.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

العمل نفس الجزاء

تأثير المزاج على الأخلاق

تأثير التربية على الأخلاق

شرف علم الأخلاق لشرف موضوعه وغايته

 

فصل

(ان العمل نفس الجزاء)

كل نفس في بدء الخلقه خالية عن الملكات بأسرها، وإنما تتحقق كل ملكة بتكرر الأفاعيل والأثار الخاصة به[1] بيان ذلك أن كل قول أو فعل ما دام وجوده في الأكوان الحسية لاحظ له من الثبات لأن الدنيا دار التجدد والزوال، ولكنه يحصل منه أثر في النفس، فإذا تكرر استحكم الأثر فصار ملكة راسخة، مثاله الحرارة التي تحدث في الفحم فانها ضعيفة أولا وإذا اشتدت تجمرت ثم استضاءت، ثم صارت صورة نارية محرقة لما قارنها مضيئة لما قابلها، وكذلك الأحوال النفسانية إذا تضاعفت قوتها صارت ملكات راسخة وصوراً باطنة تكون مبادئ للآثار المختصة بها، فالنفوس الإنسانية في أوائل الفطرة كصحائف خالية من النقوش والصور تقبل كل خلق بسهولة، وإذا استحكمت فيها الأخلاق تعسر قبولها لأضدادها، ولذلك سهل تعليم الأطفال وتأديبهم وتنقيش نفسهم بكل صورة وصفة ويتعسر أو يتعذر تعليم الرجال البالغين وردهم عن الصفات الحاصلة لهم لاستحكامها ورسوخها.

ثم لا خلاف في أن هذه الملكات وأفعالها اللازمة لها إن كانت فاضلة كانت موجبة للالتذاذ والبهجة ومرافقة الملائكة والأخيار، وان كانت ردية كانت مقتضية للألم والعذاب ومصاحبة الشياطين والأشرار، وإنما الخلاف في كيفية ايجابها للثواب أو العذاب، فمن قال ان الجزاء مغاير للعمل قال ان كل ملكة وفعل يصير منشأ لترتب ثواب أو عقاب مغاير له بفعل الله سبحانه على التفصيل الوارد في الشريعة.

ومن قال ان العمل نفس الجزاء قال: ان الهيئات النفسانية اشتدت وصارت ملكة تصير متمثلة ومتصورة في عالم الباطن والملكوت بصورة يناسبها، إذ كل شيء يظهر في كل عالم بصورة خاصة، فان العلم في عالم اليقظة أمر عرضي يدرك بالعقل أو الوهم وفي عالم النوم يظهر بصورة اللبن فالظاهر في العالمين شيء واحد وهو العلم لكنه تجلى في كل عالم بصورة، والسرور يظهر في عالم النوم بصورة البكاء، ومنه يظهر انه قد يسرك في عالم ما يسوءك في عالم آخر، فاللذات الجسمانية التي تسرك في هذا العالم تظهر في دار الجزاء بصورة تسوءك وتؤذيك، وتركها وتحمل مشاق العبادات والطاعات والصبر على المصائب والبليات يسرك في عالم الآخرة مع كونها مؤذية في هذا العالم.

ثم القائل بهذا المذهب قد يطلق على هذه الصورة اسم الملك ان كانت من فضائل الأخلاق أو فواضل الاعمال. واسم الشيطان إن كانت من أضدادها وقد يطلق على الأولى اسم الغلمان والحور وأمثالها، وعلى الثانية اسم الحيّات والعقارب وأشباههما، ولا فرق بين الاطلاقين في المعنى، وانما الاختلاف في الاسم.

وهذا المذهب يرجع إلى القول بتجسد الأعمال بصورة مأنوسة مفرّحة أو صورة موحشة معذبة، وقد ورد بذلك أخبار كثيرة: منها ما روى أصحابنا عن قيس بن عاصم عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انه قال: يا قيس "إن مع العز ذلاً، ومع الحياة موتاً، ومع الدنيا آخرة، وإن لكل شيء رقيباً وعلى كل شيء حسيباً، وإن لكل أجل كتاباً، وانه لابد لك من قرين يدفن معك وهو حي وتدفن معه وأنت ميت، فان كان كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً ألأمك، ثم لا يحشر إلا معك ولا تحشر إلا معه ولا تسأل إلا عنه، فلا تجعله إلا صالحاً، فانه إن صلح أنست به وإن فسد لا تستوحش إلا منه وهو فعلك ". ومنها: ما استفاض من قولهم عليهم السلام: " ان من فعل كذا خلق الله تعالى ملكاً يستغفر له إلى يوم القيامة ". ومنها: ما ورد " ان الجنة قيعان وغراسها سبحان الله ". ومنها ما روي " ان الكافر خلق من ذنب المؤمن". ومنها قولهم " المرء مرهون بعمله ". ومنها قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " الذي يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجري في بطنه نار جهنم". ويدل عليه قوله سبحانه.

" وإن جهنم لمحيطة بالكافرين "[2]

وربما كان في قوله تعالى:

" ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون "[3] وقوله تعالى: " إنما تجزون ما كنتم تعملون "[4].

اشارة إليه حيث قال عز وجل "ما كنتم" ولم يقل بما كنتم.

وقال فيثاغورس الحكيم: " ستعارض لك في أفعالك وأقوالك وأفكارك[5] وسيظهر لك من كل حركة فكرية أو قولية أو عملية صورة روحانية، فان كانت الحركة غضبية أو شهوية صارت مادة لشيطان يؤذيك في حياتك ويحجبك عن ملاقاة النور بعد وفاتك، وان كانت الحركة عقلية صارت ملكاً تلتذ بمنادمته في دنياك وتهتدى به في أخراك إلى جوار الله وكرامته" انتهى.

وهذه الكلمات صريحة في أن مواد الأشخاص الأخروية هي التصورات الباطنية والنيّات القلبية والملكات النفسية المتصورة بصورة روحانية وجودها وجود إدراكي، والإنسان إذا انقطع تعلقه عن هذه الدار وحان وقت مسافرته إلى دار القرار وخلص عن شواغل الدنيا الدنية وكشف عن بصره غشاوة الطبيعة. فوقع بصره على وجه ذاته والتفت إلى صفحة باطنه وصحيفة نفسه ولوح قلبه وهو المراد بقوله سبحانه:

" وإذا الصحف نشرت "[6]. وقوله تعالى: " فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد "[7]. صار ادراكه فعلاً وعلمه عيناً وسره عياناً، فيشاهد ثمرات أفكاره وأعماله، ويرى نتائج انظاره وأفعاله ويطلع على جزاء حسناته وسيئاته، ويحضر عنده جميع حركاته وسكناته، ويدرك حقيقة قوله سبحانه:

" وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً * إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً "[8].

فمن كان في غفلة عن أحوال نفسه ومضيعاً لساعات يومه وأمسه يقول:

" ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً "[9].

" يوم تجد كل نفسٍ ما عملت من خيرٍ محضراً وما عملت من سوء تودّ لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً "[10].

وقد أيد هذا المذهب أعني صيرورة الملكات صوراً روحانية باقية أبد الدهر موجبة للبهجة والالتذاذ والتوحش والتألم، بأنه لو لم تكن تلك الملكات والنيات باقية أبداً لم يكن للخلود في الجنة أو النار وجه صحيح، إذ لو كان المقتضى للثواب أو للعذاب نفس العمل والقول، وهما زائلان لزم بقاء المسبب مع زوال السبب وهو باطل، وكيف يجوز للحكيم أن يعذب عباده أبد الدهر لأجل المعصية في زمان قصير، فإذاً منشأ الخلود هو الثبات في النيات والرسوخ في الملكات. ومع ذلك فمن يعمل مثقال ذرة من الخير أو الشر يرى أثره في صحيفة نفسه أو في صحيفة أعلى وأرفع من ذاته أبداً كما قال سبحانه:

" في صحفٍ مكرمةٍ مرفوعةٍ مطهرةٍ بأيدي سفرةٍ "[11].

والسر فيه أن الأمر الذي يبقى مع النفس إلى حين مفارقتها من الدنيا ولم يرتفع عنها في دار التكليف يبقى معها أبداً ولا يرتفع عنها أصلا لعدم تجدد ما يوجب إزالته بعد مفارقته عن عالم التكليف.

ثم الظاهر ان هذا المذهب ـ عند من قال به من أهل الشرائع ـ بيان لكيفية الثواب والعقاب الروحانيين مع اذعانه بالجنة والنار الجسمانيين " إذ لو كان مراده قصر اللذة والثواب والألم والعقاب والجنات والقصور والغلمان والحور والنار والجحيم والزقوم والضريع وساير ما ورد في الشريعة المقدسة من امور القيامة على ما ذكر فهو مخالف لضرورة الدين،

(تنبيه) الدنيا والآخرة متضادتان، وكل ما يقرب العبد إلى احداهما يبعد عن الأخرى وبالعكس، كما دلت عليه البراهين الحكمية والشواهد الذوقية والأدلة السمعية، فكل ملكة أو حركة أو قول أو فعل يقرب العبد إلى دار الطبيعة والغرور يبعده عن عالم البهجة والسرور، وبالعكس، فأسوأ الناس حالاً من لم يعرف حقيقة الدنيا والآخرة وتضادهما ولم يخف سوء العاقبة وأفنى عمره في طلب الدنيا واصلاح أمر المعاش وقصر سعيه على جر المنفعة لبدنه من نيل شهوة أو بلوغ لذة أو اكتساب ترفع، ورئاسة أو جمع المال من غير تصور لما يصل إليه من فائدته، كما هو عادة أكثر أبناء الدنيا، ولم يعرف غير هذه الأمور من المعارف الحقيقية والفضائل الخلقية والأعمال الصالحة المقربة إلى عالم البقاء فكأنه يعلم خلوده في الدنيا، ولا يرجو بعد الموت ثواب عمل، ولا جزاء فعل، ولا يعتقد بما يرجوه المؤمنون ويؤمله المتقون من الخير الدائم، واللذات المخالفة لهذه اللذات الفانية التي يشارك فيها السباع والبهائم، فإذا أدركه الموت مات على حسرة وندامة آيساً من رحمة الله قائلاً:

" يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله "[12].

أعاذنا الله تعالى من سوء الخاتمة ووقفنا لتحصيل السعادة الدائمة.

فصل

(تأثير المزاج على الأخلاق)

للمزاج مدخلية تامة في الصفات: فبعض الأمزجة في أصل الخلقة مستعد لبعض الأخلاق، وبعضها مقتض لخلافه، فانا نقطع بأن بعض الأشخاص بحسب جبلته، ولو خلى عن الأسباب الخارجية، بحيث يغضب ويخاف ويحزن بأدنى سبب، ويضحك بأدنى تعجب، وبعضهم بخلاف ذلك.

وقد يكون اعتدال القوى فطرياً بحيث يبلغ الإنسان كامل العقل، فاضل الأخلاق غالبة قوته العاقلة على قوتي الغضب والشهوة، كما في الأنبياء والأئمة عليهم السلام. وقد يكون مجاوزتها عن الوسط كذلك بحيث يبلغ ناقص العقل ردي الصفات مغلوبة عاقلته تحت سلطان الغضب والشهوة، كما في بعض الناس.

إلا أن الحق ـ كما يأتي ـ امكان زوالها بالمعالجات المقررة في علم الأخلاق، فيجب السعي في إزالة نقائضها وتحصيل فضائلها. وعجباً لأقوام يبالغون في اعادة الصحة الجسمانية الفانية، ولا يجتهدون في تحصيل الصحة الروحانية الباقية، يطيعون قول الطبيب المجوسي في شرب الأشياء الكريهة ومزاولة الأعمال القبيحة، لأجل صحة زائلة، ولا يطيعون أمر الطبيب الإلهي لتحصيل السعادة الدائمة.

وبقاء النفس على النقصان إما لعدم صرفها إلى طلب المقصود لملابسة العوائق والموانع، أو مزاولة النقيض لتمكن موجبه، أو لكثرة اشتغالها بالشواغل المحسوسة، أو لضعف القوة العاقلة، فان لم تدركها العناية الإلهية فلا يزال يتزايد النقصان ويبعد عن الكمال الذي خلق لأجله، إلى ان تدركها الهلاكة الأبدية والشقاوة السرمدية، نعوذ بالله من ذلك، وإن أدركته الرحمة الأزلية، فيصرف همه في ازالة النقائص، واكتساب الفضائل، فلا يزال يتصاعد من مرتبة من الكمال إلى فوقها، حتى يصير من أهل مشاهدة الجلال والجمال، ويتشرف بجوار الرب المتعال ويصل إلى السرور الحقيقي، الذي لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر وإلى قرة الأعين التي يشير إليها في قوله سبحانه:

"فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعينٍ"[13].

فصل

(تأثير التربية على الأخلاق)

الخلق عبارة عن "ملكة للنفس مقضية لصدور الأفعال بسهولة من دون احتياج إلى فكر وروية"[14]. والملكة: كيفية نفسانية بطيئة الزوال. وبالقيد الأخير خرج الحال لأنها كيفية نفسانية سريعة الزوال، وسبب وجود الخلق إما المزاج كما مر، أو العادة بأن يفعل فعلاً بالروية، أو التكلف ويصبر عليه إلى أن يصير ملكة له ويصدر عنه بسهولة وان كال مخالفاً لمقتضى المزاج.

واختلف الأوائل في امكان ازالة الأخلاق وعدمه، وثالث الأقوال أن بعضها طبيعي يمتنع زواله وبعضها غير طبيعي حاصل من أسباب خارجة يمكن زواله. ورجح المتأخرون الأول وقالوا: ليس شيء من الأخلاق طبيعياً ولا مخالفاً للطبيعة. بل النفس بالنظر إلى ذاتها قابلة للاتصاف بكل من طرفي التضاد، إما بسهولة ان كان موافقاً للمزاج، أو بعسر إن كان مخالفاً له، فاختلاف الناس في الأخلاق لاختلافهم في الاختيار والمزاولة لأسباب خارجة.

(حجة القول الأول) أن كل خُلق قابل للتغيير وكل قابل للتغيير ليس طبيعياً فينتج لا شيء من الخُلق بطبيعي والكبرى بديهية، والصغرى وجدانية، فانا نجد أن الشرير يصير بمصاحبته الخيّر خيراً، والخيّر بمجالسة الشرير شريراً. ونرى أن التأديب " في السياسات[15] " فيه أثر عظيم في زوال الأخلاق، ولولاه لم يكن لقوة الروية فائدة وبطلت التأديبات والسياسات ولغت الشرايع والديانات، ولما قال الله سبحانه: " قد أفلح من زكاها "[16]. ولما قال النبي صلى الله عليه وآله: " حسنوا أخلاقكم " ولما قال: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".

وردّ: بمنع كلية الصغرى فانا نشاهد أن بعض الأخلاق في بعض الأشخاص غير قابل للتبديل (لا) سيما ما يتعلق بالقوة النظرية، كالحدس والتحفظ، وجودة الذهن، وحسن التعقل، ومقابلاتها كما هو معلوم من حال بعض الطلبة، فانه لا ينجح سعيهم في التبديل مع مبالغتهم في المجاهدة.

وما قيل: من لزوم تعطل القوة المميزة وبطلان التأديب والسياسات مردود: بأن هذا اللزوم إذا لم يكن شيء من الأخلاق قابلا للتغيير، وأما مع قبول بعضها أو أكثرها له فلا يلزم شيء مما ذكر، ولو كان عدم قبول بعض الأخلاق التغيير موجباً لبطلان علم الشرائع والأخلاق لكان عدم قبول بعض الأمراض للصحة مقتضياً لبطلان علم الطب، مع انا نعلم بديهة أن بعض الأمراض لا يقبل العلاج.

(وحجة القول الثاني) ان الأخلاق بأسرها تابعة للمزاج، والمزاج لا يتبدل، واختلاف مزاج شخص واحد في مراتب سنه لا ينافي ذلك، لجواز تابعيتها لجميع مراتب عرض المزاج، وأيّد ذلك بقوله صلى الله عليه وآله:

" الناس معادن كمعادن الذهب والفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم الاسلام " وبقوله صلى الله عليه وآله: " إذا سمعتم أن جبلا زال عن مكانه فصدقوه، وإذا سمعتم برجل زال عن خلقه فلا تصدقوه، فانه سيعود إلى ما جُبِل عليه "

و (الجواب) ان توابع المزاج من المقتضيات التي يمكن زوالها، لا من اللوازم التي يمتنع انفكاكها، لما ثبت في الحكمة من أن النفوس الإنسانية متفقة في الحقيقة، وفي بدو فطرتها خالية عن جميع الأخلاق والأحوال كما هو شأن العقل الهيولائي. ثم ما يحصل لها منهما أما من مقتضيات الاختيار والعادة أو استعدادات الأبدان والأمزجة والمقتضى ما يمكن زواله كالبرودة للماء، لا ما يمتنع انفكاكه كالزوجية للأربعة والخبر الأول لا يفيد المطلوب بوجه. والثاني مع عدم ثبوته عندنا يدل على خلاف مطلوبهم، لأن قوله: "سيعود إلى ما جبل عليه" يفيد امكان ازالة الخلق بالأسباب الخارجية من التأديب والنصائح وغيرهما، وبعد إزالته بها يعود بارتفاعها كبرودة الماء التي تزول ببعض الأسباب وتعود بعد زوال السبب، فلو دام على حفظ الأسباب وابقائها لم يحصل العود أصلا.

وإذ ثبت بطلان القولين الأولين فالحق القول بالتفصيل، يعني قبول بعض الأخلاق بل أكثرها بالنسبة إلى الأكثر التبديل للحس والعيان، ولبطلان السياسات والشرائع لولاه ولا مكان تغير خلق البهائم، إذ ينتقل الصيد من التوحش إلى الانس والفرس من الجماح إلى الانقياد والكلب من الهراشة إلى التأدب، فكيف لا يمكن في حق الإنسان، وعدم قبول بعضها بالنسبة إلى البعض له، للمشاهدة والتجربة، وهذا البعض مما لايكون التعلق التكليف كالأخلاق المتعلقة بالقوة العقلية من الذكاء والحفظ وحسن التعقل وغيرها. والتصفح يعطي اختلاف الأشخاص والأخلاق في الازالة والاتصاف بالضد بالامكان والتعذر والسهولة والتعسر وبالتقليل والرفع بالمرة، ولهذا لو تصفحت أشخاص العالم لم تجد شخصين متشابهين في جميع الأخلاق، كما لا تجد اثنين متماثلين في الصورة. ويشير إلى ذلك قوله (ص): " اعملوا فكل ميسر لما خلق له ".

وقال ارسطاطاليس: "يمكن صيرورة الأشرار أخياراً بالتأديب إلا أن هذا ليس كلياً. فانه ربما أثر في بعضهم بالزوال وفي بعضهم بالتقليل وربما لم يؤثر أصلاً ".

ثم المراد من التغيير ليس رفع الغضب والشهوة مثلاً واماطتهما بالكلية فان ذلك محال لأنهما مخلوقتان لفائدة ضرورية في الجبلة، إذ لو انقطع الغضب عن الإنسان بالكلية لم يدفع عن نفسه ما يهلكه ويؤذيه وامتنع جهاد الكفار، ولو انعدم عنه شهوة الطعام لم تبق حياته، ولو بطل عنه شهوة الوقاع بالمرة لضاع النسل، بل المراد ردهما من الافراط والتفريط إلى الوسط فالمطلوب في صفة الغضب خلو النفس عن الجبن والتهور والاتصاف بحس الحمية، وهو أن يحصل إذا استحسن حصوله شرعاً وعقلاُ، ولا يحصل إذا استحسن عدمه كذلك. وكذا الحال في صفة الشهوة.

ولا ريب في أن رد بعض الموجودات الناقصة من القوى وغيرها إذا وجدت فيه قوة الكمال إلى كماله ممكن إذا كان له شرط يرتبط باختيار العبد فكما أن النواة يمكن أن تصير نخلا بالتربية، لوجود قوة النخلية فيه، وتوقف فعليتها على شرط التربية التي بيد العبد، فكذلك يمكن تعديل قوتي الغضب والشهوة بالرياضة والمجاهدة، لوجود قوة التعديل فيهما، وتوقف فعليتهما على شرط ارتبط باختيار العبد أعني الرياضة والمجاهدة، وإن لم يمكن لنا قلعهما بالكلية، كما لا يمكن لنا اعدام شيء من الموجودات ولا ايجاد شيء من المعدومات.

ثم شرائط الرد تختلف بالنسبة إلى الأشخاص والأخلاق، ولذا نرى أن التبديل يختلف باختلاف مراتب السياسات والتأديب، فيمكن أن لا يرتفع مذموم خلق بمرتبة من التأديب، ويرتفع بمرتبة منه فوقها، والأسهل قبولا لكل خلق الأطفال لخلو نفوسهم عن الأضداد المانعة من القبول، فيجب على الآباء تأديبهم بالآداب الجميلة، وصونهم عن ارتكاب الأعمال القبيحة حتى تعتاد نفوسهم بترك الرذائل، وارتكاب الفضائل، والمؤدب الأول هو الناموس الإلهي، والثاني أولو الأذهان القويمة من أهل المعارف الحقة، فيجب تقييد من يراد تأديبه بالنواميس الربانية أولا، وتنبيهه بالحكم والمواعظ ثانياً.

فصل

(شرف علم الأخلاق بشرف موضوعه وغايته)

لما عرفت أن الحياة الحقيقية للإنسان تتوقف على تهذيب الأخلاق الممكن بالمعالجات المقررة في هذه الصناعة، تعرف انها أشرف العلوم وأنفعها لأن شرف كل علم إنما بشرف موضوعه أو غايته، فشرف صناعة الطب على صناعة الدباغة بقدر شرف بدن الإنسان واصلاحه على جلود البهائم، وموضوع هذا العلم هو النفس الناطقة التي هي حقيقة الإنسان ولبّه، وهو أشرف الأنواع الكونية كما برهن عليه في العلوم العقلية، وغايته اكمال وإيصاله من أول افق الإنسان إلى آخره، ولكونه ذا عرض عريض متصلاً، أوله بأفق البهائم، وآخره بأفق الملائكة لا يكاد أن يوجد التفاوت الذي بين أشخاص هذا النوع في أفراد سائر الأنواع، فان فيه أخس الموجودات ومنه أشرف الكائنات كما قيل:

لدى المجد حتى عد الف بواحد

ولم أرَ أمثال الرجال تفاوتت

        وبالفارسية:

كز آسمان بلندتر واز خاك كمتري

أي نقد أصل وفرع ندانم چه گوهري

وإلى ذلك التفاوت يشير قول سيد الرسل (ص): " إني وزنتُ بأمتي فرجحت بهم "، ولا ريب في أن هذا التفاوت لأجل الاختلاف في الأخلاق والصفات، لاشتراك الكل في الجسمية ولواحقها.

وهذا العلم هو الباعث للوصول إلى أعلى مراتبهما، وبه تتم الإنسانية ويعرج من حضيض البهيمية إلى ذرى الرتب الملكية، وأي صناعة أشرف مما يوصل أخس الموجودات إلى أشرفها، ولذلك كان السلف من الحكماء لا يطلقون العلم حقيقة إلا عليه، ويسمونه بالإكسير الأعظم، وكان أول تعاليمهم، ويبالغون في تدوينه وتعليمه، والبحث عن اجماله وتفصيله، ويعتقدون ان المتعلم ما لم يهذب أخلاقه لا تنفعه سائر العلوم.

وكما أن البدن الذي ليس بالنقي كلما غذوته فقد زدته شراً، فكذلك النفس التي ليست نقية عن ذمائم الأخلاق لا يزيده تعلم العلوم إلا فساداً. ولذا ترى أكثر المتشبهين بزي العلماء أسوأ حالا من العوام مائلين عن وظائف الإيمان والإسلام، إما لشدة حرصهم على جمع المال، غافلين عن حقيقة المآل، أو لغلبة حبهم الجاه والمنصب، ظناً منهم انه ترويج للدين والمذهب، أو لوقوعهم في الضلالة والحيرة لكثرة الشك والشبهة، أو لشوقهم إلى المراء والجدال في أندية الرجال، اظهاراً لتفوقهم على الأقران والأمثال أو لاطلاق ألسنتهم على الآباء المعنوية من أكابر العلماء وأعاظم الحكماء، ولعدم تعبدهم برسوم الشرع والملة، ظناً منهم أنه مقتضى قواعد الحكمة، ولم يعلموا أن الحكمة الحقيقية ما أعطته النواميس الإلهية والشرائع النبوية، فكأنهم لم يعلموا أن العلم بدون العمل ضلال. ولم يتفطنوا قول نبيهم (ص): " قصم ظهري رجلان، عالم متهتك، وجاهل متنسك " ولم يتذكروا قوله (ص): " البلاهة أدنى إلى الاخلاص من فطانة بترآء "، وكل ذلك ليس إلا لعدم سعيهم في تهذيب الأخلاق وتحسينها وعدم الأمتثال لقوله سبحانه:

" وأتوا البيوت من أبوابها "[17].

 


[1]  هكذا وجدت في النسخة المطبوعة ونسختنا الخطية والأصح ((بها)) وإن كانت الكلمة غير موجودة في نسخة خطية اخرى.

[2]  التوبة الآية: 49.

[3]  يس الآية: 54.

[4]  الطور الآية: 16.

[5]  هكذا وجدنا العبارة في النسخة الخطية والمطبوعة ولا بخفى ما فيها من الاجمال.

[6]  التكوير الآية: 10.

[7]  ق الآية: 22.

[8]  الاسراء الآية: 13 ـ 14.

[9]  الكهف الآية: 49.

[10]  آل عمران الآية: 30.

[11]  عبس الآية: 13 – 15.

[12]  الزمر الآية: 56.

[13]  السجدة الآية: 17.

[14]  ما بين القوسين في الموضع غير موجود في نسختنا الخطية لكنه موجود في نسخة خطية أخرى وفي المطبوعة.

[15]  ما بين القوسين في الموضعين غير موجود في نسختنا الخطية لكنه موجود في نسخة خطية أخرى وفي المطبوعة.

[16]  الشمس الآية: 9.

[17]  البقرة الآية: 129.

 

 

 

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست