.

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست

مقدمة المؤلف

الباب الأول في المقدمات

انقسام حقيقة الإنسان وحالاته بالاعتبار

في تجرد النفس وبقائها

في بيان تلذذ النفس وتألمها

في فضائل الأخلاق ورذائلها

الأخلاق الذميمة تحجب عن المعارف

 

 

 بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المؤلف

الحمد لله الذي خلق الإنسان، وجعله أفضل أنواع الأكوان، وصيره نسخة لما أوجده من عوالم الامكان، أظهر فيه عجائب قدرته القاهرة، وأبرز فيه غرائب عظمته الباهرة، ربط به الناسوت باللاهوت، وأودع فيه حقائق الملك والملكوت، خمر طينته من الظلمات والنور، وركب فيه دواعي الخير والشرور، عجنه من المواد المتخالفة، وجمع فيه القوى والأوصاف المتناقضة، ثم ندبه إلى تهذيبها بالتقويم والتعديل، وحثه على تحسينها بعد ما سهل له السبيل، والصلاة على نبينا الذي أوتى جوامع الحكم، وبعث لتتميم محاسن الأخلاق والشيم، وعلى آله مصابيح الظلم، ومفاتيح أبواب السعادة والكرم صلى الله عليه وعليهم وسلم.

أما بعد فيقول طالب السعادة الحقيقية (مهدي بن أبي ذر النراقي) بصره الله بعيوب نفسه، وجعل يومه خيراً من أمسه: إنه لا ريب في أن الغاية من وضع النواميس والأديان، وبعثة المصطفين من عظماء الإنسان، هو سوق الناس من مراتع البهائم والشياطين، وايصالهم إلى روضات العليين، وردعهم عن مشاركة إسراء ذل الناسوت، ومصاحبة قرناء جب الطاغوت إلى مجاورة سكان صقع الملكوت، ومرافقة قطان قدس الجبروت، ولا يتيسر ذلك إلا بالتخلي عن ذمائم الأخلاق ورذائلها، والتحلي بشرائف الصفات وفضائلها، فيجب على كل عاقل أن يأخذ اهبته، ويبذل همته في تطهير قلبه عن أوساخ الطبيعة وأرجاسها، وتغسيل نفسه عن أقذار الجسمية وأنجاسها قبل أن يتيه في بيداء الشقاق، ويهوي في مهاوي الضلالة والهلاكة، ويصرف جده ويجتهد جهده في استخلاص نفسه عن لصوص القوى الامارة ما دام الاختيار بيده، إذ لا تنفعه الندامة والحسرة في غده.

ثم لا ريب في ان التزكية موقوفة على معرفة مهلكات الصفات ومنجياتها، والعلم بأسبابها ومعالجاتها، وهذا هو الحكمة الحقة التي مدح الله أهلها، ولم يرخص لأحد جهلها، وهي الموجبة للحياة الحقيقية، والسعادة السرمدية، والتارك لها على شفا جرف الهلكات، وربما أحرقته نيران الشهوات.

وقد كان السلف من الحكماء يبالغون في نشرها وتدوينها. وجمعها وتبيينها، على ما أدت إليه قوة أنظارهم، وأدركوه بقرائحهم وأفكارهم. ولما جاءت الشريعة النبوية " على صادعها الف صلاة وتحية " حثت على تحسين الأخلاق وتهذيبها، وبينت دقائقها وتفصيلها بحيث اضمحل في جنبها ما قرره أساطين الحكمة والعرفان، وغيرهم من أهل الملل والأديان، إلا انه لما كان ما ورد منها منتشراً في موارد مختلفة، ومتفرقاً في مواضع متعددة، تعسر ان يحيط به الجل فلا بد من ضبطه في موضع واحد ليسهل تناوله للكل، فجمعت في هذا الكتاب خلاصة ما ورد من الشريعة الحقة مع زبدة ما أورده أهل العرفان والحكمة على نهج تقر به أعين الطالبين، وتسر به أفئدة الراغبين.

ونذكر أولا بعض المقدمات النافعة في المطلوب ثم نشير إلى أقسام الأخلاق، ومبادئها من القوى ونضبطها بأجناسها وأنواعها ونتائجها وثمراتها ثم إلى المعالجة الكلية لذمائم الأخلاق والجزئية لكل خلق مذموم، مما له اسم مشهور؛ وما ينشأ عنه من الأفعال المذمومة، وفي تلوه نذكر ضده المحمود، وما يدل على فضله عقلاً ونقلاً، لأن العلم بفضيلة كل خلق والمداومة على آثاره أقوى علاج لإزالة ضده، ولا نتابع القوم من تقديم الرذائل بأسرها على الفضائل، بل نذكر أولا ما يتعلق بالقوة العقلية من الفضائل والرذائل على النحو المذكور، ثم ما يتعلق بالغضبية، ثم ما يتعلق بالشهوية، ثم ما يتعلق باثنتين منها أو ثلاث، لأن ذلك أدخل في ضبط الأخلاق، ومعرفة أضدادها، والعلم بمبادئها وأجناسها، وهو من أهم الامور لطالبي هذا الفن.

وما تعرضت لتدبير المنزل وسياسة المدن، لأن غرضنا في هذا الكتاب إنما هو مجرد اصلاح النفس، وتهذيب الأخلاق، وسميته " بجامع السعادات " ورتبته على ثلاثة أبواب.

الباب الأول

في المقدمات

انقسام حقيقة الإنسان وحالاته بالاعتبار ـ تجرد النفس وبقاؤها ـ التذاذ النفس وتألمها ـ فضائل الأخلاق ورذائلها ـ الأخلاق الذميمة تحجب عن المعارف ـ حصول الملكات بتضاعف الأعمال ـ العمل نفس الجزاء ـ القول بتجسد الأعمال والملكات ـ المضادة بين الدنيا والآخرة ـ للجبلة والمزاج دخل في جودة الملكات ورداءتها ـ حقيقة الخلق وماهية الملائكة ـ الأقوال في تبدل الأخلاق والملكات ـ شرف علم الأخلاق ـ تعريف النفس واساميها باختلاف الاعتبارات ـ في الاشارة إلى اعتبار مدافعة القوى الأربع ـ انقهار النفس بتسخير القوة العالية ـ اختلاف الصفات يوجب اختلاف النفوس ـ ائتلاف حقيقة الإنسان من الجهات المتقابلة ـ حقيقة الخير والسعادة ـ والجمع بين الأقوال المختلفة فيها ـ شرائط حصول السعادة ـ غاية ما يمكن الوصول إليه من السعادة ـ تقسيم اللذات والآلام ـ اللذة في الحقيقة هي العقلية دون الحسية ـ ايقاظ فيه موعظة ونصيحة ـ التنبيه على أن الفائت لا يتدارك.

فصل

(انقسام حقيقة الإنسان وحالاته بالاعتبار)

اعلم ان الإنسان منقسم إلى سر وعلن، وروح وبدن ولكل منهما منافيات وملائمات، وآلام ولذات، ومهلكات ومنجيات.

ومنافيات البدن وآلامه هي الأمراض الجسمانية. وملائماته هي الصحة واللذات الجسمانية. والمتكفل لبيان تفاصيل هذه الأمراض ومعالجاتها هو علم الطب. ومنافيات الروح وآلامه هي رذائل الأخلاق التي تهلكه وتشقيه، وصحته رجوعه إلى فضائلها التي تسعده وتنجيه وتوصله إلى مجاورة أهل الله ومقربيه. والمتكفل لبيان هذه الرذائل ومعالجاتها هو (علم الأخلاق).

ثم ان البدن مادي فانٍ، والروح مجرد باقٍ، فان اتصف بشرائف الصفات كان في البهجة والسعادة أبداً، وان اتصف برذائلها كان في العذاب والشقاوة مخلداً، ولابد لنا من الاشارة إلى تجرده وبقائه بعد خراب البدن ترغيباً للطالبين على السعي في تزكيته وحفظه عن الشقاوة الأبدية.

فصل

(في تجرد النفس وبقائها)

لاريب في تجرد النفس وبقائها بعد مفارقتها عن البدن. أما الأول (والمراد به عدم كونها جسماً وجسمانية) فيدل عليه وجوه:

(ومنها) ان كل جسم لا يقبل صوراً واشكالا كثيرة لزوال كل صورة أو شكل فيه بطريان مثله، والنفس تقبل الصور المتعددة المختلفة من المحسوسات والمعقولات من دون أن تزول الأولى بورود الأخرى، بل كلما قبلت صورة ازدادت قوتها على قبول الأخرى، ولذلك تزيد القوة على ادراك الأشياء بالرياضيات الفكرية وكثرة النظر، فثبت عدم كونها جسماً.

و(منها) ان حصول الابعاد الثلاثة للجسم لا يتصور إلا بأن يصير طويلا عريضاً عميقاً وحصول الألوان والطعوم والروائح له لا يتصور إلا بأن يصير ذا لون وطعم ورائحة وهي تحصل للنفس وقوتها الوهمية بالادراك من غير ان تصير كذلك، وأيضاً حصول بعضها للجسم يمنع من حصول مقابله له، ولا يمنع ذلك في النفس بل تقبلها كلها في آن واحد على السواء.

و(منها) ان النفس تلتذ بما لا يلائم الجسم من الامور الإلهية والمعارف الحقيقية، ولا تميل إلى اللذات الجسمية والخيالية والوهمية، بل تحن أبداً إلى الابتهاجات العقلية الصرفة التي ليس في الجسم وقواه فيها نصيب، وهذا أوضح دليل على أنها غيرهما، إذ لا ريب في أن ما يحصل لبعض النفوس الصافية عن شواتب الطبيعة من البهجة والسرور بادراك العلوم الحقة الكلية والذوات المجردة النورية القدسية، وبالمناجاة والعبادة والمواظبة على الأذكار في الخلوات مع صفاء النيات لا مدخلية للجسم فيها وقواه الخيالية والوهمية وغيرهما، إذ النفس قد تغفل في تلك الحالة عنها بالكلية، وربما استغرقت بحيث لا تشعر بالبدن ولا تدري ان لها بدناً فكأنها منخلعة عنه، فهذا يدل على أنها من عالم آخر غير عالم الجسم وقواه، إذ التذاذهما منحصر بالملائمات الجزئية التي تدركها الحواس الظاهرة والباطنة.

و(منها) ان النفس تدرك الصور الكلية المجردة فتكون محلاً لها، ولا ريب في ان المادي لا يكون محلا للمجرد إذ كل مادي ذو وضع قابل للإنقسام، وكون المحل ذا وضع قابل للإنقسام يستلزم أن يكون حاله أيضاً كذلك كما ثبت في محله، والمجرد لا يمكن أن يكون كذلك وإلا خرج عن حقيقته، فالنفس لا تكون مادية وإذا لم تكن مادية كانت مجردة لعدم الواسطة.

و(منها) ان القوى الجسمية الباطنية لا تكتسب العلوم إلا من طريق الحواس الظاهرة إذ ما لم يدرك الشيء بها لم تتمكن الحواس الباطنة ان تدركه وهذا وجداني وضروري. والنفس قد تدرك ما لا طريق لشيء من الحواس إلى إدراكه كالأمور المجردة والمعاني البسيطة الكلية، وأسباب الاتفاقات والاختلافات التي بين المحسوسات، والضرورة العقلية قاضية بأنه لا مدخلية لشيء من الحواس في إدراك شيء من ذلك.

وأيضاً تحكم بانه لا واسطة بين النقيضين، وهذا الحكم غير مأخوذ من مبادىء حسية إذ لو كان مأخوذاً منها لم يكن قياساً أولياً، فمثله مأخوذ من المبادىء الشريفة العالية التي تبني عليها القياسات الصحيحة.

وأيضاً هي حاكمة على الحس في صدقه وكذبه وقد تخِّطئه في أفعاله وتردّ عليه أحكامه كتخطئته للبصر فيما يراه أصغر مما هو عليه في الواقع أو بالعكس، وفيما يراه مستديراً وهو مربع، أو مكسوراً وهو صحيح، أو معوجاً وهو مستقيم، أو منكوساً وهو منتصب، أو مختلفاً في وضعه الواقعي، وفي رؤيته للأشياء المتحركة على الاستدارة كالحلقة والطوق، وكتخطئته للسمع فيما يدركه في المواضع الصقيلة المستديرة عند الصدى، وللذوق في ادراكه الحلو مراً ومثله، كذا الحال في الشم واللمس، ولا ريب في أن تخطئة النفس الحواس في هذه الادراكات وحكمها بما هو المطابق للواقع إنما يكون مسبوقاً بالعلم الذي لا يكون مأخوذاً من الحس، لأن الحاكم على الشيء أعلى رتبة منه فلا يكون علمه الذي هو مناط الحكم مأخوذاً عنه.

ومما يؤكد ذلك انها عالمة بذاتها وبكونها مدركة لمعقولاتها. ومعلوم ان هذا العلم مأخوذ من جوهرها دون مبادىء أخر.

و(منها) انا نشاهد ان البدن وقواه يضعفان في أفعالهما وآثارهما، والنفس تقوى في ادراكاتها وصفاتها، كما في سن الكهولة، أو يكونان قويين في الأفعال مع كونها ضعيفة فيها كما في سن الشباب، فلو كانت جسماً أو جسمانياً لكانت تابعة لهما في الضعف والقوة.

(فان قلت) الادراك وسائر الصفات الكمالية للنفس يضعف أو يختل بضعف البدن أو اختلاله كما نشاهد في المشايخ والمرضى وتجردها ينافي ذلك.

(قلنا) الضعف أو الاختلال إنما يحدث في الإدراك والأفعال المتعلقة بالقوى الجسمية، وأما ما يحصل للنفس بجوهرها أو بواسطة القوى الجسمية بعد صيرورته ملكة لها فلا يحصل فيه اختلال وضعف، بل يصير ظهوره أشد وتأثيره أقوى.

وأما الثاني أعني بقاءها بعد المفارقة عن البدن فالدليل عليه بعد ثبوت تجردها ان المجرد لا يتطرق إليه الفساد لأنه حقيقة والحقيقة لا تبيد كما صرح به المعلم الأول وغيره، ووجهه ظاهر.

فصل

(في بيان تلذذ النفس وتألمها)

إذا عرفت تجرد النفس وبقاءها أبداً، فاعلم أنها ملتذة متنعمة دائماً أو معذبة متألمة كذلك. والتذاذها يتوقف على كمالها الذي يخصها، ولما كانت لها قوتان: النظرية والعملية، فكمال القوة النظرية الاحاطة بحقائق الموجودات بمراتبها والاطلاع على الجزئيات غير المتناهية بادراك كلياتها. والترقي منه إلى معرفة المطلوب الحقيقي وغاية الكل حتى يصل إلى مقام التوحيد ويتخلص عن وساوس الشيطان ويطمئن قلبه بنور العرفان. وهذا الكمال هو الحكمة النظرية.

وكمال القوة العملية التخلي عن الصفات الردية والتحلي بالأخلاق المرضية ثم الترقي منه إلى تطهير السر وتخليته عما سوى الله سبحانه. وهذا هو الحكمة العملية التي يشتمل هذا الكتاب على بيانها.

وكمال القوة النظرية بمنزلة الصورة وكمال القوة العملية بمنزلة المادة، فلا يتم أحدهما بدون الآخر، ومن حصل له الكمالان صار بانفراده عالماً صغيراً مشابهاً للعالم الكبير، وهو الإنسان التام الكامل الذي تلألأ قلبه بأنوار الشهود وبه تتم دائرة الوجود.

 فصل

(في فضائل الأخلاق ورذائلها)

فضائل الأخلاق من المنجيات الموصلة إلى السعادة الأبدية، ورذائلها من المهلكات الموجبة للشقاوة السرمدية، فالتخلي عن الثانية والتحلي بالأولى من أهم الواجبات. والوصول إلى الحياة الحقيقية بدونهما من المحالات، فيجب على كل عاقل أن يجتهد في اكتساب فضائل الأخلاق التي هي الأوساط[1] المثبتة من صاحب الشريعة والاجتناب عن رذائلها التي هي الأطراف، ولو قصّر أدركته الهلاكة الأبدية، إذ كما ان الجنين لو خرج عن طاعة ملك الأرحام المتوسط في الخلق لم يخرج إلى الدنيا سوياً سميعاً بصيراً ناطقاً كذلك من خرج عن طاعة نبي الأحكام المتوسط في الخلق لم يخرج إلى عالم الأخرة كذلك.

" ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً "[2].

ثم ما لم تحصل التخلية لم تحصل التحلية ولم تستعد النفس للفيوضات القدسية، كما ان المرآة ما لم تذهب الكدورات عنها لم تستعد لارتسام الصور فيها، والبدن ما لم تزل عنه العلة لم تتصور له افاضة الصحة، والثوب ما لم ينُقّ عن الأوساخ لم يقبل لوناً من الألوان، فالمواظبة على الطاعات الظاهرة لا تنفع ما لم تتطهر النفس من الصفات المذمومة كالكبر والحسد والرياء، وطلب الرياسة والعلى وإرادة السوء للأقران والشركاء، وطلب الشهرة في البلاد وفي العباد، وأي فائدة في تزيين الظواهر مع اهمال البواطن.

ومثلُ من يواظب على الطاعات الظاهرة ويترك تفقد قلبه كبئر الحش[3] ظاهرها جص وباطنها نتن، وكقبور الموتى ظاهرها مزينة وباطنها جيفة، أو كبيت مظلم وضع السراج على ظاهره فاستنار ظاهره وباطنه مظلم، أو كرجل زرع زرعاً فنبت ونبت معه حشيش يفسده فأمر بتنقية الزرع عن الحشيش بقلعه عن أصله فأخذ يجز رأسه ويقطعه فلا يزال يقوى أصله وينبت، فان الأخلاق المذمومة في القلب هي مغارس المعاصي فمن لم يطهر قلبه منها لم تتم له الطاعات الظاهرة، أو كمريض به جرب وقد أمر بالطلاء ليزيل ما على ظهره ويشرب الدواء ليقلع مادته من باطنه فقنع بالطلاء وترك الدواء متناولا ما يزيد في المادة فلا يزال يطلي الظاهر والجرب يتفجر من المادة التي في الباطن.

ثم إذا تخلت عن مساوىء الأخلاق وتحلت بمعاليها على الترتيب العلمي استعدت لقبول الفيض من رب الأرباب، ولم يبق لشدة القرب بينهما حجاب، فترتسم فيها صور الموجودات على ما هي عليها، على سبيل الكلية أي بحدودها ولوازمها الذاتية لامتناع إحاطتها بالجزئيات من حيث الجزئية، لعدم تناهيها، وان علمت في ضمن الكليات لعدم خروجها عنها، وحينئذ يصير[4] موجوداً تاماً أبدي الوجود سرمدي البقاء، فائزاً بالرتبة العليا، والسعادة القصوى، قابلا للخلافة الإلهية والرئاسة المعنوية، فيصل إلى اللذات الحقيقية، والإبتهاجات العقلية التي ما رأتها عيون الأعيان، ولم تتصورها عوالي الإذهان.

فصل

(الأخلاق الذميمة تحجب عن المعارف)

الأخلاق المذمومة هي الحجب المانعة عن المعارف الإلهية، والنفحات القدسية إذ هي بمنزلة الغطاء للنفوس فما لم يرتفع عنها لم تتضح لها جلية الحال اتضاحاً، كيف والقلوب كالأواني فإذا كانت مملوءة بالماء لا يدخلها الهواء فالقلوب المشغولة بغير الله لا تدخلها معرفة الله وحبه وانسه، وإلى ذلك أشار النبي (ص) بقوله: "لولا ان الشياطين يحرمون إلى قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماوات والأرض" فبقدر ما تتطهر القلوب هن هذه الخبائث تتحاذى شطر الحق الأول[5] وتلألأ فيها حقائقه كما أشار إليه (ص): "ان لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها" فان التعرض لها إنما هو بتطهير القلوب عن الكدورات الحاصلة عن الأخلاق الردية[6] فكل اقبال على طاعة واعراض عن سيئة يوجب جلاء ونوراً للقلب يستعد به لافاضة علم يقيني، ولذا قال سبحانه:

"والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا"[7].

وقال النبي (ص): "من عمل بما علم ورثه الله ما لم يعلم" فالقلب إذ صفى عن الكدورات الطبيعية بالكلية يظهر له من المزايا الإلهية والإفاضات الرحمانية ما لا يمكن لاعاظم العلماء كما قال سيد الرسل: "إن لي مع الله حالات لا يحتملها ملك مقرب ولا نبي مرسل".

وكل سالك إلى الله إنما يعرف من الألطاف الإلهية والنفحات الغيبية ما ظهر له على قدر استعداده، وأما ما فوقه فلا يحيط بحقيقته علماً لكن قد يصدق به إيماناً بالغيب كما انا نؤمن بالنبوة وخواصها ونصدّق بوجودهما ولا نعرف حقيقتهما كما لا يعرف الجنين حال الطفل والطفل حال المميز والمميز من العوام حال العلماء والعلماء حال الأنبياء والأولياء.

فالرحمة الإلهية بحكم العناية الأزلية مبذولة على الكل غير مضنون بها على أحد، لكن حصولها موقوف على تصقيل مرآة القلب وتصفيتها عن الخبائث الطبيعية، ومع تراكم صدأها الحاصل منها لا يمكن أن يتجلى فيها شيء من الحقائق، فلا تحجب الأنوار العلمية والأسرار الربوبية عن قلب من القلوب لبخل من جهة المنعم تعالى شأنه عن ذلك، بل الإحتجاب إنما هو من جهة القلب لكدورته وخبثه واشتغاله بما يضاد ذلك.

ثم ما يظهر للقلب من العلوم لطهارته وصفاء جوهره هو العلم الحقيقي النوراني الذي لا يقبل الشك وله غاية الظهور والإنجاء لاستفادته من الأنوار الإلهية والإلهامات الحقة الربانية، وهو المراد بقوله عليه السلام: "إنما هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء" وإليه أشار مولانا أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: "ان من أحب عباد الله إليه عبداً أعانه الله على نفسه فاستشعر الحزن وتجلبب الخوف فزهر مصباح الهدى في قلبه" (إلى أن قال): "قد خلع سرابيل الشهوات، وتخلى من الهموم إلا هماً واحداً انفرد به، فخرج من صفة العمى ومشاركة أهل الهوى، وصار من مفاتيح أبواب الهدى ومغاليق أبواب الردى، قد أبصر طريقه وسلك سبيله وعرف مناره، وقطع غماره[8]، واستمسك من العرى بأوثقها ومن الجبال بأمتنها فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس" وفي كلام آخر له عليه السلام "قد أحيى قلبه وأمات نفسه حتى دُقَّ جليله[9] ولطف غليظه، وبرق له لامع كثير البرق، فأبان له الطريق وسلك به السبيل، وتدافعته الأبواب إلى باب السلامة ودار الإقامة، وثبتت رجلاه لطمأنينة بدنه في قرار الأمن والراحة بما استعمل قلبه وأرضى ربه".

وقال عليه السلام في وصف الراسخين من العلماء: "هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة وباشروا روح اليقين واستلانوا ما استوعره المترفون وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون وصحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى".

وبالجملة ما لم يحصل للقلب التزكية لم يحصل له هذا القسم من المعرفة إذ العلم الحقيقي عبادة القلب وقربة السر، وكما لا تصح الصلاة التي هي عبادة الظاهر إلا بعد تطهيره من النجاسة الظاهرة فكذلك لا تصح عبادة الباطن إلا بعد تطهيره من النجاسة الباطنية التي هي رذائل الأخلاق وخبائث الصفات، كيف وفيضان أنوار العلوم على القلوب إنما هو بواسطة الملائكة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب" فإذا كان بيت القلب مشحوناً بالصفات الخبيثة التي هي كلاب نابحة لم تدخل فيه الملائكة القادسة والحكم بثبوت النجاسة الظاهرة للمشرك، مع كونه مغسول الثوب نظيف البدن، إنما هو لسراية نجاسته الباطنية فقوله صلى الله عليه وآله وسلم: "بني الدين على النظافة" يتناول زوال النجاستين، وما ورد من "أن الطهور نصف الأيمان" المراد به طهارة الباطن عن خبائث الأخلاق، وكان النصف الآخر تحليته بشرائف الصفات وعمارته بوظائف الطاعات.

وبما ذكر ظهر ان العلم الذي يحصل من طريق المجادلات الكلامية والاستدلالات الفكرية، من دون تصقيل لجوهر النفس، لا يخلو عن الكدرة والظلمة، ولا يستحق اسم اليقين الحقيقي الذي يحصل للنفوس الصافية فما يظنه كثير من أهل التعلق بقاذورات الدنيا انهم على حقيقة اليقين في معرفة الله سبحانه خلاف الواقع، لأن اليقين الحقيقي يلزمه ((روح)) [10] ونور وبهجة وسرور، وعدم الإلتفات إلى ما سوى الله، والاستغراق في أبحر عظمة الله، وليس شيء من ذلك حاصلا لهم، فما ظنوه يقيناً إما تصديق مشوب بالشبهة، أو اعتقاد جازم لم تحصل له نورانية وجلاء وظهور وضياء، لكدرة قلوبهم الحاصلة من خبائث الصفات.

والسر في ذلك ان منشأ العلم ومناطه هو التجرد كما بين في مقامه، فكلما تزداد النفس تجرداً تزداد ايماناً ويقيناً، ولا ريب في أنه ما لم ترتفع عنها أستار السيئات وحجب الخطيئات لم يحصل لها التجرد الذي هو مناط حقيقة اليقين فلا بد من المجاهدة العظيمة في التزكية والتحلية حتى تنفتح أبواب الهداية وتتضح سبل المعرفة كما قال سبحانه:

" والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا "[11].

 


[1]  اشارة إلى ان الفضيلة وسط بين رذيلتين وقد دعى الشارع إلى تحصيل الوسط بقوله (ص): "خير الامور أواسطها". وسيأتي شرح المعنى من الوسط والطرفين.

[2]  الاسراء الآية 72.

[3]  الحش بالفتح أو الضم ثم التشديد والفتح أكثر من الضم: المخرج وموضع الحاجة وأصله من الحش بمعنى البستان، لأنهم كانوا يتغوطون في البساتين، فلما اتخذوا الكنيف اطلقوا عليها الاسم مجازاً، فالمراد هنا من بئر الحش خزانة الكنيف.

[4] تذكير الضمير باعتبار ارادة الإنسان لأنه صاحب النفس بل هو هي.

[5] المراد من الحق الأول هو الله تبارك وتعالى فكما ان الحق صفة له كذلك الأول فهو صفة بعد صفة.

[6]  المراد من النفحات هي الإفاضات المعنوية لا النسمات كما وردت بالمعنى الثاني في بعض الأخبار.

[7]  العنكبوت الآية: 69.

[8]  غمرة الشيء شدته ومزدحمه جمعه غمرات وغمار وغمر ومنه غمرات الموت أي مكارهه وشدائده.

[9]  الجليل: الكبير في الحجم.

[10]  هذه الكلمة غير موجودة في نسختنا الخطية لكنها موجودة في نسخة خطية أخرى.

[11]  العنكبوت الآية: 69.

 

.

النهاية

اللاحق

السابق

البداية

  الفهرست