.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

أجناس الرذائل وأنواعها

الفرق بين الفضيلة والرذيلة

 

 

 فصل

(اجناس الرذائل وانواعها)

قد ظهر مما ذكر انه بازاء كل فضيلة رذائل غير متناهية من طرفي الافراط والتفريط، وليس لكل منها اسم معين ولا يمكن عد الجميع وليس على صاحب الصناعة حصر مثلها، لان وظيفته بيان الاصول والقوانين الكلية لا احصاء الاعداد الجزئية.

والقانون اللازم بيانه هو ان الانحراف عن الوسط إما إلى طرف الافراط أو إلى طرف التفريط، فيكون بازاء كل فضيلة جنسان من الرذيلة ولما كانت اجناس الفضائل أربعة فتكون اجناس الرذائل ثمانية (أثنان) بازاء الحكمة " الجربزة والبله ": و(الاول) في طرف الافراط وهو استعمال الفكر في مالا ينبغي أو الزائد عما ينبغي و(الثاني) في طرف التفريط وهو تعطيل القوة الفكرية وعدم استعمالها في ما ينبغي أو في اقل منه، والأولى ان يعبر عنهما (بالسفسطة) اي الحكمة المموهة، و(الجهل) اي البسيط منه، لان حقيقة الحكمة هو العلم بحقائق الاشياء على ما هي عليه وهو موقوف على اعتدال القوة العاقلة، فإذا حصلت له حدة خارجة عن الاعتدال يخرج عن الحد اللائق ويستخرج اموراً دقيقة غير مطابقة للواقع، والعلم بهذه الامور هو ضد الحكمة من طرف الافراط وإذا حصلت لها بلادة لاينتقل إلى شىء فلا يحصل لها العلم بالحقائق وهذا هو الجهل وهو ضده من طرف التفريط (واثنان) بازاء الشجاعة " التهور والجبن ": (الاول) في طرف الافراط وهو الاقدام على ما ينبغي الحذر عنه، و(الثاني) في طرف التفريط وهو الحذر عما ينبغي الاقدام عليه. (واثنان) بازاء العفة وهما: " الشره والخمود " و(الاول) في طرف الافراط وهو الانهماك في اللذات الشهوية على ما لا يحسن شرعاً وعقلاُ، (والثاني) في طرف سكون النفس عن طلب ما هو ضروري للبدن و(اثنان) بازاء العدالة وهما: " الظلم والانظلام ": و(الاول) في طرف الافراط وهو التصرف في حقوق الناس واموالهم بدون حق، (الثاني) في طرف تفريط وهو تمكين الظالم من الظلم عليه وانقياده له فيما يريده من الجبر والتعدي على سبيل المذلة، هكذا قيل.

والحق ان العدالة مع ملاحظة ما لا ينفك عنهما من لازمها، لها طرف واحد يسمى جوراً وظلماً، وهو يشمل جميع ذمائم الصفات، ولايختص بالتصرف في حقوق الناس واموالهم بدون جهة شرعية، لان العدالة بهذا المعنى ـ كما عرفت ـ عبارة عن ضبط العقل العملي جميع القوى تحت اشارة العقل النظري، فهو جامع للكمالات بأسرها، فالظلم الذي هو مقابله جامع للنقائص بأسرها، إذ حقيقة الظلم وضع الشىء في غير موضعه، وهو يتناول جميع ذمائم الصفات والافعال فتمكين الظالم من ظلمه لما كان صفة ذميمة يكون ظلماً، على ان من مكن الظالم من الظلم عليه وانقاد له ذلة، فقد ظلم نفسه والظلم على النفس أيضاًً من اقسام الظلم. هذا هو بيان الطرفين لكل من الاجناس الاربعة للفضيلة.

ثم لكل واحد من اجناس الرذائل والفضائل انواع ولوازم من الأخلاق والافعال ذكرها علماء الأخلاق في كتبهم، وقد ذكروا للعدالة أيضاًً انواعاً وقد عرفت فيما تقدم ان تخصيص بعض الصفات بالاندراج تحتها مما لا وجه له، إذ جميع الرذائل والفضائل لا يخرج عن التعلق بالقوى الثلاث، اعني العاقلة والغضبية والشهوية، وإن كان للقوة العملية مدخلية في الجميع من حيث التوسط، فنحن ندخل الجميع تحت اجناس القوى الثلاث من غير اندراج شىء منها تحت العدالة، وقد عرفت ان بعضها متعلق بالعاقلة فقط، وبعضها بالقوة الغضبية فقط، وبعضها بالشهوية فقط، وبعضها بالاثنين منها أو الثلاث معاً، فنحن نذكر ذلك في مقامات اربعة.

ولمزيد الاحاطة نشير هنا اجمالا إلى اسماء الاجناس والانواع واللوازم التي لكل جنس، ونذكر اولا ما يتعلق بالعاقلة، ثم مايتعلق بالغضبية، ثم ما يتعلق بالشهوية، ثم ما يتعلق بالثلاث أو الاثنتين منها، ونذكر اولا الرذيلة، ثم نشير إلى ضدها من الفضيلة ان كان له اسم، ثم في باب المعالجات نذكر معالجة كل رذيلة من الاجناس والانواع والنتائج ونذيلها بذكر ضدها من الفضيلة، ونذكر اولا جنسي الرذيلة لكل قوة، ونذيلهما بضدهما الذي هو جنس فضيلتها، ثم نذكر الانواع والنتائج على النحو المذكور، أي نذكر اولا الرذيلة باحكامها " ومعالجاتها "[1]، ثم نشير إلى ضدها، وما ورد في مدحه ترغيباً للطالبين على اخذه والاجتناب عن ضده، ولذلك لم نتابع القوم في التفريق بين الرذائل والفضائل وذكر كل منهما على حدة.

ثم بيان الانواع واللوازم على ما ذكر اكثره القوم لايخلو عن الاختلال إما في التعريف والتفسير، أو في الفرق والتمييز، أو في الادخال تحت ماجعلوه نوعاً له، أو غير ذلك من وجوه الاختلال، فنحن لانتبعهم في ذلك ونبينها ادخالا وتمييزاً وتعريفاً ما يقتضيه النظر الصحيح، فنقول:

اما جنسا الرذيلة للقوة العقلية، " فاولهما " (الجربزة والسفسطة) وهي من طرف الافراط، و" ثانيهما " (الجهل البسيط) وهو من طرف التفريط وضدهما (العلم والحكمة)، وأما الانواع واللوازم المترتبة عليهما، فمنها (الجهل المركب) وهو من باب رداءة الكيفية. ومنها (الحيرة والشك) وهو من طرف الافراط على ما قيل، وضد الجهل المركب ادراك ما هو الحق أو زوال العلم بأنه يعلم، وضد الحيرة الجزم بأحد الطرفين. وبذلك يظهر ان اليقين ضد لكل منهما، لانه اعتقاد جازم مطابق للواقع، فمن حيث اعتبار الجزم فيه يكون ضداً للحيرة، ومن حيث اعتبار المطابقة للواقع يكون ضداً للجهل المركب، ومنشأ حصول اليقين هو استقامة الذهن وصفاؤه مع مراعاة شرائط الاستدلال، ومنشأ الجهل المركب اعوجاج الذهن، أو حصول الخطأ في الاستدلال أو وجود مانع من افاضة الحق كعصبية، أو تقليد أو امثال ذلك، ومنشأ الحيرة هو قصور الذهن وكدرته، أو الالتهاب الموجب للتجاوز عن المطلوب، أو عدم الاحاطة بمقدماته، ومنها (الشرك) وضده التوحيد. ومنها " الوساوس " النفسانية والخواطر الباطلة الشيطانية، وهذا أيضاًً من باب رداءة الكيفية، وكان الظاهر ان يعد ذلك من رذائل قوتي الوهم والمتخيلة دون العاقلة، إذ الغالب انها لاتنفك عن الاختلال فيهما، إلاّ أنك قد عرفت العذر في ذلك، وضدها الخواطر المحمودة التي من جملتها الفكر في بدائع صنع الله سبحانه وعجائب مخلوقاته. ومنها (استنباط المكر والحيلة) الموصول إلى مقتضيات الشهوة والغضب، وهو من طرف الافراط.

واما جنسا الرذائل للقوة الغضبية، فاولهما (التهور) وثانيهما (الجبن) وقد عرفت ان ضدهما من الفضيلة (الشجاعة). وأما الانواع واللوازم والنتائج المترتبة عليها، فمنها (الخوف) وهو هيئة نفسانية مؤذية تحدث من توقع مكروه أو زوال مرغوب، وهو مذموم إلا ما كان لأجل المعصية والخيانة، أو من الله وعظمته، والمذموم من رذائل تلك القوة ومن نتائج الجبن وضده الامن والطمأنينة، والممدوح من فضائلها لكونه مقتضى العقل وضده الأمن من مكر الله، وهو ـ اي الممدوح من الخوف ـ يلازم الرجاء وضده اليأس. ومنها (صغر النفس) اي ملكة العجز عن تحمل الواردات وهو من نتائج الجبن، وضده كبر النفس اي ملكة التحمل لما يرد عليه كائناً ما كان. ومن جملة التحمل التحمل على الخوض في الاهوال، وقوة المقاومة مع الشدائد والآلام ويسمى (الثبات) فهو اخص من كبر النفس، وضده الاضطراب في الاهوال والشدائد. ومن جملة الثبات الثبات في الايمان، ومنها (دناءة الهمة) وهو القصور عن طلب معالي الامور وهو من لوازم ضعف النفس وصغرها، وضده (علو الهمة) الذي هو من لوازم كبر النفس وشجاعتها، أي السعي في تحصيل السعادة والكمال وطلب الامور العالية من دون ملاحظة منافع الدنيا ومضارها. ومن افراد علو الهمة الشهامة، ويأتي تفسيرها. ومنها (عدم الغيرة والحمية) اي الاهمال في محافظة ما يلزم حفظه، وهو أيضاًً من نتائج صغر النفس وضعفها وضده ظاهر. ومنها (العجلة) وهو المعنى الراتب[2] في القلب الباعث على الاقدام على الامر بأول خاطر من دون توقف فيه، وهو أيضاًً من نتائج صغر النفس وضعفها، وضدها الاناءة والتأني، و(التعسف) قريب من العجلة، وضده أعني (التوقف) قريب من الاناءة، ويأتي الفرق بينهما، (والوقار) يتناول التأني والتوقف، وهو اطمئنان النفس وسكونها عند الحركات والافعال في الابتداء (والاثناء)، وهو من لوازم كبر النفس وشجاعتها. ومنها (سوء الظن بالله تعالى وبالمؤمنين) وهو من لوازم الجبن وضعف النفس، وربما كان من باب رداءة الكيفية، فضده أعني حسن الظن بهما من آثار الشجاعة وكبر النفس. ومنها (الغضب) وهو حركة نفسانية يوجب حركة الروح من الداخل إلى الخارج للغلبة وهو من باب الافراط، وضده الحلم. منها (الانتقام) وهو من نتائج الغضب، وضده العفو. ومنها (العنف) وهو أيضاً من نتائج الغضب، وضده الرفق. ومنها (سوء الخلق) بالمعنى الاخص وهو أيضاً من نتائجه، وضده (حسن الخلق) بالمعنى الاخص. ومنها (الحقد) وهو العداوة الكامنة اي ارادة الشر وقصد زوال الخير من المسلم، وهو أيضاً من ثمرات الغضب ومنها (العداوة) الظاهرة، وضده (النصيحة) اي ارادة الخير والصلاح ودفع الشر والفساد عن كل مسلم. ثم للغضب والحقد لوازم هي الضرب والفحش واللعن والطعن. ومنها (العجب) وهو استعظام النفس، وضده انكسارها واستحقارها[3]. ومنها (الكبر) وهو التعظم الموجب لرؤية النفس فوق الغير، وضده (التواضع) وهو ان لايرى لنفسه مزية على الغير ومنها (الافتخار) وهو المباهات بما يظنه كمالا وهو من شعب الكبر. ومنها (البغي) وهو عدم الانقياد لمن يجب ان ينقاد وهو أيضا من شعب الكبر وضده (التسليم) والانقياد لمن يجب الانقياد إليه واطاعته، وقد يفسر بمطلق العلو والاستطالة[4] ومنها (تزكية النفس) وضده الاعتراف بنقائصها. ومنها (العصبية) وهي الحماية عن نفسه وعما ينتسب إليه بالباطل والخروج عن الحق. ومنها (كتمان الحق) وضدهما الانصاف والاستقامة على الحق. ومنها (القساوة) وهو عدم التأثر عن مشاهدة تألم ابناء النوع، وضده الرحمة.

واما جنسا الرذائل المتعلقة بالقوة الشهوية فاحدهما (الشره) وثانيهما (الخمود) وضدهما (العفة)، واما الانواع والنتائج واللوازم المتعلقة بها، فمنها (حب الدنيا). ومنها (حب المال) وضدهما الزهد. ومنها (الغنى) وضده الفقر. ومنها (الحرص) وضده القناعة. ومنها (الطمع) وضده الاستغناء عن الناس. ومنها (البخل) وضده السخاء، وتندرج تحته وجوه الانفاقات بأسرها. ومنها (طلب الحرام) وعدم الاجتناب عنه، وضده الورع والتقوى بالمعنى الخاص. ومنها (الغدر والخيانة) وضدهما الامانة. ومنها (انواع الفجور) من الزنا واللواط وشرب الخمر والاشتغال بالملاهي وامثالها. ومنها (الخوض في الباطل). ومنها (التكلم بما لايعني وبالفضول) وضدهما الترك والصمت، أو بالتكلم بما يعني بقدر الضرورة.

واما الرذائل والفضائل المتعلقة بالقوى الثلاث، أو باثنتين منها فمنها (الحسد) وضده النصيحة. ومنها (الايذاء والاهانة والاحتقار) وضدها كف الاذى والاكرام والتعظيم، والايذاء قريب من الظلم بالمعنى الاخص أو اعم منه، وضد الظلم بالمعنى الاخص العدالة بالمعنى الاخص. ومنها (إخافة المسلم وادخال الكرب في قلبه) وضدهما إزالة الخوف والكرب عنه. ومنها (ترك اعانة المسلمين) وضده قضاء حوائجهم. ومنها (المداهنة) في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وضده السعي فيهما. ومنها (الهجرة والتباعد عن الاخوان) وضده التآلف والتزاور. ومنها (قطع الرحم) وضده الصلة. ومنها (عقوق الوالدين) وضده البر اليهما. ومنها (تجسس العيوب) وضده الستر. ومنها (إفشاء السر) وضده الكتمان. ومنها (الافساد بين الناس) وضده الاصلاح بينهم. ومنها (الشماتة بمسلم) ومنها (المراء والجدال والخصومة) وضدهما طيب الكلام. ومنها (السخرية والاستهزاء) وضدهما المزاح. ومنها (الغيبة) وضدها المدح ودفع الذم ومنها (الكذب) وضده الصدق، ولجميع آفات اللسان مما له ضد خاص، ومما ليس له ضد بخصوصه ضد عام هو الصمت. ومنها (حب الجاه والشهرة) وضده حب الخمول. ومنها (حب المدح وكراهة الذم) وضده مساواتهما (الريا) وضده الاخلاص. ومنها (النفاق) وضده استواء السر والعلانية. ومنها (الغرور) وضده الفطانة والعلم والزهد. ومنها (طول الامل) وضده قصره. ومنها (مطلق العصيان) وضده الورع والتقوى بالمعنى الاعم. ومنها (الوقاحة) وضده الحياء. ومنها (الاصرار على المعصية) وضده التوبة. واقصى مراتبها الانابة والمحاسبة والمراقبة قريبة من التوبة في ضديتها للاصرار. ومنها (الغفلة) وضدها النية والارادة. ومنها (عدم الرغبة) وضده الشوق. ومنها (الكراهة) وضده الحب. ومنها (الجفاء) وضده الوفاء وهو من تمام الحب. ومنها (البعد) وضده الانس ومن لوازمه حب الخلوة والعزلة. ومنها (السخط) وضده الرضا، وقريب منه التسليم ويسمى تفويضاً، بل هو فوق الرضا كما يأتي. ومنها (الحزن) وضده السرور. ومنها (ضعف الوثوق والاعتماد على الله) وضده التوكل. ومنها (الكفران) وضده الشكر. ومنها (الجزع والهلع) وضده الصبر. ومنها (الفسق) وهو الخروج عن طاعة الله وعبادته، وضده الطاعة والعبادة، وتندرج تحتها (العبادات الموظفة في الشرع)[5] من الطهارة، والصلاة والذكر وتلاوة القرآن، والزكاة والخمس والصوم والحج والزيارات. ونحن نذكر الزكاة والخمس في وجوه الانفاق، وما سواهما في العبادات.

(تنبيه) اعلم ان إحصاء الفضائل والرذائل وضبطهما، وادخال البعض في البعض، والاشارة إلى القوة الموجبة لها على ما فصلناه، مما لم يتعرض له علماء الأخلاق، بل انما تعرضوا لبعضها، ويظهر من كلامهم في بعض المواضع المخالفة في الادخال.

والسر فيه ان كثيراً من الصفات لها جهات مختلفة كل منها يناسب قوة كما أشرنا اليه، فالاختلاف في الادخال لاجل اختلاف الاعتبار للجهات " وقد عرفت ان ماله جهات مختلفة يتعلق بالقوى المتعددة نحن نجعل مبدأه الجميع ونعده من رذائله أو فضائله، ولا نخصه بواحدة منها ". ثم بعض الصفات ربما كان ببعض الاعتبارات محموداً معدوداً من الفضائل، وببعض الاعتبارات معدوداً من الرذائل، وذلك كالمحبة والخوف والرجاء، فان الحب ان كان متعلقاً بالدنيا ومتعلقاتها كان مذموماً معدوداً من الرذائل، وإن كان متعلقاً بالله وأوليائه كان محموداً معدوداً من الفضائل، والخوف إن كان مما لايخاف منه عقلا كان من رذائل قوة الغضب، وان كان من المعاصي أو من عظمة الله كان من فضائلها، والرجاء إن لم يكن في موقعه كان من الرذائل وان كان في موقعه كان من الفضائل، وقس عليها غيرها مما له الاعتبارات المختلفة.

فصل

الفرق بين الفضيلة والرذيلة

قد عرفت اجمالا أن الفضائل المذكورة ملكات مخصوصة، لها آثار معلومة، وربما صدر عن بعض الناس أفعال شبيهة بالفضائل، وليست بها فلا بد من بيان الفرق بينهما لئلا يشتبه على الغافل فيضل ويضل، فنقول:

قد عرفت أن فضيلة الحكمة عبارة عن العلم بأعيان الموجودات على ما هي عليه، وهو لاينفك عن اليقين والطمأنينة، فمجرد أخذ بعض المسائل وتقريرها على وجه لائق من دون وثوق النفس واطمئنانها ليست حكمة، والآخذ بمثله ليس حكيماً، إذ حقيقة الحكمة لاتنفك عن الاذعان القطعي واليقيني وهما مفقودان فيه، فمثله كمثل الاطفال في التشبه بالرجال، أو بعض الحيوانات في محاكاة ما للانسان من الاقوال والافعال.

وأما فضيلة العفة، فقد عرفت أنها عبارة عن ملكة انقياد القوة الشهوية للعقل، حتى يكون تصرفها مقصوراً على امره ونهيه، فيقدم على مافيه المصلحة وينزجر عما يتضمن المفسدة بتجويزه، ولا يخالفه في أوامره ونواهيه، وينبغي أن يكون الباعث للاتصاف بتلك الملكة وصدور آثارها مجرد كونها فضيلة وكمالا للنفس وحصول السعادة الحقيقية بها، لاشىء آخر من دفع ضر، أو جلب نفع، أو اضطرار وإلجاء، فالاعراض عن اللذات الدنيوية لتحصيل الازيد من جنسها ليس عفة، كما هو شأن بعض تاركي الدنيا للدنيا وكذا الحال في تركها لخمود القوة وقصورها وضعف الآلة وفتورها، أو لحصول النفرة من كثرة تعاطيها، أو للحذر من حدوث الأمراض والاسقام، أو اطلاع الناس وتوبيخهم، أو لعدم درك تلك اللذات كما هو شأن بعض أهالي الجبال والبوادي.. إلى غير ذلك.

وأما فضيلة الشجاعة، فقد عرفت أنها ملكة انقياد القوة الغضبية للعقل حتى يكون تصرفها بحسب أمره ونهيه، ولا يكون للاتصاف بها وصدور آثارها داع سوى كونها كمالا وفضيلة، فالاقدام على الامور الهائلة، والخوض في الحروب العظيمة، وعدم المبالاة من الضرب والقطع والقتل لتحصيل الجاه والمال، أو الظفر بامرأة ذات جمال، أو للحذر من السلطان ومثله، أو للشهوة بين ابناء جنسه، ليست صادرة عن ملكة الشجاعة، بل منشأها إما رذيلة الشره أو الجبن، كما هو شأن عساكر الجائرين، وقاطعي الطرق والسارقين، فمن كان اكثر خوضاً في الاهوال، وأشد جرأة على الابطال للوصول إلى شيء من تلك الاغراض، فهو اكثر جبناً وحرصاً، لا اكثر شجاعة ونجدة. وقس على ذلك الوقوع في المهالك والاهوال، تعصباً عن الاقارب والاتباع، وربما كان باعثه تكرر ذلك منه مع حصول الغلبة، فاغتر بذلك ولم يبال بالاقدام اتكالا على العادة الجارية. ومثله مثل رجل ذي سلاح لم يبال بالمحاربة مع طفل أعزل، فان عدم الحذر عنه ليس لشجاعته، بل لعجز الطفل. ومن هذا القبيل ما يصدر عن بعض الحيوانات من الصولة والاقدام، فانه ليس صادراً من ملكة الشجاعة، بل عن طبيعة القوة والغلبة.

وبالجملة: الشجاع الواقعي ما كانت افعاله صادرة عن اشارة العقل ولم يكن له باعث سوى كونها جميلة حسنة، فربما كان الحذر عن بعض الاهوال من مقتضيات العقل فلا ينافي الشجاعة، وربما لم يكن الخوض في بعض الاخطار من موجباته فينافيها، ولذا قيل عدم الفزع مع شدة الزلازل وتواتر الصواعق من علائم الجنون دون الشجاعة، وايقاع النفس في الهلكات بلا داع عقلي أو شرعي كتعرضه للسباع المؤذية، أو إلقاء نفسه من المواضع الشاهقة أو في البحار والشطوط الغامرة من دون علم بالسباحة من امارات القحة والحماقة.

ثم الشجاع الحقيقي من كان حذره من العار والفضيحة اكثر من خوفه من الموت والهلاك، فمن لا يبالي بذهاب شرفه، وفضيحة اهله وحرمه، فهو من أهل الجنون والحماقة، ولا يستحق اسم العقل والشجاعة، كيف والموت عند الشجاع مع بقاء الفضيلة احسن من الحياة بدونها، ولذا يختار الموت الجميل على الحياة القبيحة. على ان الشجاعة في المبادىء ربما كانت موذية، وانما تظهر لذتها في العاقبة (لا) سيما إذا حصلت بها الحماية عن الدين والملة، والذب عن العقائد الحقة، فان الشجاع لحبه الجميل وثباته على الرأي الصحيح إذا علم أن عمره في معرض الزوال والدثور، وأثر الفعل الجميل يبقى على مر الدهور، يختار الجميل الباقي على الرذيل الفاني، فيحامي عن دينه وشريعته، ولا يبالي بما يحذر عنه غيره من ابناء طبيعته، لعلمه بأن الجبان المقصر في حماية الدين، ومقاومة جنود الشياطين إن بقي أياماً معدودة، فمع تكدرها بالذل والصغار تكون زائلة، ولا ترضى نفسه بالحرمان عن السعادة الباقية، ولذا قال فخر الشجعان وسيد ولد عدنان عليه صلوات الله الملك الرحمان لاصحابه: " أيها الناس انكم إن لم تقتلوا تموتوا والذي نفس ابن ابي طالب بيده لالف ضربة بالسيف على الرأس أهون من ميتة على الفراش ".

وبالجملة: كل فعل يصدر عن الشجاع في أي وقت يكون مقتضى للعقل مناسباً لهذا الوقت واقعاً في موقعه، وله قوة التحمل على المصائب، وملكة الصبر على الشدائد والنوائب، ولا يضطرب من شدائد الامور، ويستخف بما يستعظمه الجمهور، وإذا غضب كان غضبه بمقتضى العقل، وكان انتقامه مقصوراً على ما يستحسن عقلا وشرعاً، ولا يتعدى إلى مالا ينبغي. وليس مطلق الانتقام مذموماً، فربما كان في بعض المواضع مستحسناً عند العقل والشرع، وقد صرح الحكماء بأن عدم الانتقام ممن يستحقه يحدث في النفس ذلولا لا يرتفع إلا بالانتقام، وربما أدى هذا الذبول إلى بعض الرذائل المهلكة.

وأما العدالة فقد عرفت أنها عبارة عن انقياد القوة العملية للعاقلة، أو امتزاج القوى وتسالمها وانقهار الجميع تحت العاقلة، بحيث يرتفع بينها التنازع والتجاذب، ولا يغلب بعضها على بعض، ولا يقدم على شىء غير ما تسقط له العاقلة. وانما يتم ذلك إذا حصلت للانسان ملكة راسخة تصدر لاجلها جميع الافعال على نهج الاعتدال بسهولة، ولا يكون له غاية في ذلك سوى كونها فضيلة وكمالا، فمن يتكلف اعمال العدول رياء وسمعة أو لجلب القلوب، أو تحصيل الجاه والمال ليس عادلا.

وقس على ذلك جميع انواع الفضائل المندرجة تحت الاجناس المذكورة فانه بازاء كل منها رذيلة شبيهة بها، فينبغي لطالب السعادة ان يعرفها ويجتنب عنها، مثلا السخاء عبارة عن ملكة سهولة بذل المال على المستحق مع كون الغاية الباعثة له عليه مجرد كونه فضيلة وكمالا، دون الأغراض الاخر، فبذل المال لتحصيل الازيد، أو لدفع الضرر، أو نيل الجاه، أو للوصول إلى شيء من اللذات الحيوانية ليس سخاء. وكذا بذله لغير المستحق والاسراف في انفاقه. فان المبذر جاهل بعظم قدر المال. والاحتياج إليه في مواقع لولاه لادى إلى تضييع الاهل والعيال والعجز عن كسب المعارف وفضائل الاعمال، وله دخل عظيم في ترويج احكام الملة ونشر الفضيلة والحكمة، ولذا ورد في الصحيفة السليمانية (ان الحكمة مع الثروة يقظان، ومع الفقر نائم)[6]. وربما كان منشأ التبذير عدم العلم بصعوبة تحصيل الحلال منه، وهذا يكون في الاغلب لمن يظفر بمال بغتة من ميراث أو غيره مما لا يحتاج إلى كد وعمل، فان مثله غافل عن صعوبة كسب الحلال منه، إذ المكاسب الطيبة قليلة جداً، وارتكابها للاحرار مشكل، ولذا ترى أفاضل الأحرار ناقصي الحظوظ منه شاكين عن بختهم، واضدادهم على خلاف ذلك، لعدم مبالاتهم من تحصيله بأي نحو كان. وقد قال بعض الحكماء: " إن تحصيل المال بمنزلة نقل الحجر إلى قلة الجبل وانفاقه كاطلاقه ".



[1]  هذه الكلمة موجودة في نسختنا الخطية فقط.

[2]  الراتب: عيش راتب: اي دائم ثابت.

[3]  من كلمة (منها) إلى قوله و(استحقارها) بتمام العبارة لم توجد في نسختنا الخطية لكنها موجودة في نسخة خطية اخرى.

[4]  من كلمة (منها) إلى قوله و(الاستطالة) بتمام العبارة لم توجد في نسختنا الخطية لكنها موجودة في نسخة خطية اخرى.

[5]  هذه العبارة بتمامها غير موجودة في نسختنا الخطية.

[6]  كذا في النسخ ولم نعثر على مصدر لهذه الكلمة لتصحيحها.

 

 

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست