.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

الباب الثاني في أقسام الأخلاق 

أجناس الفضائل الأربع  والأقوال في حقيقة العدالة

العدالة انقياد العقل العملي للعقل النظري

العقل النظري هو المدرك للفضائل والرذائل

دفع الاشكال في تقسيم الحكمة

تحقيق الوسط والأطراف

 

الباب الثاني

في بيان أقسام الأخلاق وتفصيل القول فيها

" وفيه فصول "

أجناس الفضائل الأربعة والأقوال في حقيقة العدالة ـ حقيقة العدالة انقياد العقل العملي للعقل النظري ولوازم الأقوال في العدالة ـ العقل النظري هو المدرك للفضائل والرذائل ـ دفع اشكال في تقسيم الحكمة ـ تحقيق الوسط والأطراف ـ أجناس الرذائل وانواعها ـ الفرق بين الفضيلة والرذيلة ـ العدالة اشرف الفضائل ـ اصلاح النفس قبل اصلاح الغير وأشرف وجوه العدالة عدالة السلطان ـ لا حاجة إلى العدالة مع رابطة المحبة ـ التكميل الصناعي لاكتساب الفضائل على طبق ترتيب الكمال الطبيعي.

فصل

(أجناس الفضائل الأربع والأقوال في حقيقة العدالة)

قد تبين في العلم الطبيعي أن للنفس الناطقة قوتين: " أولاهما ": قوة الادراك و "ثانيتهما": قوة التحريك، ولكل منهما شعبتان: (الشعبة الأولى) للاولى العقل النظرى، وهو مبدأ التأثر عن المبادئ العالية بقبول الصور العلمية، و (الشعبة الثانية) لها العقل العملي، وهو مبدأ تحريك البدن في الأعمال الجزئية بالروية[1] وهذه الشعبة من حيث تعلقها بقوتي الشهوة والغضب مبدأ "لحدوث"[2] بعض الكيفيات الموجبة لفعل أو انفعال، كالخجل والضحك والبكاء وغير ذلك، ومن حيث استعمالها الوهم والمتخيلة مبدأ لاستنباط الآراء والصنائع الجزئية. ومن حيث نسبتها بالعقل وحصول الازدواج بينهما سبب لحصول الآراء الكلية المتعلقة بالأعمال كحسن الصدق وقبح الكذب، ونظائرهما. (الشعبة الأولى) للثانية قوة الغضب وهي مبدأ دفع غير الملائم على وجه الغلبة، و (الشعبة الثانية) لها قوة الشهوة وهي مبدأ جلب الملائم.

ثم إذا كانت القوة الأولى غالبة على سائر القوى ولم تنفعل عنها، بل كانت هي مقهورة عنها مطيعة لها فيما تأمرها به وتنهاها عنه، كان تصرف كل منها على وجه الاعتدال، وانتظمت أمور النشأة الإنسانية، وحصل تسالم القوى الأربع وتمازجها، فتهذب كل واحد منها، ويحصل له ما يخصه من الفضيلة، فيحصل، من تهذيب العاقلة العلم وتتبعه الحكمة، ومن تهذيب العاملة العدالة، ومن تهذيب الغضبية الحلم وتتبعه الشجاعة، ومن تهذيب الشهوية العفة وتتبعه السخاوة. وعلى هذا تكون العدالة كمالا للقوة العملية.

 (بطريق آخر)

قيل: إن النفس لما كانت ذات قوى أربع العاقلة والعاملة والشهوية والغضبية، فان كانت حركاتها على وجه الاعتدال، وكانت الثلاث الاخيرة مطيعة للاولى، واقتصرت من الأفعال على ما تعين لها، حصلت اولاً فضائل ثلاث هي الحكمة والعفة والشجاعة، ثم يحصل من حصولها المترتب على تسالم القوى الاربع، وانقهار الثلاث تحت الأولى حالة متشابهة هي كمال القوى الأربع وتمامها، وهي العدالة. وعلى هذا لا تكون العدالة كمالاً للقوة العملية فقط، بل تكون كمالاً للقوى بأسرها:

وعلى الطريقين تكون أجناس الفضائل أربعاً: " الحكمة " وهي معرفة حقائق الموجودات على ما هي عليه، والموجودات إن لم يكن وجودها بقدرتنا وأختيارنا فالعلم المتعلق بها هو الحكمة النظرية، وإن كان وجودها بقدرتنا واختيارنا فالعلم المتعلق بها هو الحكمة العملية. " والعفة " هي انقياد القوة الشهوية للعاقلة فيما تأمرها به وتنهاها عنه حتى تكتسب الحرية، وتتخلص عن اسر عبودية الهوى. " والشجاعة " وهي اطاعة القوة الغضبية للعاقلة في الاقدام على الامور الهائلة، وعدم اضطرابها بالخوض فيما يقتضيه رأيها حتى يكون فعلها ممدوحاً، وصبرها محموداً. وتفسير هذه الفضائل الثلاث لايتفاوت بالنظر إلى الطريقين.

وأما " العدالة " فتفسيرها على الطريق الأول هو انقياد العقل العملي للقوة العاقلة وتبعيته لها في جميع تصرفاته، أو ضبطه الغضب والشهوة تحت إشارة العقل والشرع الذي يحكم العقل أيضاً بوجوب اطاعته، أو سياسة قوتي الغضب والشهوة، وحملها على مقتضى الحكمة، وضبطهما في الاسترسال والانقباض على حسب مقتضاه. وإلى هذا يرجع تعريف الغزالي " إنها حالة للنفس وقوة بها يسوس الغضب والشهوة، ويحملهما على مقتضى الحكمة، ويضبطهما في الاسترسال والانقباض على حسب مقتضاها " إذ المراد من الحالة والقوة هنا قوة الاستعلاء التي للعقل العملي لا نفس القوة العملية.

وتفسيرها على الطريق الثاني هو ائتلاف جميع القوى، واتفاقها على امتثالها للعاقلة، بحيث يرتفع التخالف والتجاذب، وتحصل لكل منها فضيلته المختصة به. ولا ريب في أن اتفاق جميع القوى وائتلافها هو كمال لجميعها لا للقوة العملية فقط.

اللهم إلا أن يقال إن الائتلاف إنما يتحقق باستعمال كل من القوى على الوجه اللائق، واستعمال كل قوة ولو كانت قوة نظرية إنما يكون من القوة العملية، لأن شأنها تصريف القوى في المحال اللائقة على وجه الاعتدال، وبدونها لا يتحقق صدور فعل عن قوة.

ثم العدالة على الطرق الأول تكون أمراً بسيطاً مستلزمة للملكات الثلاث أعنى الحكمة والعفة والشجاعة، وعلى الثاني تحتمل البساطة والتركيب على الظاهر، وإن كانت البساطة أقرب نظراً إلى أن الاعتدال الخلقي بمنزلة الاعتدال المزاجي الحاصل من ازدواج العناصر المتخالفة، وقد برهن في أصول الحكمة أن المزاج كيفية بسيطة.

وتفصيل الكلام في المقام أنه إذا حصلت الملكات الثلاث حصل للعقل العملي قوة الاستعلاء والتدبير على جميع القوى، بحيث كانت الجميع منقادة له، واستعمل كلا منها على ما يقتضيه رأيه، فان جعلت العدالة عبارة عن نفس هذه القوة، أو نفس تدبير التصرف في البدن وامور المنزل والبلد، دون الملكات الثلاث كانت العدالة بسيطة وكانت كمالا للعقل العملي فقط، وان جعلت نفس الملكات كانت مركبة، وحينئذ لا يناسب جعلها فضيلة على حدة معدودة في إعداد الفضائل، لأن جميع الأقسام لا يكون قسما منها، وليس الائتلاف والامتزاج هيئة وحدانية عارضة للملكات الثلاث حتى تكون شيئاً على حدة ونوعاً مركباً.

ثم على الطريقين يتحقق التلازم بين العدالة والملكات الثلاث إلا انه على الطريق الأول تكون العدالة علة، والملكات الثلاث معلولة، وعلى الطريق الثاني ينعكس ذلك لتوقف حصول العدالة على وجود تلك الملكات وامتزاجها فهي أجزاء للعدالة أو بمنزلتها.

تكملة

العدالة انقياد العقل العملي للعقل النظري

الحق أن حقيقة العدالة هو التفسير الاول المذكور في الطريق الأول، أعني انقياد العقل العملى للقوة العاقلة، وسائر التفاسير المذكورة في الطريقين لازمة له، إذ الانقياد المذكور يلزمه اتفاق القوى وقوة الاستعلاء والسياسة للعقل العملى على قوتي الغضب والشهوة، أو نفس سياسته إياهما وضبطهما تحت إشارة العقل النظري، وأمثال ذلك، وعلى هذه التفاسير اللازمة للاول يلزم أن تكون العدالة جامعة لجميع الفضائل، ويتحقق معناها في كل فضيلة حتى تكون فرداً لها.

وتحقيق المقام أن انقياد العقل العملي للعاقلة يستلزم ضبط قوتي الغضب والشهوة تحت إشارة العقل، وسياسته إياهما، واستعلائه عليهما. وهذا يستلزم اتفاق جميع القوى وامتزاجها. فجميع الفضائل الصادرة عن قوتي الغضب والشهوة، بل عن العاقلة أيضاً إنما تكون بتوسط العقل العملي وضبطه إياها، إلا أن ذلك لايوجب كونها كمالاً له حتى يعد من فضائله، ووجهه ظاهر، ولا كون الظبط المذكور عدالة.

فالحق أن حقيقة العدالة هو مجرد انقياد العاملة للعاقلة، ومثل الضبط والاستعلاء والسياسة من لوازمه، والفضائل الصادرة عن القوى الاخرى بتوسط العقل العملي إنما تندرج تحت لازم العدالة، لاعينها، فمن أدرج جميع الفضائل تحت العدالة نظره إلى اعتبار ما يلزمها، ومن لم يدرجه تحتها نظره إلى عدم اعتباره. وعلى هذا لابأس بأن يقال إن للعدالة اطلاقين (أحدهما) العدالة بالمعنى الأخص (وثانيهما) العدالة بالمعنى الأعم.

ثم إن القوم ذكروا لكل واحد من الفضائل الأربع انواعاً، فكما ادرجوا تحت كل من الحكمة والعفة والشجاعة أنواعاً، فكذا أدرجوا تحت العدالة أيضاً انواعاً كالوفاء والصداقة والعبادة وغيرها.

وأنت ـ بعد ما علمت أن العدالة بالتفسير الأول هو انقياد العاملة للعاقلة في استعمال نفس العاقلة وقوتي الغضب والشهوة ـ تعلم أن الفضائل بأسرها إنما تحصل باستعمال العاملة القوى الثلاث، فكل فضيلة إنما تتعلق حقيقتها باحدى الثلاث، وإن كان حصولها بتوسط العاملة وضبطها الثلاث، إذ كون الاستعمال والضبط منها لا يقتضى استناد ما يحصل من الفضائل باستعمالها إليها مع صدورها حقيقة عن سائر القوى. وكذا لا يقتضي استناد ما يحصل من الرذائل لعدم انقيادها للعاقلة إليها. ومعلوم أنه لا يترتب على مجرد انقيادها أو عدمه لها فضائل ورذائل لم يكن لها تعلق بالثلاث أصلا، إذ كل فضيلة ورذيلة إما متعلق بالقوة العقلية، أو بقوتي الغضب والشهوة بتوسط العاملة، وليس لها في نفسها فضيلة ورذيلة على حدة كما لا يخفى. مع أنه لو كان الاستعمال والضبط منشأ لاستناد ما يحصل من الفضائل إليها لزم أن تستند إليها جميع الفضائل، فكان اللازم ادخال جميع الفضائل تحت العدالة. وكذا الحال على تفسير العدالة بالطريق الثاني كما ظهر.

وعلى هذا فيلزم من عدهم بعض الفضائل من أنواع العدالة دون بعض آخر تخصيص بلا مخصص، فالفضائل التي جعلوها أنواعاً مندرجة تحت العدالة بعضها من انواع الشجاعة أو لوازمها، وبعضها من أنواع العفة أو آثارها، وإن كان للعاملة من حيث التوسط مدخلية في حصول الجميع. فنحن لا نتابع القوم، ونجرى على مقتضى النظر من جعل أنواع الفضائل والرذائل وأصنافها ونتائجها متعلقة بالقوى الثلاث دون العقل العملى، وإدخال جميعها تحت أجناسها على ما ينبغي من دون إدخال شيء منها تحت العدالة وضدها.

ثم إن الرذائل والفضائل مع مدخلية القوة العملية فيها بالاستعمال، إما متعلقة بمجرد احدى القوى الثلاث، أو باثنتين منها، أو بالثلاث. ومثال المتعلق باحداها ظاهر كالجهل والعلم المتعلقين بالعاقلة، والغضب والحلم المتعلقين بالقوة الغضبية، والحرص والقناعة المتعلقين بالقوة الشهوية وأما ما يتعلق باثنتين منها أو الثلاث، فاما أن يكون له أصناف يتعلق بعضها ببعض وبعضها ببعض آخر، كحب الجاه أعني طلب المنزلة في القلوب: فانه إن كان المقصود منه الاستيلاء على الخلق والتفوق عليهم، كان من رذائل قوة الغضب. وإن كان المقصود منه طلب المال ليتوسل به إلى شهوة البطن والفرج، كان من رذائل قوة الشهوة، وكذا الحسد أعني تمنى زوال النعمة عن الغير: إن كان باعثه العداوة كان من رذائل القوة الغضبية. وإن كان باعثه مجرد وصول النعمة إليه كان من رذائل القوة الشهوية. أو يكون للثلاث أو الاثنتين مدخلية بالاشتراك في نوع الفضيلة والرذيلة أو بعض أصنافه، كالحسد الذي باعثه العداوة، وتوقع وصول النعمة إليه معاً، وكالغرور وهو سكون النفس إلى ما يوافق الهوى، وتمييل النفس إليه بخدعة من الشيطان، فان النفس إن كانت مائلة بالطبع إلى شيء من مقتضيات الشهوة، واعتقدت جهلا كونه خيراً لها كان ذلك من رذائل قوتي العاقلة والشهوه، وان كانت مائلة إلى شيء من مقتضيات قوة الغضب. واعتقدت جهلا كونه خيراً لها كان ذلك من رذائل قوتي العاقلة والغضب، وإن كانت مائلة إلى شيء من مقتضياتهما معاً مع اعتقادها كونه خيراً لها كان من رذائل الثلاث معاً.

ثم مرادنا من تعلق صفة القوى المتعددة وكونها معدودة من رذائلها أو فضائلها أن يكون لكل منها تأثير في حدوثها وايجادها، أي يكون من جملة عللها الفاعلة الموجدة، بحيث لو قطع النظر عن فعل واحدة منها لم تتحقق هذه الصفة، فان الغرور يتحقق بالميل والاعتقاد، بمعنى أن كلا منهما مؤثر في ايجاده وإحداثه، ولو لم يكن الاعتقاد المتعلق بالعاقلة والميل المتعلق بالشهوة والغضب لم يوجد غرور. فلو كانت مدخلية قوة في صفة بمجرد الباعثة، أي كانت باعثة لقوة اخرى على ايجاد هذه الصفة وإحداثها، بحيث أمكن تحقق هذه الصفة مع قطع النظر عن هذه القوة بباعث آخر لم يكن متعلقة بها، ولم نعدها من رذائلها أو فضائلها، بل كانت متعلقة بالقوة الأخرى التي هي مباشرة لاحداثها وايجادها، مثل الغضب الحاصل من فقد شيء من مقتضيات شهوة البطن والفرج، وان كان باعثه قوة الشهوة إلا انه ليس لقوة الشهوة وفعلها شركة في إحداثه وايجاده، بل الاحداث إنما هو من القوة الغضبية، ومدخلية الشهوية انما هو بتحريكها وتهييجها الغضبية للاحداث والايجاد، ولا ريب في أن للعاقلة هذه الباعثية في صدور اكثر الصفات مع عدم عدها من رذائلها " أو فضائلها "[3]

وإذا عرفت ذلك فاعلم انا نذكر اولا ما يتعلق بالعاقلة من الرذائل والفضائل، ثم ما يتعلق بالقوة الغضبية منهما، ثم مايتعلق بالشهوية منهما ثم ما يتعلق بهما أو الثلاث.

فصل

العقل النظري هو المدرك للفضائل والرذائل

اعلم أن كل واحد من العقل العملي والعقل النظري رئيس مطلق من وجه، أما "الأول" فمن حيث إن استعمال جميع القوى حتى العاقلة على النحو الأصلح موكول اليه، وأما "الثاني" فمن حيث إن السعادة القصوى وغاية الغايات أعني التحلي بحقائق الموجودات مستندة اليه، وايضا ادراك ماهو الخير والصلاح من شأنه فهو المرشد والدليل للعقل العملي في تصرفاته.

وقيل إن ادراك فضائل الأعمال ورذائلها من شأن العقل العملي، كما صرح به الشيخ في الشفاء بقوله: " إن كمال العقل العملي استنباط الآرء الكلية في الفضائل والرذائل من الأعمال على وجه الابتناء على المشهورات المطابقة في الواقع للبرهان، وتحقيق ذلك البرهان متعلق بكمال القوة النظرية ".

والحق ان مطلق الادراك والارشاد إنما هو من العقل النظري فهو بمنزلة المشير الناصح، والعقل العملي بمنزلة المنفذ الممضى لاشاراته وما ينفذ فيه الاشارة فهو قوة الغضب والشهوة.

دفع الاشكال

في تقسيم الحكمة

ان قيل: إن القوم قسموا الحكمة أولاً إلى النظرية والعملية، ثم قسموا العملية إلى ثلاث أقسام: واحد منها علم الأخلاق المشتمل على الفضائل الأربع التي احداها الحكمة، فيلزم أن تكون الحكمة قسما من نفسها.

قلنا: الحكمة التي هي المقسم هو العلم بأعيان الموجودات، سواء كانت الموجودات إلهية أي واقعة بقدرة الباري سبحانه، أو موجودات انسانية أي واقعة بقدرتنا واختيارنا، ولما كان هذا العلم أعني الحكمة التي هي المقسم قسما من الموجودات بالمعنى الثاني، فلا بأس بالبحث عنه في علم الأخلاق، فان غاية ما يلزم أن تكون الحكمة موضوعاً لمسألة هي جزؤها بان يجعل عنواناً فيها ويحمل عليها كونها ملكة محمودة، أو طريق اكتسابها كذا.

وبالجملة لا مانع من أن يجعل علم يبحث فيه عن احوال الموجودات موضوعاً لمسألة، ويبحث عنه فيه باثبات صفة له لأجل انه أيضا من الموجودات كما انه في العلم الأعلى الذي يبحث فيه عن الموجودات من حيث وجودها يبحث عن نفس العلم لكونه من الموجودات، ويجعل موضوعاً لمسألة من مسائله، ولا يلزم من هذا كون الشيء جزءاً لنفسه. وايضاً نقول كما ان الحكمة العملية قسم من مطلق الحكمة لتعلق العمل بالنظر، فكذا المطلق قسم منها لتعلق النظر بالعمل، وحينئذ كما أن العدالة من الحكمة باعتبار فكذا الحكمة من العدالة باعتبار آخر، فتختلف الحيثية ولا يلزم محذور.

وقيل: في الجواب إن المراد من الحكمة التي هي احدى الفضائل الأربع استعمال العقل على الوجه الأصلح، وحينئذ فلا يرد اشكال أصلا لعدم كون الحكمة بهذا المعنى عين المقسم لأنها جزء له. وفيه أن الحكمة بهذا المعنى هي العدالة على ما تقرر، مع أن العدالة أيضاً إحدى الفضائل الأربع.

(تنبيه) قد صرح علماء الأخلاق بان صاحب الفضائل الأربع لا يستحق المدح ما لم تتعد فضائلها إلى الغير، ولذا لا يسمى صاحب ملكة السخاء بدون البذل سخياً بل منافقاً ولا صاحب ملكة الشجاعة بدون ظهور آثارها شجاعاً بل غيوراً، ولا صاحب ملكة الحكمة بدونها حكيما بل مستبصراً.

والظاهر ان المراد باستحقاق المدح هو حكم العقل بوجوب المدح، فان من تعدى أثره يرجى نفعه، ويخاف ضره، فيحكم العقل بلزوم مدحه جلباً للنفع، أو دفعاً للضرر، وأما من لا يرجى خيره وشره فلا يحكم العقل بوجوب مدحه وان بلغ في الكمال مابلغ.

فصل

تحقيق الوسط والأطراف

لاريب في أنه بازاء كل فضيلة رذيلة هي ضدها، ولما عرفت أن أجناس الفضائل أربعة فاجناس الرذائل أيضاً في بادى النظر أربعة: الجهل، وهو ضد الحكمة، والجبن، هو ضد الشجاعة، والشره وهو ضد العفة، والجور، وهو ضد العدالة. وعند التحقيق يظهر أن لكل فضيلة حداً معيناً، والتجاوز عنه بالافراط أو التفريط يؤدي إلى الرذيلة، فالفضائل بمنزلة الأوساط، والرذائل بمثابة الأطراف، والوسط واحد معين لايقبل التعدد، والأطراف غير متناهية عدداً. فالفضيلة بمثابة مركز الدائرة، والرذائل بمثابة سائر النقاط المفروضة من المركز إلى المحيط، فان المركز نقطة معينة، مع كونه ابعد النقاط من المحيط، وسائر النقاط المفروضة من جوانبه غير متناهية، مع أن كلا منها أقرب منه من طرف اليه.

فعلى هذا يكون بازاء كل فضيلة رذائل غير متناهية، لأن الوسط محدود معين، والأطراف غير محدودة، وتكون الفضيلة في غاية البعد عن الرذيلة التي هي نهاية الرذائل، ويكون كل منها اقرب إلى النهاية[4]، ومجرد الانحراف عن الفضيلة من أي طرف اتفق يوجب الوقوع في رذيلة. والثبات على الفضيلة والاستقامة في سلوك طريقها بمنزلة الحركة على الخط المستقيم، وارتكاب الرذيلة كالانحراف عنه، ولا ريب في أن الخط المستقيم هو أقصر الخطوط الواصلة بين النقطتين، وهو لا يكون إلا واحداً، وأما الخطوط المنحنية بينهما فغير متناهية، فالاستقامة في طريق الفضيلة وملازمتها على نهج واحد، والانحراف عنه تكون له مناهج غير متناهية، ولذلك غلبت دواعي الشر على بواعث الخير.

ويظهر مما ذكر أن وجدان الوسط الحقيقي صعب، والثبات عليه بعد الوجدان أصعب، لأن الاستقامة على جادة الاعتدال في غاية الاشكال، وهذا معنى قول الحكماء " اصابة نقطة الهدف أعسر من العدول عنها، ولزوم الصوب[5] بعد ذلك حتى لا يخطيها أعسر " ولذلك لما امر فخر الرسل بالاستقامة في قوله تعالى:

" فاستقم كما امرت "[6]

قال شيبتني سورة هود عليه السلام، إذ وجد ان الوسط الحقيقي فيما بين الأطراف الغير المتناهية المتقابلة مشكل، والثبات عليه بعد الوجدان اشكل.

وقال (المحقق الطوسي) وجماعة: " إن ماورد في اشارات النواميس من ان الصراط المستقيم أدق من الشعر، وأحد من السيف اشارة إلى هذا المعنى " وغير خفي بأن هذا التأويل جرأة على الشريعة القويمة، وهتك لأستار السنة الكريمة، والواجب الأذعان بظاهر ماورد من أمور الآخرة نعم يمكن أن يقال كما مر: إن الأمور الاخروية التي حصل بها الوعد والوعيد كلها أمور محققة ثابتة على ما اخبر به، إلا انها صور للاخلاق، والصفات المكتسبة في هذه النشأة قد ظهرت بتلك الصور في دار العقبى بحسب المرتبة، إذ ظهورات الأشياء مختلفة بحسب اختلاف المراتب والنشآت فمواد ما يؤذى ويريح من الصور في موطن المعاد انما هو الأخلاق والنيات المكتسبة في هذه النشأة. وهذا المذهب مما استقر عليه آراء اساطين الحكمة والعرفان، وذكرنا الظواهر الدالة علية من الآيات والأخبار، واشرنا إلى حقيقة الحال فيه. وعلى هذا فالصراط المستقيم الممدود كالجسر على الجحيم صورة لتوسط الأخلاق، والجحيم صورة لأطرافها، فمن ثبت قدمه على الوسط هنا لم يزل عن الصراط هناك ووصل إلى الجنة التي وعدها الله المتقين، ومن مال إلى الأطراف هنا سقط هناك في جهنم التي احاطت بالكافرين.

ثم الوسط أما حقيقي وهو ما تكون نسبته إلى الطرفين على السواء كالأربعة بالنسبة إلى الاثنين والستة، وهذا كالمعتدل الحقيقي الذي انكر الاطباء وجوده، أو اضافي وهو اقرب ما يمكن تحققه للنوع أو الشخص إلى الحقيقي، ويتحقق به كمالهما " اللائق بحالهما "[7] وان لم يصل اليه، فالتسمية بالوسط انما هو بالنسبة إلى الأطراف التي هي أبعد من الحقيقي بالاضافة اليه، وهذا كالاعتدالات النوعية والشخصية التي اثبتها الاطباء، فان المراد منها الاعتدالات التي يمكن تحققها للأنواع والأشخاص، وهو القدر الذي يليق بكل نوع أو شخص أن يكون عليه، وان لم يكن اعتدالاً حقيقياً بمعنى تساوي الأجزاء البسيطة العنصرية وتكافؤها في القوة والأقربية إلى الحقيقي بالنسبة إلى سائر الاطراف سمى اضافياً.

ثم الوسط المعتبر هنا هو الاضافي لتعذر وجدان الحقيقي والثبات عليه، ولذا تختلف الفضيلة باختلاف الأشخاص والاحوال والازمان، فربما كانت مرتبة من الوسط الاضافي فضيلة بالنظر إلى شخص أو حال أو وقت، ورذيلة بالنسبة إلى غيره.

وتوضيح الكلام انه لاريب في ان الوسط الحقيقي في الأخلاق لكونه في حكم نقطة غير منقسمة لا يمكن وجدانه ولا الثبات عليه، ولذا ترى من هو متصف بفضيلة من الفضائل لا يمكن الحكم بكون تلك الفضيلة " هي الوسط الحقيقي، إلا انه لما كانت تلك الفضيلة "[8] قريبة إليه ولا يمكن وجود الأقرب منها إليه له، يحكم بكونها وسطاً اضافياً لأقربيتها إليه بالنسبة إلى سائر المراتب فالاعتدال الاضافي له عرض، وسطه الاعتدال الحقيقي، وطرفاه طرفا الافراط والتفريط، إلا انه ما لم يخرج عن هذين الطرفين يكون اعتدالاً اضافياً، وكلما كان اقرب إلى الحقيقي كان أكمل وأقوى، وإذا خرج عنهما دخل في الرذيلة.

لا يقال: على هذا ينبغي أن يكون الاعتدال الطبي في المزاج أيضا كذلك أي له عرض وسطه الاعتدال الحقيقي وطرفاه خارجان عن الاعتدال الطبي حتى انه كلما قرب إلى الحقيقي صار الطبي اقوى واكمل مع انه ليس الأمر كذلك، إذ القياس يقتضي الخروج عن الاعتدال الطبي، أو ضعفه لقربه إلى الحقيقي.

" بيان ذلك " ان الاعتدال الحقيقي في المزاج ان تكون اجزاء العناصر متكافئة القوة، والاعتدال الطبي في نوع الإنسان أو شخص من اشخاصه ان تكون الاجزاء الحارة مثلا من عشرة إلى اثنى عشرة، والباردة من ثمانية إلى تسعة، واليابسة من سبعة إلى ثمانية، والرطبه من ستة إلى سبعة، فإذا كانت الأجزاء الحارة ستة، والباردة خمسة، واليابسة اربعة، والرطبة ثلاث كانت خارجة عن الاعتدال الطبي، مع صيرورته اقرب إلى الحقيقي، بل إذا فرضت تكافؤ اجزاء العناصر الاربعة حتى حصل نفس الاعتدال الحقيقي خرجت أيضاًً عنه، فلا يكون الحقيقي وسط الطبي حتى انه كلما يصير إليه اقرب يكون اقوى واكمل.

لانا نقول نحن لا ندعى ان الحقيقي وسط الطبي بل هو امر مغاير له، والحقيقي في طرفه الخارج، فان له طرفين: " احدهما " ان تصير الاجزاء اقرب في التساوي مما كان للطبي إلى أن يبلغ إلى الحقيقي، " والثاني " أن يصير ابعد فيه مما كان له إلى غير النهاية، إلا ان بعض مراتب الطرفين التي منها الاعتدال الحقيقي غير ممكن الوقوع فتأمل.

فان قيل: ان الوسط المعتبر هنا إن كان اضافياً، لكان له عرض كعرض المزاج، فلايناسب وصفه بالحدة والدقة، قلنا. كما في عرض المزاج مرتبة هي افضل المراتب واقربها إلى الاعتدال الحقيقي، كذلك في عرض الوسط للملكات مرتبة هي افضل المراتب واقربها إلى الحقيقي، وهي المطلوبة بالذات ولاريب في ان خصوص هذه ليس لها عرض واسعة، فلا بأس بوصفها بالدقة والحدة، واما سائر المراتب المعدودة من الوسط وان لم تكن خالية عن شوائب الافراط والتفريط، إلا انه لما كان لها قرب محدود إلى المرتبة المطلوبة بحيث يصدق معه كون النوع أو الشخص باقياً على كماله اللائق به عدت من الأوساط والفضائل، كما ان غير الأقرب إلى الاعتدال الحقيقي من مراتب عرض المزاج يعد من الاعتدال لكون النوع أو الشخص معه باقياً محفوظاً بحيث لا يظهر خلل بين في افعاله وان لم يخل عن الانحراف، ولو وصف هذه المراتب أيضاًً بالحدة والدقة مع سعتها فوجهه ان وجدانها والثبات عليها لا يخلو أيضاً من صعوبة.

 


[1]  إذا كان العقل العملي مبدأ لتحريك البدن فهو قوة تحريك لا قوة ادراك وفي الحقيقة أن غرضهم من العقل العملي هو ادراك ما ينبغي ان يعمل.

[2]  وفي النسخة المخطوطة عندنا "الحصول".

[3]  لم توجد في نسختنا الخطية لكنها موجودة في نسخة خطية اخرى وفي المطبوعة.

[4]  أي ان كلا من الرذائل أقرب من الفضيلة إلى النهاية.

[5]  الصواب: يقال فلان مستقيم الصوب إذا لم يزغ عن قصده يميناً وشمالا.

[6]  هود الآية: 112.

[7]  غير موجودة في نسختنا الخطية لكنها موجودة في نسخة خطية اخرى وفي المطبوعة.

[8]  هذه العبارة بتمامها لم توجد في نسختنا الخطية.

 

 

 

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست