.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

العدالة أشرف الفضائل

ثم العدالة على أقسام ثلاثة

ايقاظ

دفع اشكال في دخول المتفضل في العدالة وهي المساواة

اصلاح النفس قبل اصلاح الغير وعدالة السلطان

لا حاجة إلى العدالة مع رابطة المحبة

التكميل الصناعي لاكتساب الفضائل على طبق ترتيب الكمال الطبيعي

 

 

 

فصل

العدالة اشرف الفضائل

العدالة اشرف الفضائل وافضلها، إذ قد عرفت انها كل الفضائل أو ما يلزمها، كما ان الجور كل الرذائل أو ما يوجبها، لانها هيئة نفسانية يقتدر بها على تعديل جميع الصفات والافعال، ورد الزائد والناقص إلى الوسط، وانكسار سورة التخالف بين القوى المتعادية، بحيث يمتزج الكل وتتحقق بينها مناسبة واتحاد تحدث في النفس فضيلة واحدة تقتضى حصول فعل متوسط بين افعالها المتخالفة، وذلك كما تحصل من حصول الامتزاج والوحدة بين الاشياء المتخالفة صورة وحدانية يصدر عنها فعل متوسط بين افعالها المتخالفة، فجميع الفضائل مترتبة على العدالة، ولذا قال افلاطون الالهي: (العدالة إذا حصلت للانسان اشرق بها كل واحد من اجزاء نفسه ويستضىء بعضها من بعض، فتنتهض النفس حينئذ لفعلها الخاص على افضل ما يكون، فيحصل لها غاية القرب إلى مبدعها سبحانه).

ومن خواص العدالة وفضيلتها انها اقرب الصفات إلى الوحدة، وشأنها اخراج الواحد من الكثرات، والتأليف بين المتباينات، والتسوية بين المختلفات، ورد الاشياء من القلة والكثرة والنقصان والزيادة إلى التوسط الذي هو الوحدة، فتصير المتخالفات في هذه المرتبة متحدة نوع اتحاد، وفي غيرها توجد اطراف متخالفة متكاثرة، ولا ريب في ان الوحدة اشرف من الكثرة، وكلما كان الشيء اقرب إليها يكون افضل واكمل وابقى وادوم ومن تطرق البطلان والفساد ابعد، فالمتخالفات إذا حصل بينها مناسبة واتحاد وحصلت منها هيئة وحدانية صارت اكمل مما كان، ولذا قيل: كمال كل صفة ان يقارب ضدها، وكمال كل شخص ان يتصف بالصفات المتقابلة بجعلها متناسبة متسالمة، وتأثير الاشعار الموزونة والنغمات والايقاعات المتناسبة، وجذب الصور الجميلة للنفوس، انما هو لوحدة التناسب، ونسبة المساواة في صناعة الموسيقى أو غيرها اشرف النسب لقربها إلى الوحدة وغيرها من النسب يرجع إليها.

وبالجملة: اختلاف الاشياء في الكمال والنقص بحسب اختلافها في الوحدة والكثرة، فأشرف الموجودات هو الواحد الحقيقي الذي هو موجد الكل ومبدؤه، ويفيض نور الوحدة على كل موجود بقدر استعداده كما يفيض عليه نور الوجود كذلك، فكل وحدة من الوحدات جوهرية كانت أو خلقية أو فعلية أو عددية أو مزاجية، فهو ظل من وحدته الحقة، وكلما كان اقرب إليها يكون اشرف وجوداً، ولولا الاعتدال والوحدة العرضية التي هي ظل الوحدة الحقيقية لم تتم دائرة الوجود، لأن تولد المواليد من العناصر الاربعة يتوقف على حصول الاتحاد والاعتدال، وتعلق النفس الربانية بالبدن انما هو لحصول نسبة الاعتدال، ولذا يزول تعلقها به بزوالها بل النفس عاشقة لتلك النسبة الشريفة اينما وجدت.

والتحقيق انها معنى وحداني يختلف باختلاف محالها، فهي في الأجزاء العنصرية الممتزجة اعتدال مزاجي، وفي الاعضاء حسن ظاهري، وفي الكلام فصاحة، وفي الملكات النفسية عدالة، وفي الحركات غنج ودلال، وفي المنغمات ابعاد شريفة لذيذة والنفس عاشقة لهذا المعنى في اي مظهر ظهر، وبأي صورة تجلى، وبأي لباس تلبس.  

وللحسن في وجه الملاح مواقع

فاني أحب الحسن حيث وجدته

والكثرة والقلة والنقصان والزيادة تفسد الاشياء إذا لم تكن بينها مناسبة تحفظ عليها الاعتدال والوحدة بوجه ما، وفي هذا المقام تفوح نفحات قدسية تهتز بها نفوس أهل الجذبة والشوق، ويتعطر منها مشام اصحاب التأله والذوق، فتعرض لها إن كنت اهلا لذلك.

واذا عرفت شرف العدالة وايجابها للعمل بالمساواة، ورد كل ناقص وزائد إلى الوسط. فاعلم: أنها إما متعلقة بالأخلاق والافعال. أو بالكرامات وقسمة الاموال. أو بالمعاملات والمعاوضات. أو بالاحكام والسياسات. والعادل في كل واحد من هذه الامور ما يحدث التساوي فيه برد الافراط والتفريط إلى الوسط. ولا ريب في انه مشروط بالعلم بطبيعة الوسط. حتى يمكن رد الطرفين اليه. وهذا العلم في غاية الصعوبة. ولا يتيسر إلا بالرجوع إلى ميزان معرف للأوساط في جميع الاشياء. وما هو إلا ميزان الشريعة الالهية الصادرة عن منبع الوحدة الحقة الحقيقية. فانها هي المعرفة للاوساط في جميع الاشياء على ما ينبغي. والمتضمنة لبيان تفاصيل جميع مراتب الحكمة العملية. فالعادل بالحقيقة يجب ان يكون حكيما عالماً بالنواميس الالهية الصادرة من عند الله سبحانه لحفظ المساواة.

وقد ذكر علماء الأخلاق ان العدول ثلاثة: "الاول" العادل الاكبر وهو الشريعة الالهية الصادرة من عند الله سبحانه لحفظ المساواة. " الثاني " العادل الاوسط. وهو الحاكم العادل التابع للنواميس الالهية والشريعة النبوية فانه خليفة الشريعة في حفظ المساواة. "الثالث" العادل الصامت وهو الدينار لانه يحفظ المساواة في المعاملات والمعاوضات.

بيان ذلك: ان الإنسان مدني بالطبع فيحتاج بعض افراده إلى بعض آخر. ولا يتم عيشهم إلا بالتعاون. فيحتاج الزارع إلى عمل التاجر وبالعكس والنجار إلى عمل الصباغ وبالعكس. وهكذا فتقع بينهم معاوضات. فلابد من حفظ المساواة بينها دفعاً للتنازع والتشاجر. ولا يمكن حفظها بالاعمال لاختلافها بالزيادة والنقصان والقلة والكثرة وغير ذلك. وربما كان أدنى عمل مساوياً لعمل كثير كنظر المهندس. وتدبير صاحب الجيش. فان نظرهما في لحظة واحدة ربما ساوى عملا كثيراً لمن يعمل ويحارب. فحفظ المساواة بينها بالدينار والدرهم بأن تقوم بهما الاعمال والأشياء المختلفة، ليحصل الاعتدال والاستواء، ويتبين وجه الأخذ والاعطاء، وتصح المشاركات والمعاملات على نهج لا يتضمن إفراطاً ولا تفريطاً قيل: وقد أشير إلى العدول الثلاثة في الكتاب الالهي بقوله سبحانه:

وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس[1].

فان الكتاب اشارة إلى الشريعة، والميزان إلى آلة معرفة النسبة بين المختلفات ومنها الدينار، والحديد إلى سيف الحاكم العادل المقوم للناس على الوسط.

هذا والمقابل للعادل ـ اعني الجائر المبطل للتساوي أيضاًً ـ اما جائر أعظم ـ وهو الخارج عن حكم الشريعة ـ ويسمى كافراً ـ أو جائر اوسط ـ وهو من لايطيع عدول الحكام في الاحكام ـ ويسمى طاغياً وباغياً ـ أو جائر اصغر ـ وهو من لا يقوم على حكم الدينار، فيأخذ لنفسه اكثر من حقه ويعطي غيره أقل من حقه ـ ويسمى سارقاً وخائناً ـ.

ثم العدالة على اقسام ثلاثة:

" أحدها " ما يجري بين العباد وبين خالقهم سبحانه، فانها لما كانت عبارة عن العمل بالمساواة على قدر الامكان، والواجب سبحانه واهب الحياة والكمالات وما يحتاج إليه كل حي من الارزاق والاقوات، وهيأ لنا في عالم آخر من البهجة والسرور مالا عين رأت، ولا اذن سمعت، وما من يوم إلا ويصل الينا من نعمه وعطاياه ما تكل الألسنة عن حصره وعده، فيجب أن يكون له تعالى علينا حق يقابل به تلك النعم التي لا تحصى كثرة حتى تحصل عدالة في الجملة، إذ من اعطى خيراً ولم يقابله بضرب من المقابلة فهو جائر.

ثم المقابلة والمكافأة تختلف باختلاف الاشخاص، فان ما يؤدى به حق احسان السلطان غير ما يؤدى به حق احسان غيره، فان مقابلة احسانه انما تكون بمثل الدعاء ونشر المحاسن،ومقابلة احسان غيره تكون بمثل بذل المال والسعي في قضاء حوائجه وغير ذلك. والواجب سبحانه غنى عن معونتنا ومساعينا. ولايحتاج إلى شىء من اعمالنا وأفعالنا، ولكن يجب علينا بالنظر إلى شرع العدالة حقوق تحصل بها مساواة في الجملة، كمعرفته ومحبته، وتحصيل العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة، والاجتهاد في امتثال ما جاءت به رسله وسفراؤه من الصوم والصلاة، والسعي إلى المواقف الشريفة وغير ذلك، وان كان التوفيق لادراك ذلك كله من جملة نعمائه، إلا أن العبد إذا أدى ماله فيه مدخلية واختيار من وظائف الطاعات، وترك ما تقتضى الضرورة بتمكنه على تركه من المعاصي والسيئات، لخرج عن الجور المطلق ولم يصدق عليه انه جائر مطلق، وإن كان أصل تمكنه واختياره، بل أصل وجوده وحياته كلها من الله سبحانه.

" الثاني " ما يجري بين الناس بعضهم لبعض: من اداء الحقوق وتأدية الأمانات والنصفة في المعاملات والمعاوضات وتعظيم الأكابر والرؤساء واغاثة المظلومين والضعفاء، فهذا القسم من العدالة يقضي ان يرضى بحقه، ولا يظلم أحداً، ويقيم كل واحد من ابناء نوعه على حقه بقدر الامكان، لئلا يجور بعضهم بعضاً، ويؤدي حقوق اخوانه المؤمنين بحسب استطاعته. وقد ورد في الحديث النبوي: " إن للمؤمن على أخيه ثلاثين حقا لابراءة له منها إلا بالأداء أو العفو: يغفر زلته، ويرحم غربته، ويستر عورته، ويقيل عثرته، ويقبل معذرته، ويرد غيبته، ويديم نصيحته، ويحفظ خلته، ويرعى ذمته، ويعود مرضته، ويشهد ميتته، ويجيب دعوته، ويقبل هديته، ويكافيء صلته، ويشكر نعمته، ويحسن نصرته، ويحفظ حليلته، ويقضي حاجته، ويشفع مسألته، ويسمت عطسته، ويرشد ضالته، ويرد سلامه، ويطيب كلامه، ويبر انعامه، ويصدق أقسامه، ويواليه ولا يعاديه، وينصره ظالماً أو مظلوماً فأما نصرته ظالماً فيرده عن ظلمه، وأما نصرته مظلوماً فيعينه على من ظلمه، وأما نصرته مظلوماً فيعينه على اخذ حقه، ولا يسأمه، ولا يخذله، ويحب له من الخير ما يحب لنفسه، ويكره له من الشر ما يكره لنفسه ".

" الثالث " ما يجري بين الاحياء وذوى حقوقهم من الاموات: من أداء ديونهم وانفاذ وصاياهم والترحم عليهم بالصدقة والدعاء. وقد أشار خاتم الرسالة (ص) إلى أقسام العدالة بقوله (ص): " التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله "، وبقوله (ص) في خبر آخر: " الدين النصحية، قيل لمن؟ قال: لله ولرسوله ولعامة المؤمنين ".

ايقاظ

قد ظهر مما ذكر أن الكمال كل الكمال لكل شخص هو العدل والتوسط في جميع صفاته وافعاله الباطنة والظاهرة، سواء كانت مختصة بذاته أو متوسطة بينه وبين أبناء نوعه، ولا تحصل النجاة والسعادة إلا بالاستقامة على وسط الاشياء المتخالفة، والتثبت على مركز الاطراف المتباعدة. فكن يا حبيبي جامعاُ للكمالات، متوسطاً بين مراتب السعادات، ومركزاً لدائرة نيل الافاضات. فكن أولا متوسطاً بين العلم والعمل جامعاً بينهما بقدر الامكان ولا تكتف بأحدهما حتى لاتكون واحداً من الرجلين القاصمين[2] لظهر فخر الثقلين (ص). وكن في العمل متوسطاً بين حفظ الظاهر والباطن، فلا تكن في باطنك خبيثاً وظاهرك نقياً، حتى تكون كشوهاء ملبسة بزي حوراء مدلسة بأنواع التدليسات، ولا بالعكس لتكون مثل درة ملوثة بأقسام القاذورات، بل ينبغي ان يكون ظاهرك مرآة لباطنك، حتى يظهر من محاسنك بقدر ما اقتضته ملكاتك الفاضلة الباطنة. وكن في جميع ملكاتك الباطنة وافعالك الظاهرة متوسطاً بين الافراط والتفريط على ما يقرع سمعك في هذا الكتاب، ثم كن في العلوم متوسطاً بين العلوم الباطنة العقلية والعلوم الظاهرة الشرعية، فلا تكن من الذين قصروا انظارهم على ظواهر الآيات ولم يعرفوا من حقائق البينات، يذمون علماء الحقيقة وينسبونهم إلى الالحاد والزندقة، ولامن الذين صرفوا اعمارهم في فضول أهل يونان وهجروا ما جاء به حامل الوحي والفرقان، يذمون علماء الشريعة ويثبتون لهم سوء القريحة، يدعون لأنفسهم الذكاء والفطانة وينسبون ورثة الانبياء إلى الجهل والبطالة. ثم كن في العقليات متوسطاً بين طرق العقلاء من غير جمود على واحدة منها بمجرد التقليد أو التعصب، فتوسط بين الحكمة والكلام والاشراق والعرفان، واجمع بين الاستدلال وتصفية النفس بالعبادة والرياضة، فلا تكن متكلماً صرف لا تعرف سوى الجدل، ولا مشائيا محضا اضاع الدين واهمل ولا متصوفا استراح بدعوى المشاهدة والعيان من دون بينة وبرهان. وكن في العلوم الشرعية متوسطاً بين الاصول والفروع، فلا تكن اخباريا تاركا للقواعد القطعية، ولا اصوليا عاملا بقياسات عامية. وقس على ذلك جميع أمورك الباطنة والظاهرة، وأعمل به حتى يرشدك إلى طريق السداد، ويوفقك لا كتساب زاد المعاد.

[دفع اشكال]

إن قيل: قد تلخص مما ذكر: أن الفضيلة في جميع الأخلاق والصفات انما هو المساواة من غير زيادة ونقصان، مع انه قد ثبت ان للتفضل محمود وهو زيادة فلا يدخل تحت العدالة الراجعة إلى المساواة (قلنا): التفضل احتياط يقع لتحصيل القطع بعدم الوقوع في النقصان، وليس الوسط في طرفين من الأخلاق على نهج واحد فان الزيادة في السخاء إذا لم يؤد إلى الاسراف احسن من النقصان عنه، واشبه بالمحافظة على شرائطه، فالتفضل انما يصدر عن فضيلة العدالة، لأنها مبالغة فيها ولا يخرجها عن حقيقتها، إذ المتفضل من يعطي المستحق أزيد مما يستحقه، وهذه الزيادة ليست مذمومة، بل هي العدالة مع الاحتياط فيها، ولذا قيل: "إن المتفضل أفضل من العادل"، والمذموم ان يعطي غير المستحق أو يترك المساواة بين المستحقين، لأنه انفق فيما لاينبغي أو على مالا ينبغي، وصاحبه لايسمى متفضلا بل مضيعاً، ولكون التفضل احتياطاً إنما يحسن من الرجل بالنسبة إلى صاحبه في المعاملة التي بينهما، ولو كان بين جماعة ولم يكن له نصيب في ما يحكم فيه لم يسعه إلاّ العدل المحض ولم يجز له التفضيل.

تتميم

(اصلاح النفس قبل اصلاح الغير وأشرف وجوه العدالة عدالة السلطان)

قد تلخص ان حقيقة العدالة أولازمها ان يغلب العقل الذي هو خليفة الله على جميع القوى حتى يستعمل كلا منها فيما يقتضي رأيه، فلا يفسد نظام العالم الإنساني، فان الواجب سبحانه لما ركب الإنسان بحكمته الحقة ومصلحته التامة من القوى الكثيرة المتضادة، فهي إذا تهايجت وتغالبت ولم يقهرها قاهر خير، حدثت فيه بهيجانها واضطرابها أنواع الشر، وجذبه كل واحدة منها إلى ما يقتضيه ويشتهيه، كما هو الشأن في كل مركب. وقد شبه المعلم الأول مثله بمن يجذب من جهتين حتى ينقطع ويشق بنصفين أو من جهات كثيرة فيتقطع بحسبها. فيجب على كل انسان ان يجاهد حتى يغلب عقله الذي هو الحكم العدل والخير المطلق على قواه المختلفة، ليرفع اختلافها وتجاذبها ويقيم الجميع على الصراط القويم.

ثم كل شخص مالم يعدل قواه وصفاته لم يتمكن من اجراء احكام العدالة بين شركائه في المنزل والبلد، إذ العاجز عن اصلاح نفسه كيف يقدر على اصلاح غيره، فان السراج الذي لايضىء قريبه كيف يضىء بعيده، فمن عدل قواه وصفاته أولا واجتنب عن الافراط والتفريط واستقر على جادة الوسط، كان مستعداً لسلوك هذه الطريقة بين ابناء نوعه، وهو خليفة الله في أرضه، وإذا كان مثله حاكماً بين الناس وكان زمام مصالحهم في قبضة اقتداره لتنورت البلاد بأهلها، وصلحت امور العباد بأسرها، وزاد الحرث والنسل ودامت بركات السماء والأرض.

وغير خفي أن اشرف وجوه العدالات واهمها وأفضل صنوف السياسات واعمها هو عدالة السلطان، إذ غيرها من العدالات مرتبطة بها ولولاه لم يتمكن أحد من رعاية العدالة، كيف وتهذيب الأخلاق وتدبير المنزل يتوقف على فراغ البال وانتظام الأحوال، ومع جور السلطان امواج الفتن متلاطمة، وافواج المحن متراكمة، وعوائق الزمان متزاحمة، وبوائق[3] الحدثان متصادمة، وطالبوا الكمال كالحيارى في الصحارى لا يجدون إلى مناله سبيلا ولا إلى جداوله مرشداً ودليلا، وعرصات العلم والعمل دارسة الآثار، ومنازلهما مظلمة الأرجاء والأقطار، فلا يوجد ماهو الملاك في تحصيل السعادات، اعني تفرغ الخاطر والاطمئنان وانتظام أمر المعاش الضروري لافراد الإنسان. ولذا لو تصفحت في امثال زماننا زوايا المدن والبلاد واطلعت على بواطن فرق العباد، لم تجد من الالوف واحداً تمكن من اصلاح نفسه ويكون يومه خيراً من أمسه، بل لا تجد ديناً إلا وهو باك على فقد الاسلام وأهله، ولا طالباً إلا وهو لعدم المكنة باق على جهله، ولعمري إن هذا الزمان هو الزمان الذي أخبر عنه سيد الأنام وعترته الأبرار الكرام عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام من انه: " لايبقى من الاسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه ".

وبالجملة: المناط كل المناط في تحصيل الكمالات واخراج النفوس من الجهالات، هو عدالة السلطان، واعتناؤه باعلاء الكلمة، وسعيه في ترويج أحكام الدين والملة، ولذا ورد في الآثار: (إن السلطان إذا كان عادلا كان شريكا في ثواب كل طاعة تصدر عن كل رعية، وإن كان جائراً كان سهيما في معاصيهم). وقال سيد الرسل (ص): "اقرب الناس يوم القيامة إلى الله تعالى الملك العادل وابعدهم عنه الملك الظالم". وورد عنه (ص): "عدل ساعة خير من عبادة سبعين سنة". والسر أن اثر عدل ساعة واحدة ربما يصل إلى جميع المدن والأمصار ويبقى على مر الدهور والأعصار، وقال بعض الأكابر: لو علمت انه يستجيب لي دعوة واحدة لخصصتها باصلاح حال السلطان حتى يعم نفعه.

تنوير

(لاحاجة إلى العدالة مع رابطة المحبة)

لو استحكمت رابطة المحبة وعلاقة المودة بين الناس لم يحتاجوا إلى سلسلة العدالة، فان أهل الوداد والمحبة في مقام الايثار ولو كان بهم خصاصة، فكيف يجور بعضهم على بعض. والسر ان رابطة المحبة أتم واقوى من رابطة العدالة لأن المحبة وحدة طبيعية جبلية، والعدالة وحدة قهرية قسرية. على انها لا تنتظم بدون المحبة، لكونها باعثة للايجاد، كما اشير إليه في الحديث القدسي " كنت كنزاً مخفياً فاحببت أن اعرف ". فالمحبة هو السلطان المطلق، والعدالة نائبها وخليفتها[4].

فصل

(التكميل الصناعي لاكتساب الفضائل على طبق ترتيب الكمال الطبيعي)

لاكتساب الفضائل ترتيب ينبغي ان لايتعدى عنه. وبيان ذلك: ان مبادىء الحركات المؤدية إلى الكمالات: إما طبيعية كحركة النطفة في الاطوار المختلفة إلى بلوغ كمال الحيوانية، أو صناعية كحركة الخشب بتوسط الآلات إلى بلوغ كمال السريرية. ثم الطبيعية وتحريكاتها لاستنادها إلى المبادئ العالية تكون متقدمة على الصناعية المستندة إلى الإنسان، ولما كان كمال الثواني ان تتشبه بالاوائل، فينبغي ان تقتدي الصناعية في تحريكاتها المؤدية إلى كمالها بالطبيعية.

وإذا ثبت ذلك فاعلم: إن تهذيب الأخلاق لما كان أمراً صناعياً لزم ان يقتفى في تحصيله من حيث الترتيب بأفعال الطبيعة في ترتيب حصولها، فنقول: لاريب في أن أول ما يحصل في الطفل قوة طلب الغذاء، وإذا زادت تلك القوة يبكي ويرفع صوته لأجل الغذاء، وإذا قويت حواسه وتمكن من حفظ بعض الصور يطلب صورة الام أو الظئر[5]، وجميع ذلك متعلق بالقوة الشهوية. ونهاية هذه القوة وكمالها ان يتم ما يتعلق بالشخص من الامور الشهوية، وينبعث منه الميل إلى استبقاء النوع، فيحدث ميل النكاح والوقاع. ثم تظهر فيه آثار القوة الغضبية حتى يدفع عن نفسه ما يؤذيه ولو بالاستعانة بغيره. وغاية كمال هذه القوة حصول التمكن من حفظ الشخص والاقدام على حفظ النوع، فيحدث فيه الميل إلى ما يحصل به التفوق من أصناف الرئاسات والكرامات. ثم تظهر فيه آثار قوة التمييز وتتزايد إلى ان يتمكن من تعقل الكليات.

وهنا يتم ما يتعلق بالطبيعة من التدبير والتكميل، ويكون ابتداء التكميل الصناعي، فلو لم يحصل الاستكمال بالكسب والصناعة بقي على هذه الحالة ولم يبلغ إلى الكمال الحقيقي الذي خلق الإنسان لأجله، لأنه لم يخلق احد مجبولا على الاتصاف بجميع الفضائل الخلقية إلا من ايد من عند الله بالنفس القدسية، وإن كان بعض الناس اكثر استعداداً لتحصيل بعض الكمالات من بعض آخر، فلا بد لجل الانام في تكميل نفوسهم من الكسب والاستعلام.

فظهر مما ذكر: ان الطبيعة تولد أولا قوة الشهوة، ثم قوة الغضب، ثم قوة التمييز، فيجب أن يقتدى به في التكميل الصناعي، فيهذب أولا القوة الأولى ليكتسب العفة، ثم الثانية ليتصف بالشجاعة، ثم الثالثة ليتحلى بالحكمة، فمن حصل بعض الفضائل على الترتيب الحكمي كان تحصيل الباقي له في غاية السهولة، ومن حصله لا على الترتيب، فلا يظن ان تحصيل الباقي حينئذ متعذر بل هو ممكن، وإن كان أصعب بالنسبة إلى تحصيله بالترتيب فان عدم الترتيب يوجب عسر الحصول لا تعذره، كما ان الترتيب يوجب يسره لا مجرد إمكانه. فلا يترك السعي والجد في كل حال ولا ييأس من رحمة الله الواهب المتعال، وليشمر ذيل الهمة على منطقة الطلب حتى ييسر الله له الوصول إلى ما هو المقصد والمطلب.

ثم الفضيلة إن كانت حاصلة لزم السعي في حفظها وابقائها، وان لم تكن حاصلة بل كان ضدها حاصلا وجب تحصيلها بازالة الضد، ولذا كان فن الأخلاق على قسمين: (احدهما) راجع إلى حفظ الفضائل، (وثانيهما) نافع في دفع الرذائل، فيكون شبيهاً بعلم الطب، من حيث انقسامه إلى قسمين: (أحدهما) في حفظ الصحة، (وثانيهما) في دفع المرض، ولذا يسمى طباً روحانياً، كما أن الطب المتعارف يسمى طباً جسمانياً. ومن هنا كتب جالينوس إلى روح الله عليه السلام: "من طبيب الابدان إلى طبيب النفوس". فكما ان لكل من حفظ الصحة ودفع المرض في الطب الجسماني علاجاً خاصاً، فكذلك لكل من حفظ الفضائل وازالة الرذائل في الطب الروحاني معالجات معينة، كما نذكره ان شاء الله تعالى.



[1]  الحديد الآية: 25.

[2]  اشارة إلى قوله (ص): (قصم ظهري رجلان: عالم متهتك وجاهل متنسك).

[3]  البائقة: الداهية والشر. يقال: رفعت عنك بائقة فلان أي غائلته وشره جمعه بوائق.

[4]  ولذلك ان الشريعة الاسلامية أول مادعت فيما دعت إلى الاخوة والتآلف بين الناس، وكثير من احكامها مثل الجماعة والجمعة والايثار والاحسان وتحريم الغيبة والنبز ونحو ذلك تستهدف ايجاد رابطة الحب بين الشعوب والقبائل والافراد، ليستغنوا عن الأخذ بقانون العدل الصارم المر.

[5]  يريد بها المرضعة.  

 

 

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست