاً لله عز وجل طائعاً مكابداً لا يتساوى في الشأن أو العطاء والثواب مع من بدر منه الذنب وصدرت عنه المعصية في حياته الدنيا واشتغل قلبه حيناً من الزمان بحب الدنيا، ولكن مع ضرورة الالتفات إلى أن نيل الجنة بذاته مبعثاً على السعادة والشرف، ومنزلة أصحاب اليمين منزلة رائعة وحسنة فهم ينعمون في جنتين تنور منهما عينا ماء بالمسك الأذفر ولهم فيها ضروب الفواكه والتمور والرمان وألوان النعم الأخرى، ولكن تبقى منزلة المقربين والخائفين أشرف وأسمى من درجة أولئك، وتبقى جنتاهما اكثر عطاءً وأوفر حظاً ونعماً من جنتي أصحاب اليمين لاختلاف المنازل والدرجات. يقول الإمام الصادق (ع) (لا تقولنّ الجنة واحدة، إن الله يقول (ومن دونهما جنتان) ولا تقولنّ درجة واحدة أن الله يقول (درجات بعضها فوق بعض) إنمّا تفاضل القوم بالأعمال)[11] بل ان منازل المقربين والخائفين هي الأخرى تشتمل على درجات متعددة كما أن لأصحاب اليمين منازل ودرجات متعددة تتفاوت في رفعتها وشرفها.

لا يستقر الجميع في محل قرار واحد:

ونقل صاحب تفسير البرهان حديثاً شريفاً عن الإمام الصادق (ع) سنورده لما فيه من فائدة لا تعدم، فقد تحدث الإمام (ع) إلى بعض أصحابه قائلاً بما مفاده (يساق إلى جهنم عدد من الناس ممن تكتب لهم النجاة فيما بعد فيصار بهم إلى الجنة لما لديهم من إيمان بالله عز وجل (لأن الخلود في النار من شأن أولئك الذين لا يؤمنون بالله تعالى بالمرّة) فمر أحد أصحاب الإمام (ع) على الإمام وأخبره أن هناك من يتناقل في المجالس إن الإمام الصادق (ع) يقول بخروج المذنبين من النار وورودهم الجنة وأن الناس يتعجبون منّا إذا قلنا يخرج قوم من النار فيدخلون الجنة، ويقولون لنا: أو يكونون مع أولياء الله في الجنة؟ فقال الإمام (ع) يا علي ان الله يقول (ومن دونهما جنتان) ما يكونون مع أولياء الله)[12].

وفي رواية سُئل الإمام (ع) هل باستطاعة أهل الجنة ان يتزاورون فيما بينهم؟ فقال الإمام (ع): إن باستطاعة صاحب الدرجة العالية أن يزور من هو أدنى منه درجة، ولا يمكن صاحب الدرجة الدنيا أن يزور صاحب الدرجة العليا، لذلك كان بعض أهل الجنة باستطاعتهم زيارة النبي محمد (ص) مرة كل اسبوع، بينما هناك من يستطيع البقاء معه في مقامه كسلمان المحمدي(رض).

منزلة بين منزلتين:

ثم يعود السائل بالسؤال قائلاً: وهل يعد الذين نجوا من النار كفار فيجيبه الإمام (ع): لا والله لو ماتوا على الكفر لما وجدوا لهم سبيلاً إلى الجنة، فيقول السائل: فهل كانوا مؤمنين؟ فيقول الإمام (ع): لو كانوا مؤمنين لما سيقوا إلى النار (ولعل مراد الإمام (ع) انهم لم يمتلكوا درجة الإيمان الكامل التي تحصن المرء من ارتكاب الاثم واجتراح السيئة، وتدفعه إلى أداء الفرائض والتزام الواجبات بحيث يستحيل عليه ورود النار، ولكن اولئك لم يكونوا على تلك الدرجة من الإيمان، ولكنهم سيقوا إلى النار لكثرة ذنوبهم ومعاصيهم)، فهم لم يكونوا كفاراً ولم يكونوا مؤمنون واقعيون، وحسب تعبير الإمام (ع) (بين ذلك) أي بين منزلة الكفار ومنزلة المؤمنين، ولذلك شملهم العذاب لفترة معينة ثم نجّاهم الله برحمته وجعل مثواهم في منازل الجنان الدنيا.

فهلاً فكرنا بمصائرنا؟

أيها الاعزاء، إن العمر أشرف على النفاد، ولا ندري إلى م ستؤول عواقب أمورنا؟ فهل سنصير مع أصحاب اليمين؟ أم سنكون مع أصحاب الشمال (لا سمح الله)؟ وحينها كيف سيكون بنا الحال ووجوهنا قد اسودت بفعل المعاصي، فهل يعقل أن نصحب المقربين؟ ألا هل من لبيب يفكر بنفسه ويقدّم لغده ويسأل نفسه: إذا أدركني الموت فعلى أية حال سأموت؟ هل أموت وأنا غافل أم ذاكر لله تعالى؟ التفتوا أيها الأعزة إلى أنفسكم فلا يغرنكم ما أنتم عليه اليوم من التزام الطاعات، ولا تيأسن من ماضيكم المنعم بالمعاصي، انما هي العبرة في الساعة الأخرى من رحلة العمر في الحياة الدنيا فهي ساعة الحسم والفصل، واعلموا أن جميع ساعات عمرنا هي ساعة الفصل الأخيرة لأننا لا نعلم ساعة الرحيل، فلعل كل ساعة من أعمارنا يدركنا الموت فيها فننتقل حينها إلى عالم البقاء والخلود، فطوبى لمن خلد في رحمة الله ورضوانه، اللّهم منّ علينا برحمتك واجعل آخر ساعة في أعمارنا افضل ساعات العمر طاعة وعبودية لك يا ارحم الراحمين.



[1] تفسير نور الثقلين (ج5، ص198) نقلاً عن تفسير علي بن ابراهيم القمي).

[2] تفسير نور الثقلين (ج5، ص198) نقلاً عن تفسير علي بن ابراهيم القمي.

[3] المصدر السابق.

[4] لمزيد من التفاصيل في هذا الموضوع راجع كتاب الدار الآخرة في تفسير سورة الواقعة للمؤلف(رض).

[5] دعاء أيام شهر رمضان، كتاب مفاتيح الجنان.

[6] تفسير مجمع البيان ت عن تفسير نور الثقلين (ج 5، ص198).

[7] مجمع البيان ـ عن تفسير نور الثقلين (ج5، ص199).

[8] مجمع البيان نقلاً عن تفسير نور الثقلين (ج5، ص199).

[9] فسير نور الثقلين (ج5، ص201) نقلاً عن الكافي.

[10] المصدر السابق.

[11] مجمع البيان ـ نقلاً عن تفسير نور الثقلين.

[12]  المصدر السابق (ص200). لأن أولئك المذنبون التائبون والمصرّون على الذنب المعذبون عليه يكونون في الجنتين التاليتين لجنتي المقربين والخائفين من مقام الله عز وجل.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست