.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

النفس وأسماؤها وقواها الأربع

ائتلاف حقيقة الإنسان من الجهات المتقابلة

 الأقوال في الخير والسعادة والتوفيق بينها

لا تحصل السعادة إلا باصلاح جميع الصفات والقوى دائماً

غاية السعادة التشبيه بالمبدأ

بازاء كل واحدة من القوى الأربع لذة وألم

ايقاظ فيه موعظة ونصيحة

 

فصل

(النفس وأسماؤها وقواها الأربع)

ما عرفت من تجرد النفس إنما هو التجرد في الذات دون الفعل لافتقارها فعلا إلى الجسم والآلة، فحدها: أنها جوهر ملكوتي يستخدم البدن في حاجاته، وهو حقيقة الإنسان وذاته، والأعضاء والقوى آلاته التي يتوقف فعله عليها، وله أسماء مختلفة بحسب اختلاف الاعتبارات، فيسمى (روحاً) لتوقف حياة البدن عليه و(عقلا) لادراكه المعقولات و(قلباً) لتقلبه في الخواطر، وقد تستعمل هذه الألفاظ في معان أخرى تعرف بالقرائن.

وله قوى أربع: قوة عقلية ملكية، وقوة غضبية سبعية، وقوة شهوية بهيمية، وقوة وهمية شيطانية. و(الأولى) شأنها إدراك حقائق الأمور، والتمييز بين الخيرات والشرور، والأمر بالأفعال الجميلة، والنهي عن الصفات الذميمة. و(الثانية) موجبة لصدور أفعال السباع من الغضب والبغضاء، والتوثب على الناس بأنواع الأذى. و(الثالثة) لا يصدر عنها إلا أفعال البهائم من عبودية الفرج والبطن، والحرص على الجماع والأكل. و(الرابعة) شأنها استنباط وجوه المكر والحيل، والتوصل إلى الأغراض بالتلبيس والخدع.

والفائدة في وجود القوة الشهوية بقاء البدن الذي هو آلة تحصيل كمال النفس، وفي وجود الغضبية أن يكسر سورة الشهوية والشيطانية، ويقهرهما عند انغمارهما في الخداع والشهوات. واصرارهما عليهما، لأنهما لتمردهما لا تطيعان العاقلة بسهولة، بخلاف الغضبية فانهما تطيعانها وتتأدبان بتأديبها بسهولة.

ولذ قال أفلاطون في صفة السبعية والبهيمية: " أما هذه أي السبعية فهي بنمزلة الذهب في اللين والانعطاف، وأما تلك أي البهيمية فهي بمنزلة الحديد في الكثافة والامتناع " وقال أيضاً: " ما أصعب أن يصير الخائض في الشهوات فاضلا، فمن لا تطيعه الواهمة والشهوية في إيثار الوسط فليستعن بالقوة الغضبية المهيجة للغيرة، والحمية حتى يقهرهما " فلو لم يمتثلا مع الاستعانة فان لم تحصل له ندامة بعد ارتكاب مقتضاهما دل على غلبتهما على العاقلة ومقهوريتها عنهما، وحينئذ لا يرجى صلاحه، وإلا فالإصلاح ممكن فليجتهد فيه ولا ييأس من روح الله، فان سبل الخيرات مفتوحة، وأبواب الرحمة الإلهية غير مسدودة.

" والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا "[1].

والفائدة في القوة الوهمية إدراك المعاني الجزئية، واستنباط الحيل والدقائق التي يتوصل بها إلى المقاصد الصحيحة.

وبيان ذلك أن الواهمة والخيال والمتخيلة ثلاث قوى متباينة، ومباينة للقوى للثلاث الأول، وشأن الأولى ادراك المعاني الجزئية، وشأن الثانية إدراك الصور، وشأن الثالثة التركيب والتفصيل بينهما. وكل من مدركاتها إما مطابق للواقع، أو مخترع من عند أنفسها من غير تحقق له في نفس الأمر أيضاً، وإما من مقتضيات العقل والشريعة، ومن الوسائل إلى المقاصد الصحيحة، أو من دواعي الشيطان وما يقتضية الغضب والشهوة، وعلى الأول يكون وجودها خيراً وكمالاً، وإن كان وجودها على الثاني شراً وفساداً. والحال في جميع القوى كذلك.

هذا وقيل: ما ورد في القرآن من النفس المطمئنة واللوامة والأمارة بالسوء، اشارة إلى القوى الثلاث أعني العاقلة والسبعية والبهيمية.

والحق أنها أوصاف ثلاثة للنفس بحسب اختلاف أحوالها، فإذا غلبت قوتها العاقلة على الثلاث الأخر، وصارت منقادة لها مقهورة منها، وزال اضطرابها الحاصل من مدافعتها سميت "مطمئنة"، لسكونها حينئذ تحت الأوامر والنواهي، وميلها إلى ملائماتها التي تقتضي جبلتها، وإذا لم تتم غلبتها وكان بينها تنازع وتدافع، وكلما صارت مغلوبة عنها بارتكاب المعاصي حصلت للنفس لوم وندامة سميت "لوامة" لأنه لما اضمحلت قوتها العاقلة واذعنت للقوى الشيطانية من دون مدافعة، فكأنما هي الآمرة بالسوء.

ثم مثل اجتماع هذه القوى في الإنسان كمثل اجتماع ملك، أو حكيم وكلب وخنزير وشيطان في مربوط واحد، وكان بينها منازعة، وأيها صار غالباً كان الحكم له، ولم يظهر من الأفعال والصفات إلا ما تقتضيه جبلته فكان إهاب الإنسان وعاء اجتمع فيه هذه الأربع، فالملك أو الحكيم هو القوة العاقلة، والكلب هو القوة الغضبية، فان الكلب ليس كلباً ومذموماً للونه وصورته بل لروح معنى الكلبية والسبعية أعني الضراوة والتكلب على الناس بالعقر والجرح، والقوة الغضبية موجبة لذلك، فمن غلب فيه هذه القوة هو الكلب حقيقة، وان اطلق عليه اسم الإنسان مجازاً، والخنزير هو القوة الشهوية، والشيطان هو القوة الوهمية، والتقريب فيهما كما ذكر، والنفس لا تزال محل تنازع هذه القوى وتدافعها إلى أن يغلب احداها، فالغضبية تدعوه إلى الظلم والإيذاء، والعداوة والبغضاء، والبهيمية تدعوه إلى المنكر والفواحش، والحرص على المآكل والمناكح، والشيطانية تهيّج غضب السبعية وشهوة البهيمية، وتزيد[2] فعلهما، وتغري احداهما بالأخرى والعقل شأنه أن يدفع غيظ السبعية بتسليط الشهوية عليها، ويكسر سورة الشهوية بتسليط السبعية عليها، ويرد كيد الشيطان ومكره بالكشف عن تلبيسه ببصيرته النافذة، ونورانيته الباهرة، فان غلب على الكل بجعلها مقهورة تحت سياسته غير مقدمة على فعل إلا باشارته جرى الكل على المنهج الوسط، وظهر العدل في مملكة البدن، وإن لم يغلب عليها وعجز عن قهرها قهروه واستخدموه فلا يزال الكلب في العقر والإيذاء، والخنزير في المنكر والفحشاء، والشيطان في استنباط الحيل، وتدقيق الفكر في وجوه المكر والخدع، ليرضي الكلب ويشبع الخنزير، فلا يزال في عبادة كلب عقور أو خنزير هلوع أو شيطان عنود، فتدركه الهلاكة الأبدية، والشقاوة السرمدية، أن لم تغثه العناية الإلهية، والرحمة الأزلية.

وقد يمثل اجتماع هذه القوى في الإنسان براكب بهيمة طالب للصيد يكون معه كلب وعين من قطاع الطريق، فالراكب هو العقل، والبهيمة هي الشهوة، والكلب هو الغضب، والعين هو القوة الوهمية التي هي من جواسيس الشيطان، فان كان الكل تحت سياسة الراكب فعل ما يصلح للكل ونال ما بصدده، وإن كانت الغلبة والحكم للبهيمة أو الكلب لهلك الراكب بذهابه معهما فيما لا يصلح له من التلال والوهاد، واقتحامه في موارد الهلكات، وان كان الكل تحت نهي العين وأمره، وافتتنوا بخدعه ومكره لأضلهم بتلبيسه عن سواء السبيل حتى يوصلهم إلى أيدي السارقين.

وكذلك لو كانت القوى بأسرها تحت اشارة العقل وقهرها وغلب عليها وقعت لانقيادها له المسالمة والممازجة بين الكل، وصار الجميع كالواحد لأن المؤثر والمدبر حينئذ ليس إلا قوة واحدة تستعمل كلاً منها في المواضع اللائقة والأوقات المناسبة، فيصدر عن كل منها ما خلق لأجله، على ما ينبغي من القدر والوقت والكيفية، فتصلح النفس وقواها.

" قد أفلح من زكاها "[3].

ولو لم يغلب العقل حصل التدافع والتجاذب بينه وبين سائر القوى، ويتزايد ذلك إلى أن يؤدي إلى انحلال الآلة والقوة لو يصير العقل مغلوباً فتهلك النفس وقواها،

" وقد خاب من دساها "[4].

(تتميم) لما تبين أن للنفس اربع قوى متخالفة، ولها قوى أخر أيضاًً كما تبين في العلم الطبيعي. فبحسب غلبة بعض هذه القوى على بعض يحصل في النفس اختلاف عظيم، والاختلاف في النفوس إنما هو باختلاف صفاتها الحاصلة من غلبة بعض قواها المتخالفة. إذ هي في بدو فطرتها خالية عن جميع الأخلاق والملكات، وليس لها فعلية، بل هي محض القوة، ولذا ليس لها قوام بذاتها وإنما تتقوم بالبدن، ثم بتوسط قواها تكتسب العلوم والأخلاق، وترتسم بالصور والأعمال إلى أن تتقوم بها، وتصل إلى ما خلقت لأجله.

ولما كانت قواها متخالفة متنازعة فما لم يغلب احداها لم تدخل النفس في عالمه[5] الذي يخصه فلا تزال من تنازعها معركة للآثار المختلفة والأحكام المتباينة إلى أن يغلب إحداها فتظهر في النفس آثاره ويدخل في عالمه الخاص.

ولما كانت القوة العاقلة من سنخ الملائكة, والواهمة من حزب الأبالسة والغضبية من أفق السباع، والشهوية من عالم البهائم، فبحسب غلبة واحدة منها تكون النفس اما ملكاً أو شيطاناً أو كلباً أو خنزيراً، فلو كانت الغلبة والسلطنة لقهرمان العقل ظهر في مملكة النفس أحكامه وآثاره، وانتظمت أحوالها، ولو كانت لغيره من القوى ظهر فيها آثاره فتهلك النفس ويحتل معاشها ومعادها.

ثم المنشأ للتنازع والتجاذب والبقاء في نفس الإنسانية إنما هو قوتها العقلية لأن التدافع إنما بينها وبين سائر القوى، فليس في نفوس سائر الحيوانات لفقدانها العاقلة تنازع وتجاذب وإن اختلفت في غلبة ما فيها من القوى، فان الغلبة في الشياطين للواهمة، وفي السباع للغضب، وفي البهائم للشهوة، وأما الملائكة فتنحصر قوتها بالعاقلة فليس فيها سائر القوى فلا يتحقق فيها تدافع وتنازع. فالجامع لعوالم الكل هو الإنسان وهو المخصوص من بين المخلوقات بالصفات المتقابلة، ولذلك صار مظهراً للأسماء المتقابلة الإلهية، وقابلاً للخلافة الربانية، وقائماً بعمارة عالمي الصورة والمعنى.

والملائكة وان كانوا مخصوصين بالجنة الروحانية ولوازمها من الاشراقات العلمية، وتوابعها من اللذات العقلية، إلا أنه ليس لهم جهة جسمانية ولوازمها. والأجسام الفلكية وان كانت لها نفوس ناطقة على قواعد الحكمة إلا أنها خالية عن الطبائع المختلفة، والكيفيات المتباينة، وليس لها سير في المدارج المتخالفة، والمراتب المتفاوتة، ولا تقلب في أطوار النقص والكمال، ولا تحول في جميع التقاليب والأحوال، بخلاف الإنسان فانه محيط بجميع المراتب المختلفة، وسائر في الأطوار المتباينة من الجمادية والنباتية والحيوانية والملكية، وله الترقي عن جميع تلك المراتب بأن تتحقق له مرتبة مشاهدة الوحدة الصرفة فيتجاوز عن افق الملائكة، فهو النسخة الجامعة لحقائق الملك والملكوت، والمعجون المركب من عالمي الأمر والخلق قال أمير المؤمنين (ع): "إن الله خص الملك بالعقل دون الشهوة والغضب، وخص الحيوانات بهما دونه وشرف الإنسان باعطاء الجميع فان اتقادت شهوته وغضبه لعقله صار أفضل من الملائكة لوصوله إلى هذه المرتبة مع وجود المنازع والملائكة ليس لهم مزاحم ".

فصل

ائتلاف حقيقة الإنسان من الجهات المتقابلة

قد ظهر بما ذكر أن الإنسان ذو جنبة روحانية يناسب بها الأرواح الطيبة والملائكة القادسة، وذو جنبة جسمانية يشابه بها السباع والأنعام، فالبجزء الجسماني أقيم في هذه العالم الحسي مدة قصيرة، وبالجزء الروحاني ينتقل إلى العالم العلوي، ويقيم فيه أبداً في مصاحبة الأرواح القدسية، بشرط أن يتحرك بقواه نحو كمالاتها الخاصة، حتى يغلب الجزء الروحاني على الجسماني، وينفض عن نفسه كدورات الطبيعة، وتظهر فيه آثار الروحانيات من العلم بحقائق الأشياء والأنس بالله تعالى والحب له والتحلي بفضائل الصفات. وحينئذ يقوم بغلبة روحانيته بين الملأ الأعلى يستمد منهم لطائف الحكمة، ويستنير بالنور الإلهي ويزيد ذلك بحسب رفع العلائق الجسمية، حتى إذا ارتفعت عنه حجب الغواسق الطبيعية بأسرها، وازيلت عنه استار العوائق الهيولانية برمتها، خلى عن جميع الآلام والحسرات، وكان أبداً مسروراً بذاته، مغتبطاً بحاله، مبتهجاً بما يرد عليه من فيوضات النور الأول، ولا يسر إلا بتلك اللذات، ولا يغتبط إلا بها، ولا يهش إلا باظهار الحكمة الحقة بين أهلها، ولا يرتاح إلا بمن ناسبه وأحب الاقتباس منه، ولا يبالي بمفارقة الدنيا وما فيها، ويرى جسمه وماله وجميع خيرات الدنيا وبالاً وكلاً عليه إلا ما هو ضروري يحتاج إليه بدنه الذي يفتقر إليه في تحصيل كماله، ويحن أبداً إلى مصاحبة الذوات النورية، ولا يفعل إلا ما أراد الله تعالى منه، ولا يتعرض إلا لما يقربه اليه، ولا يخالفه في متابعة الشهوات الردية، ولا ينخدع بخدائع الطبيعة، ولا يلتفت إلى شيء يعوقه عن سعادته، ولا يحزن على فقد محبوب، ولا فوت مطلوب وإذا صفى من الأمور الطبيعية بالكلية زالت عنه العوارض النفسانية، والخواطر الشيطانية بأسرها، وفنى عنه إرادته المتعلقة بالأمور. وحينئذ يمتلي من المعارف الإلهية، والشوق الإلهي والبهجة الإلهية، والشعار الإلهي، وتتقرر الحقائق في عقله كتقرر القضايا الأولية فيه بل يكون علمه بها أشد إشراقاً وظهوراً من علمه بها. وإذا بلغ هذه الغاية فقد استعد للوصول إلى المرتبة القصوى، ومجاورة الملأ الأعلى، فيصل إلى ما لا عين رأت، ولا اذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ويفوز بما أشير إليه في الكتاب الإلهي بقوله:

" فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين "[6].

فصل

(الأقوال في الخير والسعادة والتوفيق بينها)

اعلم ان الغاية في تهذيب النفس عن الرذائل وتكميلها بالفضائل هو الوصول إلى الخير والسعادة. والسلف من الحكماء قالوا: إن (الخير) على قسمين مطلق ومضاف، والمطلق هو المقصود من ايجاد الكل، إذ الكل يتشوقه وهو غاية الغايات، والمضاف ما يتوصل به إلى المطلق. و(السعادة) هو وصول كل شخص بحركته الإرادية النفسانية إلى كماله الكامن في جبلته وعلى هذا فالفرق بين الخير والسعادة أن الخير لا يختلف بالنسبة إلى الأشخاص، والسعادة تختلف بالقياس اليهم.

ثم الظاهر من كلام أرسطا طاليس أن الخير المطلق هو الكمالات النفسية والمضاف ما يكون معداً لتحصيلها كالتعلم والصحة، أو نافعاً فيه كالمكنة والثروة.

وأما السعادة فعند الأقدمين من الحكماء راجعة إلى النفوس فقط، وقالوا ليس للبدن فيها حظ، فحصروها في الأخلاق الفاضلة، واحتجوا على ذلك بأن حقيقة الإنسان هي النفس الناطقة والبدن آلة لها، فلا يكون ما يعد كمالاً له سعادة للانسان. وعند المتأخرين منهم كأرسطو ومن تابعه راجعة إلى الشخص حيث التركيب، سواء تعلقت بنفسه أو بدنه، لأن كل ما يلائم جزءاً من شخص معين فهو سعادة جزئية بالنسبة اليه، مع انه يتعسر صدور الأفعال الجميلة بدون اليسار، وكثرة الأعوان والأنصار، والبخت المسعود، وغير ذلك مما لا يرجع إلى النفس، ولذا قسموا السعادة إلى ما يتعلق بالبدن من حيث هو كالصحة واعتدال المزاج وإلى ما يتوصل به إلى إفشاء العوارف ومثله مما يوجب استحقاق المدح كالمال وكثرة الأعوان، وإلى ما يوجب حسن الحديث وشيوع المحمدة، وإلى ما يتعلق بانجاح المقاصد والأغراض على مقتضى الأمل، وإلى ما يرجع إلى النفس من الحكمة والأخلاق المرضية. وقالوا كمال السعادة لا يحصل بدون هذه الخمسة، وبقدر النقصان فيها تنقص. قالوا وفوق ذلك سعادة محضة لا تدانيها سعادة، وهو ما يفيض الله سبحانه على بعض عباده من المواهب، والاشراقات العلمية، والابتهاجات العقلية بدون سبب ظاهر.

ثم الأقدمون لذهابهم إلى نفي السعادة للبدن صرحوا بأن السعادة العظمى لا تحصل للنفس ما دامت متعلقة بالبدن، وملوثة بالكدورات الطبيعية، والشواغل المادية، بل حصولها موقوف عنها، لأن السعادة المطلقة لا تحصل لها ما لم تصر مشرقة بالاشراقات العقلية، ومضيئة بالأنوار الإلهية، بحيث يطلق عليها اسم العقل التام، وذلك موقوف على تخليصها التام عن الظلمة الهيولانية، والقصورات المادية.

وأما المعلم الأول واتباعه فقالوا إن السعادة العظمى تحصل للنفس مع تعلقها بالبدن أيضاً، لبداهة حصولها لمن استجمع الفضائل بأسرها، واشتغل بتكميل غيره. وما أقبح: أن يقال مثله ناقص وإذا مات يصير تاماً، فالسعادة لها مراتب، ويحصل للنفس الترقي في مدارجها بالمجاهدة إلى أن تصل إلى أقصاها وحينئذ يحصل تمامها وإن كان قبل المفارقة، وتكون باقية بعدها أيضاً،

ثم المتأخرون عن الطائفتين من حكماء الإسلام قالوا ان السعادة في الأحياء لا تتم إلا باجتماع ما يتعلق بالروح والبدن، وأدناها أن تغلب السعادة البدنية على النفسية بالفعل، إلا أن الشوق إلى الثانية، والحرص على اكتسابها يكون أغلب، وأقصاها أن تكون الفعلية والشوق كلاهما في الثانية أكثر، إلا أنه قد يقع الالتفات إلى هذا العالم وتنظيم أموره بالعرض.

وأما في الأموات فيختص بما يتعلق بالنفس فقط لا ستغنائهم عن الامور البدنية، فتختص السعادة فيهم بالملكات الفاضلة، والعلوم الحقة اليقينية، والوصول إلى مشاهدة جمال الأبد، ومعاينة جلال السرمد. وقالوا إن الأولى لشوبها بالزخارف الحسية، والكدورات الطبيعية ناقصة كدرة، وأما الثانية فلخلوها عنها تامة صافية، لأن المتصف بها يكون أبداً مستنيراً بالأنوار الإلهية، مستضيئاً بالأضواء العقلية، مستهتراً[7] بذكر الله وانسه مستغرقاً في بحر عظمته وقدسه، وليس له التفات إلى ما سوى ذلك، ولا يتصور له تحسر على فقد لذة أو محبوب، ولا شوق إلى طلب شيء مرغوب، ولا رغبة إلى أمر من الأمور، ولا رهبة من وقوع محذور، بل يكون منصرفاً بجزئه العقلي مقصوراً همه على الامور الإلهية من دون التفات إلى غيرها.

وهذا القول ترجيح لطريقة المعلم الأول من حيث اثبات سعادة للبدن ولطريقة الأقدمين من حيث نفي حصول السعادة العظمى للنفس ما دامت متعلقة بالبدن. وهو (الحق المختار) عندنا، إذ لا ريب في كون ما هو وصلة إلى العادة المطلقة سعادة اضافية. ومعلوم أن غرض القائل بكون متعلقات الأبدان كالصحة والمال والأعوان سعادة انها سعادة إذا جعلت آلة لتحصيل السعادة الحقيقية لا مطلقاً، إذ لا يقول عاقل إن الصحة الجسمية والحطام الدنيوي سعادة، ولو جعلت وسيلة إلى اكتساب سخط الله وعقابه وحاجبة عن الوصول إلى دار كرامته وثوابه. وكذا لا ريب في أن النفس ما دامت متعلقة بالبدن مقيدة في سجن الطبيعة لا يحصل لها العقل الفعلي، ولا تنكشف لها الحقائق كما هي عليه انكشافاً تاماً، ولا تصل إلى حقيقة ما يترتب على العلم والعمل من الابتهاجات العقلية واللذات الحقيقية. ولو حصلت لبعض المتجردين عن جلباب البدن يكون في آن واحد ويمر كالبرق الخاطف.

هذا وقد ظهر من كلمات الجميع أن حقيقة الخير والسعادة ليست إلا المعارف الحقة، والأخلاق الطيبة، والأمر وإن كان كذلك من حيث ان حقيقتهما ما يكون مطلوباً لذاته، وباقياً مع النفس أبداً وهما كذلك، إلا انه لا ريب في ان ما يترتب عليهما من حب الله وانسه، والابتهاجات العقلائية، واللذات الروحانية مغاير لهما من حيث الإعتبار، وان لم ينفك عنهما ومطلوبيته لذاته أشد وأقوى، فهو باسم الخير والسعادة أولى وأحرى وإن كان الجميع خيراُ وسعادة. وبذلك يحصل الجمع بين أقوال أرباب النظر والاستدلال، وأصحاب الكشف والحال، وإخوان الظاهر من أهل المقال، حيث ذهبت (الفرقة الأولى) إلى أن حقيقة السعادة هو العقل والعلم، و(الثانية) إلى انها العشق، و(الثالثة) إلى أنها الزهد، وترك الدنيا.

فصل

(لا تحصل السعادة إلا باصلاح جميع الصفات والقوى دائماً)

لا تحصل السعادة إلا باصلاح جميع الصفات والقوى دائماً، فلا تحصل باصلاحها بعضاً دون بعض، ووقتاً دون وقت. كما ان الصحة الجسمية، وتدبير المنزل، وسياسة المدن لا تحصل إلا باصلاح جميع الأعضاء والأشخاص والطوائف في جميع الأوقات، فالسعيد المطلق من أصلح جميع صفاته وأفعاله على وجه الثبوت والدوام بحيث لا يغيره تغير الأحوال والأزمان، فلا يزول صبره بحدوث المصائب والفتن، ولا شكره بورود النوائب والمحن، ولا يقينه بكثرة الشبهات، ولا رضاه بأعظم النكبات، ولا احسانه بالاساءة، ولا صداقته بالعداوة. وبالجملة لا يحصل التفاوت في حاله، ولو ورد عليه ما ورد على أيوب النبي (ع) أو على برناس الحكيم، لشهامة ذاته، ورسوخ أخلاقه وصفاته. وعدم مبالاته بعوارض الطبيعة، وابتهاجه بنورانيته وملكاته الشريفة، بل السعيد الواقعي لتجرده وتعاليه عن الجسمانيات خارج عن تصرف الطبائع الفلكية، متعال عن تأثير الكواكب والاجرام الأثيرية فلا يتأثر عن سعدها ونحسها، ولا ينفعل عن قمرها وشمسها. أهل التسبيح والتقديس لا يبالون بالتثليث والتسديس، وربما بلغ تجردهم وقوة نفوسهم مرتبة تحصل لهم ملكة الأقتدار على التصرف في مواد الكائنات، ولو في الافلاك وما فيها، كما حصل لفخر الأنبياء وسيد الأوصياء صلوات الله عليهما وآلهما من شق القمر ورد الشمس.

وقد ظهر مما ذكر ان من يجزع بورود المصائب الدنيوية، ويضطرب من الكدورات الطبيعية، ويدخل نفسه في معرض شماتة الأعداء وترحم الأحباء، خارج عن زمرة السعداء، لضعف غريزته وغلبة الجبن على طبيعته، وعدم نبله بعد إلى الابتهاجات التي تدفع عن النفس أمثال ذلك.

ومثله لو تكلف الصبر والرضا وتشبه ظاهراً بالسعداء لكان في الباطن متألماً مضطرباً، وهذا ليس سعادة لأن السعادة الواقعية إنما هو صيرورة الأخلاق الفاضلة ملكات راسخة بحيث لا تغيرها المغيرات ظاهراً وباطناً. بلغنا الله وجميع الطالبين إلى هذا المقام الشريف.

فصل

(غاية السعادة التشبه بالمبدأ)

صرح الحكماء بأن غاية المراتب للسعادة أن يتشبه الإنسان في صفاته بالمبدأ: بأن يصدر عنه الجميل لكونه جميلاً، لا لغرض آخر من جلب منفعة، أو دفع مضرة، وإنما يتحقق ذلك إذا صارت حقيقته المعبر عنها بالعقل الإلهي والنفس الناطقة خيراً محضاً، بأن يتطهر عن جميع الخبائث الجسمانية، والأقذار الحيوانية، ولا يحوم حوله شيء من العوارض الطبيعية والخواطر النفسانية، ويمتلئ من الأنوار الإلهية، والمعارف الحقيقية، ويتيقن بالحقائق الحقة الواقعية، ويصير عقلاً محضاً بحيث يصير جميع معقولاته كالقضايا الأولية، بل يصير ظهورها أشد، وانكشافها أتم، وحينئذ يكون له اسوة حسنة بالله سبحانه، في صدور الأفعال وتصير إلهية أي شبيهة بأفعال الله سبحانه في أن لصرافة حسنه يقتضي الحسن، ولمحوضة جماله يصدر عنه الجميل من دون داع خارجي، فتكون ذاته غاية فعله، وفعله غرضه بعينه، وكلما يصدر عنه بالذات وبالقصد الأول فانما يصدر لأجل ذاته وذات الفعل وان ترشحت منه الفوائد الكثيرة على الغير بالقصد الثاني وبالعرض. قالوا وإذا بلغ الإنسان هذه المرتبة فقد فاز بالبهجة الإلهية، واللذة الحقيقية الذاتية، فيشمئز طبعه من اللذات الحسية الحيوانية، لأن من أدرك اللذة الحقيقية علم انها لذة ذاتية، والحسية ليست لذة بالحقيقة لتصرمها ودثورها وكونها دفع ألم.

وأنت خبير بأن هذا التصريح محل تأمل لمخالفته ظواهر الشرع فتأمل.

فصل

(بإزاء كل واحدة من القوى الأربع لذة وألم)

لما عرفت أن القوى في الإنسان اربع: قوة نظرية عقلية، وقوة وهمية خيالية، وقوة سبعية غضبية، وقوة بهيمية شهوية ـ فاعلم انه بازاء كل واحدة منها لذة وألم، لأن اللذة ادراك الملائم، والألم ادرك غير الملائم، فلكل من الغرائز المدركة لذة هو نيله مقتضى طبعه الذي خلق لأجله، وألم هو ادراكه خلاف مقتضى طبعه:

(فغريزة العقل) لما خلقت لمعرفة حقائق الأمور، فلذتها في المعرفة والعلم، وألمها في الجهل، و(غريزة الغضب) لما خلقت للتشفي والانتقام فلذتها في الغلبة التي يقتضيها طبعها وألمها في عدمها، و(غريزة الشهوة) لما خلقت لتحصيل الغذاء الذي به قوام البدن، فلذتها في نيل الغذاء، وألمها في عدم نيله، وهكذا في غيرها، فاللذات والآلام أيضاً على أربعة أقسام: العقلية والخيالية والغضبية والبهيمية.

فاللذة العقلية كالانبساط[8] الحاصل من معرفة الأشياء الكلية وادراك الذوات المجردة النورية، والألم العقلي كالانقباض الحاصل من الجهل، واللذة الخيالية كالفرح الحاصل من ادراك الصور والمعاني الجزئية الملائمة، والألم الخيالي كاراك غير الملائمة منها. واللذة المتعلقة بالقوة الغضبية كالانبساط الحاصل من الغلبة ونيل المناصب والرياسات، والألم المتعلق بها كالانقباض الحاصل من المغلوبية والعزل والمرؤسية. واللذة البهيمية هي المدركة من الأكل والجماع وأمثالهما، والألم البهيمي ما يدرك من الجوع والعطش والحر والبرد وأشباهها. وهذه اللذات والآلام تصل إلى النفس وهي الملتذة والمتألمة حقيقة إلا أن كلاً منها يصل إليها بواسطة القوة التي تتعلق بها. والفرق بين الكل ظاهر.

وربما يشتبه بين ما يتعلق بالوهم والخيال وما يتعلق بالقوة الغضبية من حيث اشتراكهما في الترتب على التخيل.

ويدفع الاشتباه بأن ما يتعلق بالغضبية وإن توقف على التخيل إلا أن المتأثر بالالتذاذ والتألم بعد التخيل هو الغضبية وبواسطتها تتأثر النفس، ففي هذا النوع من اللذة والألم تتأثر الغضبية ثم تتاثر النفس.

وأما ما يتعلق بالوهم والخيال فالمتأثر بالالتذاذ والتألم هاتان القوتان ويصل التأثر منهما إلى النفس من دون توسط القوة الغضبية.

ومما يوضح الفرق أن الالتذاذ والتألم الخياليين لا يتوقفان على وجود غلبة ومغلوبية مثلا في الخارج، وأما الغضبيان فيتوقفان عليهما.

ثم أقوى اللذات هي العقلية لكونها فعلية ذاتية غير زائلة باختلاف الأحوال، وغيرها من اللذات الحسية انفعالية عرضية منفعلة زائلة، وهي في مبدأ الحال مرغوبة عند الطبيعة، وتتزايد بتزايد القوة الحيوانية، وتتضعف بضعفها إلى أن تنتفى بالمرة، ويظهر قبحها عند العقل، وأما العقلية فهي في البداية منتفية، لأن ادراكها لا يحصل إلا للنفوس الزكية المتحلية بالأخلاق المرضية، وبعد حصولها يظهر حسنها وشرفها، وتتزايد بتزايد القوة العقلية إلى أن ينتهي إلى أقصى المراتب، ولا يكون نقص ولا زوال.

والعجب ممن ظن انحصار اللذة في الحسية وجعلها غاية كمال الإنسان وسعادته القصوى. والمتشرعون منهم قصروا اللذات الآخرة على الجنة والحور والغلمان وأمثالها، وآلامها على النار والعقارب والحيات وأشباهها، وجعلوا الوصول إلى الأولى والخلاص عن الثانية غاية في زهدهم وعبادتهم وكأنهم لم يعلموا أن هذه عبادة الأجراء والعبيد تركوا قليل المشتهيات ليصلوا إلى كثيرها. وليت شعري أن ذلك كيف يدل على الكمال الحقيقي والقرب من الله سبحانه! ولا أدري أن الباكي خوفاً من النار وشوقاً إلى اللذات الجسمية المطلوبة للنفس البهيمية كيف يعد من أهل التقرب إلى الله سبحانه ويستحق التعظيم ويوصف بعلو الرتبة! وكأنهم لم يدركوا الابتهاجات الروحانية، ولا لذة المعرفة بالله وحبه وانسه ولم يسمعوا قول سيد الموحدين[9] (ص) " إلهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك ".

وبالجملة لا ريب في أن الإنسان في اللذة الجسمية يشارك الخنافس والديدان والهمج من الحيوان، وإنما يشابه الملائكة في البصيرة الباطنة والأخلاق الفاضلة، وكيف يرتضي العاقل أن يجعل النفس الناطقة الشريفة خادمة للنفس البهيمية الخسيسة.

والعجب من هؤلاء الجماعة[10] مع هذا الاعتقاد يعظمون من يتنزه عن الشهوات الحيوانية ويستهين باللذات الحسية ويتخضعون له ويعدون أنفسهم أشقياء بالنسبة اليه، ويذعنون أنه أقرب الناس إلى الله سبحانه وأعلى رتبة منهم بتنزهه عن الشهوات الطبيعية، وقد اتفق كلهم على تنزه مبدع الكل وتعاليه عنها مستدلين بلزوم النقص فيه لولاه، وكل ذلك يناقض رأيهم الأول.

والسر فيه أنهم وإن ذهبوا إلى هذا الرأي الفاسد إلا أنه لما كانت غريزة العقل فيهم بعد موجودة، وإن كانت ضعيفة، فيرى ما هو كمال حقيقي لجوهرها كمالا، ويحكم بنورانيتها الذاتية، على كون ما هو فضيلة في الواقع فضيلة، وما هو رذيلة في نفس الأمر رذيلة، فيضطرهم إلى إكرام أهل التنزه عن الشهوات، والاستهانة بالمكبين عليها.

ومما يدل على قبح اللذات الحيوانية أن أهلها يكتمونها ويخفون ارتكابها ويستحيون عن إظهارها، وإذا وصفوا بذلك تتغير وجوههم، كما هو ظاهر من وصف الرجل بكثرة الأكل والجماع، مع أن الجميل على الاطلاق يحسن إذاعته، وصاحبه يحب أن يظهره ويوصف به، هذا مع أن البديهة حاكمة بأن هذه اللذات ليست لذات حقيقية، بل هي دفع آلام حادثة للبدن[11] فان ما يتخيل لذة عند الأكل والجماع إنما هو راحة من ألم الجوع ولذع المني ولذا لا يلتذ الشبعان من الأكل، ومعلوم أن الراحة من الألم ليس كمالاً وخيراً، إذ الكمال الحقيقي والخير المطلق ما يكون كمالاً وخيراُ أبداً.

ايقاظ

(فيه موعظة ونصيحة)

لما عرفت أن الإنسان في اللذة العقلية يشارك الملائكة، وفي غيرها من الحسية المتعلقة بالقوى الثلاث، أعني السبعية والبهيمية والشيطانية، يشارك السباع والبهائم والشياطين ـ فاعلم أن من غلبت عليه إحدا اللذات الأربع كانت مشاركته لما ينسب إليه أكثر حتى إذا صارت الغلبة تامة لكان هو هو.

فانظر يا حبيبي أين تضع نفسك، فان الغلبة لو كانت لقوتك الشهوية حتى يكون أكثر همك إلى الشهوات الحيوانية كالأكل والشرب والجماع وسائر النزوات البهيمية، كنت واحداً من البهائم. وإن كانت لقوتك الغضبية حتى يكون جل ميلك إلى المناصب والرياسات الردية، وايذاء الناس بالضرب والشتم، وباقي الحركات السبعية، نزلت منزلة السباع، وإن كانت لقوتك الشيطانية حتى يكون غالب سعيك في استنباط وجوه المكر والحيل للوصول إلى مقتضيات قوتي الشهوة والغضب بأنواع الخداع والتلبيسات الوهمية دخلت في حزب الأبالسة. وإن كانت لقوتك العقلية حتى يكون جدك مقصوراً على " أخذ "[12] المعارف الإلهية واقتفاء[13] الفضائل الخلقية عرجت إلى أفق الملائكة القادسة، فمن كان عاقلا غير عدو لنفسه وجب عليه أن يصرف جل همه في تحصيل السعادة العلمية والعملية، وإزالة النقائص الكامنة في نفسه، وليقتصر على الأمور الشهوانية، واللذات الجسمانية بقدر الضرورة، بأن يكتفي من الغذاء بما يحفظ اعتدال مزاجه وقوام حياته ولا يكون قصده منه الالتذاذ، بل سد الضرورة ودفع الألم، ولا يضيع وقته في تحصيل أزيد من ذلك، فان تجاوز عنه فبقدر ما يحفظ رتبته، ولا يوجب مهانته وذلته، ومن اللباس بقدر ما يستر العورة، ويدفع الحر والبرد، فان تجاوز عن ذلك فبقدر ما لا يؤدي إلى حقارته، ولا يوجب السقوط بين أقرانه وأهل طبقته، ومن الجماع بقدر ما يحفظ نوعه " ويبقى نسله، وإن تعدى فبقدر ما لا يخرجه عن السنة، وليحذر عن الانهماك في مقتضيات قوتي الشهوة والغضب، لأنه يوجب الشقاوة الدائمة والهلاكة السرمدية. فالله الله في نفوسكم معاشر الاخوان ادركوها قبل أن تغرقوا في بحار المهالك، وتنبهوا عن نوم الغفلة قبل أن تنسد عليكم السبل والمهالك وبادروا إلى تحصيل السعادات قبل أن تستحكم فيكم الملكات المهلكة، والعادات المفسدة، فان إزالة الرذائل بعد استحكامها في غاية الصعوبة والمجاهدة مع أحزاب الشياطين بعد الكبر قلما يفيد الأثر، والغلبة على النفس الامارة بعد ضعف الهرم في غاية الاشكال، إلا أنه في أي حال لا ينبغي أن تيأسوا من روح الله، فاجتهدوا بقدر القوة والاستطاعة، فانه خير من التمادي في الباطل، فلعل الله يدرككم بعظيم رحمته.

ولقد قال الشيخ[14] الفاضل أحمد بن محمد بن يعقوب بن مسكويه، وهو الاستاذ في علم الأخلاق، واقدم الاسلاميين في تدوينه: " إني تنبهت عن نوم الغفلة بعد الكبر واستحكام العادة، فتوجهت إلى فطام نفسي عن رذائل الملكات، وجاهدت جهاداً عظيما حتى وفقني الله لاستخلاصها عما يهلكها، فلا ييأس أحد من رحمة الله، فان النجاة لكل طالب مرجوة، وأبواب الافاضة أبداً مفتوحة " فبادروا إخوانى إلى تهذيب نفوسكم قبل أن يصير الرئيس مرؤساً، والعقل مقهوراً، فيفسد جوهركم، وتمسخ حقيقتكم، ويدرككم الانتكاس في الخلق الذي هو خروج عن افق الإنسان ودخول في زمرة البهائم والسباع والشياطين، نعوذ بالله من ذلك، ونسأله العصمة من الخسران الذي لا نهاية له. وقد شبه الحكماء من أهمل سياسة نفسه الغافلة بمن له ياقوتة شريفة حمراء، فرماها في نار مضطرمة فيحرقها حتى تصير كلساً[15] لا منفعة فيها.

[تتميم] ولا تظنن أن ما يفوت عن النفس من الصفاء والبهجة لأجل ما يعتريها من الكدرة الحاصلة معصية من المعاصي يمكن تداركه، فان ذلك محال، إذ غاية الامر أن تتبع تلك المعصية بحسنة تمحي آثارها, وتعيد النفس إلى ما كانت عليه قبل تلك المعصية، فلا تزداد بتلك الحسنة إشراقاً وسعادة، ولو جاء بها من دون سيئة لزاد بها نور القلب وبهجته، وحصلت له درجة في الجنة، ولما تقدمت السيئة سقطت هذه الفائدة وانحصرت فائدتها في مجرد عود القلب إلى ما كان عليه قبلها، وهذا نقصان لا حيلة لجبره ومثال ذلك أن المرآة التي تدنست بالخبث والصدأ إذا مسحت بالمصقلة وإن زال به هذا الخبث، إلا أنه لا تزيد به جلاء وصفاء، بخلاف ما إذا لم تتدنس أصلا، فان التصقيل يزيدها صفاء وجلاء، وإلى ماذكر أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: " من قارف ذنباً فارقه عقل لم يعد إليه أبداً ".



[1]  العنكبوت الآية: 69.

[2]  وفي نسختنا الخطية هكذا "تزين".

[3]  الشمس الآية: 9.

[4]  الشمس الآية: 10.

[5]  في نسختنا الخطية هكذا " في علله التي تخصها ".

[6]  السجدة الآية: 17.

[7]  مستهتراً به على بناء اسم المفعول أي مولع به.

[8]  وفي النسخة المخطوطة عندنا " الابتهاج ".

[9]  المعنى به هو أمير المؤمنين علي عليه الصلاة والسلام.

[10]  المراد هم الذين حصروا اللذات في الحسية والكلام كله في هذا الرأي.

[11]  الحق أن كل لذة بدنية ونفسية إنما هي إشباع شهوة أو غريزة تتطلب الاشباع، حتى طلب المعارف والعلم إنما هو لإشباع غريزة حب الاستطلاع، إلا أن طلب العلم لايصل إلى حد الإشباع أبداً، ولذا قال (ص): " منهومان لا يشبعان طالب علم، وطالب مال " وليست كذلك الغريزة الجنسية وغريزة حب الأكل وأمثالهما فانها تصل إلى حد الإشباع فتكتفي.

[12]  لم توجد في نسختنا الخطية ولكنها موجودة في نسخة خطية أخرى وفي المطبوعة.

[13]  في نسختنا الخطية هكذا "واقتناء ".

[14]  هو الحكيم الأعظم والفيلسوف الأكبر " أبو علي أحمد بن محمد " بن يعقوب ابن مسكوبه الخازن "الرازي" الأصل والاصفهاني المسكن والخاتمة كان من أعيان العلماء وأركان الحكماء معاصراً للشيخ أبي علي بن سينا، صحب الوزير المهلبي في أيام شبابه وكان من خاصته إلى أن أتصل بصحبة "عضد الدولة" البويهي فصار من كبار ندمائه ورسله إلى نظرائه ثم اختص بالوزير " ان العميد " وابنه " أبي الفتح " له مؤلفات كثيرة بعضها في الحكمة ومنه كتاب " الفوز الأكبر " وكتاب " الفوز الأصغر " " وجاويدان خرد " بالفارسية في الحكمة وهو يقرب من خمسة آلاف بيت وبعضها في التاريخ ومنه " تجارب الامم " وبعضها في الأخلاق ومنه كتاب " الطهارة " المشهور وهو الذي قصده " المصنف ره " هنا لأنه أول كتاب صنف في علم الأخلاق، وقد مدحه استاذ البشر وأعلم أهل البدو والحضر الحجة الأعظم الفيلسوف المحقق الخواجة " نصير الدين الطوسي " قدس سره بأبيات. وكان (ره) من علمائنا الإمامية قدس الله أسرارهم وقبره (باصفهان) على باب (درب جناد) وقد أشتهر ان السيد (الداماد) الذي كان من أعاظم علمائنا وأكابر حكمائنا كان اجتاز يقف على قبره ويقرأ الفاتحة (الترجمة عن الكنى والألقاب للمحدث الشهير الحاج شيخ  (عباس القمي) قدس سره مع تصرف يسير منا).

[15] الكلس ما يقوم به الحجر والرخام ونحوهما ويتخذ منها باحراقها.

 

 

 

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست