.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

الباب الثالث في طريق حفظ اعتدال الأخلاق المحمودة واستحصالها

الطريق لحفظ اعتدال الفضائل

قانون العلاج في الطب الروحاني

طريق معرفة الأمراض النفسانية

أسباب الأمراض النفسانية

المعالجات الكلية لمرض النفس

المعالجات الخاصة لمرض النفس

في معالجة الرذائل المتعلقة بالقوة العاقلة

الجربزة

الجهل البسيط

شرف العلم والحكمة

 

 الباب الثالث

في طريق حفظ اعتدال الأخلاق المحمودة واستحصالها

بازالة نقائضها المذمومة

الطريق لحفظ اعتدال الفضائل ـ قانون العلاج في الطب الروحاني ـ طريقة معرفة الأمراض النفسية ـ المعالجات الكلية لامراض النفس ـ المعالجات الخاصة لامراض النفس. وله اربعة مقامات:

(الاول) ما يتعلق بالقوة العاقلة من الرذائل والفضائل وكيفية علاج الرذائل.

(الثاني) مايتعلق بالقوة الغضبية من الرذائل والفضائل وكيفية العلاج.

(الثالث) ما يتعلق بالقوة الشهوية من الرذائل والفضائل وكيفية العلاج.

(الرابع) ما يتعلق بالقوى الثلاث أو باثنتين منها.

وفيه فصول[1]

 فصل

(الطريق لحفظ اعتدال الفضائل)

قد تقرر في الطب الجسماني أن حفظ الصحة بايراد المثل وملائم المزاج فيجب أن يكون حفظ اعتدال الفضائل أيضاًً بذلك. وايراد المثل لحفظ اعتدالها يكون بامور:

(منها) اختيار مصاحبة الأخيار، والمعاشرة مع اولى الفضائل الخلقية واستماع كيفية سلوكهم مع الخالق والخليقة، والاجتناب عن مجالسة الأشرار وذوي الأخلاق السيئة، والاحتراز عن استماع قصصهم وحكاياتهم وما صدر عنهم من الافعال ومزخرفاتهم، فان المصاحبة مع كل أحد أقوى باعث على الاتصاف بأوصافه، فان الطبع يسترق من الطبع كلا من الخير والشر. والسر: أن النفس الانساينة ذات قوى بعضها يدعو إلى الخيرات والفضائل وبعضها يقتضي الشرور والرذائل، وكلما حصل لأحدهما أدنى باعث لما تقتضيه جبلته مال إليه وغلب على صاحبه إلى الخير، ولكون دواعي الشر من القوى اكثر من بواعث الخير منها، يكون الميل إلى الشر اسرع وأسهل بالنسبة إلى الميل إلى الخير، ولذا قيل: إن تحصيل الفضائل بمنزلة الصعود إلى الاعالي وكسب الرذائل بمثابة النزول منها، وإلى ذلك يشير قوله (ص): " حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ".

و(منها) إعمال القوى في شرائف الصفات، والمواظبة على الأفعال التي هي آثار فضائل الملكات، وحمل النفس على الأعمال التي يقتضيها الخلق الذي يريد حفظه، فالحافظ لملكة الجود يحب أن يواظب على انفاق المال وبذله على المستحقين، ويقهر على نفسه عند وجدان ميلها إلى الامساك، والحافظ لملكة الشجاعة يجب ألا يترك الاقدام في الاخطار والاهوال بشرط اشارة العقل، ويغضب على نفسه عند وجدان الجبن منها وهكذا الحال في سائر الصفات. وهذا بمثابة الرياضة الجسمانية في حفظ الصحة البدنية.

(ومنها) ان يقدم التروي على كل ما يفعله، لئلا تصدر عنه غفلة خلاف ما تقتضيه الفضيلة. ولو صدر عنه أحياناً خلاف مقتضاها, فليؤدب نفسه بارتكاب ما يضاده، ويشق عليها عقوبة، بعد تعييرها وتوبيخها، كما إذا اكل ما يضره من المطاعم فليؤدبها بالصوم، وإذا صدر عنه غضب مذموم في واقعة فليؤدبها بايقاعها في مثلها مع الصبر عليها، أوفي معرض اهانة السفهاء حتى يكسر جاهه أو يؤدبها بارتكاب ما يشق عليها من النذر والصدقة وغير ذلك. وينبغي ألا يترك الجد والسعي في التحصيل والحفظ وان بلغ الغاية لأن التعطيل يؤدى إلى الكسالة وهي إلى انقطاع فيوضات عالم القدس، فتنسلخ الصورة الإنسانية وتحصل الهلاكة الأبدية، والسعي يوجب ازدياد تجرد النفس وصفائها والانس بالحق والالف بالصدق[2]، فيتنفر عن الكذب والباطل، ويتصاعد في مدارج الكمالات ومراتب السعادات، حتى تنكشف له الاسرار الالهية والغوامض الربانية، ويتشبه بالروحانيات القادسة وينخرط في سلك الملائكة المقدسة. ويجب ان يكون سعيه في امور الدنيا بقدر الضرورة، ويحرم على نفسه تحصيل الزائد، لانه لا شقاوة أشد من صرف الجوهر الباقي النوراني في تحصيل الخزف الفاني الظلماني الذي يفوت عنه وينتقل إلى اعدائه من الوراث وغيرهم.

(ومنها) أن يحترز عما يهيج الشهوة والغضب رؤية وسماعاً وتخيلا، ومن هيجهما كمن هيج كلباً عقوراً أو فرساً شموساً، ثم يضطر إلى تدبير الخلاص عنه. وإذا تحركتا بالطبع فليقتصر في تسكينهما بما يسد الخلة ولا ينافي حفظ الصحة, وهو القدر الذي جوزه العقل والشريعة.

(ومنها) أن يستقصى في طلب خفايا عيوب نفسه, وإذا عثر عى شىء منها اجتهد في إزالته. ولما كانت النفس عاشقة لصفاتها وأفعالها, فكثيراً ما يخفى عليها بعض عيوبها، فيلزم على كل طالب للصحة وحافظها أن يختار بعض اصدقائه ليتفحص عن عيوبه ويخبره بما اطلع عليه، وإذا أخبره بشىء منها فليفرح وليبادر إلى ازالته حتى يثق صديقه بقوله، ويعلم أن اهداء شىء من عيوبه إليه أحسن عنده من كل ما يحبه ويهواه، وربما كان العدو في هذا الباب انفع من الصديق، لان الصديق ربما يستر العيب ولا يظهره، والعدو مصر على اظهاره. بل ربما يتجاوز إلى البهتان، فإذا أظهر الاعداء عيوبه فليشكر الله على ذلك وليبادر إلى رفعها وقمعها.

ومما ينفع في المقام ان يجعل صور الناس مرايا لعيوبه ويتفقد عيوبهم، وإذا عثر على عيب منهم تأمل في قبحه، ويعلم أن هذا العيب إذا صدر عنه يكون قبيحاً ويدرك غيره هذا القبح، فليجتهد في إزالته. وينبغي أن يحاسب نفسه في آخر كل يوم وليلة، ويتفحص عن جميع ما صدر من الافعال فيهما فان لم يصدر عنه شىء من القبائح والذمائم فليحمد الله على حسن تأييده، وإن صدر عنه شيء من ذلك فليعاتب نفسه ويتوب، ويجتهد في ألا يصدر عنه بعد ذلك مثله.

  قانون العلاج في الطب الروحاني

(تنبيه) قد تبين أن للطب الروحاني أسوة بالطب الجسماني. والقانون في معالجة الأمراض الجسمانية ان يعرف جنس المرض أولا، ثم الأسباب والعلامات، ثم يبين كيفية العلاج. والعلاج فيه إما كلي يتناول جميع الأمراض، أو جزئي يختص بمرض دون مرض، فكذلك الحال في الطب الروحاني. ونحن نشير إلى ذلك في فصول:

فصل

(طريق معرفة الأمراض النفسانية)

الأمراض النفسانية هي انحرافات الأخلاق عن الاعتدال. وطريق معرفتها: أنك قد عرفت ان القوى الإنسانية محصورة في انواع ثلاثة: (احداها) قوة التمييز، (وثانيها) قوة الغضب ويعبر عنها بقوة الدفع، (وثالثها) قوة الشهوة ويعبر عنها بقوة الجذب. وانحراف كل منها إما في الكمية اوفي الكيفية، والانحراف في الكمية إما للزيادة من الاعتدال أو للنقصان عنه، والانحراف في الكيفية إنما يكون برداءتها. فامراض كل قوة إما بحسب الافراط أو التفريط، أو بحسب رداءة الكيفية.

فالافراط في قوة التمييز: كالجربزة والدهاء، والتجاوز عن حد النظر، والمبالغة في التنقير[3]، والتوقف في غير موضعه للشبه الواهية، والحكم على المجردات بقوة الوهم، وإعمال الذهن في ادراك مالا يمكن دركه، والتفريط فيه كالبلاهة، وقصور النظر عن درك مقدار الواجب، كاجراء أحكام المحسوسات على المجردات. والرداءة كالسفسطة في الاعتقاد، والميل إلى العلوم الغير اليقينية ـ كعلم الجدل والخلاف ـ أزيد مما يميل إلى اليقينيات واستعمالهما في مقام اليقينيات، والشوق إلى علم الكهانة والشعبذة وامثالهما للوصول إلى الشهوات الخسيسة.

وأما الافراط في قوة الدفع: كشدة الغضب والغيظ وفرط الانتقام بحيث يتشبه بالسباع. وأما التفريط: كعدم الغيرة والحمية والتشبه بالأطفال والنسوان في الأخلاق والصفات. وأما الرداءة فيها: كالغيظ على الجمادات والبهائم أو على الناس لا بسبب موجب للانتقام.

واما الافراط في قوة الجذب: فكالحرص على الأكل والجماع أزيد من قدر الضرورة. والتفريط فيه: فكالفتور على تحصيل الاقوات الضرورية وتضييع العيال والخمود عن الشهوة حتى ينقطع عنه النسل. أما الرداءة فيها: كشهوة البطن والميل إلى مقاربة الذكور.

ثم إنك قد عرفت أن أجناس الفضائل أربعة، فاجناس الرذائل بحسب الكمية ثمانية، لكل فضيلة ضدان كل منهما ضد للاخر، وبحسب الكيفية أربعة، ويحصل من تركيبها وامتزاجها انواع واصناف لايعد كثرة، كما عرفت اكثرها.

فصل

(أسباب الأمراض النفسانية)

إعلم أن اسباب الانحراف في الأخلاق، إما نفسية حاصلة في النفس في بدو فطرتها، أو حادثة من مزاولتها للاعمال الردية. أو جسمية ـ وهي الأمراض الموجبة لبعض الملكات الردية ـ والسر في ذلك أن النفس لما كانت متعلقة بالبدن علاقة ارتباطية، فيتأثر كل منهما بتأثر الآخر، وكل كيفية تحدث في احدهما تسرى في الآخر، كما أن غضب النفس أو تعشقها يوجب اضطراب البدن وارتعاشه، وتأثر البدن بالأمراض، (لا) سيما إذا حدثت في الاعضاء الرئيسية يوجب النقص في ادراك النفس وفساد تخيلها وكثيراً ما يحدث من بعض الأمراض السوداوية فساد الاعتقاد والجبن وسوء الظن، ومن بعضها التهور، ويحصل من اكثر الأمراض سوء الخلق.

فصل

(المعالجات الكلية لمرض النفس)

سبب الانحراف إن كان مرضاً جسمانياً فيجب أن يبادر إلى ازالته بالمعالجات الطبية، وإن كان نفسانياً فالمعالجة الكلية هنا كالمعالجة الكلية في الطب الجسماني. والمعالجة الكلية فيه ان يعالج المرض اولا بالغذاء الذي هو ضد المرض طبعاً، كأن يعالج المرض البارد بالغذاء الحار، فان لم ينفع فبالدواء وإن لم ينجع فبالسمومات، وإن لم يحصل بها البرء فبالكي أو القطع، وهو آخر العلاج. فالقانون الكلي في المعالجة هنا أيضاًً كذلك، وهو أن يبادر بعد معرفة الانحراف إلى تحصيل الفضيلة التي هي ضده، والمواظبة على الأفعال التي هي آثارها، وهذا بمنزلة الغذاء المضاد للمرض، فكما ان حصول الحرارة في المزاج يدفع البرودة الحادثة فيه فكذا كل فضيلة تحدث في النفس تزيل الرذيلة التي هي ضدها. فان لم ينفع فليوبخ النفس ويعيرها على هذه الرذيلة فكراً أو قولا أو عملا، ويعاتبها ويخاطبها بلسان الحال والمقال: أيتها النفس الامارة قد هلكت وتعرضت لسخط الله وغضبه، وعن قريب تعذبين في النار مع الشياطين والاشرار. فان لم يؤثر ذلك فليرتكب آثار الرذيلة التي هي ضد هذه الرذيلة، بشرط محافظة التعديل، فصاحب الجبن مثلا يعمل اعمال المتهورين، فيخوض في المخاوف والأهوال، ويلقي نفسه في موارد الحذر والأخطار. وصاحب البخل يكثر من بذل الأموال، بشرط أن يكف إذا قرب زوال الجبن والبخل لئلا يقع في التهور والاسراف، وهذا بمنزلة المداواة بالسم. فان لم ينفع ذلك لقوة استحكام المرض فليعذب النفس بأنواع التكاليف الشاقة والرياضات المتعبة المضعفة للقوة الباعثة على هذه الرذيلة، وهذا بمثابة الكى والقطع، وهو آخر العلاج.

المعالجات الخاصة لمرض النفس

(تنبيه) لما عرفت المعالجة الكلية الشاملة لجميع الرذائل بأجناسها وانواعها وأصنافها، فلنشتغل الآن ببيان معالجة كل من الرذائل بخصوصه. وقد عددنا قبل ذلك ما يتعلق بالقوى الثلاث من الرذائل وأضدادها من الفضائل مما له اسم مشهور، فهنا نذكر معالجة كل رذيلة بخصوصها، ونذيله بذكر ما يضادها من الفضيلة، وما ورد في مدحها عقلا ونقلا، لأن العلم بمعرفة كل فضيلة وحسنة أعون شىء على ازالة ما يضادها من الرذيلة. وربما كانت جملة من الرذائل المختلفة في الاسم مشتركة في المعالجة، وربما كان للرذائل أو الفضائل المتعددة ضد واحد منها، فنحن نشير إلى ذلك، ونشير أيضاً في تلو كل رذيلة وفضيلة إلى ما يتولد منهما، من أفعال الجوارح مع معالجته ـ إن كان له ذلك ـ ونراعى الترتيب المذكور في مقام الاجمال: فنذكر أولا مايتعلق بالقوة العاقلة من الجنسين وانواعهما، ثم ما يتعلق بالقوة الغضبية، ثم ما يتعلق بالشهوية، ثم ما يتعلق بالثلاث والاثنين منها، فهنا أربعة مقامات:

المقام الاول

(في معالجة الرذائل المتعلقة بالقوة العاقلة)

الجربزة وعلاجها ـ الجهل البسيط وعلاجه ـ شرف العلم والحكمة ـ آداب التعلم والتعليم ـ العلم الالهي والأخلاق والفقه أشرف العلوم ـ اصول العقائد المجمع عليها ـ الجهل المركب والشك ـ واليقين ـ علامات صاحبه ـ مراتب اليقين ـ الشرك ـ التوحيد ـ التوكل على الله ـ حق التوكل بماذا يحصل ـ مناجاة السر لأرباب القلوب ـ الخواطر النفسانية والوساوس ـ أقسام الخواطر ومنها الالهام ـ المطاردة بين جندى الملائكة والشياطين في معركة النفس ـ العلائم الفارقة بين الالهام والوسوسة ـ علاج الوساوس ـ مايتم به علاج الوساوس ـ ما يتوقف قطع الوساوس عليه ـ حديث النفس لا مؤاخذة عليه ـ الخاطر المحمود والتفكر ـ مجارى التفكر في العوالم والمخلوقات اما جنسا رذائلها[4] [فأولهما]:

الجربزة

الموجبة للخروج في الفكر عن الحد اللائق وعدم استقامة الذهن على شيء بل لايزال يستخرج اموراً دقيقة غير مطابقة للواقع ويتجاوز عن الحق ولا يستقر عليه، وربما أدى في العقليات إلى الالحاد وفساد الاعتقاد، بل إلى نفي حقائق الأشياء رأساً كما للسوفسطائية، وفي الشرعيات إلى الوسواس. (وعلاجه) بعد تذكر قبحه وايجابه للهلاك، أن يكلف نفسه على الاستقامة على مقتضى الأدلة المعتبرة عند اولى الأفهام المستقيمة، ولا يتجاوز عن معتقدات أهل الحق المعروفين بالتحقيق واستقامة القريحة، ولا يزال يكلف نفسه على ذلك حتى يعتاد القيام على الوسط. وربما كان للاشتغال بالتعليمات نفع في ذلك.

[وثانيهما]:

الجهل البسيط

وقد عرفت أنه من باب التفريط، وهو خلو النفس عن العلم من دون اعتقاد بكونها عالمة. وهي في البداية غير مذموم لتوقف التعلم عليه، إذ ما لم تعتقد النفس جهلها بالمعارف لم تنهض لتحصيلها. وأما الثبات عليه فهو من المهلكات العظيمة. والطريق في ازالته امور: (الأول) أن يتذكر ما يدل على قبحه ونقصه عقلا، وهو أن يعلم أن الجاهل ليس انساناً بالحقيقة، وانما يطلق عليه الإنسان مجازاً، إذ فضل الإنسان عن سائر الحيوانات انما هو ادراك الكلي المعبر عنه بالعلم، لمشاركتها معه في سائر الامور من الجسمية والقوى الغضبية والشهوية والصوت وغير ذلك، فلولا علمه بحقائق الاشياء وخواصها لكان حيواناً بالحقيقة، ولذا ترى أن من كان في محل محاورات العلماء وكان جاهلا بأقوالهم لم يكن فرق بينه وبين البهائم بالنسبة اليهم. وأي هلاك أعظم من الخروج عن حدود الإنسانية والدخول في حد البهيمية. (الثاني) أن يتذكر ما ورد في الشريعة من الذم عليه مثل قوله ـ (ص) ـ:" ستة يدخلون في النار قبل الحساب لستة " وعد منهم أهل الرساتيق بالجهالة. (الثالث) أن يتذكر ما يدل على فضيلة العلم عقلا ونقلا كما نذكره وإذا وقف على جميع ذلك فليتيقظ عن سنة الغفلة، ويصرف في ازالته الهمة ويجتهد في تحصيل العلم عن أهاليه، ويصرف فيه أيامه ولياليه.

فصل

(شرف العلم والحكمة)

قد علم أن ضد الجنسين ـ أي الجربزة والسفسطة والجهل ـ هو الحكمة، اعني العلم بحقائق الاشياء. فلنذكر اولا بعض ما يدل على شرافته عقلا ونقلا ترغيباً للطالبين على السعى في تحصيله وإزالة الجهل عن نفوسهم، فنقول:

لاريب في أن العلم افضل الفضائل الكمالية واشرف النعوت الجمالية، بل هو أجل الصفات الربوبية واجمل السمات الالوهية، وهو الموصل إلى جوار رب العالمين والدخول في افق الملائكة المقربين، وهو المؤدى إلى دار المقامة التي لا تزول ومحل الكرامة التي لا تحول، وقد تطابق العقل والبرهان واجماع ارباب الأديان على: أن السعادة الأبدية والقرب من الله سبحانه لا يتيسران بدونه، وأي شيء افضل مما هو ذريعة اليهما. وايضا قد ثبت في الحكمة المتعالية: ان العلم والتجرد متلازمان، فكلما تزداد النفس علماً تزداد تجرداً، ولا ريب في ان التجرد اشرف الكمالات المتصورة للانسان، إذ به يحصل التشبه بالملأ الأعلى واهل القرب من الله تعالى.

ومن جملة العلوم معرفة الله التي هي السبب الكلي لايجاد العالم العلوى والسفلى، كما دل عليه الخبر القدسي: " كنت كنزاً مخفياً فأحببت ان اعرف فخلقت الخلق ". على ان العلم لذيذ في نفسه محبوب في ذاته، وما يحصل منه من اللذة والابتهاج قلما يحصل من غيره. والسر فيه ان ادراك الأشياء والاحاطة بها نوع تملك وتصرف لها، إذ تتقرر في ذات المدرك حقائقها وصورها، ومثل هذا التملك لدوامه وجزئية المدرك للمدرك اقوى من ملكية الاعيان المبائنة لذات المالك الزائلة عنه. والتحقيق: ان اطلاق الملكية عليه مجازي، والنفس لكونها من سنخ عالم الربوبية تحت القهر والاستيلاء على الأشياء والمالكية لها باي نحو كان، إذ معنى الربوبية التوحد بالكمال والاقتدار والغلبة على الأشياء.

ثم من فوائد العلم في الدنيا العز والاعتبار عند الأخيار والاشرار، ونفوذ الحكم على الملوك وارباب الاقتدار، فان طباع الانام من الخاص والعام مجبولة على تعظيم أهل العلم وتوقيرهم ووجوب اطاعتهم واحترامهم، بل جميع الحيوانات من البهائم والسباع مطيعة للانسان مسخرة له، لاختصاصه بقوة الادراك ومزيد التمييز. ولو تصفحت آحاد الناس لم تجد احداً له تفوق وزيادة على غيره في جاه أو مال أو غير ذلك إلا وهو راجع إلى اختصاصه بمزيد تمييز وادراك، ولو كان من باب المكر والحيل.

هذا وما يدل على شرافة العلم من الآيات والأخبار اكثر من ان تحصى نبذة منها قوله تعالى:

" إنما يخشى الله من عباده العلماء "[5]

وقوله تعالى:                                                                                                      

" هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون "[6]

وقوله تعالى:

" ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً "[7]

وقوله تعالى:

" وتلك الامثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون "[8]

وقول النبي ـ (ص) ـ: " اللهم ارحم خلفائي. قيل: يارسول الله! من خلفاؤك؟ قال: الذين يأتون من بعدي ويروون حديثي وسنتي ". وقوله ـ (ص) ـ لأبي ذر: "جلوس ساعة عند مذاكرة العلم أحب إلى الله تعالى من قيام الف ليلة يصلى في كل ليلة الف ركعة واحب إليه من الف غزوة، ومن قراءة القرآن كله اثنى عشر الف مرة وخير من عبادة سنة صام نهارها وقام ليلها، ومن خرج من بيته ليلتمس باباً من العلم كتب الله عز وجل له بكل قدم ثواب نبي من الانبياء، وثواب الف شهيد من شهداء بدر، وعطاه الله بكل حرف يسمع أو يكتب مدينة في الجنة وطالب العلم يحبه الله وتحبه الملائكة والنبيون، ولا يحب العلم إلا السعيد وطوبى لطالب العلم، والنظر في وجه العالم خير من عتق الف رقبة، ومن أحب العلم وجبت له الجنة، ويصبح ويمسي في رضى الله، ولا يخرج من الدنيا حتى يشرب من الكوثر ويأكل من ثمرة الجنة، ولا يأكل الدود جسده ويكون في الجنة رفيق خضر عليه السلام ".

وقول أمير المؤمنين (ع): " ان كمال الدين طلب العلم والعمل به، وإن طلب العلم اوجب عليكم من طلب المال، وان المال مقسوم مضمون لكم قد قسمه عادل بينكم، وقد ضمنه وسيفي لكم، والعلم مخزون عند أهله فاطلبوه ". وقوله (ع): " إذا مات مؤمن وترك ورقة واحدة عليها علم، تكون تلك الورقة ستراً بينه وبين النار، واعطاه الله بكل حرف عليها مدينة أوسع من الدنيا سبع مرات ".

وقول سيد الساجدين علي بن الحسين ـ (ع): " لو يعلم الناس مافي طلب العلم لطلبوه، ولو بسفك المهج وخوض اللجج "

وقول الباقر (ع): " عالم ينتفع بعلمه افضل من سبعين الف عابد "

وقول الصادق (ع): " لو يعلم الناس مافي فضل معرفة الله تعالى ما مدوا أعينهم إلى ما متع به الاعداء من زهرة الحياة الدنيا ونعيمها، وكانت دنياهم أقل عندهم مما يطؤن بأرجلهم، ولتنعموا بمعرفة الله وتلذذوا بها تلذذ من لم يزل في روضات الجنان مع أولياء الله. إن معرفة الله تعالى انس من كل وحشة، وصاحب من كل وحدة، ونور من كل ظلمة، وقوة من كل ضعف وشفاء من كل سقم، قد كان قوم قبلكم يقتلون ويحرقون وينشرون وتضيق عليهم الأرض برحبها، فما يردهم عما هم عليه شىء مما هم فيه من غير ترة وتروا من فعل ذلك بهم ولا أذى بما نقموا منهم:

" إلاّ أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد "[9]

فاسألوا ربكم درجاتهم، واصبروا على نوائب دهركم تدركوا سعيهم ".

وعن الرضا (ع) عن آبائه (ع) ـ عن النبي ـ (ص) ـ انه قال: "طلب العلم فريضة على كل مسلم، فاطلبوا العلم في مظانه، واقتبسوه من اهله، فان تعلمه لله تعالى حسنة، وطلبه عبادة، والمذاكرة به تسبيح، والعمل به جهاد، وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة إلى الله، لأنه معالم الحلال والحرام، ومنار سبيل الجنة، والمؤنس في الوحشة، والصاحب في الغربة والوحدة, والمحدث في الخلوة، والدليل على السراء والضراء، والسلاح على الاعداء. والزين عند الأخلاء، يرفع الله به أقواماً، ويجعلهم في الخير قادة، تقتبس آثارهم، ويقتدى بأفعالهم وينتهى إلى آرائهم، ترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، وفي صلاتها تبارك عليهم، ويستغفر لهم كل رطب ويابس حتى حيتان البحر وهوامه وسباع البر وأنعامه. ان العلم حياة القلوب من الجهل، وضياء الابصار من الظلمة وقوة الأبدان من الضعف، يبلغ بالعبد منازل الأخيار ومجالس الابرار والدرجات العلى في الآخرة والأولى. الذكر فيه يعدل بالصيام ومدارسته بالقيام. به يطاع الرب ويعبد، وبه توصل الأرحام، ويعرف الحلال والحرام العلم امام والعمل تابعه، يلهمه السعداء ويحرمه الاشقياء، فطوبى لمن لم يحرمه الله من حظه ".



[1]  هذه الفصول كتمهيد للمقامات الأربعة التي تتعلق بالعلاج الخاص لذمائم الأخلاق.

[2]  كذا في النسخ. والصحيح " للصدق ".

[3]  التنقير: البحث والتتبع.

[4]  أي القوة العاقلة.

[5] الفاطر، الآية: 28.

[6] الزمر، الآية: 9.

[7] البقرة، الآية: 269.

[8] العنكبوت، الآية: 43.

[9]  البروج، الآية: 8.

 

 

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست